الخميس، 30 يونيو 2016

بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي

بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي
بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي

بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي

محمد المساوي
في هذا المقال يتحدث باسكون عن تشكّل المجتمع المغرب، كيف تشكّل وكيف تبلورت بنياته الاجتماعية والثقافية والحضارية، يستعرض باسكون اولا أهم النظريات الاجتماعية التي تصدت لدراسة صيرورة تشكل المجتمعات، ويخصص الجزء الاول من المقال لهذا الجانب. وفي الاجزاء الموالية يكشف لنا عن النظرية التي يتبناها، ثم يجرّب “كفاءة” هذه النظرية، وما الخلاصات التي خلص اليها حول طبيعة تكوين المجتمع المغربي.
هذا المقال المهم تعود افكاره إلى محاضرة ألقاها باسكون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف “جمعية الأبحاث الثقافية” وأعاد صياغتها للنشر لتعميم الفائدة وتوسيع افاق النقاش حول موضوع تكوّن المجتمع المغربي.
المقال ترجمه أحمد حمايمو  ونُشر في مجلة المشروع العدد 4 حزيران/يونيو 1981
الجزء الاول من المقال:
هناك تاريخ مكتوب، هو تاريخ السلالات الحاكمة والملوك، تاريخ المعارك الظافرة أو الخاسرة، ضد المنافسين المحليين أو الغزاة الأجانب. إلا أن هذا التاريخ لا يعلمنا شيئا ذا بال، ما خلا بعض الوقائع التي نستطيع التقاطها وجمعها فيما بين السطور.
وبإمكاننا إعادة كتابة هذا التاريخ بواسطة أدلوجة مخالفة للسير السلالية المقدسة أو للامبريالية الاستعمارية: وقد يمدنا هذا التاريخ المجدد بالقوة التي ستمكننا من التخلص من الأداليج السابقة. غير أنه مثل سوابقه لن يعلمنا شيئا كثيرا، ما عدا اكتساب وسيلة تمكننا من تنظيم نفس الوقائع والحكم عليها، على شاكلة مغايرة.
كما أن هناك اثنوغرافية مكتوبة من طرف المحتل، انتهت إلى إثبات وجود فروق جهوية فعلية، لكنها كانت مصحوبة بنية معلنة في العمل على استغلال هذه الاختلافات من أجل التفرقة، بحجة سكونية ما سمي بالأجناس غير قابلة للانصهار فيما بينها.
وبمقدورنا اليوم إعادة كتابة هذه الاثنوغرافية، على أساس إنقاذ محصول غني من الوقائع الثابتة علميا، وإن كانت هذه الأخيرة قد سخرت سياسيا، لأهداف غير علمية. وإذن فباستطاعتنا تحويل هذا الكنز وهذا التنوع إلى ثروة ثقافية. إلا أن هذا العمل لن يؤدي في أحسن الأحوال سوى لتكوين متحف فولكلوري وإلا إلى تجميع وقائع هي بدورها غير قابلة للتجانس.
وعليه، فيظهر لنا أن المهمة الأكثر استعجالا ونجاعة هي التي تحدد كموضوع لها إيجاد التفسير عبر التاريخ، لا لكيفية تكون الأمة المغربية، الشيء الذي سيرجع بنا إلى المتاهات الأولى، ولا لكيفية تشكل الثقافة المغربية، وهو ما سيقودنا إلى المتاهات الثانية، وإنما للطريقة التي تم عليها تكون المجتمع المغربي. ذلك أن هذه الطريقة تمكننا في آن واحد من التوصل إلى فهم علمي للنوعين الآخرين من القضايا اللذين تمثلهما الأمة والثقافة.
إن مشروعا من هذا النوع لا يمكن أن يكون ثمرة عمل إنسان واحد، في يومنا هذا. وفيما يخصني فليس لي لا من الطموحات ولا من الكفاءات ما يسمح لي بانجاز هذه المهمة لوحدي. ما أنوي القيام به بكل بساطة، هو محاولة تمهيد الطريق في هذا الاتجاه، بواسطة مجموعة من المحاولات والأخطاء، لكي يصبح بالإمكان، وفي آن واحد، إعادة تأويل الوقائع المتراكمة للتاريخين الاستعماري وما قبله، ومن أجل فتح سبل جديدة أمام البحث الاثنوغرافي والسوسيولوجي، بالمغرب.
1-لماذا تختلف المجتمعات، الواحدة عن الأخرى؟
سبق لعبد الله مازوني أن أبدى تبرمه من المواقف المتميزة بالحشو، لبعض مواطنيه، حينما كتب: .«لقد أصبح من باب تحصيل الحاصل أن هناك خصوصية جزائرية، من شدة ما تكررت هذه الفكرة لدرجة أن كل شيء، أو تقريبا كل شيء خصوصي في الجزائر. الإنسان، المشاكل، الحلول، الاشتراكية، الثقافة، السينما، المسرح، الموسيقى بل وحتى البرتقال. وعلى هذا النحو، نلجأ لاستعمال النعت «خصوصي» والاسم «خصوصية» في كل المجالات، وكأنهما أداة تفسير كونية، لما لهما من مفعول سحري ودلالات ثرة».
إن التيار الفكري المدان هنا، ليس في الواقع جديدا. ومن المفارقات العجيبة التقاؤه مع التيار الذي يدعو إلى سكونية الأعراف والعادات كتبرير للجمود والمحافظة. وإن المعني الحقيقي لأقوال مثل «هكذا خلقنا» و«تلك طبيعة الأشياء» لهو تبرير تقطيع العالم على هويات مجانية من طرف المستفيدين الحاليين من هذه الوضعية. وفي العمق فإن هذا الموقف الفكري لا يعدو أن يكون تحديثنا بسيطا لخلفيات باحثي الحقبة الاستعمارية من اثنوغرافيين وفولكوريين.
إلا أن هذا لا يتنافى مع الحقيقة القائلة بالاختلاف الفعلي للمجتمعات، بعضها عن بعض، في فترات معينة من التاريخ، واتصافها بنوع من «الخصوصية». وبمعنى أنه لا يمكن مقارنتها مع أي مجتمع آخر، وكونها تسلك في تحولاتها مسارات منفردة.
ونخلص من هذا إلى أن انتقاد أسلوب النفاق –أو الهوس- الكامن في الاعتصام خلف الخصوصية الفاتنة يعتبر ممارسة ناجعة لصالح الوقاية الفكرية، شريطة الاعتراف بالواقع المنفرد لمجتمع ما، ومحاولة تشخيص هذا الواقع، بصورة أفضل، وعلى أساس بذل المجهود المطلوب من أجل تفسيره.
إن القول باختلاف المجتمعات يفرض في حد ذاته وضع التساؤلات حول الأدلوجة الثاوية خلف تأملات عالم الاجتماع أو المؤرخ، عن وعي من طرفهما أو دون وعي بها. وكان المرفوض أن يكون من واجبنا قبل الإقبال على المغامرة العلمية، التصريح لدى الجمارك الابستمولوجية للعلم بنوعية السلع الفكرية التي نحملها، تحت مظاهر الكلمات وبطاقات الفرضيات.
إن أقل المحادثات شأنا، إزاء هذه المسألة، سواء كانت بسيطة أو متعالمة، لتثير الكثير من الغرابة، وكأن لم تكن للعلوم السياسية دوما سوى إسقاطات ضعيفة على التعليمين الثانوي والعالي. هناك افتراضات، بل ومسلمات متفيهقة في هذا الخصوص. ولكي نتمكن من إدراك مداها سنعمل على عرض ديوان من الحماقات المناقضة للسوسيولوجيا، كعلم.
أ-النظرية العنصرية أو المتسترة خلف العرقية هي الأكثر ذيوعا
تؤكد هذه النظرية أن مجتمعا ما يختلف عن مجتمعنا لكون أعضائه مختلفين عنا: أي أن بيننا وبينهم فروقا طبيعية تكاد تكوون قطيعة، ثابتة ونهائية، خصوصا عندما يكون أفراده جد مختلفين عنا من الناحية الجسمانية، من جراء لون البشرة أو القامة أو نسق الشعر، أو أحيانا بسبب الاختلاف في المظاهر المرتبطة بنموذج الحياة، بل وحتى بفعل المغايرة الناتجة عن مظهر جد مؤقت مثل اللباس. وتعتبر العرقية ETHNISME بدورها مقدمة للعنصرية أو عنصرية غير مكتملة بمجرد ما تنسب لشعب ما «نفسانية أساسية» مع اعتبار هذه الأخيرة معطى أوليا بدل معالجتها على أساس كونها منتوجا مجتمعيا ليس غير. وحتى ابن خلدون لم يستطع مقاومة هذا الإغراء عندما كان بصدد الحديث عن الشعوب المغربية. أما بالنسبة للاثنولوجيا الاستعمارية فإن أوج السياسية التي كانت تنهجها قد تجلى في إقامة تعارضات من نوع التعارض بين العرب والبربر، ذلك الوهم الذي لم يعدم حتى الآن من يعتقد فيه. وما يزال بين معاصرينا اليوم من يصدر أحكاما مسبقة على سكان مدينة أو ناحية ما، لا من أجل الفكاهة، ولكن لاتخاذها أسسا للتفسير السياسي، بكل بساطة.
إن العنصرية والجنسية ETHNISME تصدران في الواقع عن تيار كامل من المواقف و«التفسيرات» حيال «طبيعة» المجتمع المغربي، شبيه جدا، في عموميته، بمنظور الكيمياء الوسطوية للعناصر المادية للكون، من حيث أنها ثابتة ومتعارضة: كالنار والماء والتربة الخ. وما ترك المجال فسيحا أمام هذه الفيتيشية FETICHISME هو غياب نظرية جدية، حتى لو كانت بسيطة، وعلى شكل خطاطة، بل حتى ولو كانت خاطئة نسبيا، إلا أنها مع ذلك معممة على نطاق واسع.
ب-أما النظرية الجغرافية فأكثر رقة:
وبحسبها فإن المجتمعات تختلف بعضها عن البعض الآخر، لوقوعها داخل مناطق «طبيعية» مختلفة (هذا بدون اعتبار الخصوصية الانتروبولوجية لمفهوم المنطقة الطبيعية). وهكذا فللمناخ وللنواحي التي يعيش فيها الناس مفعول على العادات والقوانين ونظام الحكم ومستوى الحضارة. وفي هذا الإطار فإننا نجد ابن خلدون، مرة أخرى، يثير مسألة تأثير الصحراء على المجتمعات الظاعنة. كما نجد مونتسكيو مصرا على مفعول المناخ في الأمزجة وروح الشرائع. بل أننا نجد في المغرب بعض المؤلفات التي لا تغفل عن إثبات العلاقة بين المناخ والتنقل الموسمي، مع أن مجتمعات مستقرة قديمة كانت متواجدة تحت مناخات مشابهة أو أكثر قساوة بل وأكثر تعارضا. وأمام هذه الحجة يصيح أصحاب الرأي السابق: لكن الأمر يتعلق في هذه الحالة إما ببني هلال وأما بالأمازيغ أي بالعنصر الليبي-البربري. وبعبارة أخرى فإن العرقية والنظرية العنصرية تأخذان، مجددا، في الظهور.
ج. تبتدئ مرحلة التعميق النظري التعميق بظهور النظريات التطورية.
وبالنسبة لهذا الأخيرة، فإن السبب في الاختلاف القائم بين المجتمعات راجع للدرجات المتباينة التي تحتلها في سلم التطور، باتجاه تحقيق التقدم الذي يتحقق عبر سلوك مسار خطي LINEAIRE ووحيد. وإذا كانت دواعي الحيطة قد حالت دون التعبير عن الأشياء بهذا الوضوح التام، فإلى ذلك يعود جوهر النظريات التطورية، على العموم. وكيفما كان الأمر فلن يعود العنصر أو الجغرافية هما المحددين لـ«طبيعة» المجتمع، وإنما يجب البحث عن جوانب لهذه المسألة في التاريخ الخاص الذي مكنه من تجميع قسط من التجارب والتقدم، على منوال مغاير (لماذا؟ وكيف؟) لبقية المجتمعات. وبما أن مفكري القرن التاسع عشر الاشتراكيين كانوا سباقين إلى تطوير هذه الأفكار فإلى التيار الفكري الاشتراكي، على العموم، ترجع مساندة هذه التطورية، الحتمية، اللارجعية والسائرة وفق خط وحيد.
د- ثم جاءت النظرية الوظيفية الأكثر تفقها، وإن كانت متهمة بالسوداوية، لتزعزع أركان هذا النسق الجميل والمتصاعد. وحسب هذه النظرية، فمرد الاختلاف الحاصل بين المجتمعات إلى مشيئة الصدفة وإلى نتائج المحاولات والأخطاء المكتنزة عبر التاريخ. فعلى شاكلة التنظيمات البيولوجية، هناك بعض المجتمعات التي تتوفر أكثر من غيرها على «قدرة» في مجال من المجالات. فقد يكون هناك ميلان نحو تضخيم المقدسات، كما قد يكون هناك نزوع تجاه التضخم التقني. وعلى هذا النحو (؟) فإن مجتمعا ما قد يكون مجرورا نحو إنتاج المزيد من السلع، في حين يساق الآخر نحو إنتاج المزيد من الأداليج أو الديانات: ومرجع الاختلاف في هذا الشأن إلى «حاجيات» الشعوب المعنية وإلى المنافسات فيما بينها. وإذا كان هناك من تغاير بين تطور الأنواع البيولوجية وتطور «الأنواع» المجتمعية فإن العلة في ذلك تئوب إلى السرعة في إيقاعات التبدل بالنسبة لهذه الأخيرة، وعلى الأخص إلى ظواهر المثاقفة (لكيلا نسميها ظواهر التدجين) التي أصبحت تفرض نفسها كقاعدة، على مر الأيام. واستنادا إلى هذه النظرية، فإن المجتمعات حينما تدخل في علاقات فيما بينها تصبح في نفس الوقت متنافسة في هذا المجال أو ذاك، مما تنتج عنه السيطرة المتبادلة أو الكلية، ومما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير كبير في كينونتها، جميعا.
وبالنسبة للمغرب، لم تكن هناك حاجة إلى «توظيف» هذه النظرية، ذلك أنها كانت معاشة بحدة، لدرجة صرنا معها عاجزين عن إدراك التخلف على أساس كونه سيطرة، ليس غير.
ه- ثم ظهرت البنيوية التي طمحت لأن تلعب دور الطليعة في هذا النوع من الأبحاث. وتبسيطا لهذه النظرية –التي نجدها مع الأسف، مبثوثة في نصوص عسيرة الفهم، غامضة غالبا إلى الحد الأقصى، وإن كان هذا التبسيط يحتمل إثارة الجدال مع معتنقي هذه المدرسة، فإن الفروق التي يمكن ملاحظتها بين مختلف المجتمعات ما هي إلا سطحية وثانوية. فالإنسانية واحدة، ووظائفها الأساسية مكفولة في كل مكان، تبعا لعدد محدود من الأشكال الممكنة. ومما تشترك فيه كافة المجتمعات، انتظامها وفق أشكال يحددها نظام من التعارضات الديالكتيكية، معيشة على كافة المستويات، وداخل بنيات ممثلة تمثيلا متساويا، في جميع أرجاء المعمور. كفى إذن من العلية المبتذلة، ومن المعلولات التي تظهر وكأنها مسلمات! كل ما هناك أن اللعبة المجتمعية تحتوي على عدد قليل من الأوراق والقواعد، تتوزع باستمرار وفق أشكال تبدو وكأنها متغايرة، ولكنها في الواقع جد محدودة. وبإمكان خريطة أساسية لمواقع الارتفاع والانخفاض وأماكن الامتلاء والفراغ وكذا لنقط البياض والسواد الخ… تلخيص الفلسفة برمتها، فعلى سبيل المثال هناك توزان بين الدال والمدلول: أي أن تضخيم الشكل (الطقوس والاجتماعات الرسمية) يؤدي إلى تقليص المضمون (اللغو وعدم الإخبار)، ثم أن تقليص الشعائر (الأعلام على عجل) يؤدي إلى تضخم المضمون (الشائعات) وهكذا… وعلى هذه الصورة نتعرف على مجموعة من «قوانين البندول» و«القوانين المتاضدة» المنتمية لديالكتيكية شكلانية، تلك القوانين التي تشكل اللحمة الضرورية لعدد كبير من الأبحاث الجامعية «المتأرجحة».
و-ثم عملت النظريات البنيوية-التوليدية على تعديل التطورية بواسطة البنيوية. وتبسيطا للموضوع، مرة أخرى، فإن النظريات البنيوية-التوليدية تشرح لنا على أن هناك مجالات تكدس فيها المجتمعات، إلى ما لا نهاية (الحياة المادية، على سبيل المثال) أكثر مما توازن. في حين أن هناك مجالات أخرى تعمل فيها على تحقيق التوازن، أكثر من التراكم (الشكل، الفن…).
فقبل اكتشاف الكتابة لم يكن ممكنا للعلوم والتقنيات أن تنتقل وتتراكم إلا بواسطة المواد نفسها (بما يستتبعه ذلك من خلط بين الشكل والمضمون، بين الفن والمهارة، بين الأفعال والطقوس)، وإلا باعتماد الطريقة الشفاهية التي لا تخلو هي الأخرى من الخلط. وفي المرحلة اللاحقة تميزت المجتمعات الما قبل تاريخية بمظاهرها أكثر مما تميزت بمستوياتها المادية. بمعنى أنها كانت متسمة بتضخم في الطقوس وتعقد في المقدسات والبنيات الفوقية، وبمستوى واطئ للقوى المنتجة والتكنولوجيا. إن كل هذا هو ما يفسر الهوس الاثنولوجي وحب الاستطلاع البنيوي تجاه هذه المجتمعات.
وبعد اكتشاف الكتابة، وعلى الخصوص بعد استخدامها في الأغراض الدنيوية، والتي لا علاقة لها بالمقدسات، انقلبت الآية بفعل مسلسل التراكم ذاته الذي أتاحته الكتابة. وكان من نتيجة ذلك أن حققت قوى الإنتاج والتكنلوجيا وإنتاج الخيرات المادية تقدما كبيرا بالنسبة لما تم في مجالات الشعائر والبحث عن الأشكال: الشيء الذي يفسر نزوع التطورية إلى التبسيطات.
فهل يعني هذا أن هناك مجالات تحتفظ فيها النظرية بقوتها التفسيرية، في الوقت الذي تبقى فيه اللعبة البنيوية أكثر ملاءمة في مجالات أخرى؟ لا! إن تداخل هذه المجموعات التفسيرية أشد تعقيدا لكونها تتمفصل حسب أشكالا متغايرة في كل مجتمع على حدة، وعلى مستوى كل صعيد صعيد. وكيفما كان الأمر، فإن كل حديث عن هذه المسألة يجب أن يكون منطلقا من الوقائع.
ز- بين الفولكلورية والشيماوية SCHEMATISME هناك اتجاه آخر للبحث.
كان هذا الاستطراد المدرسي، نسبيا، والمبسط إلى حد ما، ضروريا، لكون المحاولة التفسيرية التي لدى جرأة الإقدام عليها خالية من الحياد والأحكام المسبقة وكثير من المسلمات. وبعبارة أخرى، ففيما يخص هذه المسألة، نجدنا أمام ثلاث احتمالات: أما أن نستمر في الطريق التي انتهجها قبلنا علماء الانثروبولوجيا والفولكور. فنضيف ملاحظاتنا إلى ملاحظاتهم، مع قليل أو كثير من التوفيق والموهبة. وأما أن نقدم على بناء انساق تعتمد في توضيحاتها على الوقائع المعروفة مسبقا، وأما أن نغامر في الطريق المؤدية إلى التقدم في معرفة الواقع، بفتح النقاش حول النظريات انطلاقا من الحقائق.
ويظهر لنا على أن الالتجاء إلى تجميع وقائع يطبعها التشتت والعزلة، بعيدا عن النظريات السارية الآن في العالم، أمر متجاوز وفولكلوري في نفس الوقت. كما يبدو لي أن الإعلان عن نظريات غير مدعومة بالوقائع، مثله مثل انتقاء الوقائع وترتيبها، داخل هذه النظريات، مسألة على قدر كبير من الدوغمائية. وإذن فمن الضروري، كما يتراءى لي، المغامرة بالبحث عن التفسيرات للكيفية التي تم عليها تشكل المجتمع المغربي، في خصوصيته التاريخية، انطلاقا من الوقائع التي تعرفها.
وإذا كان تصنيف مجتمع ما، في مرحلة معينة من التاريخ، مسألة تبدو وكأنها ضرورة أولية بالنسبة لعالم الاجتماع أو للرجل العملي، فإن الباحث المحلل سرعان ما يصطدم بتعقد وانتشار وتزايد الأنواع، فضلا عن الأنواع المصغرة الخاصة، جهوية كانت هذه أم محلية أم مؤقتة. ومن أجل الخروج من هذه البلبلة، غالبا ما يتم اللجوء، أما إلى المونوغرافية وإما إلى الشيماوية والتعميمية، أو يقع الارتداد إلى النوع المسيطر، باعتباره محملا بالمستقبل، من الناحية التاريخية.
ودونما ريب، فمن شأن تراكم المونوغرافيات، إثبات وقائع اجتماعية ملموسة، على مستوى الزمان والمكان، يمكن استمالها في التفسيرات والتركيبات. غير أنه في الظرف الراهن، وبسبب الافتقار إلى نظرية عامة في تصنيف المجتمعات الحقيقية، فإن المونوغرافيات تغفل عن الخصوصيات المميزة لهذه المجتمعات وتعمل بالتالي على تأجيل فهمها.
ومن باب تحصيل الحاصل أن الشيماوية والتعميمية واعتبار النسق الاجتماعي السائد وحده، أمور تؤدي إلى تفقير خطير للواقع. صحيح أن هذا التفقير يبدو لحظيا وكأنه إجرائي بالنسبة للعلم، بل وعملي بالنسبة للسياسة، لتلاؤمه مع مقتضيات الممارسة. إلا أنه، فعليا، عاجز عن تصوير تعقدات الواقع، ومسؤول في أغلب الأحيان عن فشل هذه الممارسة.
وهكذا، فلن نعثر بين مختلف النعوث التي توصف بها المجتمعات القروية (تقليدية، ما قبل صناعية، ما قبل الرأسمالية، إقطاعية، مائية، قبلية، أبوية، عشائرية) وبين الحياد الظاهري لانتشار مونوغرافيات جهوية، بل وقروية، على أية مقاربة قادرة على تزويدنا بنموذج سليم للواقع. فعندما نقوم بقراءة الأدبيات السوسيولوجية والاثنوغرافية المتعلقة بالمجتمعات الفلاحية، وكذلك بغيرها، يحصل لدينا انطباع بأن هناك من جهة، نماذج لمجتمعات «أصيلة»- مثلما نقول عن البلور والمعدن أنهما أصيلان –والمقصود اتسامهما بالانسجام الداخلي، ومن جهة ثانية أمثلة عن مونوغرافيات لمجتمعات مصغرة تعج بالسمات المتناقضة، يعرضها علينا مؤلفوها للتأمل، دونما قدرة على السيطرة على تعقدات الواقع، بسبب تنافرها الداخلي المستعصي على كل محاولة تفسيرية.
ولهذه الاعتبارات، فإن موضوع هذا البحث، هو محاولة طرح مشكل تصنيف المجتمعات، على طريقة مغايرة من شأنها استشفاف الوسائل القمينة بالخروج من المأزق السالف الذكر.
وعليه فإني سأطرح للنقاش ملفا أوليا وذا طابع عام، ستتبعه فيما بعد ملفات أخرى، تحليلية أكثر، قصد التوسع في فكرة التركيبية المميزة للمجتمع المغربي. والبحث في أصله عبارة عن محاضرة ألقيت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف «جمعية الأبحاث الثقافية»، استهدفت بأسلوبها ولغتها تعميم فكرة التركيبة في بناء المجتمعات. وقد تعمدت إعطاء المناقشة طابع البساطة لضرورتين اثنين: أولاهما تتعلق بتمكين عدد ممكن من الناس من المناقشة، وثانيهما بالبرهنة على أن التبسيط لا يعني بالضرورة تفقير المفاهيم.

نكسة حقوقية جديدة.. “NOVACT” ترحل من المغرب إلى تونس لهذه الأسباب

نكسة حقوقية جديدة.. “NOVACT” ترحل من المغرب إلى تونس لهذه الأسباب

قرر “المعهد الدولي للعمل اللا عنفي” (NOVACT) إغلاق مكتبه بالمغرب، وقال المعهد إنه “يدين الضغط الذي مارسته عليه الحكومة المغربية لمنعه من عدم القيام بأنشطته في المغرب”
وقال “NOVACT” إن مكتبه بالمغرب تعرض لعدد من التضييقات، منها اعتقال وترحيل ممثلته المغاربية، يوم 4 يونيو الجاري، وقبلها منع مدير “NOVACT” من دخول المغرب في يناير المنصرم، بالإضافة إلى ما حدث لممثلة القانونية للمعهد ليلة 27 يونيو الجاري. وأضاف “NOVACT” أن السلطات المغربية لم تكتف برفض تسجيل المعهد بشكل قانوني، بل رفضت منح بطائق الإقامة للعاملين به، “وهذا وضعنا في جو من الإحساس بالإضطهاد الخوف على موظفينا”.
وأكد “NOVACT” بأنه “في 2012، وبعد اعتماد دستور جديد بالمغرب، في سياق كان يوحي بأن المغرب يتجه نحو الانتقال الديمقراطي، قرر “NOVACT” فتح مكتب جهوي مغاربي بالرباط، حتى يتسنى له العمل إلى جانب المنظمات المغربية التي تهتم بحقوق الإنسان وتحترمها”.
مضيفا: “إلى غاية ماي 2015، كان بإمكاننا ممارسة مهامنا دون عراقيل تذكر، بالاعتماد على تمويلات الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والحكومة الاسبانية، وحكومة كاطالونيا، وبلدية برشلونة، إلى جانب فاعلين آخرين”. وتابع “NOVACT” بأن أنشطته خلال هذه السنوات استطاعت، من خلال المشاركة والتنسيق مع ممثلين حكوميين، إغناء المشهد الحقوقي بالمغرب، لكن ابتداء من يونيو 2015، بدأ الضغوط السلطات المغربية ضد”NOVACT”.
واعتبر المعهد الحقوقي أن هذه الضغوط كان بالموازاة مع تقييد عمل المنظمات الحقوقية المحلية، مثل الجمعية المغربية لحقوق الانسان، وأيضا عرقلة وجود وعمل المنظمات الدولية مثل “أمنيستي” و”هيومان رايتس ووتش” و”محامون بدون حدود”.
في أجواء الخوف والإفلات من العقاب، هذه، يضيف بيان “NOVACT“، قررنا إغلاق مكتبنا بالمغرب، وتحويل المكتب الجهوي، المغاربي، إلى تونس، حيث نتوفر على الثقة في وجود أجواء ملائمة أكثر للاشتغال كمجتمع مدني مستقل.
بيان “NOVACT” أكد بأن المعهد سوف يعمل، من تونس، على دعم المنظمات الحقوقية في كل المنطقة، متمنيا أن “يتحول المغرب إلى بلد ملائم لاشتغال المنظمات الحقوقية المستقلة”.

الأربعاء، 29 يونيو 2016

بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي

بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي
بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي

بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي

محمد المساوي
في هذا المقال يتحدث باسكون عن تشكّل المجتمع المغرب، كيف تشكّل وكيف تبلورت بنياته الاجتماعية والثقافية والحضارية، يستعرض باسكون اولا أهم النظريات الاجتماعية التي تصدت لدراسة صيرورة تشكل المجتمعات، ويخصص الجزء الاول من المقال لهذا الجانب. وفي الاجزاء الموالية يكشف لنا عن النظرية التي يتبناها، ثم يجرّب “كفاءة” هذه النظرية، وما الخلاصات التي خلص اليها حول طبيعة تكوين المجتمع المغربي.
هذا المقال المهم تعود افكاره إلى محاضرة ألقاها باسكون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف “جمعية الأبحاث الثقافية” وأعاد صياغتها للنشر لتعميم الفائدة وتوسيع افاق النقاش حول موضوع تكوّن المجتمع المغربي.
المقال ترجمه أحمد حمايمو  ونُشر في مجلة المشروع العدد 4 حزيران/يونيو 1981
الجزء الاول من المقال:
هناك تاريخ مكتوب، هو تاريخ السلالات الحاكمة والملوك، تاريخ المعارك الظافرة أو الخاسرة، ضد المنافسين المحليين أو الغزاة الأجانب. إلا أن هذا التاريخ لا يعلمنا شيئا ذا بال، ما خلا بعض الوقائع التي نستطيع التقاطها وجمعها فيما بين السطور.
وبإمكاننا إعادة كتابة هذا التاريخ بواسطة أدلوجة مخالفة للسير السلالية المقدسة أو للامبريالية الاستعمارية: وقد يمدنا هذا التاريخ المجدد بالقوة التي ستمكننا من التخلص من الأداليج السابقة. غير أنه مثل سوابقه لن يعلمنا شيئا كثيرا، ما عدا اكتساب وسيلة تمكننا من تنظيم نفس الوقائع والحكم عليها، على شاكلة مغايرة.
كما أن هناك اثنوغرافية مكتوبة من طرف المحتل، انتهت إلى إثبات وجود فروق جهوية فعلية، لكنها كانت مصحوبة بنية معلنة في العمل على استغلال هذه الاختلافات من أجل التفرقة، بحجة سكونية ما سمي بالأجناس غير قابلة للانصهار فيما بينها.
وبمقدورنا اليوم إعادة كتابة هذه الاثنوغرافية، على أساس إنقاذ محصول غني من الوقائع الثابتة علميا، وإن كانت هذه الأخيرة قد سخرت سياسيا، لأهداف غير علمية. وإذن فباستطاعتنا تحويل هذا الكنز وهذا التنوع إلى ثروة ثقافية. إلا أن هذا العمل لن يؤدي في أحسن الأحوال سوى لتكوين متحف فولكلوري وإلا إلى تجميع وقائع هي بدورها غير قابلة للتجانس.
وعليه، فيظهر لنا أن المهمة الأكثر استعجالا ونجاعة هي التي تحدد كموضوع لها إيجاد التفسير عبر التاريخ، لا لكيفية تكون الأمة المغربية، الشيء الذي سيرجع بنا إلى المتاهات الأولى، ولا لكيفية تشكل الثقافة المغربية، وهو ما سيقودنا إلى المتاهات الثانية، وإنما للطريقة التي تم عليها تكون المجتمع المغربي. ذلك أن هذه الطريقة تمكننا في آن واحد من التوصل إلى فهم علمي للنوعين الآخرين من القضايا اللذين تمثلهما الأمة والثقافة.
إن مشروعا من هذا النوع لا يمكن أن يكون ثمرة عمل إنسان واحد، في يومنا هذا. وفيما يخصني فليس لي لا من الطموحات ولا من الكفاءات ما يسمح لي بانجاز هذه المهمة لوحدي. ما أنوي القيام به بكل بساطة، هو محاولة تمهيد الطريق في هذا الاتجاه، بواسطة مجموعة من المحاولات والأخطاء، لكي يصبح بالإمكان، وفي آن واحد، إعادة تأويل الوقائع المتراكمة للتاريخين الاستعماري وما قبله، ومن أجل فتح سبل جديدة أمام البحث الاثنوغرافي والسوسيولوجي، بالمغرب.
1-لماذا تختلف المجتمعات، الواحدة عن الأخرى؟
سبق لعبد الله مازوني أن أبدى تبرمه من المواقف المتميزة بالحشو، لبعض مواطنيه، حينما كتب: .«لقد أصبح من باب تحصيل الحاصل أن هناك خصوصية جزائرية، من شدة ما تكررت هذه الفكرة لدرجة أن كل شيء، أو تقريبا كل شيء خصوصي في الجزائر. الإنسان، المشاكل، الحلول، الاشتراكية، الثقافة، السينما، المسرح، الموسيقى بل وحتى البرتقال. وعلى هذا النحو، نلجأ لاستعمال النعت «خصوصي» والاسم «خصوصية» في كل المجالات، وكأنهما أداة تفسير كونية، لما لهما من مفعول سحري ودلالات ثرة».
إن التيار الفكري المدان هنا، ليس في الواقع جديدا. ومن المفارقات العجيبة التقاؤه مع التيار الذي يدعو إلى سكونية الأعراف والعادات كتبرير للجمود والمحافظة. وإن المعني الحقيقي لأقوال مثل «هكذا خلقنا» و«تلك طبيعة الأشياء» لهو تبرير تقطيع العالم على هويات مجانية من طرف المستفيدين الحاليين من هذه الوضعية. وفي العمق فإن هذا الموقف الفكري لا يعدو أن يكون تحديثنا بسيطا لخلفيات باحثي الحقبة الاستعمارية من اثنوغرافيين وفولكوريين.
إلا أن هذا لا يتنافى مع الحقيقة القائلة بالاختلاف الفعلي للمجتمعات، بعضها عن بعض، في فترات معينة من التاريخ، واتصافها بنوع من «الخصوصية». وبمعنى أنه لا يمكن مقارنتها مع أي مجتمع آخر، وكونها تسلك في تحولاتها مسارات منفردة.
ونخلص من هذا إلى أن انتقاد أسلوب النفاق –أو الهوس- الكامن في الاعتصام خلف الخصوصية الفاتنة يعتبر ممارسة ناجعة لصالح الوقاية الفكرية، شريطة الاعتراف بالواقع المنفرد لمجتمع ما، ومحاولة تشخيص هذا الواقع، بصورة أفضل، وعلى أساس بذل المجهود المطلوب من أجل تفسيره.
إن القول باختلاف المجتمعات يفرض في حد ذاته وضع التساؤلات حول الأدلوجة الثاوية خلف تأملات عالم الاجتماع أو المؤرخ، عن وعي من طرفهما أو دون وعي بها. وكان المرفوض أن يكون من واجبنا قبل الإقبال على المغامرة العلمية، التصريح لدى الجمارك الابستمولوجية للعلم بنوعية السلع الفكرية التي نحملها، تحت مظاهر الكلمات وبطاقات الفرضيات.
إن أقل المحادثات شأنا، إزاء هذه المسألة، سواء كانت بسيطة أو متعالمة، لتثير الكثير من الغرابة، وكأن لم تكن للعلوم السياسية دوما سوى إسقاطات ضعيفة على التعليمين الثانوي والعالي. هناك افتراضات، بل ومسلمات متفيهقة في هذا الخصوص. ولكي نتمكن من إدراك مداها سنعمل على عرض ديوان من الحماقات المناقضة للسوسيولوجيا، كعلم.
أ-النظرية العنصرية أو المتسترة خلف العرقية هي الأكثر ذيوعا
تؤكد هذه النظرية أن مجتمعا ما يختلف عن مجتمعنا لكون أعضائه مختلفين عنا: أي أن بيننا وبينهم فروقا طبيعية تكاد تكوون قطيعة، ثابتة ونهائية، خصوصا عندما يكون أفراده جد مختلفين عنا من الناحية الجسمانية، من جراء لون البشرة أو القامة أو نسق الشعر، أو أحيانا بسبب الاختلاف في المظاهر المرتبطة بنموذج الحياة، بل وحتى بفعل المغايرة الناتجة عن مظهر جد مؤقت مثل اللباس. وتعتبر العرقية ETHNISME بدورها مقدمة للعنصرية أو عنصرية غير مكتملة بمجرد ما تنسب لشعب ما «نفسانية أساسية» مع اعتبار هذه الأخيرة معطى أوليا بدل معالجتها على أساس كونها منتوجا مجتمعيا ليس غير. وحتى ابن خلدون لم يستطع مقاومة هذا الإغراء عندما كان بصدد الحديث عن الشعوب المغربية. أما بالنسبة للاثنولوجيا الاستعمارية فإن أوج السياسية التي كانت تنهجها قد تجلى في إقامة تعارضات من نوع التعارض بين العرب والبربر، ذلك الوهم الذي لم يعدم حتى الآن من يعتقد فيه. وما يزال بين معاصرينا اليوم من يصدر أحكاما مسبقة على سكان مدينة أو ناحية ما، لا من أجل الفكاهة، ولكن لاتخاذها أسسا للتفسير السياسي، بكل بساطة.
إن العنصرية والجنسية ETHNISME تصدران في الواقع عن تيار كامل من المواقف و«التفسيرات» حيال «طبيعة» المجتمع المغربي، شبيه جدا، في عموميته، بمنظور الكيمياء الوسطوية للعناصر المادية للكون، من حيث أنها ثابتة ومتعارضة: كالنار والماء والتربة الخ. وما ترك المجال فسيحا أمام هذه الفيتيشية FETICHISME هو غياب نظرية جدية، حتى لو كانت بسيطة، وعلى شكل خطاطة، بل حتى ولو كانت خاطئة نسبيا، إلا أنها مع ذلك معممة على نطاق واسع.
ب-أما النظرية الجغرافية فأكثر رقة:
وبحسبها فإن المجتمعات تختلف بعضها عن البعض الآخر، لوقوعها داخل مناطق «طبيعية» مختلفة (هذا بدون اعتبار الخصوصية الانتروبولوجية لمفهوم المنطقة الطبيعية). وهكذا فللمناخ وللنواحي التي يعيش فيها الناس مفعول على العادات والقوانين ونظام الحكم ومستوى الحضارة. وفي هذا الإطار فإننا نجد ابن خلدون، مرة أخرى، يثير مسألة تأثير الصحراء على المجتمعات الظاعنة. كما نجد مونتسكيو مصرا على مفعول المناخ في الأمزجة وروح الشرائع. بل أننا نجد في المغرب بعض المؤلفات التي لا تغفل عن إثبات العلاقة بين المناخ والتنقل الموسمي، مع أن مجتمعات مستقرة قديمة كانت متواجدة تحت مناخات مشابهة أو أكثر قساوة بل وأكثر تعارضا. وأمام هذه الحجة يصيح أصحاب الرأي السابق: لكن الأمر يتعلق في هذه الحالة إما ببني هلال وأما بالأمازيغ أي بالعنصر الليبي-البربري. وبعبارة أخرى فإن العرقية والنظرية العنصرية تأخذان، مجددا، في الظهور.
ج. تبتدئ مرحلة التعميق النظري التعميق بظهور النظريات التطورية.
وبالنسبة لهذا الأخيرة، فإن السبب في الاختلاف القائم بين المجتمعات راجع للدرجات المتباينة التي تحتلها في سلم التطور، باتجاه تحقيق التقدم الذي يتحقق عبر سلوك مسار خطي LINEAIRE ووحيد. وإذا كانت دواعي الحيطة قد حالت دون التعبير عن الأشياء بهذا الوضوح التام، فإلى ذلك يعود جوهر النظريات التطورية، على العموم. وكيفما كان الأمر فلن يعود العنصر أو الجغرافية هما المحددين لـ«طبيعة» المجتمع، وإنما يجب البحث عن جوانب لهذه المسألة في التاريخ الخاص الذي مكنه من تجميع قسط من التجارب والتقدم، على منوال مغاير (لماذا؟ وكيف؟) لبقية المجتمعات. وبما أن مفكري القرن التاسع عشر الاشتراكيين كانوا سباقين إلى تطوير هذه الأفكار فإلى التيار الفكري الاشتراكي، على العموم، ترجع مساندة هذه التطورية، الحتمية، اللارجعية والسائرة وفق خط وحيد.
د- ثم جاءت النظرية الوظيفية الأكثر تفقها، وإن كانت متهمة بالسوداوية، لتزعزع أركان هذا النسق الجميل والمتصاعد. وحسب هذه النظرية، فمرد الاختلاف الحاصل بين المجتمعات إلى مشيئة الصدفة وإلى نتائج المحاولات والأخطاء المكتنزة عبر التاريخ. فعلى شاكلة التنظيمات البيولوجية، هناك بعض المجتمعات التي تتوفر أكثر من غيرها على «قدرة» في مجال من المجالات. فقد يكون هناك ميلان نحو تضخيم المقدسات، كما قد يكون هناك نزوع تجاه التضخم التقني. وعلى هذا النحو (؟) فإن مجتمعا ما قد يكون مجرورا نحو إنتاج المزيد من السلع، في حين يساق الآخر نحو إنتاج المزيد من الأداليج أو الديانات: ومرجع الاختلاف في هذا الشأن إلى «حاجيات» الشعوب المعنية وإلى المنافسات فيما بينها. وإذا كان هناك من تغاير بين تطور الأنواع البيولوجية وتطور «الأنواع» المجتمعية فإن العلة في ذلك تئوب إلى السرعة في إيقاعات التبدل بالنسبة لهذه الأخيرة، وعلى الأخص إلى ظواهر المثاقفة (لكيلا نسميها ظواهر التدجين) التي أصبحت تفرض نفسها كقاعدة، على مر الأيام. واستنادا إلى هذه النظرية، فإن المجتمعات حينما تدخل في علاقات فيما بينها تصبح في نفس الوقت متنافسة في هذا المجال أو ذاك، مما تنتج عنه السيطرة المتبادلة أو الكلية، ومما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير كبير في كينونتها، جميعا.
وبالنسبة للمغرب، لم تكن هناك حاجة إلى «توظيف» هذه النظرية، ذلك أنها كانت معاشة بحدة، لدرجة صرنا معها عاجزين عن إدراك التخلف على أساس كونه سيطرة، ليس غير.
ه- ثم ظهرت البنيوية التي طمحت لأن تلعب دور الطليعة في هذا النوع من الأبحاث. وتبسيطا لهذه النظرية –التي نجدها مع الأسف، مبثوثة في نصوص عسيرة الفهم، غامضة غالبا إلى الحد الأقصى، وإن كان هذا التبسيط يحتمل إثارة الجدال مع معتنقي هذه المدرسة، فإن الفروق التي يمكن ملاحظتها بين مختلف المجتمعات ما هي إلا سطحية وثانوية. فالإنسانية واحدة، ووظائفها الأساسية مكفولة في كل مكان، تبعا لعدد محدود من الأشكال الممكنة. ومما تشترك فيه كافة المجتمعات، انتظامها وفق أشكال يحددها نظام من التعارضات الديالكتيكية، معيشة على كافة المستويات، وداخل بنيات ممثلة تمثيلا متساويا، في جميع أرجاء المعمور. كفى إذن من العلية المبتذلة، ومن المعلولات التي تظهر وكأنها مسلمات! كل ما هناك أن اللعبة المجتمعية تحتوي على عدد قليل من الأوراق والقواعد، تتوزع باستمرار وفق أشكال تبدو وكأنها متغايرة، ولكنها في الواقع جد محدودة. وبإمكان خريطة أساسية لمواقع الارتفاع والانخفاض وأماكن الامتلاء والفراغ وكذا لنقط البياض والسواد الخ… تلخيص الفلسفة برمتها، فعلى سبيل المثال هناك توزان بين الدال والمدلول: أي أن تضخيم الشكل (الطقوس والاجتماعات الرسمية) يؤدي إلى تقليص المضمون (اللغو وعدم الإخبار)، ثم أن تقليص الشعائر (الأعلام على عجل) يؤدي إلى تضخم المضمون (الشائعات) وهكذا… وعلى هذه الصورة نتعرف على مجموعة من «قوانين البندول» و«القوانين المتاضدة» المنتمية لديالكتيكية شكلانية، تلك القوانين التي تشكل اللحمة الضرورية لعدد كبير من الأبحاث الجامعية «المتأرجحة».
و-ثم عملت النظريات البنيوية-التوليدية على تعديل التطورية بواسطة البنيوية. وتبسيطا للموضوع، مرة أخرى، فإن النظريات البنيوية-التوليدية تشرح لنا على أن هناك مجالات تكدس فيها المجتمعات، إلى ما لا نهاية (الحياة المادية، على سبيل المثال) أكثر مما توازن. في حين أن هناك مجالات أخرى تعمل فيها على تحقيق التوازن، أكثر من التراكم (الشكل، الفن…).
فقبل اكتشاف الكتابة لم يكن ممكنا للعلوم والتقنيات أن تنتقل وتتراكم إلا بواسطة المواد نفسها (بما يستتبعه ذلك من خلط بين الشكل والمضمون، بين الفن والمهارة، بين الأفعال والطقوس)، وإلا باعتماد الطريقة الشفاهية التي لا تخلو هي الأخرى من الخلط. وفي المرحلة اللاحقة تميزت المجتمعات الما قبل تاريخية بمظاهرها أكثر مما تميزت بمستوياتها المادية. بمعنى أنها كانت متسمة بتضخم في الطقوس وتعقد في المقدسات والبنيات الفوقية، وبمستوى واطئ للقوى المنتجة والتكنولوجيا. إن كل هذا هو ما يفسر الهوس الاثنولوجي وحب الاستطلاع البنيوي تجاه هذه المجتمعات.
وبعد اكتشاف الكتابة، وعلى الخصوص بعد استخدامها في الأغراض الدنيوية، والتي لا علاقة لها بالمقدسات، انقلبت الآية بفعل مسلسل التراكم ذاته الذي أتاحته الكتابة. وكان من نتيجة ذلك أن حققت قوى الإنتاج والتكنلوجيا وإنتاج الخيرات المادية تقدما كبيرا بالنسبة لما تم في مجالات الشعائر والبحث عن الأشكال: الشيء الذي يفسر نزوع التطورية إلى التبسيطات.
فهل يعني هذا أن هناك مجالات تحتفظ فيها النظرية بقوتها التفسيرية، في الوقت الذي تبقى فيه اللعبة البنيوية أكثر ملاءمة في مجالات أخرى؟ لا! إن تداخل هذه المجموعات التفسيرية أشد تعقيدا لكونها تتمفصل حسب أشكالا متغايرة في كل مجتمع على حدة، وعلى مستوى كل صعيد صعيد. وكيفما كان الأمر، فإن كل حديث عن هذه المسألة يجب أن يكون منطلقا من الوقائع.
ز- بين الفولكلورية والشيماوية SCHEMATISME هناك اتجاه آخر للبحث.
كان هذا الاستطراد المدرسي، نسبيا، والمبسط إلى حد ما، ضروريا، لكون المحاولة التفسيرية التي لدى جرأة الإقدام عليها خالية من الحياد والأحكام المسبقة وكثير من المسلمات. وبعبارة أخرى، ففيما يخص هذه المسألة، نجدنا أمام ثلاث احتمالات: أما أن نستمر في الطريق التي انتهجها قبلنا علماء الانثروبولوجيا والفولكور. فنضيف ملاحظاتنا إلى ملاحظاتهم، مع قليل أو كثير من التوفيق والموهبة. وأما أن نقدم على بناء انساق تعتمد في توضيحاتها على الوقائع المعروفة مسبقا، وأما أن نغامر في الطريق المؤدية إلى التقدم في معرفة الواقع، بفتح النقاش حول النظريات انطلاقا من الحقائق.
ويظهر لنا على أن الالتجاء إلى تجميع وقائع يطبعها التشتت والعزلة، بعيدا عن النظريات السارية الآن في العالم، أمر متجاوز وفولكلوري في نفس الوقت. كما يبدو لي أن الإعلان عن نظريات غير مدعومة بالوقائع، مثله مثل انتقاء الوقائع وترتيبها، داخل هذه النظريات، مسألة على قدر كبير من الدوغمائية. وإذن فمن الضروري، كما يتراءى لي، المغامرة بالبحث عن التفسيرات للكيفية التي تم عليها تشكل المجتمع المغربي، في خصوصيته التاريخية، انطلاقا من الوقائع التي تعرفها.
وإذا كان تصنيف مجتمع ما، في مرحلة معينة من التاريخ، مسألة تبدو وكأنها ضرورة أولية بالنسبة لعالم الاجتماع أو للرجل العملي، فإن الباحث المحلل سرعان ما يصطدم بتعقد وانتشار وتزايد الأنواع، فضلا عن الأنواع المصغرة الخاصة، جهوية كانت هذه أم محلية أم مؤقتة. ومن أجل الخروج من هذه البلبلة، غالبا ما يتم اللجوء، أما إلى المونوغرافية وإما إلى الشيماوية والتعميمية، أو يقع الارتداد إلى النوع المسيطر، باعتباره محملا بالمستقبل، من الناحية التاريخية.
ودونما ريب، فمن شأن تراكم المونوغرافيات، إثبات وقائع اجتماعية ملموسة، على مستوى الزمان والمكان، يمكن استمالها في التفسيرات والتركيبات. غير أنه في الظرف الراهن، وبسبب الافتقار إلى نظرية عامة في تصنيف المجتمعات الحقيقية، فإن المونوغرافيات تغفل عن الخصوصيات المميزة لهذه المجتمعات وتعمل بالتالي على تأجيل فهمها.
ومن باب تحصيل الحاصل أن الشيماوية والتعميمية واعتبار النسق الاجتماعي السائد وحده، أمور تؤدي إلى تفقير خطير للواقع. صحيح أن هذا التفقير يبدو لحظيا وكأنه إجرائي بالنسبة للعلم، بل وعملي بالنسبة للسياسة، لتلاؤمه مع مقتضيات الممارسة. إلا أنه، فعليا، عاجز عن تصوير تعقدات الواقع، ومسؤول في أغلب الأحيان عن فشل هذه الممارسة.
وهكذا، فلن نعثر بين مختلف النعوث التي توصف بها المجتمعات القروية (تقليدية، ما قبل صناعية، ما قبل الرأسمالية، إقطاعية، مائية، قبلية، أبوية، عشائرية) وبين الحياد الظاهري لانتشار مونوغرافيات جهوية، بل وقروية، على أية مقاربة قادرة على تزويدنا بنموذج سليم للواقع. فعندما نقوم بقراءة الأدبيات السوسيولوجية والاثنوغرافية المتعلقة بالمجتمعات الفلاحية، وكذلك بغيرها، يحصل لدينا انطباع بأن هناك من جهة، نماذج لمجتمعات «أصيلة»- مثلما نقول عن البلور والمعدن أنهما أصيلان –والمقصود اتسامهما بالانسجام الداخلي، ومن جهة ثانية أمثلة عن مونوغرافيات لمجتمعات مصغرة تعج بالسمات المتناقضة، يعرضها علينا مؤلفوها للتأمل، دونما قدرة على السيطرة على تعقدات الواقع، بسبب تنافرها الداخلي المستعصي على كل محاولة تفسيرية.
ولهذه الاعتبارات، فإن موضوع هذا البحث، هو محاولة طرح مشكل تصنيف المجتمعات، على طريقة مغايرة من شأنها استشفاف الوسائل القمينة بالخروج من المأزق السالف الذكر.
وعليه فإني سأطرح للنقاش ملفا أوليا وذا طابع عام، ستتبعه فيما بعد ملفات أخرى، تحليلية أكثر، قصد التوسع في فكرة التركيبية المميزة للمجتمع المغربي. والبحث في أصله عبارة عن محاضرة ألقيت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف «جمعية الأبحاث الثقافية»، استهدفت بأسلوبها ولغتها تعميم فكرة التركيبة في بناء المجتمعات. وقد تعمدت إعطاء المناقشة طابع البساطة لضرورتين اثنين: أولاهما تتعلق بتمكين عدد ممكن من الناس من المناقشة، وثانيهما بالبرهنة على أن التبسيط لا يعني بالضرورة تفقير المفاهيم.

الثلاثاء، 28 يونيو 2016

على الملك ان يصرح بممتلكاته...الاستاذ عبد الرحيم برادة

جل السلط بالمغرب هي تحت مسؤولية الملك وبالتالي فهو يمتلك ويحتكر السلطة السياسية الحقيقية . لا يخضع للمسائلة ولا للمراقبة ولا للمتابعة القضائية كما ان هيمنته على الاقتصاد بمعية محيطه والمقربين منه ستكون السد المنيع وستحول دون تحقيق اي تقدم طال الزمن او قصر سواء على المستوى الاقتصادي او على المستوى السياسي او على المستوى الحقوقي (...) وهدا في حد داته خرق سافر وانتهاك صارخ لمبادىء واخلاقيات الديمقراطية المنشودة بل تشجيع على ممارسة الفساد وحماية للمفسدين . تم انه من الجبن والنفاق والتملق ان نحاسب ونفرض على موظفين الملك (وزراء . برلمانيين . جنيرالات عمال ولاة ...)التصريح بممتلكاتهم ولا نطالب رئيس الدولة الدي هو الملك بنفس الشيء سيما ان هدا الاخير يتقاضى راتبا شهريا ضخما ومنفوخا مدى الحياة وهدا مبرر كافي (...) ورحمة ورافة بهدا الوطن و الشعب هل ستستيقظ ضمائر اجلاف النظام وحماة الدكتاتورية من سباتها لكي تساهم في بناء مغرب الجميع بدون استتناء مغرب الكرامة والعدالة الاجتماعية ؟؟ هدا هو المسار الصحيح للتفعيل الحقيقي لربط المسؤولية بالمحاسبة ...يحيا الشعب والوطن والخزي والعار للخونة تجار الانتخابات وتجار الدين وطفيليات النظال الصوري ...وتحية صادقة للاستاد عبد الرحيم برادة

الأحد، 26 يونيو 2016

بول باسكون (11): ثروة القايد الكلاوي

بول باسكون (11): ثروة القايد الكلاوي
بول باسكون (11): ثروة القايد الكلاوي

بول باسكون (11): ثروة القايد الكلاوي

محمد المساوي
في هذا الجزء الرابع من مقال باسكون حول القايد الكلاوي والنظام القايدي، يتحدث عن ثروته العينية والعقارية، وكذا مجمل تجليات سلطته اللامحدودة التي ضمنت له السيطرة على منابع الماء والكلأ والاراضي الخصبة.
نُشر المقال في المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي، العدد الخامس والسادس/1981. وأعاد نشره الموقع الالكتروني المناضل-ة
ب-ثروة الباشا:
كان من الصعب دائما تقدير ملكية الحاج التهامي الكلاوي وهو على قيد الحياة. وقد حاولت مصالح الحماية ذاتها عدة مرات ورغم السرية التي كانت تتحراها، أن تضع جردا لملكياته غير أنها لم تستطع قط أن تنهي ذلك العمل نتيجة للضغوط القوية التي مورست عليها لصرفها عن ذلك. وقد عرفت فقط الملكيات العقارية التي صرح بها الباشا كضمان لهذا الرهن أو ذاك القرض. وإثر مصادرة أمواله سنة 1958 كنا نأمل في أن نحصل على بيان تام على الأقل فيما يخص الملكيات العقارية، غير أن ذلك لم يحدث: إذ انه بين وقت وفاة الباشا ونشر ظهير مصادرة ممتلكاته وإنشاء سجل لها ، مرت فترة طويلة بحيث استولت على جزء من ممتلكاته غير المسجلة الشخصيات المهمة المحلية أو أفراد الجماعات التي اغتصبت ممتلكاتها في السابق .
وقد قدر مستشارو الكلاوي الألمان ديونه بحوالي 50 مليون فرنك، سنة 1931، «وبهدف التعامل مع دائن واحد وتوضيح وضعيته، ويطلب من الدولة إقراضه هذا المبلغ مقترحا إعطاء ملكياته الموضوعة في الرهن مقابل قيمة مماثلة» .
فأنجز إحصاء لثروته العقارية وقدرت قيمتها حينذاك بـ 139 مليون (70 مليون فرنك 1974) موزعة كالتالي:
مراكش المدينة 16%
حوز مراكش 26%
الرباط 21%
الدار البيضاء 19%
طنجة 18%
ولم يأخذ في الحسبان في هذا السجل التقديري سوى الملكيات التي لها رسم عقاري.
وبمناسبة هذا البيان الذي كان الغرض منه تغطية القرض وضع أيضا سجل تقديري للملكيات المنقولة وخاصة في الميدان المنجمي . وقد كان التهامي الكلاوي يملك في الواقع أسهما في مناجم بوعزير Bouazzer (الكوبالت والسيانور) مشاركة مع جماعة CTM Epinat. وقد ارتفعت حصة الأسهم من مليون سنة 1936 إلى 53 مليون فرنك سنة 1953 . (تقريبا 500000 فرنك 1974). وقد كان الباشا يحصل على مداخيل تقدر بـ 2 مليون فرنك سنة 1940 و38 مليون سنة 1953 (حوالي 800000 فرنك 1974) وذلك من مناجم ايميني (المنغنيز) التي تستغلها شركة موكتا الحديد MOKTA EL HADID. وفي الحوز ذاته كان الكلاوي يملك ثلاث معصرات للزيت حديثة و4 معامل للحلفاء النباتية.
الملكيات العقارية
لقد سبق القول أن الأراضي التي يلكها الكلاوي قد اغتصبت كلها تقريبا منذ الشهور الأولى للحماية. ولكن هذا المجموع أصبح ملكية خاصة له خلال فترتين: أولا في السنوات 1918-1924 فوضع رسوم الملكية على الأراضي التي ورثها عن أخيه والأراضي التي كانت في يد القبائل، وبعد ذلك بين 1947 و1950 سجل في اسمه عقارات الدومين الخاص للدولة Domaine Privé de l’Etat التي كان يحتلها بصفتها اقطاعات منذ سنة 1912.
وأساس الثروة العقارية للكلاوي في الحوز يأتي من ثلاثة مصادر: طرد مسفيوة من أراضيها، أراضي اقطاعات الجيش، وراضي الدول Domaine de l’Etat.
وأراضي كلاوة لا تنفتح شمالا على حوز مراكش، إذ كان مدني يرغب منذ البداية في تحطيم مسفيوة ليضمها مع توكانة في القطاع الكلاوي بحيث يكون في حوزته شريط من الأرض متصل إضافي يمتد من ورزازات إلى مراكش.
وفحص الخريطة الموجودة خارج النص أن عائلة الكلاوي قد نجحت عمليا في الاستيلاء على أهم المساحات الكبرى خارج مخروط مسفيوة ووصلت إلى أسوار الجنوب الشرقي من المدينة. ونلاحظ أن المجالات الواقعة خارج السطوح الأولى لمخروطات وريكة –رحمات من ناحية، ومن ناحية أخرى الزات، كلها متفرقة ومساحتها كبيرة، وبعكس ذلك القطع الأرضية الصغيرة (رقم 22) متجمعة وتقع داخل نفس المخروط.
وبغض النظر عن الاعتبارات الخاصة بظروف اغتصاب كل ملكية فإن دوافع توزيع الملكية في المجال يمكن أن نعرضها كما يلي:
أ-إن السطوح الأولى من المخروط قد احتلت في زمن قديم من طرف سكان أكثر كثافة. اقتسموا فيما بينهم قطاعات «السقية» في أجزاء جد صغيرة، تقسم الأرض إلى تلال معقدة مصرف المياه، والطرقات والحواجز والجدران الصغيرة.
ب-إن هذا المجال لا يمكن أن يهم الملكية الكبرى. فمن الصعب إجلاء السكان العديدين عنها، والذين لا مورد للعيش لهم سواها وبالتالي فهم متمسكون بها بكل قوة. أما في السطوح المرتفعة أو خارج المخروط فالأمر بعكس ذلك. إذ لم يستطع السكان الأقدمون إقامة ري قوي. كما أن تلك الأراضي كانت تحتلها أساسا المواشي الصغرى (الغنم والماعز). فكان من السهل طرد الرعاة منها وجعلها مسلكا خاصا.
ج-وأخيرا فلا قيمة للأرض في الحوز إلا إذا كانت مسقية. وبديهي أن الملكيات الكبرى تتطلب قسطا وافرا من الماء. واغتصاب الأراضي الموجودة في أعلى المخروط أو خارجه يتضمن مصادرة ضخمة لحقوق المياه ولا يمكن القيام بها إلا ساقيات مختلفة. وبالتالي غالبا ما تقع الأراضي على مجالات مختلفة.
وبعكس ذلك، فرغم قوة الكلاوة باشا مراكش، ورغم شدة رغبته في إقامة ضيعة كبيرة بالقرب من آيت ورير في السطح الأول من الزات، يشرف عليها القصر الذي كان يملكه، فإنه لم ينجح في أن يستولي على أكثر من 30 هكتار في عشرة بقع أرضية.
واحتلال الكلاوي للأراضي في حوض نفيس قد استخدم إستراتيجية مخالفة. فأولا بما أنه كان باشا على مدينة مراكش فقد اقنع إدارة الحماية بضرورة دمج الدائرة القديمة لباشا المدينة مع باشا القصبة. وبهذا ضم قيادة دائرة مراكش الضاحية مع باشوية مراكش. ثم طبق ما يمكن تسميته بـ Guichisation أي إرجاع تلك الدائرة تابعة لأراضي الجيش يعني تغيير الوضعية القانونية للسكان المقيمين في نفيس لإدخالهم في إطار سياسي قانوني جد مائع. والباشا وحده فقط، يستطيع الفصل في الأمور في مراكش. وفي سنة 1914 بعد أن كانت أراضي الجيش جزءا من أملاك الدولة ، أبعدت النصوص التشريعية هذا القانون العقاري من مسطرات التدبير، بحيث لا نعرف وضعية الجيش سوى عن طريق النفي: نعرف أنها ليست أراضي جماعية ، وليست أراضي الدومين وطبعا ليست أراضي ملك بما أنه لا يجوز التصرف فيها .
وباختصار، احتل باشا مراكش بصفته قائدا للجيش كل الأراضي المعروفة بأنها أراضي اقطاعات، ولكي لا يخلق مشاكل مع الجماعات المعنية فقد قبل الاستيلاء على الدومين الخصوصي للدولة الواقع في الضفة اليمنى لنفيس على «سقية» سعادة .
وفيما بين 1923 و1929 تنازلت الدولة للكلاوي عن العقارات التالية وذلك حسب ما ورد في التقرير الذي أشرنا إليه في الهامش:
سنة عقار هكتار آلاف الفرنكات سنة 1929 فرنك/هكتار 1974
1923 سعادة 2300 150 30
1925 سويهلة 500 40 40
1926 تاملالت 1500 100 33
1928 كولف وحانوت البقال 1000 800 400
المجموع 5300 1090 200
وينتهي كاتب التقرير إلى أن هذا التنازل حدث مقابل دفع المبالغ السنوية «التي لم تكن تمثل حتى القيمة الإيجارية لتلك الأراضي».
بالإضافة إلى «عمليات الشراء» من الدولة فقد منح الباشا حق التمتع مجانا بـ 980 هكتار على ساقية «اجديدة وتامسكفلت باسم أنها إقطاعة لصالح قايد الجيش على سنة 1949 أي التاريخ الذي وضع فيه رسوما لهذه الأراضي في اسمه هو بكل بساطة.
وأخيرا حسب ما يعرف رسميا كان الباشا مؤجرا لأكدال الكبير وأكدال باحمد أي 150 هكتار مقابل مبلغ 150 ألف فرنك (سنة 1932) أي أراضي تعتبر في مراكش علامات السيادة والجاه.
وفي موازاة الممتلكات العقارية للكلاوي استطاع خدامه خاصة الحاج ايدر والحاج محمد البياز أن يستوليا على مساحات معادلة لمساحات الكلاوي إن لم تكن تفوقها وذلك تحت حماية سيدهم. فمثلا استطاع البياز أن يضع في اسمه رسوما لما يقرب من 5000 هكتار .
حقوق الكلاوي في الماء:
رغم الطابع المدهش لتمركز أراضي الحوز في أيدي عائلة وأقرباء الكلاوي وحاشيته فلم يكن له أي إجراء مشترك مع اغتصاب المياه.
ففي حوض الزات استطاع الكلاوي سنة 1953 أن يستحوذ بمفرده على الحق المطلق في توزيع المياه، أولا برفضه حق التقدير حتى لا تتدخل الإدارة في تقنين وتوزيع المياه على شاكلة ما كانت تفعله في أحواض أخرى (نفيس، غيغاية، أو ريكة).
وفي بحث أجراه ب.روش P.Roche وفي عهد الحماية أظهر أن الكلاوي كان يصادر المياه في أعالي واد زات ويوزعها بشكل مخالف:
– كان يستعمل جزءا منها لتوفير أفضل ري لملكياته الواقعة في مسفيوة، خاصة أراضي الساقيات المعنية:
– بالرغم من سقي ملكياته سقيا جيدا خاصة التي فيها الأشجار كان يتبقى له الماء الكافي لسقي الملكيات الواقعة في أسفل الواد خارج مسفيوة . وقد تسبب هذا في مشاكل النقل التي يتغلب عليها بطريقة غريبة ماكرة بل اقتصادية إذا تصورنا مدى ندرة وقيمة الماء. ولنذكر هنا حالة أخذ الماء من واد زات يصل حتى يسقى به ملعب الكولف وحدائقه الواقعة على بعد كيلومترات من الأبواب الجنوبية الشرقية لمراكش. وحتى يتم ذلك يسير الماء في مجرى معقد يناهز طوله 50 كلمترا. فينطلق الماء من الساقية الأولى الناجمة عن فيضان واد زات ثم يعبر واد الحجر في ساقية فيضان هذا الواد ثم بعد تعرجات كانت تشمل مصارف المياه العارية في قنوات بعد خروجه من الأرض يصل إلى الكولف. ولنا أن نتصور مقدار ما يضيع من المياه بفعل التبخر ومدى التسرب في المجاري التي تكون عادة جافة لأنها ساقيات تتكون بفعل الفيضان. بالإضافة إلى ذلك كان يحدث شيء من نوع آخر: فمرور المياه في مجرى طويل كهذا كان يثير أطماع الذين لم يروا قط مياها جد قريبة من حقولهم، وهذا أمر مفهوم. وكان الكلاوي ينذرهم بواسطة وضع حراس «ثقاة» من رجاله في كل الأماكن التي يمكن تصريف الماء منها. وخلال النهار كان الماء يصل إلى هدفه المحدود إما في الليل فكان أولئك الحراس هم أول من يبيع ذلك الماء إلى المستعملين الشرعيين الذين تقع أراضيهم بالقرب من ممر المياه.
– وكان الكلاوي يؤجر جزءا من مياهه إلى مزارعي مسفيوة الذين كان هو نفسه قد نزع أملاكهم منهم. ولم يكن الأمر في الحقيقة سوى ضمان الحصول على ضريبة مقابل ماء النهر. ومعنى ذلك أنه كان يقوم بما لم تستطع إدارة الحماية القيام به بما أنها كانت تعترف بالملكية الشخصية التي تنقص من مقادير المياه بالنسبة للأملاك المخزنية (السابقة 1914).
– وأخيرا كان يؤجر المياه إلى مستفيدين خارج مسفيوة خاصة في الرحامنة، شمال وشمال غرب شبكة واد زيت. ونفس مشاكل النقل المذكورة سابقا كانت هنا موضوعة أيضا.
ونلاحظ هنا أن سحب الماء من أسفل النهر على حساب أعلاه يتجاوز إطار الاحتياجات في حالة الكلاوي: لقد أصبح عنصرا مهما في نسق استغلال مصادر المياه في الحوز الذي أصبح يوفر مداخيل مهمة بواسطة عقود الإيجار. ولم يعد يطرح أي مشكل من حيث أعلى أو أسفل النهر بما أن الماء كان يمر من صهريج إلى آخر عابرا حوض النهر حتى ولو كان جافا.
وحل آخر كان يمكن في إجبار الجماعات الواقعة على أعلى النهر والتي لها أسبقية طبيعية من حيث حقها في السواقي على التخلي عن تلك الحقوق إلى المالك الذي تقع أراضيه في أسفل النهر. وهذا معناه الاحتفاظ بأسبقية أعلى النهر بكاملها على حساب أسفله وذلك باغتصاب تلك الأسبقية وتطبيقها لصالحه.
وكان هذا المبدأ غالبا مدعما ومساندا على هذه الشاكلة: فلم يكن يكتفي باقتطاع كمية الماء اللازمة لري زراعات قطاعه الخاص من الساقية، بل يزيد في قوتها بإعادة حفرها وتوسيعها حتى يوصل الماء إلى الأراضي الواقعة في أسفل النهر.
ونجد نموذجا مماثلا على واد نفيس حيث كان الكلاوي يستعمل ساقية تاركة كان يملكها المخزن ثم المعمرون لكي يجلب الماء بمقدار إجمالي يصل إلى 130/ل/ث تروي 600 هكتار التي كان يملكها في قطاع السعادة.
ونموذج آخر جد معبر تمدنا به ساقية تازمورت أول ساقية تنبع من واد غدات في مدخله إلى السهل، ومصرفها يقع على الضفة اليسرى، في أراضي قبيلة كلاوة. وكانت تلك الساقية ملكا خاصا للكلاوي .
ولم تكن تلك الساقية، في زمن سابق، سوى مصرف بسيط لري مزرعة زيتون كان يملكها الكلاوي وتقع على مقربة من زاوية سيدي رحال غير أن قوتها زادت بشكل محسوس منذ سنة 1914 على حساب ساقيات أسفل النهر. وبما أن الماء لم يعد في الإمكان استخدامه كله في مزرعة الزيتون فقد زيد في طول الساقية. ونتج عنها مباشرة قناة أخرى تخترق ساقية أفياد بواسطة قناة، بعد أن تمر في مطاحين الكلاوي، تصب في واد غدات الذي خرجت منه في نقطة أعلى. ثم يؤخذ الماء ثانية في أسفل النهر بواسطة ساقية تاخيارت الواقعة على الضفة اليمنى، ولكنه لا يدخل ضمن تقسيم مياه هذه الساقية (رغم أنه يزعج المستعملين): بل كان يستعمل لسقي أراضي الكلاوي أو يؤجره لآخرين. وقبل أن يصب الماء في الواد فقد تطلب نقله أشغالا كبيرة لكي يخترق التضاريس الصعبة الموجودة في سفح الجبل (حيطان للتدعيم، أنفاق، سواقي مرتفعة عن سطح الأرض).
وكان تركيز الكلاوي للمياه في واد نفيس أمرا ملحوظا. فبينما كانت الملكيات العقارية تغطي 8% من المساحة المزروعة في مخروط واد نفيس، كان الباشا يستولي على 15% من مجموع منسوب تدفق مياه النهر كملكية شخصية، و3% كإقطاعة على «الجيش» أي 18% من مجموع المياه .
أما على مياه واد وريكة فقد توصل الحاج التهامي الكلاوي سنة 1918 إلى أن يجعل إدارة الحماية توافق على أن يستولي هو على ثلثي مياه تاسولتانت، وهي ساقية ممتازة. ولم يكن ذلك بلادة من طرف الإدارة بل لأن موظفيها كانوا «يرفعون أيديهم… عاجزين» أمام قدرة الكلاوي على غلبة كل معارضيه. وإلا ما القول؟ فحين أخذت الإدارة العامة للفلاحة والاستعمار تضع جردا لحقوق المياه على وريكة، اكتشفت أن الكلاوي كان يملك ثلثي منسوب هذه الساقية. ولكنها نجحت في جعل الكلاوي بصفته «أميرا شهما» يقبل التعويض الذي أعطته إياه ويجعل الشركاء الذين لهم الحق أن يخلوا المكان. ولكنها اكتشفت بعد عدة شهور أن حقوق الكلاوي على تاسولتانت لم تكن تبلغ 3/2 ولكن ثلثا واحدا. وأن الثلثين الباقيين هما ملك لمسفيوة التي يجب التفاوض الآن معها… بواسطة الباشا بالطبع! مسخرة حقة قام بها الطرفان بجدية وبكل الحيثيات المتبعة: «إن حقوق الماء في قطاع تاسولتانت ستكون غير مهمة، بدرجة محسوسة، ثمل ما كان عليه الأمر من قبل، اعتمادا على المعلومات التي أوردها في 9 ماي/أيار 1922 مراقب الأملاك المخزنية الذي أكد أن تاسولتانت تتوفر على 3/2 منسوب مياه واد وريكة في الصيف.
«وهذا التشريع الذي طبق طيلة المدة التي كان للباشا فيها حق الانتفاع ببلاد تاسولتانت لن يعترف به الآن من طرف المستعملين في أعلى النهر خاصة من طرف القائد الوريكي قريبه. وسيقدم هؤلاء رسوما تثبت أن كمية المياه من واد وريكة التي لهم الحق فيها، في المتوسط وفي حالة انخفاض مستوى المياه ستعكس. أي أن تاسولتانت لن تستفيد سوى من ثلث الكمية أي نصف ما كان موجودا ».
وبعد بضعة أيام قام أحد رجال الإدارة العامة للفلاحة والاستعمار بالإدلاء برأيه في مذكرة سرية تحمل تاريخ 30 أبريل/نيسان 1924:
إن المخزن يستولي على ثلثي مياه الصيف وتستولي قبيلة وريكة على الثلث وإذا استطاعت هذه الأخيرة ببعض المراوغات والحيل أن تأخذ أكثر من ثلث منسوب الواد فذلك الواقع لا يعني حقا، ولكن تعسفا يجب أن يوقف عند حده. ولا جدوى من الاعتقاد أن قبل إقامة الحماية، وباعتبار شكل وروح الحكومة الشريفة القديمة، كانت قبيلة وريكة تأخذ ثلثي منسوب الواد والمخزن الثلث فقط بل العكس هو الذي كان يحصل أي أن المخزن كان يستولي على منسوب المياه التي يرغب فيها حتى ولو أدى الأمر إلى جفاف النهر. وإذن فإذا تمسكنا بممارسات رجال المخزن فإن مجموع مياه واد وريكة كانت تسحبها ساقية المخزن حال ارتفاع مستوى المياه. غير أن قيادة واحدة انتصرت ضد هذا التعسف فقبل ضمنا أن الوريكيين لهم الحق في ثلث مياه النهر أثناء فصل الحرارة.
وهذه الحالة التي وجدناها سنة 1912 قد استمرت إلى يومنا هذا.
ذلك أن بلاد تاسولتانت بما أنها كانت إقطاعة للباشا الكلاوي فمن الصعب الاعتقاد بأن هذا المؤجر سيسكت عن المساس بحقوقه والمساس بالعرف الجاري به العمل.
«فمن العبث أن نعارض هذه الوضعية الفعلية الموجودة قبليا والتي تولدت عنها وضعية الحق بالعقد الموثق بتاريخ 4 رمضان 1333 الذي ينص على أن الوريكيين لهم الحق في الثلثين والمخزن في الثلث».
«فلصالح الأخلاقية الإدارية من الأفضل أن لا نعير اهتماما لهذه الوثيقة لننتظر أن يؤكد عكس ذلك الأشخاص الذين سيعينون كممثلين للدولة».
وأنا كشاهد على هذه الحقبة أتذكر أننا في قرارة أنفسنا كنا نعتبر دائما أن القضية قد سويت على أساس عقد 4 رمضان 1333 بأن نسبة الثلثين هي للمخزن والثلث هو للوريكيين. ونعترف حقا أننا لم نحصل قط على النسخة الأصلية للعقد.
ثم ما قيمة هذا العقد؟ وفي أي شيء يلزم الدولة؟ ولكي يمكن معارضة الإدارة به كان لا بد أن تثبته هي».
والواقع أنه في كل تلك الإجراءات نشعر أن الإدارة لم يكن أمامها طريق سوى ما يرغب فيه الباشا الذي يدفع دائما شركاءه ثم مسفيوة ثم الوريكيين وأخيرا صهره القايد الوريكي وفي كل مرة كان هو الحكم الذي تبعثه العناية الإلهية وهو وحده القادر على أن يعرف العرف، وينقد الإدارة من المأزق الذي وضعها هو نفسه فيه من جراء فرض الحلول التي يريدها هو.
ويجب أخيرا أن نسرد استخدام الوسائل الأكثر سرعة والتي غالبا ما تثار في التحريات، تلك الوسائل التي يمكن في الإلقاء بالحائزين على حقوق المياه في جوف الأرض (المطمورات) إلى أن يأتي أهاليهم بعقود الملكية .
وبديهي أنه ليس لنا أي دليل على هذه الممارسات غير أننا مقتنعون بأنها تظهر متلائمة مع نظام الاغتصاب والتطاول على القايدية.
مداخيل الباشا:
بما أن الحاج التهامي الكلاوي يكون نموذجا متطرفا للقايد الكبير في حوز مراكش يبدو أنه من المفيد بحث أصول مداخيله على حسب المستطاع معرفته من مصادر موثوقة أي قبل أن يصبح قويا ويمنع كل تحري حوله ويخفي كل معلومة. وبفضل التقارير المحفوظة في أرشيف وزارة الحربية وأخرى محفوظة في إدارة الشؤون السياسية (مصلحة الاستخبارات العامة الفرنسية) ، استطعنا أن نلقي بعض الأضواء على عالم من الممارسات الخفية الفعالة استطاع بواسطتها الباشا أن يصبح ثريا عن طريق الاقتراض. وقد كان من الممكن أن لا تعطي هذه الدراسة سوى إفادة من قبيل الحكايات وبالتالي مظاهر تبعث على الغثيان لو لم تكشف لنا الوسائل المستخدمة نموذجية تحريف الأعراف والمعاملات القديمة وتقنين ذلك بقوانين عصرية حتى تعطي صبغة المشروعية للامتيازات القايدية. رغم شهرة الباشا بهذه الممارسات لم يكن هو المحتكر الوحيد لها! ففي الحقيقة كان كل قايد وكل تابع له يتوفر على قسط من النفوذ في النظام القايدي، يستفيد من الامتيازات كل حسب إمكاناته .
بنية المداخيل:
– راتب عن الوظيفة 2% من مجموع الدخل
– تخفيضات ضريبية 20%
– أرباح وإعفاءات من الضرائب 4%
– ابتزازات «وضريبة الحرب» 14%
– مداخيل عقارية حضرية 8%
– مداخيل عقارية قروية 20%
– مداخيل من المناجم 32%
ـــــــــــــــــــــــــ
100
ومن الممكن تقدير المجموع سنة 1953 بـ 5 مليون فرنك (1974) والتخفيضات الضريبية التي تكون فصلا مهما من المداخيل هي من خاصيات آثار «القايدية الضريبية» وهي فترة كانت أهم المداخيل تتكون من ضريبة الحرب أي «الفريضة» أي «المساعدة الواجبة اتجاه السيد لكي يغطي نفقات مسؤوليته، على جميع السكان الرعايا. (الغير المعفاة من الضريبة بظهير خاص. انظر تامصلوحت) وهذه «الفريضة» السيادية تحولت إلى الفرض أو ضريبة الرؤوس في عهد الحماية .
ولم يعرف أبدا مبلغ الفرض الذي كان يؤدي للباشا. وتدور مختلف التقدريات حول مليون فرنك (1974). ونعلم هذا فضل التسوية التي تمت بين الباشا وإدارة المالية سنة 1931 لإيجاد حل لضمان تغطية أقساط القرض. فقد قدر الفرض سنة 1935 مثلا بـ 1.8 مليون فرنك (أي 1.3 مليون فرنك سنة 1974): كان الحاج التهامي يحتفظ بـ 10% منه (أي 180 ألف فرنك) ويؤدي مليون فرنك كتقدير لتأدية ضرائبه إلى قباضة مراكش، والباقي لتغطية الأقساط السنوية للقرض. وإذا كان المبلغ المستحق لضرائبه أقل من مليون، يحتفظ له بالفرق .
وقد أثارت قضية الفرض عدة مراسلات ذلك أن الباشا رغم انه لم يكن وحده المستفيد رسميا من اقتطاع يوصف بأن مخالف للعصر وأنه «فيودالي»، فقد كانت تصرفاته فيما يخص الضرائب تثير أعصاب كل المصلحين. وقد قام المحامي زروق المنتدب في المجلس الثالث يعارض الحكومة في العبارات التالية:
«من البديهي أنه يجب التخلي عن نظام النسب المائوية المقتطعة في ظروف غامضة ويجب منح القياد والشيوخ، خدام الدولة مرتبات حسب المهام التي يؤدونها. ففي ذلك ضمان لهم وللملزمين بدفع الضريبة. فهناك 560 قايد يتقاضون 180000 مليون أي في المتوسط 327000 فرنك لكل واحد، و3000 شيخ يتقاضون 120 مليون أي في المتوسط 40 ألف فرنك لكل واحد سنويا. وهذه الأرقام كافية للدلالة على عدم جدوى هذا النظام إذ لا يمكن أن يصدق أحد أن الشيخ مهما كانت حالته متواضعة يستطيع أن يعيش بمرتب 40 ألف فرنك سنويا يكاد يعادل ما يتقاضاه رئيس فرقة عمال» .
وبالإضافة إلى الفرض والتخفيض من الترتيب كان الحاج التهامي يستفيد من تأدية إجمالية تبلغ 45000 فرنك يتقاضاها عن مدينة مراكش كتعويض عن الإعفاء القديم الذي كان يستفيد منه مقابل الرخصة (مكوس وحقوق الإخلاء) وري مجاني لكل حدائقه وملكياته الواقعة في المدينة.
ولائحة الابتزازات والضرائب الخصوصية طويلة وبدون شك ناقصة. فداخل مدينة مراكش ذاتها كان الباشا يتقاضى باسم شرطة الليل والحراسة مبالغ نعتبر أنها شكلا من العصابات أو الشرطة الخصوصية . وكان يقتطع ضرائب خاصة أخرى غير محدودة يأخذها من أصحاب الدكاكين والخرازين وبائعي الزيوت والدباغين وبائعي الفواكه الجافة والصباغين وسوق الحبوب والموازين والكيالين والبغايا .
أما في البادية فقد كان الباشا يفرض على سكانها الاعتراف به كخليفة حقيقي للسلطان وكان يتشدد في المطالبة بتقديم نفس الاحترام ونفس الانحناءات التي تقدم حركيا وماديا، والتي كانت تقدم للمثل السابق للسلطان في مراكش. فكان يتلقى «الهدية» في كل احتفال كبير، وكانت تعبيرا عن مبايعته وتطور ذلك تدريجيا نحو الاعتراف بسيادته.
وتلك الهدية التي كانت في السابق احتفاء عينيا أصبحت بعد ذلك تأدية إجبارية نقدية. فبعد حصاد 1937 نظم الباشا جولات في الجنوب لاستلام المبالغ الضرورية له ولحاشيته للقيام بزيارة ودية إلى أوربا وعند نهاية هذه الحملة عاد بمبالغ ضخمة من المال ولكن في نفس الوقت ملأ سجنه الخصوصي في تلوات بمآت من المتمردين .
وبالإضافة إلى «الهدية» و«المونة» «التموين»، كان الباشا يتلقى نصيبا من الأغنام في فصل الربيع وآخر في عيد الأضحى (كان كل شيخ يوجد في مقاطعته يعطي خروفا). أما حوالات التخفيض على «الترتيب» التي كان يتمتع بها رسميا الشيوخ فقد كان هؤلاء يتسلمونها ويعطونها لرجال الباشا إجباريا وبهذا كان يستولي على مجموع التخفيضات. وكان المؤجرون في تاسولتانت وأغواتم الذين توسط لهم الحاج التهامي ولم ينجح في الحصول على وقف تنفيذ إجلائهم من أراضيهم بغرض توزيعها لصالح الاستعمار، قد حصلوا على تعويض، مقابل ذلك الإجلاء، لكن دفعوا نصفه إلى الباشا ليعبروا عن امتنانهم له على تدخله لصالحهم. وفي القطاع الذي كان تحت مراقبته كان الباشا يتمتع حسب ما يقتضيه الحال، بحق اقتطاع أربعة أيام عمل دون أجر من كل أسرة (كلفة) حتى يعتنوا بزراعاته الخاصة . والمحاصيل لم تكن فقط تحصد وتنقل إلى أماكن الدرس مجانا وكأشغال شاقة ولكن السيد كان يفرض على القبيلة أن تنقل المحاصيل على نفقتها الخاصة إلى أماكن التخزين أي إلى تلوات ومراكش . ونجد في هذا التقرير المجهول المصدر ما يلي:
«يملك الباشا أغلبية الأراضي الصالحة للزراعة المحيطة بتازرت . والقائم عليها من مهمته توفير اليد العاملة اللازمة، فكان يسوق أربعين أو خمسين رجلا يعملون بالإكراه بحيث أن كل فرد كان يجد نفسه يؤدي يوما كاملا من العمل كل أسبوع دون أجر. ومن يرفض الخضوع لذلك كان يزج به في السجن . وطبعا كان العديد منهم يرفض أن يعامل كالعبيد فكانوا يهاجرون تازرت ويتوجهون إلى الدار البيضاء أو الرباط أو أماكن أخرى. وقد غادرت 100 أسرة تازرت منذ صيف 1935. وبذلك انخفض عدد العمال إلى عشرة أو 15. ويبدو أن تازرت تمثل نموذجا كاملا لقصر إقطاعي محاط برجال السخرة التابعين له. ويتناقل الناس أنه من المستحيل الإقامة بتازرت إلا بشرط القيام بكل الأشغال الشاقة التي يفرضها السيد وهؤلاء لا يحاولون حتى تقديم الشكوى لأنهم متأكدون أن سلطات المراقبة ضعيفة».
وقد تذكر الكلاوي مسؤوليته بصفته مزواري فقام بتحديث الاستعمال القديم لعادة «البادي»: فهو الأول الذي له الحق في بيع محصوله من الزيتون والمشمش واللوز والنعناع. ويشتري بأثمان أقل من الثمن العادي وليس لأحد الحق في أن يبيع لآخرين غيره حتى يشتري الكلاوي القدر المطلوب من الصنف المرغوب فيه. وقد كان يحتكر وحده سنة 1938 تجارة اللوز في وازكيت. والمقرضون في مراكش يقدمون للكلاوي مبالغ كتسبيق لشراء اللوز في الشجر.
وفي ظرف بضعة أسابيع يشتري مجموع محصول اللوز، في سكتانة (الجانب الجنوبي) والحوزية وأوتلين. وبالتالي فكل لوزة تحمل إلى السوق تكون في ملكية الكلاوي، ثم يسلم اللوز إلى القياد والمقرضين الذين يبيعونه ثانية أثناء الأعياد الإسرائيلية وطيلة شهر رمضان والأرباح يتقاسمها مناصفة الباشا والقياد والمقرضون.
غير أن أكبر حصة من الابتزازات حسب أقوال الذين عرفوا الكلاوي والتي لا يمكن التأكد من صحتها، كانت تأتي من تسوية الأمور القضائية. فباسم التحكيم والعدالة التي أصبحت من شأن الخواص، اخذ النظام القايدي يحول لفائدته الأعراف القديمة والغرامات والصدقات التي كانت من حق الجماعة ، وقد صور بعض الإداريين الكلاوي على أنه عدو لدود للقضاء العرفي لأن «شراء فقيه هو أسهل بكثير من شراء الجماعة» غير أن هذه الحجة واهية إذ يجب التمييز، كما هو الشأن بالنسبة لكل عمل يقوم به الكلاوي، بين الأراضي التي تبدو له أنها جزء من أراضيه وبين الأراضي الأخرى التي يسيطر عليها. ففي كلاوة رغم أنه لم يكن ليترك للجماعة أي استقلال ذاتي، فقد كان يحترم الأعراف والعادات: وتدخل الشرع فيها ضعيفا. أما بالنسبة للجماعات الأخرى فقد كان القضاء يمارس باسمه الخاص أكثر مما يمارس باسم الشرع، غير أنه كان يبرر إلغاء العادات بضرورة تطبيق الشرع.
وعلى هذا المنوال كانت شمولية القوة والنظام القايدي الذي ترك الكلاوي عليه طابعه في الحوز إلى درجة أن نفسية سكان الحوز ومراكش ما زالت متأثرة إلى حد كبير بذلك الطابع وإلى يومنا هذا رغم أن كل ذلك أصبح في طي التاريخ.
إن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا والذي طرحه معظم الإداريين في مراكش هو مدى الحتمية والاحتمال في ظاهرة القايدية. ونظل مشدوهين أمام قوته ومعارضته للعصر إذ ذاك. وبعبارة أخرى، هل كان القضاء على النظام الكلاوي سيؤدي إلى الفوضى كما حلا لبعض القول؟ هل كان النظام القائدي ضروريا وحتميا لدعم النظام الاستعماري؟ أم العكس هو الصحيح بحيث كانت الإدارة الفرنسية في تلك المنطقة غير مباشرة فعلا، ولم يكن المغاربة محكومين إلا من طرف مغاربة آخرين؟
ومع ذلك فلم ينكر بعض المراقبين الاستعماريين لسياسة القياد الكبار، أن الكلاوية كانت شرا لا بد منه. نجد في مذكرة مجهولة الكاتب: «لقد ندمنا لكوننا قضينا على القياد في بعض المناطق دون أن نعوضهم».
«ولم يعد أمامنا سوى شذرات لا تأثير لها لأنه لم يعد لدينا الوسائط المسموح بها بيننا وبين الأهالي. إن السكان لم يعد لهم من يؤطرهم ويتحتم علينا أن نوفر لهم تلك الأطر» «لم يعد لنا أي سند لدى الشاوية (الجزائر) بما أننا قضينا على كل شيء وأصبح الكل مسوى اجتماعيا. لقد حطمنا هناك القيادات الكبرى كما ورد ذلك في «المذكرة البربرية» وكما هو مطابق لسياستنا المتعلقة بالأهالي، غير أننا لم نبال بضرورة تعويض القوة التي أزلناها بوسائل عمل أخرى جديدة» .
ونفس الموقف عبر عنه بعد ذلك في عبارات لا تختلف عن سابقاتها: «كيف أن نظاما (قايديا) يمثل في صفائه شكلا من الإدارة والسياسة يصعب على فكر ليبرالي أن يتقبله أو يتصف شيئا ما بالعدالة، يمكن أن يحافظ على رصيد من النفوذ وذلك خلال تطور ذكي وتكيف مع سلطة مركزية لا تجيزه إلا بصعوبة، وسيكون من اللامجدي بل من الخطير التضحية به، وسيؤدي إلى جعل الشكل الجديد من السلطة التي قد نقيمها عوضا عنه أمرا تافها ».
كما يجب أن نلاحظ جيدا الاستمرارية التي لا جدال فيها لنفس السياسة التي استخلصت بعض العبر من المغامرة الاستعمارية في الجزائر وقد قامت بكل تبصر بتقوية أو العمل على خلق النظام القايدي وذلك منذ صدور تعليمات ليوطي سنة 1912 ، التي تهدف إلى مجرد الاقتصاد في الوسائل الحربية إلى أن خلع ونفي محمد الخامس بحجة محاربة الحركة الوطنية واحتجاج البرجوازية الحضرية.
وفي الوقت الذي حصرت فيه الحماية السلطان الشرعي للمغرب في قصره داخل بلده، أعطت حرية كبيرة في العمل والحركة للكلاوي الذي كان غالبا ما يسافر إلى الخارج بدون أن يحتاج لأي إذن رسمي بذلك، ويتصل بمختلف الشخصيات السياسية الدولية الفرنسية والانجليزية على وجه الخصوص، ويتمتع بحياة مترفة فخمة وله أملاك تفوق ممتلكات السلطان نفسه ويمنح نفسه تسميات وكأنه رئيس الدولة .
ولا شك أن فئة كبيرة من القادة الاستعماريين التي بدأت تتقوى شيئا فشيئا قد كانت ترغب منذ البداية في أن تمنح الكلاوي مكانة سياسية أهم من مكانة السلطان.
والضربة القاصمة التي تمت سنة 1953 إنما كانت بذورها تعود إلى سنة 1936: إنها لم تكن حصيلة اختيار شخص معين ولكن اختيار مجتمع معين.
وفي الحوز، وحتى لا نتعدى هذا المجال الذي استطعنا أن نجمع وثائق عنه يبدو أنه مما لا جدال فيه أن الحماية قد اختارت تدعيم النظام القايدي الذي كان الكلاوي أكبر ممثل له ويتمتع بالحماية الفرنسية، وكانت ترمي من وراء ذلك جعل نظامه نموذجا للسيطرة على المجتمع لسيطرة على المجتمع المغربي بكامله.

الجمعة، 24 يونيو 2016

بول باسكون (10): القايدية المخزنية

بول باسكون (10): القايدية المخزنية
بول باسكون (10): القايدية المخزنية

بول باسكون (10): القايدية المخزنية

المساوي محمد
فيما يأتي الجزء الثالث من المقال المطول لباسكون عن النظام القايدي، وكان قد تناول في الجزء الثاني السياق الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي لبروز شخصية القايد التهامي الكلاوي، وفي الجزء الثالث نتعرف عن عن قرب عن القايد الكلاوي ونتعرف على ثروته وحجم السلطة التي كان يتمتع بها.
نُشر المقال في المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي، العدد الخامس والسادس/1981. وأعاد نشره الموقع الالكتروني المناضل-ة.
الجزء الثالث:
القايدية المخزنية:
إن المساندة التي قدمها الكلاويون لصعود مولاي عبد الحفيظ إلى العرش (مراكش-غشت/آب 1907) ومساهمتهم في دحر الجيوش العزيزية في زمران، قد كان جزاؤهم عنها تعيينهم في الجهاز المخزني .
مدني: صار قائدا للجيوش الشريفية سنة 1907 والوزير الأعظم سنة 1909 ومنه لقبه «الفقيه» وشمل حكمه كلاوة إلى أولتانة دمنات وفطواكة، ورهوجدامة، وتوكانة وكدميوة أمزميز. وقد خلفه ابنه الأكبر محمد العربي على رأس الجيوش الشرفية.
التهامي: سمي باشا على مراكش في يوليوز/تموز 1909 (ظل في هذا المنصب طيلة 47 سنة متواصلة) وبهذه الصفة كان يراقب كل القبائل المعروفة بالجيش.
حاسي: سمي خليفة للتهامي وقايد غيغاية الدايرة (قبائل صغيرة دير مثل الرحامنة وتدرارة وعرب).
علال: عين باشا على دمنات.
حمو بن محمد: زوج لالاحليمة بنت مدني، قايد كلاوة وكل الجنوب إلى زاكورة وتنغيرت وإلى جانب هذه المشاركة في المخزن الحفيظي تحالفت كلاوة مع الأسر المخزنية الكبرى.
لالاربيعة: بنت مدني أهديت زوجة للمولى حفيظ سنة 1910.
لالاخدوج: بنت التهامي تزوجت عبد السلام المقري وزير المالية وتزوج مدني زينب بنت المقري.
ثلاث بنات لمدني تزوجن بقياد الدير: وريكي، بن ادريس، درودوري.
التهامي: تزوج بنت الحاج المهدي المنبهي، وزير مولاي حفيظ سنة 1918 أي بعد إقالة الوزير القديم.
كانت إذن عائلة الكلاوي تبسط سلطتها المباشرة على 500000 نسمة و35 ألف كلم2 كما كانت تتصرف في كل التداول النقدي وتسيطر على كل الأسواق والمواصلات والمبادلات. ويستولي الباشا الكلاوي على التجارة المهمة متنافسا مع التجار الأجانب ويبعدهم من السوق. وهو الوسيط الوحيد بين المشترين الأوربيين والفلاحين الموجودين على أراضيه.
والمزاحمة بين الشركات الأجنبية والقياد الذين كانوا يجمعون هم الإنتاج الزراعي الفائض لم تتم دون تشكيل تحالفات، ودون انفتاح على «السياسة الكبرى». وقد حاول القياد إقناع الأوربيين بأن عليهم التعاون معهم لكي يسيطروا على النزعات «الفوضوية» التي تثيرها القبائل. ويشهد على ذلك الحديث الذي دار بين لاسالاس Lassallas والتهامي الكلاوي في 8 يناير/كانون الثاني 1909 وكتبها الأول في تقرير رفعه في نفس المساء في مراسلته مع الإدارة العامة للشركة المغربية:
الكلاوي: «إنا نرغب مثلكم في السير نحو التقدم، نأمل أن يتمتع بلدنا بنمو اقتصادي يناسب ثرواته، وبمساعدة فرنسا. وسنبذل مجهودنا لكي نصل إلى النتائج التي تودونها. غير أنه بما أنكم ترغبون في إصلاحات حقيقية وليس في تجارب لا جدوى منها مثل ما حدث في عهد مولاي عبد العزيز، فاتركوا لنا الفرصة لكي نصبح أولا أقوياء وتصبح القبائل طيعة، وسنعطيكم كل ما تطلبون، إذن لن يستطيع أحد بعد ذلك أن يعارض الإصلاحات التي سيفرضها المخزن» .
غير أن صعود الكلاوي في المخزن الحفيظي بشكل سريع ومدهش سيظهر هشا حين يضطر المولى عبد الحفيظ (أو ارتاح) تحت ضغط الممثلين الفرنسيين، إلى إقالة نفس الأشخاص الذين أتوا به إلى الحكم. فخلال بضعة أيام انتقلت السلطات التي كانت بيد الكلاوي إلى أيدي أخرى . وهكذا نهبت ممتلكات كلاوة أو على الأصح الأراضي التي كان يحتلها، والمزروعات، وقام بذلك المغامرون الذين ينتهزون كل هزيمة. وقام كلاوة بدورهم بنهب كل ما كان قريبا من قواعدهم . وينقل تقرير انجليزي في سنة 1911 الوضعية السائدة بكل دقة:
«إن السمسار المحمي الانجليزي لعزيز روزيليس (؟) جاء المقابلتي عدة مرات ليشكو لي أن الحبوب المزروعة في مسفيوة قد حصدها رجال الكلاوي. وحين تحادثت في هذا الشأن مع متوكي حاكم الحوز في ذلك التاريخ أجبت بأن ذلك كان رد فعل لكون السلطان أعطى كل حبوب المدني والحاج التهامي إلى إدريس ولد الحاج منو الذي كان حينئذاك باشا على مدينة مراكش» .
لقد وجهت الضريبة إلى كل العشيرة. وحمو وحده هو الذي احتفظ بكلاوة وآيت واوزكيت وقد قيل أن خروج المدني كان مثل خروج الغزواني من المخزن المريني. وقد أخبر أن السلطان لا يرغب في رؤيته فأجاب على ذلك: «خلاني الله يخليه!» . وانسحبت إلى قطاع تلوات لتتأمل حول تحول القوى والسلطة ولكي تفكر في مزايا الحماية الفرنسية.
والسلطات الفرنسية هي المسؤولة عن إقالة الكلاويين، لذلك لم تتوان عن إبداء ندمها على ذلك القرار وحاولت أن تتدارك الأمر. إذ تحت سوط الكلاويين اختلفت التوازنات السياسية الاجتماعية وحل بدلها نظام طغياني أكيد ولكن تسهل السيطرة عليه من طرف قوى أجنبية تشعر بمسؤوليتها تجاه مستقبل المنطقة. أضف إلى ذلك أن إدريس ولد منو أدرك الإيقاع الجامح لزمن السياسي وكان حينئذ منهمكا في تجميع الثروات وتبديدها في أشهر قليلة، ففتح باب المناقشة على مصراعيه ضد القوى الاستعمارية الأجنبية الأخرى على أراضي الحوز وخاصة ضد ألمانيا. وبذلك أصبح هو الوسيط الضروري للمكتسبات الجديدة.
وقد كتب مكريت Maigret، وهو موظف في القنصلية الفرنسية بمراكش إلى روبير دو بيلي R.De Billy الذي كان حينذاك سفيرا لفرنسا في طنجة:
«لقد علم أمس خبر إقالة الحاج التهامي وقد أثار هذا الخبر انفعالا عميقا لدى الأهالي ولدى الأوربيين. وقد استاء الجميع من اختيار السلطان الذي وقع على إدريس ولد الحاج منو. ويذكر الكل القسوة والجشع اللذين يتصف بهما الحاكم الجديد لمراكش الذي لم يكن سوى باشا على القصبة، بل نرى اليوم أن حتى أعداء الحاج التهامي الكلاوي قد استاؤوا هم أيضا لإقالته. وبعض الأوربيين وخاصة السيد لينوكس Lennox أشاروا إلى أن القرار الشريفي قد اتخذ بتحريض منا لكسر شوكة عدوين لدودين وبالتالي تبرير تدخل فرقنا العسكرية. وقد قابلت الحاج التهامي بهذا الشأن منذ الأمس، وقد بادرني بالتعبير عن دهشته وأسفه لتخلي السلطان عنه وتخلينا نحن عنه لصالح عدو من نفس أسرته. «لقد وعدتموني بتقديم حمايتكم لي فهل أعتمد على هذه الحماية أم يجب علي أن أدافع عن نفسي بنفسي؟».
وقد ذكرته، في كلمات قليلة، أن أول واجب عليه هو الخضوع لأمر السلطان، والاستمرار في إدارة المدينة والحفاظ على النظام فيها إلى أن يصل خلفه. وإن هذه فرصة أخرى لكي يبرهن على إخلاصه لفرنسا أن اتبع نصيحتنا. وأنه بذلك سيخدم المستقبل. وقد أكدت له أن مفوضية بعثتنا لن تنسى خدماته الجليلة، ولكنه أفهمته في ذات الوقت أن موقفه إذا لم يطابق ما ننتظره منه فسيجلب له ذلك عواقب وخيمة.
وقد صارحني الحاج التهامي بأنه إذا كان محميا فرنسيا فلن يتردد: سيقبل القرار الشريفي، وسيخضع لنا كلية لندافع عنه في حالة ما إذا هدده الباشا الجديد لمراكش في شخصه أو أسرته أو في أملاكه الخاصة.
وقد تلقيت في هذا الصباح البرقية التالية من الدار البيضاء من مفوضيتكم: «إن السلطان بعد إجراء استعلامات جادة ينوي أن يقبل أعضاء أسرة وزيره الأعظم. قل للتهامي الكلاوي: إننا لن ننسى تعهداتنا إذا لم يضطرب النظام في مراكش» .
وأخيرا اختارت أسرة الكلاوي الحماية الفرنسية كطريقة وحيدة لوقاية وضعيته ولم يكن ذلك الاختيار سهلا كما يبدو اليوم في وقت قام الأدعياء في كل جهة في البلاد وكان الهبة ابن ماء العينين قد أعلن الجهاد وقدم من الجنوب واستقر كسلطان بمراكش بتاريخ 17 غشت/آب 1912. وقد استطاع الكلاوي رغم إقالته أن يلم حوله كل الذين كان يخفيهم الهبة بمن فيهم أنصار مولاي حفيظ وعدوه اللدود إدريس ولد منو. وقدموا للهبة مبايعة زائفة وكانوا في نفس الوقت يتسترون على رجال القنصلية الفرنسية واستدعوا الجيش الفرنسي وساعدوه بتقديم المعلومات فأدى ذلك إلى هزيمة الصحراويين .
وإذ ذاك عين الكلاوي من جديد باشا على مدينة مراكش وظل كذلك إلى استقلال المغرب .
القايدية العقارية؛ بين القطاع والحجز:
أول عملية قام بها الباشا الحاج التهامي هي تفكيك الشبكات التي حاربته وذلك بمبادرة لصالحه الفردي كل أراضي أعدائه التي استحوذوا عليها . وكان احتلال الأراضي يتم في غالب الأحيان بالعنف والرعب وبصفة خاصة أراضي مسفيوة. فكانت تنزع الملكية بشكل لا رجعة فيه من كل معارض أو رافض لدفع الضريبة. وفي ظرف بضعة أشهر استولى السيدان المنتصران الكلاوي والعيادي على آلاف الهكتارات وعلى الحقول الشاسعة المزروعة بالقمح طواعية أو بالإكراه .
لكن إذا كانت ظاهرة الاحتلال الفيزيائي العنيف لحقول القمح الشاسعة منذ 50 سنة خلت، هي القاعدة التي أصبحت تفرض نفسها تدريجيا وبوضوح في الحوز كنتيجة للعنف وللسطوة السياسية، فإن ما هو جديد ابتداء من 1912 هو جعل تلك المكتسبات مشروعة وضمان دوامها وحماية تلك الملكيات من طرف جيش دولة حديثة كما سنرى في الفصل التالي.
إن الجشع الكبير الذي أبداه كبار القياد على العقارات ونما في بداية القرن 19 ليصل إلى أقصى مداه في الحوز في السنوات الأولى بل الأحرى الشهور الأولى لدخول الفرق الفرنسية، ليستحق التحليل كخاصية أساسية لمرحلة القايدية هذه.
يجب أن نتساءل أولا لماذا تخلت الملكية العقارية الفردية وملكية المياه التي يمكن اعتبارها هي أيضا عقارا تلك الأهمية القصوى الفجائية بالنسبة للقياد وذلك حوالي سنة 1900. من المؤكد أن أعيان النظام والشخصيات المخزنية، طيلة القرن 19، كانت توفر وتكدس العقارات المهمة في الحوز، ولكن كان من المألوف أن إقالة وذهاب المستفيد يتضمن عودة الأراضي إلى الدولة لأن المسؤولية المخزنية هي وحدها التي يمكن أن تكون مصدر الإثراء. إن آخر إثراء هو الذي تم حين أصدر المولى عبد العزيز سنة 1900 أوامره بالحجز، واهتز لذلك الرأي العام في الحوز وانشغل به الناس لفترة طويلة، على ممتلكات باحمد عقب وفاته. ويظهر أنه كان يرمي بذلك الرفع من قيمة الحوز وتغذية بيت المال أكثر مما يرمي إلى الزيادة في المساحات التابعة للمخزن، وعلى كل فتلك الأراضي المحتجزة كانت ملكيتها تنتقل من شخص إلى آخر دون أن يتغير المستغلون للأرض بالمشاركة ودون تغيير نوع المزروعات. ونقصد أن تلك الأراضي أشبه ما تكون تابعة لمسؤولية المخزن. ولا نبالغ فندعي أنها كانت تشكل دخلا يعترف به المسؤولون الوزاريون أو القايديون، وإنما كانت تضمن في الواقع، نصيبا لا يستهان به من ذلك الدخل. وفي مجتمع يحرص أكثر على تقرير الحق ويؤكد مشروعية هذه المبالغ المالية مقابل القيام بالمهام، فمن غير شك أننا كنا سنسميها «اقطاعات terres d’apanges». غير أن من خاصيات المجتمع القايدي تفادى إقرار الحق ذلك أن التبرير القانوني لذلك الحق سيصعب غالبا إعطاؤه، وسيخلق سوابق ستقيد من حرية تصرف الأمير .
وانتقال القطاعات من الحائز القديم إلى الجديد يتم حسب ثلاثة أشكال:
1-الحجز عليها من طرف الدولة وبيعها في مزادات عمومية لصالح بيت المال .
2-حجز الدولة للمتلكات وبيعها إلى المستفيد الجديد.
3-دفع ديون الموظف المطرود، يدفعها المستفيد الجديد على أن يتحمل تغطية ممتلكات الأول لصالحه .
إن ما أصبح تدريجيا مجرد شراء للوظائف المخزنية لم يكن في البداية سوى مسطرة لتغطية الدولة لديون الموظفين المعزولين بواسطة مصادرة ممتلكاتهم التي غالبا ما اكتسبوها عن طريق استخدام السلطة والنفوذ.
والتعاقب السريع لموظفي المخزن عن طريق التوالي السريع لعمليات العفو، والإقالة لم يتح للمخزن الاحتفاظ بسجل مضبوط لملكياته العقارية ابتداء من سنة 1905.
ومن جهة أخرى فإن عبارات الاتفاقات حول الديون المغربية من الخارج تجعل من ملكيات المخزن إحدى الرهائن الأكثر ضمانة للدين، مع الجمارك، ولا تشجع المخزن على الإعلان على الملكيات التي حصل عليها بطريق المصادرة. أضف إلى ذلك أن التطور تم في اتجاه ترك حرية التصرف للماسكين على زمام السلطة المخزنية الجدد، في الاستفادة هم أنفسهم من أراضي الأشخاص المقالين.
كما لم يثنهم ذلك عن بسط أيديهم ليس فقط على ممتلكات السابقين المقالين، بل أيضا على ممتلكات الأشخاص الذين كانوا يساندونهم –لأن المناطق أصبحت منقسمة إلى أعداء وأصدقاء- بل حتى على أراضي جيرانهم، وذلك نظرا لانعدام سجل المساحة ومسطرات الأحكام المستقلة. وهكذا ارتفعت مساحات الأراضي المصادرة في الحوز حتى أصبحت تغطي كل المجال الواقع خارج القطاعات الأولى المسقية بصفة دائمة. فكان الطرد من الأراضي –وقد طبق مرتين ضد مسفيوة ولصالح الكلاوي- هو وحده الكفيل بإفراغ البقع الأرضية ونزع الحقوق في المياه بشكل كاف حتى يهتم بها القائد. والعمليات التخريبية مثل اقتلاع أشجار الزيتون، وحرق البيوت، التي قام بها كلاوة سنة 1894 وخاصة سنة 1907 في مسفيوة لم يكن الهدف منها فقط قمع التمردات بقيادة المخزن بل تهجير مسفيوة غير أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاحا تاما.
السبب الثاني للاهتمام الجديد الذي أبداه القياد نحو الملكية العقارية يظهر أنه يعود إلى محاكاة سلوك الأجانب. فقد تعدد الاتصال بينهم وبين رجال الأعمال الأوربيين ، الذين يهتمون بشكل خاص بتملك الأراضي. والمعلومات المستقاة من المهاجرين الجزائريين والعائدين من الحج ، حول التطور الاجتماعي والسياسي في الجزائر، أقنعت المتبصرين أن ضمان الملكية هو وسيلة للإثراء وخاصية من خاصيات الأزمنة الحديثة. غير أن هذا لم يدركه كل الناس وخاصة الطيب الكوندافي الذي ظل إلى النهاية محتفظا، في سذاجة، بصورة سيد الحرب رغم أنها لم تعد تماشي العصر. وقد أرسلته الحماية باتفاق مع الكلاوي إلى حملات بعيدة في وقت كان فيه القياد الحذقون يتقاسمون الحوز .
حول هذا الموضوع يمكن أن نقابل كومتين من الأدلة تحاول أن تثبت من ناحية أقدمية الملكية العقارية ودقة تشريعها ومن ناحية أخرى كيف أن الملكية العقارية كانت عابرة وموضوعا لحجوزات دائمة وضمانها زائف بعقود لا تحمل محمل الجد إلا حسب القوة التي يمكن أن تسخر لها.
غير أنه في نهاية القرن 19 يظل أمرا صحيحا أن ما يكفل الإثراء السريع هو السلطة السياسية، والقوة والعنف، وحوزة سلاح حديث. إن المصدر الزراعي لهذا الإثراء إنما كان بدرجة أولى السلطة الممارسة على الرجال الذين يفلحون الأرض مهما كانت وضعية ملكيتها. فقد اكتسب أسياد الحرب نفوذا وثروات من خلال مصادرة الفائض الزراعي، وفرض ضرائب قاسية، وبحصاد الحقول لا بفلاحتها، وحين كانوا يقولون: «أراضي ملكي» فذلك كان يعني: «هذه مقاطعتي» ولنقل الكلمة: «هذه اقتطاعتي» (Mon fief).
إن ما تغير ابتداء من سنة 1912 هو الشعور بأن ملكية الأراضي أصبحت هي القاعدة الجديدة التي تضمن السلطة والنفوذ والثراء. وهذا قلب كامل للرؤيات التي عاصرها المتنازعون. فالمحظوظون حينئذ كانوا هم الذين يتوفرون على مواقع ممتازة. ولنتخيل مثلا دخول الفرق الفرنسية إلى مراكش في أبريل/نيسان 1911. فقد كان من المفروض أن يكون المتوكي هو القوة الكبرى إذ ذاك، ذلك أنه في ظروف مماثلة لظروف الكلاوي في سنة ونصف بعد ذلك، كان هو الذي سيحبك الدسائس مع الأجانب. ولو تم دخول الفرنسيين بضع سنوات من قبل لكان الكوندافي هو الذي سيقوم بهذا العمل إذ كان في تلك الفترة في أوج صعوده.
إن سكان الحوز الذين تابعوا باندهاش التوالي الغريب لعدد من الأسياد وربما اعتقدوا أن من الصعب تجاوز ذلك وأملوا أن لا يحدث تغيير في الوضع، قد شاهدوا فجأة قيام ثروات عقارية جد ضخمة واستقرارها، لصالح الأشخاص المقالين من مهامهم والذين كانوا قد فقدوا كل شيء بضعة أشهر قبل هذا.
وفي سنة 1918 حين توفي المدني الكلاوي عين التهامي الكلاوي خلفا له ولم يكن قد طرأ سوى تعديل بسيط على التوزيع الجديد للقبائل التي كان يحكمها. وقد رد المارشال ليوطي بلهجة حادة على الجنرال «دو لاموث de Lamothe الذي دعا إلى ضرورة انتهاز تلك الفرصة للحد من سلطة عشيرة الكلاوي:
«إن الوضعية في أوربا وفي جنوب المغرب جد مضطربة ترغمنا على الاعتماد على أشخاص لهم وزنهم، أذكياء ونشيطين ويمكن الاعتماد عليهم. والتهامي أحد هذه الرجالات فهو الوحيد من كلاوة الذي تتوفر فيه كل هذه الشروط. ولكن يجب الاعتماد على تعاونه معنا دون تحفظ. ذلك أني متأكد أنه لن يوافق على التخلي عن حكمه على مدينة مراكش. يجب ألا يغيب عن أذهاننا كل ذلك العنف الذي سبغ التنازع على هذه الباشوية سنة 1912 حتى ندرك جيدا إلى أي حد كان هذا المنصب محط اهتمام القياد الكبار في الجنوب. باختصار نحن الآن في حاجة إلى كلاوة أكثر من أي وقت مضى وخاصة التهامي. ولا تسمح لنا الظروف الحالية بأن نبخل عليه بإسناد هذا المنصب له. يجب إذن أن نتابع المسير. وسنرى بعد الحرب…» .
والحقيقة أنه بعد الحرب كان من الضروري أن يتسع مجال حكم الباشا ليشمل عددا من القبائل الأخرى بمناسبة «الحركة التي حدثت في تودغة وتافلالت. وقد أخذت إدارة الحماية سنة 1924 تحاول زعزعة قيادات الطيب الكوندافي ، وعبد المالك المتوكي والتهامي الكلاوي، وذلك لقلقها من تزايد قوة كبار القياد. وقد عهدت بهذه العملية إلى ضابط فرنسي هو أورتليب ORTHLIEB الذي سجل في حيثيات تقريره:
«إن الباشا وابن أخيه سي حمو قد تقمصوا الآن بجد أدوارهم كأسياد كبار، لقد أصبحوا يعيشون حياة مترفة يوفرها لهم دوام مداخيلهم المالية الناجمة عن التنظيم الحالي أي الاستغلال المكثف للقبائل. ويعلمون أن مراقبتنا ستحد من إمكانيتهم في هذا المجال ولذلك يفعلون كل شيء ليعوقون كل تحسين لطريق تلوات وإقامة الخط التلفوني وإلحاق ضابط من الجيش» .
ويبدو أن السلطات المحلية للحماية تحاول الحد من نمو سلطة الكلاوي، دون أن تكون متأكدة من أن الدوائر العليا لها نفس الموقف. ذلك أن كل تقرير يبلغ يبعث به ضابط من ضباط الشؤون الأهلية إلى الرباط ينقل فيه مطالب هذه القبيلة المضطهدة أو تلك، يرد عليه بطريقة متأففة بحجة ربح الوقت أو إثارة وضعيات مؤقتة صعبة. وقد تراكمت إرساليات الاحتجاج المتعلقة بالابتزازات والتمردات، والقمع الضروري والنزوح من القرى بل بالأحرى دفع بأفخاذ بكاملها إلى الإفلاس . وقد قدم أورتليب إلى المارشال ليوطي بتاريخ 12 يوليوز/تموز 1924 تقريرا واقتراحات محددة لجعل حد للطغيان الذي يمارسه الحاج التهامي الكلاوي. وقد وافق المقيم العام على الحيثيات واستنتاجات التقرير، غير أن حرب الريف قامت إذ ذاك بحيث أخرت وسمحت للكلاوي من جديد بأن يلعب دور المنقذ الذي لا يستغنى عنه.
وقد أصبح الحاج التهامي الكلاوي سنة 1930 قوة مالية. وإذا كانت قوته السياسية قد أتاحت له غداة 1912 اغتصاب مجالات مالية كبرى وأهم أراضي الاقتطاعات apanage في الحوز فإن ما حدث هو العكس وذلك فيما بين الحربين العالميتين: فالمجالات التي كان يملكها أتاحت له اهتمام رجال الأعمال بها وكذلك رجال السياسة وبالتالي ضمان وتوسيع تطلعاته السياسية .

بول باسكون (9): امبراطورية التهامي الكلاوي

بول باسكون (9): امبراطورية التهامي الكلاوي
بول باسكون (9): امبراطورية التهامي الكلاوي

بول باسكون (9): امبراطورية التهامي الكلاوي

محمد المساوي
فيما يأتي الجزء الثاني من مقال باسكون حول ما اسماه “النظام القايدي”، الذي تتبعا معه في الجزء الأول بعض ملامح “اطروحته” حول النظام القايدي وما يميزه عن النظام الاقطاعي.
يستهل باسكون هذا الجزء من المقال باستحضار السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي والديني الذي سمح للكلاوي بأن يتبوأ تلك المكانة التي لفها ومازال يلفّها الكثير من الغموض. ورغم اقرار باسكون بندرة الوثائق حول هذا الرجل، بسبب التحفظ الذي كان ساريا على تاريخه بعد الحجز على ممتلكاته سنة 1958، رغم ذلك يُعتبر هذا المقال من أهم المراجع حول شخصية هذا الرجل الذي سيطر على منطقة الحوز، واستحوذ على ثروة هائلة جعلته يملك مشاريع ضخمة في الدار البيضاء والرباط وطنجة ومراكش، ورفعه البعض الى مصاف الاساطير، بينما أنزله البعض الى درك الشياطين، بيد أن باسكون يحاول في هذا المقال اعادة تشكيل تاريخ هذا الرجل بعيدا عن ثنائية التدنيس والتقديس.
نُشر المقال في المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي، العدد الخامس والسادس/1981. وأعاد نشره الموقع الالكتروني المناضل-ة.
الجزء الثاني
أ-أمبراطورية الكلاوي :
لقد سبق القول بأنه من المستحيل دراسة التاريخ الاجتماعي والبنيات الزراعية في حوز مراكش دون التساؤل عن صعود رؤساء كلاوة وأكثرهم شهرة ونفوذا أي المدني والتهامي الكلاوي. ولكي نعطي فكرة عاجلة عن الأهمية السياسية الاجتماعية للتهامي الكلاوي نسارع بتقديم بعض الأرقام. فعند تنفيذ الحجز سنة 1958، كان مجموع الملكيات القروية المسجلة في الحوز وحده يغطي مساحة تبلغ 11.400 هكتار مسقية. وأسرة الكلاوي تملك أكثر من 16.000 هكتار في الحوز، و«العشيرة» (أي بإضافة ملكيات البياز والحاج ايدر) تملك 25.000 هكتار في المجموع مرسمة. ولا يدخل في ذلك الأراضي التي ليس لها رسوم، ولا شجر الزيتون (660.000 شجرة) مملوكة دون الأراضي ولا المياه ولا الملكيات الموجودة في أقاليم أخرى (خاصة واد درعة وداداس).
ويعتبر هذا أكبر تركز عقاري عرفه المغرب يفوت بشكل كبير ملكيات السلطان، في فترة الحماية. وقد قدرت مساهماته في الأعمال الصناعية والتجارية بمليارين من الفرنكات سنة 1956. وقد حكم الباشا مباشرة أو بواسطة أبنائه طيلة 44 سنة عددا من السكان يفوق المليون نسمة إلى سنة 1955. وقد رفعت الذاكرة الشعبية شخص الكلاوي إلى مصاف الشخصيات الأسطورية العظيمة مثل سيدي رحال، أو السلطان الأكحل. ودراسة للبروفيل السيكوسوسيولوجية لهذه الأسطورة أمر يحتاج إلى دراسة. ولم نسجل منه سوى التعبير عن العنف القاهر واغتصابه لكل ثروة ظاهرة، وكذلك صورة الحامي الذي يحترم تعهداته ووعوده ويتدخل دائما ليدافع عن قومه وحلفائه بحماس وقوة شديدة نظرا لاطلاعه الواسع على الأعراف والعادات ومعرفته الشخصية بالأفراد. وبديهي أن شخصية تمثل عصرا انتهى ينسج وتتراكم حولها أحكام مناقضة للأحكام التي لدينا عن الحاضر، وتكتسي تلك الأحكام صبغة التسامح والطابع اللاشخصي للإدارة. ذلك أن الأسطورة لا تصاغ انطلاقا من الماضي فحسب أو المستقبل المثالي، بل تصاغ بشكل يساعد على تحمل الصعوبات الراهنة!
ودراسة «النظام الكلاوي Glaouisme» كان حريا به أن يكون هو الموضوع الرئيسي في دراسة الحوز ومع ذلك فالبحث حول مصير هذه الأسرة لا يمكن أن يبدأ فعلا ما دامت الوثائق المتعلقة بها لم تصبح بعد عمومية. وحتى نضع بحثا علميا حولها علينا أن ننتظر إلى أن يصبح الأرشيف العائلي لهذه الأسرة والمحتجز لدى سقوطها في المتناول، وأن نستطيع انتقاد التقارير والوثائق الفرنسية التي كتبت في عهد الحماية .
وبالإضافة إلى ندرة المصادر الموثوقة والأصلية يمكن أن نجرد كتلة مدهشة من الكتابات والمقالات بل بالأحرى الروايات التي أوحت بها الشخصية المربعة والقلقة لباشا مراكش . والمؤلفات العديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وعشية الاستقلال والتي إما غالت في المديح أو الهجاء، قد جعلت من «الباشا» وحشا مقدسا، ونجما لامعا حديثا خرج من العصور الهمجية، إلى أن بلغ درجة أصبح فيها نموذجا يقتدى به .
هناك إذن وفرة في الوقائع الذاتية وندرة في الوثائق الموثوقة مما يضعنا في ظروف يصعب فيها القيام بشيء آخر سوى تحويم أولي انطلاقا من بعض الأحداث المحقة والمبعثرة هنا أو هناك. لهذا نعتمد على سماحة القراء وخاصة الذين عايشوا بعض الأحداث ولهم اطلاع عليها أكثر منا وربما استطاعوا أن يعارضونا ببعض الأحداث التي لم يهيء لهم الكشف عنها بعد. هذا ونحن ندرك جيدا إلى أي حد يكون التحليل الذي يتناول إمبراطورية ثلاثة أرباع تاريخها لم يعرف بعد اليوم، ولكن سينكشف في الغد، تحليلا عقيما وتافها. إنها وضعية مريحة ولكنها صحية بالنسبة للفكر. ومهما توخينا الحيطة والحذر فلن يكون ذلك كافيا!
من مزوار إلى أمغار:
يوحي لنا روبير مونتاني بأن الكلاويين يمكن أن تجمعهم قرابة بالامزواريين الذين كانوا يحكمون الشعبة العالية لوادي درعة، في القرن الرابع عشر. ولكن لا شيء يجيز الاستنتاج في هذا الاتجاه: فاللقب مزواري هو اسم مشترك كثير الشيوع بما أنه يوجد في كل جماعة بادئ: Inititor شخص مختلف عن أكورام وعن أمغار (بالعربية مقدم: البادئ): الذي يتكلف بالقيام بالأخطار المترتبة عن الأعمال الصعبة التي تهددها المصادفات و«الأرواح». ففي المجتمع القبلي الذي يرى أن كل تجديد هو رجس أو بعبارة متبذلة، بداية تمايز فردي عن المجموعة، لا يتم أو يحدث شيء إلا إذا خضع لتقنين فكل مبادرة تخرج عن التقنين تحمل الاستبداد أو الفوضى. لذلك تكلف الجماعة بعض الأفراد يكونون وحدهم القادرين على القيام بالأعمال المهمة مثل أول عملية في الموسم للحرث أو الحصاد أو جني الزيتون. وقد اخبرنا مقدم الصالح سيدي وسيدن بالقرب من تلوات سنة 1963 أن الشخصيات الغامضة أو النازحة قديما أو المشوهة هي وحدها التي كانت تعين من طرف القبيلة للقيام بمهمة بداية أي عمل باسمها وذلك لأنهم مندمجون في الجماعة بشكل كاف وفي نفس الوقت هامشيون، وحتى تتفادى الجماعة أي خطر. ونراهم يستفيدون من هذه المزية ويأخذون في تجميع السلطة بين أيديهم. غير أن هذا الرأي إما قد صيغ بعد صعود الكلاويين وإما أنه تطور للمؤسسة ذلك أنه منذ القرن 12 كان الايمزواريين يعتبرون في الأطلس رؤساء قبائل .
ولا يطالب الكلاويين بأقدمية محلية بل يدعون أنهم ينتسبون إلى أصل دكالي بل ينتسبون إلى الشرف عن طريق أبو محمد بن سعيد بن انصارن لبني ماكر ولي دكالة . وقد ترأسوا دفعة واحدة على كلاوة وذلك في عهد مولاي إسماعيل، وعلى أية حال فهذا ما صرح به الكلاوي في رسالة بعث بها إلى السلطان يقدم فيها احتجاجه على اثر نشر كتاب جوستاف بابان Gustave Babin .
وقد يكون الكلاويون ينحدرون من منطقة تعرف باسم تيكمي نـ. ايمزوارن، في قبيلة فطواكة بالقرب من تاساوت ، وربما طردوا من تلك الأماكن في سنة 1772 عندما نهبت قبيلة زمران قبيلة فطواكة والتجأوا إلى قبيلة كلاوة بصفتهم أمزواك (أي لاجئين يحتمون بالقبيلة المستقبلة) وعلى ما يبدو فالكلاويون مثل المتوكيين والكوندافيين هم في الحقيقة أجانب، فارون لجأوا إلى القبيلة التي أصبحوا هم سادتها. فلأنهم مهاجرون وهامشيون فهم أقل خضوعا واحتراما للأعراف المتداولة، من أبناء القبيلة الحقيقيين والمنحدرين من سلالات الأسلاف. كما أنهم أقل محاسبة على سلكوهم، وهو أكثر قابلية لانتهاز الفرص التي سيهيؤها انهيار البنيات القبلية أمام تفوق المخزن.
وقد كان يوجد في شعبة أسيف ايمارن ولي لم يخلف أي عقب وكان اسمه سيدي عبد الصادق ابن أبي محمد صالح صاحب آسفي، ومن هذا الفقيه صار جد الكلاويين أمحراس ، بتزوجه أمة دكالية اسمها تيت (أي عين) كانت في ملك الفقيه . ولدى وفاة عبد الصادق ورث أحمد بن الأمة الدكالية بركة الولي ونفوذه كمزوار، وسمي نفسه حمو (صيغة بربرية لأحمد) بن عبد الصادق .
ويعارض ورثة وحافظي ذكرى باشا مراكش هذه الأصول الغامضة للأسرة. فهي لا تعدو أن تكون حكايات ونوادر يقصها بعض المغرضين. وقد كان يوجد من قبل في مكتبة الكلاوي صورة على أحد الجدران تشتمل على شجرة النسب ولكنها اختفت عند نهب قصره. غير أنه تمكن من إعادة جزء منها وهي تعطي بالتقريب ما يلي: يدعي الكلاوي أنه ينحدر من قبيلة قريش من فخذ بني مخزوم وعن طريق عبد المناف أعطى ابن الحكم والد ابن مروان ثامن خليفة أموي. غير أن الجزء المستعاد من الشجرة يتوقف هنا، ثم نجد بعد ذلك سلسلة من أربعة أبناء أجداد السايح أبو محمد صلاح، مؤسس رباط آسفي حوالي 530هـ/1174. وربما كان لهذا السايح ثلاثة أبناء، محمد، أحمد، عبد الله وربما استقر هذا في قبيلة درن وأصبح أمغار واعتبر بعد ذلك هو جد الكلاويين. غير أن شجرة النسب هنا مقطوعة ثانية. ثم هناك قطعة ثالثة تحمل اسم وارثين اثنين: أحمد الراضي أمزوار الذي سمى قايد كلاوة في عهد مولاي إسماعيل قبل سنة 1700 على أية حال وهو والد عبد الصادق أمزواري الابن بالتبني لمولاي إسماعيل قايد كلاوة بعد 1700 . وهنا تتوقف شجرة النسب للمرة الثالثة قبل الإشارة إلى أحمد أمزوار أب جد الكلاوي التهامي.
فما القول في كل هذا؟ إن شجرة النسب هي مصدر الانتساب إلى السلطة، وهي نفسها وضعت لخدمتها. ثم هناك ثلاث ثغرات تضم بشكل جدي الدليل على تسلسل النسب. وهي بشكلها ذاك تظهر بشكل صريح أنها مصطنعة ومنقولة عن المؤلفات الكلاسيكية. ونعثر فيها على كل الدروس التقريبية التي وضعها كوفيون Gouvion .
لكن علينا أن نتمسك بالواقع فحتى لو فرضنا أن أحمد أمزوار كان له جدود مرموقين كهؤلاء وحتى لو أنه لم يكشف عنهم بعد ذلك وبفضل انتصار المدني التهامي، فيجب أن لا ننسى أن هو نفسه قد بدأ من الصفر وتسلق وصعد من المنحدر. ففي بضع سنوات أصبح أمغار تلوات عندما تزوج ببنت الحاج محمد تارهنوست. وكان يتوفر، في ذات الوقت على مداخيل الزاوية، ومدخوله كمزوار وعائداته من تجارة الملح . وأدرك أحمد درجة شيخ تحت قيادة الهاشمي الزمراني الذي كان يدير أراضي شاسعة في شرق الحوز (كلاوة، هوجدامة، فطواكة، دمنات، زمران، سراغنة، وقسما من تادلة الغربية).
وقد أقلق الصعود السريع لأحمد صهره أحمد بن الحاج محمد الذي قرر أن يقضي على هذا الواصل فالتجأ إلى تاقبيلت (القبيلة) المجاورة لآيت أونيلة وهم الورثة المنافسون لآيت تلوات. وقد توفي حمو في المنفى قبل سنة 1855. ويبدو أن ثروة الكلاويين ستتوقف هنا. لكن ابنه محمد الذي يحمل لقب ايبطاط لكي يزيد من نفوذه الخاص، أصبح رئيسا لآيت أونيلة سنة 1855 لكي يحارب القبيلة المعادية. وقد قتل الأمغار الحاج محمد لترهنوست وارث النسب الذي تبع أباه، في ترهوفار أيت رباعة.
وقد لاحظ المخزن كفاءات رئيس ايبطاط وعينه مولاي عبد الرحمن سنة 1856 بظهير في إدارة أهل تلوات، وآيت أونيلة، وآيت تامنات (آيت تومجشت) الذين تحالفوا مع تلوات في المعركة الأخيرة .
واعتراف السلطة المركزية بنجاح الأمغار الذي برز داخل فريق الرؤساء وفي حضن الجماعات التي تتحكم في مضيق تيزي نـ -كلاوي ربما كان يدخل في إطار سياسة أوسع وضعها المولى عبد الرحمن. وقد حاول هذا أن يتأكد، بعد مرور ثلاث سنوات، من السيادة على طريق أركانة وذلك بتشجيع متوكة على الخروج من وصاية حاحا المستقلة.
مع ذلك يمكن أن نتتبع كيف حدث صعود عشيرة الكلاوي: لقد كان منفيا ولكن تبناه ممثل زاوية غربية عن كلاوة وحصل على العفو وعلى حق استغلال منجم الملح كان شبه موقوف على الزاوية، وقد لعب الدور التقليدي للأولياء في أعالي الجبال: التحكيم في الخصومات بين الأفراد والجماعات بشأن المراعي، وقد أتاح له ذلك اكتساب معرفة عميقة بالنفسيات والدوافع، كما أتاح له تقوية نفوذه. وبديهي أن التجارة في الملح يتطلب تنقلات عديدة واستثمار مجال أكثر اتساعا وبالتالي وفر له ذلك القيام بمقارنة الوضعيات الاجتماعية والسياسية في مناطق شديدة الاختلاف، سواء في السهل أو في الجبل. غير أنه لم يقنع بهذا الدور بل كان يتطلع إلى أبعد من ذلك، فتحالف مع أسرة قوية ودخل في الحروب بين الفصائل وأفخاذ القبائل. والسلم الثاني الذي ارتقاه هو نسق الانضواء في نسب وقبيلة وهنا كان لا بد أن ينجح أن رغب أن لا يظل دائما هامشيا رغم ما يتمتع به من تشريف واحترام. فكان عليه أن ينضم إلى جناح ما ويحمل السلاح ويتحمل المخاطر وقد تعرض ارنست جلنر Ernest Gellner بدقة لهذه الظاهرة: فالمرابط بعد أن ينزع منه السلاح يستطيع أن يمد تأثيره على نطاق واسع جدا ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى السلطة السياسية الحقة. ولا يصل إليها إلا من ينجح في جعل احد الأطراف يصدق أنه إذا وضعه كرئيس له، فسيستطيع ذلك الطرف أن يسيطر على الطرف الآخر بالقوة والعنف ومن المحتمل أن حمو المزوار لم يتوصل إلى ذلك لأنه كان مزدوج الولاء. أما محمد ايبطاط فسيكون رجل حرب حقيقي، يدفعه حب الانتقام لأبيه المنفي.
أسياد الحرب:
لقد كان أول هم ايبطاط بعد أن أصبح قائدا هو أن يستقر في تلوات أي في الحوض الأول الصغير الذي تضطر كل قافلة أن تعبر منه قبل اجتياز مضيق قبل اجتياز مضيق تيزي نـ -كلاوة، نحو الشمال وقد شيد قصره في ذلك المكان، وأصبح قاعدة حربية له تولي وجهها نحو الجنوب بشكل أكبر. كما أقام في تلوات بطلب من تاقبيلت التي كان يحكمها، سوقا أسبوعيا (سوق الخميس) ومأوى للقوافل حيث يتوقف حتما التجار المارون والمتجهون إلى الاتجاهين الاثنين عبر الأطلس. واعتراف السلطة المركزية به وتشييده للحصن العالي قد أعاد للزاوية حمايتها التي كانت قد اندثرت. وكان يتلقى، باسم السلطان، الضرائب على السوق وعلى اجتياز المضيق. وستبدو تلك الاداءات ضرورية أو جديدة مما سيدفع المخزن سنة 1856 إلى توسيع سلطة ايبطاط لتشمل آيت أوزارهار ، أي من الحوض الصغير لاسيف ايفرادن، ينحدر إلى شمال المضيق إلى حوض تلوات. وهنا أقام سوقا ثانية ومأوى آخر للقوافل بالقرب من زرقطن ومن المعبد اليهودي الإسلامي لمولاي اغي. ومنذ ذلك الحين وهو يستولي على المضيق في الاتجاهين الاثنين ويفتح آفاقا سواء على شعبة ردات التي توصل إلى الحوز أو على تيميدرت التي توصل إلى ورزازات ودرعة.
وفي سنة 1680-1870 انفجر النظام القديم للحكم المخزني الذي كان يحافظ على توازنه بالاقتطاع الضريبي المقنن أي أنه كان شرعيا ولم يكن ذلك الاقتطاع مرتفعا فكان محتملا، أقول أنه انهار في كل مكان ذلك أنه وجد نفسه عاجزا عن فرض الاقتطاع اللازم للحرب الناتجة عن التسلل والتسلط الاستعماريين هذا وقد كان القياد المكلفون بتصريف غالبية فائض الإنتاج، هم قياد النظام الشرعي القديم ورثة مولاي إسماعيل. فهم ليسوا موظفين بالمعنى الدقيق، ولكنهم أبناء أسر مخزنية كان لها جاهها ونفوذها من قبل ولكن اندثر كل ذلك. بحيث تصدق عليهم نظرية ابن خلدون. أما هذه الأزمنة التي تحتاج على دكتاتورية ضريبية غير شرعية فيلزمها رجال جدد، رؤساء حربيون بكل معنى الكلمة.
ولم يلح سوسيولوجيو ومؤرخو القرن التاسع عشر بشكل كاف على الآثار السياسية والاجتماعية لظهور الضرائب القايدية لتفسير الموقف الغامض والغريب للقبائل. فرغم اعترافها بالسلطة الروحية للسلطة المركزية، فهي ترفض أو تحاول رفض السلطة الزمنية للقياد مع أن تلك السلطة تصدر عن السلطة المركزية ذاتها. ليس لأن القبائل تجهل أن الضرائب الجديدة يطالب بها المخزن ذاته ولكن لأن الاستيلاء على الفائض الذي أدت إليه تلك الالزامات الجديدة كان يقضي على سلطة الاوليغارشيات القبلية نفسها. وقد كانت مجالس الشيوخ المسنين تدعم سلطاتهم في تاقبيلت انطلاقا من الضرائب القبلية التي يقتطعونها باسم الدفاع (شراء الأسلحة تحصين مخازن الحبوب، غرامات، ثمن التحكيم) وبفضل عمليات النهب والتسلط على الجماعات المجاورة.
وخدمة الضريبة لصالح المخزن معناه إما نهاية استقلال شيوخ القبيلة (الممثلين لها) وإما زيادة محسوسة وسريعة في الإنتاج، أي حدوث تغير تقني يصعب تصوره غالبا خارج إطار الجو العام المحيط بالمتنازعين. وبديهي أن الاحتمال الأول هو الغالب عن طريق الخضوع التركزي لتاقبيلت لجماعات أصبحت قوية نتيجة لوضعيتها الجيوسياسية، ونتيجة لمساندة المخزن لها. إن خط تسلسل العوامل بدءا من الاستيلاء على المضايق إلى قيادة قبيلة كبرى ومحاربة نتيجة للاغتناء بفضل مدخول الضرائب المفروضة على البضائع الواردة: «الصنك»، والتسلح بأسلحة حديثة، إنما هو خط تبسيطي لا فائدة منه. ولكنه يفسر بشكل إجمالي التطور الذي عرفه القياد الكبار في الأطلس مع ما في هذا التطور من صعود ونزول.
وعلى أية حال فإن الشيء الأكيد هو أن أية جماعة قوية، أي تاقبيلت عليها أن تؤدي في النهاية نصيبا إلى المخزن وهذا لا يفتح أمامها سوى بابين: إما الخضوع وإما أن تسيطر على جيرانها وتجعلهم يدفعون ذلك النصيب عوضا عنها.
وقد قام قياد الحرب بتوحيد القبائل انطلاقا من السيطرة على «تاقبيلت»، ولكن كانوا يلجأون في كل مرة إلى الحصول على تصريح بالتقليل من الانشقاقات بواسطة ظهائر التسميات على رأس تاقبيلت، والقبائل. ويظهر أنه على الأقل في بداية هذه المرحلة، كان القياد يتلقون ظهير تسمية يمنحهم مشروعية التصرف وإعانة مادية (تسليح) مقابل الالتزام بتحصيل الضريبة، وتحدد هذه الضريبة قبل تسميتهم على حسابهم. وسنرى أنه في مرحلة تالية كان المقدم يدفع مسبقا الضريبة عن القبيلة التي يحصل على ظهير تسميته عليها، ويتحمل هو استرجاع المبلغ المدفوع من القبيلة بعد أن يتولى حكمها. كما أن ظهائر التسمية لم تكن تمنح سوى سلطة اسمية، تضمن للمخزن أن هذا القائد معترف به كمسؤول عن مراقبة هذه القبيلة . ويبقى على القائد بعد ذلك أن يظهر مهارته وقدرته على تحويل تلك السلطة الشكلية إلى سلطة فعلية.
وفي مرحلة القايد سيد الحرب لا يهتم هذا لا بالملكية العقارية ولا بالحق في المياه ولا بأية مصادر إنتاجية أخرى. ومداخيله تأتي كلها من الاغتصاب والأداء المباشر. والاقتطاعات بواسطة تقسيم الغنائم بين رجال العصابة عند نهب جماعة معادية تؤدي إلى زيادة المصادر المنتظمة للإمدادات الغذائية (مونة) ، واقتطاعات استثنائية للضرائب (فريضة) . وهدايا الولاء (هدية) وأشغال شاقة في خدمة القائد (كلفة) : بناء الحصون، قطع الأخشاب، النقل، ثم من فترة لاحقة، فلاحة (العزيب) (الضيعة).
وهاته الاقتطاعات لها أصولها العريقة في التقاليد ذاتها بما أنها كانت غالبا مقننة لصالح مجالس القبيلة أي شيوخها أو لصالح أمغار الحرب، وذلك حتى يكفل لمؤسسات تاقبيلت وسائل العمل. لا يعود الأمر إذن أن يكون تطورا بسيطا وذلك بتغير القابض والمؤسسة، ويتم ذلك أحيانا مع الحفاظ حتى على المصطلحات المستعملة في ظل النظام القبلى (تويزة = كلفة).
وإن معالجة دقيقة لهذه الفترة لتجعلنا نعتقد أن المداخيل الأولى المهمة كانت هي الناتجة عن نهب (أكادير) أي مخازن الحبوب، والحصون، والبيوت أكثر مما كانت ناتجة عن الزيادة في الضرائب. ذلك أن الجماعة لا تقبل دفع الضريبة إلا حين تفقد احتياطها من الحبوب والخيول وحين تسقط حصونها بحيث لا يبقى لديها الثروة اللازمة لمواصلة الصراع.
وهكذا نجد محمد ايبطاط انطلاقا من قاعدته بتلوات، يساعده فرسان «تاقبيلت» الذين يترأسون القبائل، يقوم بحملات عسكرية ضد آيت واوزكيت. ويفرض على القبيلة التي أصبحت تحت رحمته ريالا حسنيا عن كل بيت بعد أن يكون قد نهب كل احتياطها، وتحالف مع أعيان ورزازات الذين فضلوا التفاوض مع حارس المضيق الذي تمر منه بضائعهم، على التنازع معه. كما تحالف أيضا مع أوريكة حتى يطبق فكيه على مسفيوة، الجار القوي الذي يشد على زمام الطريق في السهل وفي الحوز بين مراكش وتلوات. وشارك أيضا في حملة بقيادة المخزن ضد الكوندافي ولكن بطريقة غير حازمة وفي ظروف غامضة، ولا ندري إذا ما كان الكوندافي قد حصل سرا على قبول انسحابه من الحملة مقابل تحالف معه أو مقابله مبلغ مالي .
وحينئذ عاقت سلسلة من الفشل المتوالي تطور صعود الكلاويين: ففي الشرق قايد دمنات جد قوي، وفي الغرب سلطة الكوندافي لها شوكة، وفي الشمال مسفيوة الكثيرة العدد، بالإضافة إلى هزيمتين أمام الأمغار محمد آيت زينب وأواركيت في الجنوب، كل ذلك أضعف ادعاءات الكلاويين. وتوفي محمد ايبطاط بعد أن قوى قاعدته ولكن دون أن يتجاوز المناطق الجبلية المحيطة بها. وقد كان له ستة أولاد ذكور من زوجاته الأربع (أول حادثة تعدد الزوجات في القبيلة)، وسيكون مدني ثاني أبنائه هو مؤسس قوة الكلاويين.
تسلم المدني السلطة في الأسرة بعد وفاة أبيه وكان حينئذ هو اكبر أبناء ايبطاط ذلك أن أخاه البكر امحمد قتلته في ظروف غامضة سنة 1876 إحدى إماء أبيه. والمدني هو الذي قاد المعارك الفاشلة ضد جيرانهم وتحت إمرة أبيه. وقد فضل في بداية توليه السلطة أن يلجأ إلى الديبلوماسية والدسائس بدلا من الالتجاء إلى القوة. ثم أنهى بناء حصن تلوات، وورزازات وتازرت في مشارف مقاطعته. وأخذ ينتظر ساعته ويدعم سيطرته التجارية على المبادلات بين درعة والحوز.
ولا يوجد في البادية محتسب فالقياد هم المكلفون بجباية الضرائب لحساب المخزن ونظرا للصعوبة المتناهية في التحقق من الحسابات واستلام مجموع المبالغ المؤداة وجدت الدولة من الأفضل تأجير الأسواق مقابل أداء سابق لمبلغ تقدري، أو تأجيرها في مزايدة وتمنح لمن دفع أكثر. وكانت النتيجة هي سحق التجار والمراقبة المباشرة على تنقل البضائع من طرف القايد. فكان التجار يهربون من الأسواق التي يراقبها القياد ويحاولون إقامة أسواق أخرى غير رسمية بل بطريقة خفية تحت حماية إحدى الزوايا. وفي سنة 1888 علم المدني أن القوافل التي كانت تخترق الأطلس ليبيع تمور وادي درعة بعد أن تؤدي الضريبة للكلاوي في تلوات وزركتن قد نظمت سوقا أخرى بين سوق إنزل (بقرب سيدي رحال) وسوق آيت ورير، الأول يراقبه الكلاوي والثاني المسفيوي. فقامت كتيبة من الفرسان ونزلت فجأة على ذلك السوق وقتلت البائعين ونهبت البضائع. ولم يتحمل أحد مسؤولية العملية. لكن محتسب مدينة مراكش الذي كان يراقب سرا القوافل الذاهبة من مراكش على السوق قدم رسالة احتجاج إلى السلطان مولاي الحسن. وقد رد عليه هذا بالعبارات التالية: «لقد توصلنا برسالتك المتعلقة بأحداث سوق الخميس توكانة والأعمال التي قام بها كلاويو الخليفة الكلاوي. تقول أنه يوجد في السوق كل أنواع المنتجات والفواكه القادمة من وادي درعة وأن ذلك السوق يتوجه إليه أناس كثيرون حتى يتفادوا دفع الضرائب المفروضة على الأسواق الأخرى، وتقترح فيها أن لا يقوم المخزن باقتطاع ضرائب من هذا السوق لأن السلع التي تباع فيه تتجه في النهاية إلى مراكش لصالح العامة، وقد بحثنا اقتراحك وقبلناه. وقد كتبنا إلى الكلاوي طالبين منه أن لا يتدخل في السوق وأن يتركه .
غير أن المدني لم يمتثل للرسالة الملكية فلم يقبل أن تفلت من قبضته الضرائب، وقام بمحاولات عديدة ضد سوق توكاني. وقد رد عليه السلطان بظهير:
«لقد طلبت إلينا توكانة بواسطة قايدهم الإذن بإقامة سوق على أرضهم كما كان الأمر سابقا. وقد أبدوا استعدادهم لدفع الضرائب الواجبة عليهم للمخزن كما هو الأمر بالنسبة لمسفيوة وكلاوة جيرانهم. غير أن السوق الكلاوي (أنزل) الذي يقع بين مسفيوة وزمران وتوكانة لا يدفع ضرائب للمخزن مع أن تجار وادي درعة والحوز يذهبون إليه وقد طلبت إلينا (أي المحتسب) أن لا نفرض ضريبة على السوق (توكانة، انظر أعلاه) وذلك حتى يظل تموين مراكش بالفواكه الجافة عاديا ومستمرا، وقد امتثلتم للأوامر المعطاة في رسالتنا الموجهة إلى القائد (مدني الكلاوي) حتى لا يقبض أي واحد منكما أية ضريبة. لكن الكلاوي لم يطع أمرنا، إذ يقال أنه يقبض سرا واجبات السوق لحسابه الخاص، وقد ذكرتم أن أحدهم عرض عليك استئجار هذا السوق (أنزل) مقابل 25 ألف مثقال في السنة. وقد أعطيته له في النهاية مقابل مساندته ومساعدته» . ولم يتوان الكلاوي عن تعلية المزاد فطالب المخزن حينئذ بـ 32500 مثقال حتى يعجز المدني الذي انسحب:
«لقد قررنا أن نرفع قيمة إيجاز السوق أنزل كلاوة إلى 32500 وقد أخبرنا خديمنا القايد الكلاوي أنه يستطيع أن يستأجره بهذا السعر إذا رغب في ذلك أو أن يتركه للمزايدين. وقد كتب إلينا يخبرنا بتخليه عن شراء السوق بهذا الثمن» .
ويتفق كل المؤلفين المغاربة والأجانب الذين درسوا هذه الحقبة على أن الصعود الحقيقي لكلاوة كان إثر مرور مولاي الحسن في الأطلس. ونعلم أنه بعد القيام بحملة على تافلالت أراد أن يعود إلى مراكش عن طريق مضيق تلوات وقد استقبله المدني استقبالا حافلا فخما بحيث جعل تحت تصرفه الخيول المسرجة من فركلة إلى سيدي رحال ومد كل حاشية السلطان بالمواد الغذائية لمدة 25 يوما. وقد أكد كل المعاصرين لذلك الحدث على فخامة وأبهة الاستقبال وعلى الفضل الكبير الذي أولاه السلطان للمدني بتعيينه خليفة على كل الجنوب (تودرهة وتافيلالت وفيجة) وأهداه مدفعا نوع كروب Krupp وأسلحة حديثة .
وقد كان مولاي الحسن أكثر مهارة سياسيا ويقظة. فعلى ما يبدو ترك ذلك السلاح لأنه لم يستطع اجتياز الأطلس به، ولأن بعض الصناديق اختفت عند وصوله إلى هناك فلم يكن ليتهم بها شخصا مثل المدني الذي استقبله استقبالا رائعا. وقد سجل أحد المسؤولين عن البعثة العسكرية الفرنسية الذي كان موجودا بسيدي رحال ساعة وصول مولاي الحسن وجيشه: «إن أقسى محنة مرت بها فرقة تافلالت كانت بسبب المنطقة الجبلية الوعرة في الأطلس. إذ توفي العديد من الرجال جراء البرد القارس، كما أن الخسائر في البغال والخيول كانت فادحة. أما المدفعية التي كانت تشتمل على مدفع ميدان كروب من عيار 9 بوصات ومدفع كووي Couet من عيار 75 مم ومدفع الهاون من عيار 15 مم وذخيرتها فلم يستطيع السلطان العودة بها فتركت القطع كوديعة لدى قايد دمنات والكلاوي اللذين سيعيدانها حين تصبح الطريق سالكة .
والذي حدث هو أن المدفعية لم تعد أبدا فبعد ستة أشهر توفي مولاي الحسن واستولى بامحمد على السلطة الفعلية وقد كان هذا يسيطر على مخزن مولاي عبد لعزيز بفضل شخصيته القوية. والغريب أن الكلاويين لم يهتموا بمنطقة الحوز طيلة فترة حكم فترة حكم بامحمد. ولم يشاركوا في تنافس محمد وحسين وعبد العزيز على العرش: كما أنهم لم يتدخلوا في تمرد الرحامنة سنة 1894. لقد كان المدني يرغب في أن يتأكد أولا من سيادته التامة على قاعدته الجبلية في حين أن السهل كان منشقا ولم يقم سوى ببعض الغرات لنهب وسلب مسفيوة وزمران حين هوجمتا من طرف جيش المخزن. كان أمامه إذ ذاك مهام عديدة في الجبل وفي اتجاه الجنوب، أي في المجال الذي عيد فيه بظهائر السلطان المتوفى. وجدد ذلك التعيين مخزن بامحمد. وقد قام تنافس قوي بينه وبين أمغار آيت زينب وعلى نـ آيت بن حدو بن محمد الذي هزم ايبطاط. وقد اختبأ في حصن تامدخت التي لم تستطع المدافع أن تنال منه شيئا نظرا لتحصنه الطبيعي. وقد انتصرت الدسائس والمنكر والاغتيالات على آيت حدو. وبذلك أصبحت آيت زينب والجنوب مفتوحا أمام الكلاويين.
لن نتابع هنا تحركات المدني مع كل صغار الأمغاريين في الجبال الذين كان يهزمهم إثر قصف حصونهم بالمدافع أو إزاحتهم بعقد الزيجات مع بناتهم لعدم توفرهم على أسلحة . وحين كان القياد الكبار المنافسين له ينهكون أنفسهم في مشاكل المخزن المعقدة وفي صراع الأطراف حول القصر، وفي الحوز، وفي حملات بعيدة كان الكلاويون يقوون مركزهم في الجبل ويمدون سلطتهم على الجنوب. وليس من الممكن معرفة نصيب السلوك المتبصر والإرادي من نصيب السلوك اللاشعوري في تسلسل الأحداث. وفي هذا الاختيار سنلاحظ فحسب أن نتيجته ستجعل الكلاويين فيما بعد أكثر قدرة على تحمل تقلبات ثروتهم السياسية وعلى البقاء فترة أطول من المتوكيين والكوندافيين .
وبعد أن قوى المدني سيطرته على الجنوب وأنشأ في كل مكان حصونا في أسفل المخزن المهدمة أو المنهوبة، أدار بصره نحو الحوز حيث كان يتنافس الكوندافي والمتوكي.
وإثر وفاة بامحمد أعطى المولى عبد لعزيز المدني قيادة مسفيوة المتمردة والتي ظلت يجب الاستيلاء عليها. وقد كان من ضمن الإستراتيجية الجغرافية السياسية لكلاوة مسألة فتح باب على الحوز ذات يوم من خلال شعبة زات. ذلك أن الباب التي فتحوها بإنشاء قلعة تازرت قبالة زمران لم تكن تتجه نحو قلب الحوز وعاصمته مراكش. فتحالف المدني مع القايد عبد الحميد للرحامنة لكي ينهب مسفيوة. وقد كان يوجد في الجيشين الذين سيتحدان فيما بعد فارسان متواضعان يساعدان الرئيسين: أحدهما يسمى العيادي الذي سيصبح قايد الرحامنة، والتهامي المزواري الذي سيصبح باشا مراكش. وقد أتاح انهزام مسفيوة حصول كلاوة على غنيمة عظيمة سرعان ما ستنقلها قوافل البغال إلى تلوات. ومنذ ذلك الحين أصبح المسفيون يدفعون الضرائب لكلاوة، وأقام مدني قلعته بالسهل في آيت ورير.
وقد أدى فشل الحملة العزيزية ضد بوحمارة تلك الحملة التي شارك فيها المدني والتهامي وخسرا فيها أمولا طائلة وتكبدا مشاق صعبة دون فائدة تذكر لا من حيث الغنيمة أو من حيث الاستيلاء على أراضي جديدة لفرض الضرائب عليها، إلى أن ينفصل فريق الكلاوي عن المولى عبد العزيز. وقد جعلتهما عودتهما غير المظفرة عن طريق الجزائر التي تحتلها فرنسا وعن طريق البحر إلى أن وصلا إلى طنجة، يشكان في قدرة السلطان على القضاء على الفوضى التي عمت تدريجيا كل البلاد. فعاد الأخوان إلى بلدهما وحاولا أن يمدا سلطتيهما على جزء من الأراضي على حساب الكوندافي .
فمع الاحتلال الفرنسي لوجدة ونزول الفرق الفرنسية بالدار البيضاء أصبح عجز المولى عبد العزيز عن إعادة السلطة للدولة المغربية أمرا واضحا للعيان. لذلك اجتمع القياد الكبار في مراكش: المتوكي، والعيادي والكلاوي… ليتشاورا لدفع مولاي حفيظ إلى السلطة. وقد ظل الكوندافي وحده بعيدا عن تلك الحركة لما كان مولاي عبد العزيز يغمره به.
غير أن المتوكي غير بعد ذلك موقفه إذ انهزم أمام تحالف الكلاوي والعيادي ضده فاضطر إلى أن ينسحب إلى منطقته الجبلية الصغيرة وسينتقم لنفسه بعد ذلك.
إن تحليل التتابع البالغ التعقيد للتحالفات الدائرة بين كبار القياد، طيلة هذه الفترة يجعلنا نعتقد أن الحوز والمناطق الأطلسية حيث توجد قواعدهم للانطلاق كانت بالنسبة لهم رقعة شطرنج يلعبون فيها لعبة التوازن الحساس.
وفي هذا الغموض الشديد التي كان سائدا حينئذ يجب أن نشير إلى الأطروحة التي حللها لنوكس Lennox وحسبها يعتقد أن المتوكي والكلاوي لم يذهبا إلى خلق شخصية مولاي حفيظ إلا بقصد قطع الطريق على صعود الكوندافي المقلق .
إنها أطروحة جد متحيزة، فمن كان يدفع الآخرين؟ وقد استطعنا بفضل أرشيفات القنصلية وضع خريطة للتحالفات المعقودة والمفسوخة في الحوز في الفترة 1905 إلى 2192 بين كبار القياد والقبائل وذلك بترتيبها حسب المعسكرات الموجودة (العزيزي، الحفيظي ثم الحفيظي-الهبي). وخلال رقعة شطرنج من التعارضات البنيوية المزدوجة فإن الحركة التي تتجلى منها هي أنه في كل مرتين يحدث الانضمام إلى بطل الكفاح ضد الأجنبي إلى أن ينتهي كل المتعارضين إلى إدراك أن التدخل الفرنسي هو أمر لا رجعة فيه. والتأخرات عن هذه الانضمامات هي وحدها المشيرات للنسق الجغرافي السياسي للتنافسات داخل الحوز. كما أن العديد من تلك الانضمامات يكشف عن حيوية وقوة إدراك التغير وذلك على غرار ما يحدث في الانضمامات الانتخابية، إذ هناك دينامية للفوز ما أن تتضح حتى يسرع الأفراد إلى نجدة الفائز، ولكن بعد أن يتحرروا من الالتزامات السابقة التي كانت تثقل كاهلهم. وفي فترة صاخبة مثل هذه الفترة، ما يجب علينا أن نحتفظ به عنها، في رأينا، هو انه في غياب منظور لمدى طويل لنسق مجتمع ما يتفاهم فيه الأسياد حول اقتسام دائم «للوعاء الضريبي» assiette fiscale فإن التنافس لمدى قصير هو الذي يبرز شبكات الأسياد.
فكل استيلاء على الأرض يعني كم رجلا وكم ضريبة يجب اقتطاعها، وتحت وطأة المزاحمة بين القياد الذين يتنازعون هكذا على مجموع الفائض القابل للتصريف، تنسحق تاقبيلت، وتتشتت، وتواصل الإنتاج لتحافظ على البقاء وتبحث عن إخفاء ذلك الإنتاج تحت الأرض أو في الجدران أو في الكهوف. وتتوقف العمليات المسلحة طيلة فترة جني الزيتون وحصاد الحبوب ولكن تستأنف بقوة حالما يعصر الزيتون وتدرس الحبوب.
وقد كان من نتيجة هذه القايدية الحربية القضاء على المؤسسات القبلية وتدمير وسائلها ومنجزاتها المادية. وبلا شك أنه على مستوى القرى وعلى الأكثر على مستوى قطاعات السواقي، ستظل الممارسات والقواعد والأعراف المنحدرة من العصر القبلي القديم، قائمة فترة أطول، لكن دون أن يستطيع هذا النظام أبدا الظهور من جديد في الحوز على مستوى أوسع. فخلال ثلاثة أرباع قرن استطاع أسياد الحرب أن لا يتركوا من نظام اجتماعي كان في طريقه إلى الانحلال منذ ثمانية قرون سوى المظاهر فحسب. ولا جدال أن التسليح الحديث الذي حصل عليه القياد هو المسؤول عن هذا الانهيار السريع. فطالما كانت المجابهات تتم بين أشخاص متساويين في القوة، فإن العدد والتكتل بين تلك الشخصيات هو وحده الحاسم في الانتصار. كما أن البنيات القبلية التجزئية والمتدرجة هرميا، بفعل تحالفات الأجنحة، وضد الأجنحة، كل ذلك كان يعيد التوازن بين المتنافسين بدون انقطاع. غير أن الأمور لم تسر على نفس المنوال حين استولت عصابة صغيرة ولكنها مجهزة بنادق سريعة تملأ من مؤخرتها ومدافع تستطيع في بضع ساعات القضاء على المدافعين عن مخازن الحبوب، وتحطم الحصون وتقضي على كل الدخائر والثروات الدائمة لتاقبيلت.
يمكن أن لا نجد في هذه المعارك سوى صراعات بين أسياد ستولون على أقنان ولكنهم هم أيضا أدوات بقدر ما هم ذوات لتدخل استعماري واسع غاشم، يقيم لهم أسس قوتهم أو يترك الميدان لهم ليفعلوا ذلك أو حتى بدون علمهم يتيح لهم الفرصة لصعود عجيب. كل ذلك مقابل نهب البلد وانهياره الاقتصادي وتوقف الإنتاج في البوادي التي تمول صندوق المخزن في مدى قصير بالتأكيد ولكن ليكون في خدمة ضريبة حرب لمعاهدة جائرة، ولخدمة السيطرة الاقتصادية الاستعمارية ولشراء أسلحة ومنتوجات مصنوعة. وبعبارة أخرى أن أسياد الحرب هؤلاء هم أدوات هدم البنيات السياسية والاجتماعية للبلد. وسيكونون هم المستفيدين المتحمسين مؤقتا إذ سرعان ما ستبعدهم الإدارة الاستعمارية باستثناء واحد منهم هو التهامي الكلاوي .