الجمعة، 24 يونيو 2016

بول باسكون (10): القايدية المخزنية

بول باسكون (10): القايدية المخزنية
بول باسكون (10): القايدية المخزنية

بول باسكون (10): القايدية المخزنية

المساوي محمد
فيما يأتي الجزء الثالث من المقال المطول لباسكون عن النظام القايدي، وكان قد تناول في الجزء الثاني السياق الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي لبروز شخصية القايد التهامي الكلاوي، وفي الجزء الثالث نتعرف عن عن قرب عن القايد الكلاوي ونتعرف على ثروته وحجم السلطة التي كان يتمتع بها.
نُشر المقال في المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي، العدد الخامس والسادس/1981. وأعاد نشره الموقع الالكتروني المناضل-ة.
الجزء الثالث:
القايدية المخزنية:
إن المساندة التي قدمها الكلاويون لصعود مولاي عبد الحفيظ إلى العرش (مراكش-غشت/آب 1907) ومساهمتهم في دحر الجيوش العزيزية في زمران، قد كان جزاؤهم عنها تعيينهم في الجهاز المخزني .
مدني: صار قائدا للجيوش الشريفية سنة 1907 والوزير الأعظم سنة 1909 ومنه لقبه «الفقيه» وشمل حكمه كلاوة إلى أولتانة دمنات وفطواكة، ورهوجدامة، وتوكانة وكدميوة أمزميز. وقد خلفه ابنه الأكبر محمد العربي على رأس الجيوش الشرفية.
التهامي: سمي باشا على مراكش في يوليوز/تموز 1909 (ظل في هذا المنصب طيلة 47 سنة متواصلة) وبهذه الصفة كان يراقب كل القبائل المعروفة بالجيش.
حاسي: سمي خليفة للتهامي وقايد غيغاية الدايرة (قبائل صغيرة دير مثل الرحامنة وتدرارة وعرب).
علال: عين باشا على دمنات.
حمو بن محمد: زوج لالاحليمة بنت مدني، قايد كلاوة وكل الجنوب إلى زاكورة وتنغيرت وإلى جانب هذه المشاركة في المخزن الحفيظي تحالفت كلاوة مع الأسر المخزنية الكبرى.
لالاربيعة: بنت مدني أهديت زوجة للمولى حفيظ سنة 1910.
لالاخدوج: بنت التهامي تزوجت عبد السلام المقري وزير المالية وتزوج مدني زينب بنت المقري.
ثلاث بنات لمدني تزوجن بقياد الدير: وريكي، بن ادريس، درودوري.
التهامي: تزوج بنت الحاج المهدي المنبهي، وزير مولاي حفيظ سنة 1918 أي بعد إقالة الوزير القديم.
كانت إذن عائلة الكلاوي تبسط سلطتها المباشرة على 500000 نسمة و35 ألف كلم2 كما كانت تتصرف في كل التداول النقدي وتسيطر على كل الأسواق والمواصلات والمبادلات. ويستولي الباشا الكلاوي على التجارة المهمة متنافسا مع التجار الأجانب ويبعدهم من السوق. وهو الوسيط الوحيد بين المشترين الأوربيين والفلاحين الموجودين على أراضيه.
والمزاحمة بين الشركات الأجنبية والقياد الذين كانوا يجمعون هم الإنتاج الزراعي الفائض لم تتم دون تشكيل تحالفات، ودون انفتاح على «السياسة الكبرى». وقد حاول القياد إقناع الأوربيين بأن عليهم التعاون معهم لكي يسيطروا على النزعات «الفوضوية» التي تثيرها القبائل. ويشهد على ذلك الحديث الذي دار بين لاسالاس Lassallas والتهامي الكلاوي في 8 يناير/كانون الثاني 1909 وكتبها الأول في تقرير رفعه في نفس المساء في مراسلته مع الإدارة العامة للشركة المغربية:
الكلاوي: «إنا نرغب مثلكم في السير نحو التقدم، نأمل أن يتمتع بلدنا بنمو اقتصادي يناسب ثرواته، وبمساعدة فرنسا. وسنبذل مجهودنا لكي نصل إلى النتائج التي تودونها. غير أنه بما أنكم ترغبون في إصلاحات حقيقية وليس في تجارب لا جدوى منها مثل ما حدث في عهد مولاي عبد العزيز، فاتركوا لنا الفرصة لكي نصبح أولا أقوياء وتصبح القبائل طيعة، وسنعطيكم كل ما تطلبون، إذن لن يستطيع أحد بعد ذلك أن يعارض الإصلاحات التي سيفرضها المخزن» .
غير أن صعود الكلاوي في المخزن الحفيظي بشكل سريع ومدهش سيظهر هشا حين يضطر المولى عبد الحفيظ (أو ارتاح) تحت ضغط الممثلين الفرنسيين، إلى إقالة نفس الأشخاص الذين أتوا به إلى الحكم. فخلال بضعة أيام انتقلت السلطات التي كانت بيد الكلاوي إلى أيدي أخرى . وهكذا نهبت ممتلكات كلاوة أو على الأصح الأراضي التي كان يحتلها، والمزروعات، وقام بذلك المغامرون الذين ينتهزون كل هزيمة. وقام كلاوة بدورهم بنهب كل ما كان قريبا من قواعدهم . وينقل تقرير انجليزي في سنة 1911 الوضعية السائدة بكل دقة:
«إن السمسار المحمي الانجليزي لعزيز روزيليس (؟) جاء المقابلتي عدة مرات ليشكو لي أن الحبوب المزروعة في مسفيوة قد حصدها رجال الكلاوي. وحين تحادثت في هذا الشأن مع متوكي حاكم الحوز في ذلك التاريخ أجبت بأن ذلك كان رد فعل لكون السلطان أعطى كل حبوب المدني والحاج التهامي إلى إدريس ولد الحاج منو الذي كان حينئذاك باشا على مدينة مراكش» .
لقد وجهت الضريبة إلى كل العشيرة. وحمو وحده هو الذي احتفظ بكلاوة وآيت واوزكيت وقد قيل أن خروج المدني كان مثل خروج الغزواني من المخزن المريني. وقد أخبر أن السلطان لا يرغب في رؤيته فأجاب على ذلك: «خلاني الله يخليه!» . وانسحبت إلى قطاع تلوات لتتأمل حول تحول القوى والسلطة ولكي تفكر في مزايا الحماية الفرنسية.
والسلطات الفرنسية هي المسؤولة عن إقالة الكلاويين، لذلك لم تتوان عن إبداء ندمها على ذلك القرار وحاولت أن تتدارك الأمر. إذ تحت سوط الكلاويين اختلفت التوازنات السياسية الاجتماعية وحل بدلها نظام طغياني أكيد ولكن تسهل السيطرة عليه من طرف قوى أجنبية تشعر بمسؤوليتها تجاه مستقبل المنطقة. أضف إلى ذلك أن إدريس ولد منو أدرك الإيقاع الجامح لزمن السياسي وكان حينئذ منهمكا في تجميع الثروات وتبديدها في أشهر قليلة، ففتح باب المناقشة على مصراعيه ضد القوى الاستعمارية الأجنبية الأخرى على أراضي الحوز وخاصة ضد ألمانيا. وبذلك أصبح هو الوسيط الضروري للمكتسبات الجديدة.
وقد كتب مكريت Maigret، وهو موظف في القنصلية الفرنسية بمراكش إلى روبير دو بيلي R.De Billy الذي كان حينذاك سفيرا لفرنسا في طنجة:
«لقد علم أمس خبر إقالة الحاج التهامي وقد أثار هذا الخبر انفعالا عميقا لدى الأهالي ولدى الأوربيين. وقد استاء الجميع من اختيار السلطان الذي وقع على إدريس ولد الحاج منو. ويذكر الكل القسوة والجشع اللذين يتصف بهما الحاكم الجديد لمراكش الذي لم يكن سوى باشا على القصبة، بل نرى اليوم أن حتى أعداء الحاج التهامي الكلاوي قد استاؤوا هم أيضا لإقالته. وبعض الأوربيين وخاصة السيد لينوكس Lennox أشاروا إلى أن القرار الشريفي قد اتخذ بتحريض منا لكسر شوكة عدوين لدودين وبالتالي تبرير تدخل فرقنا العسكرية. وقد قابلت الحاج التهامي بهذا الشأن منذ الأمس، وقد بادرني بالتعبير عن دهشته وأسفه لتخلي السلطان عنه وتخلينا نحن عنه لصالح عدو من نفس أسرته. «لقد وعدتموني بتقديم حمايتكم لي فهل أعتمد على هذه الحماية أم يجب علي أن أدافع عن نفسي بنفسي؟».
وقد ذكرته، في كلمات قليلة، أن أول واجب عليه هو الخضوع لأمر السلطان، والاستمرار في إدارة المدينة والحفاظ على النظام فيها إلى أن يصل خلفه. وإن هذه فرصة أخرى لكي يبرهن على إخلاصه لفرنسا أن اتبع نصيحتنا. وأنه بذلك سيخدم المستقبل. وقد أكدت له أن مفوضية بعثتنا لن تنسى خدماته الجليلة، ولكنه أفهمته في ذات الوقت أن موقفه إذا لم يطابق ما ننتظره منه فسيجلب له ذلك عواقب وخيمة.
وقد صارحني الحاج التهامي بأنه إذا كان محميا فرنسيا فلن يتردد: سيقبل القرار الشريفي، وسيخضع لنا كلية لندافع عنه في حالة ما إذا هدده الباشا الجديد لمراكش في شخصه أو أسرته أو في أملاكه الخاصة.
وقد تلقيت في هذا الصباح البرقية التالية من الدار البيضاء من مفوضيتكم: «إن السلطان بعد إجراء استعلامات جادة ينوي أن يقبل أعضاء أسرة وزيره الأعظم. قل للتهامي الكلاوي: إننا لن ننسى تعهداتنا إذا لم يضطرب النظام في مراكش» .
وأخيرا اختارت أسرة الكلاوي الحماية الفرنسية كطريقة وحيدة لوقاية وضعيته ولم يكن ذلك الاختيار سهلا كما يبدو اليوم في وقت قام الأدعياء في كل جهة في البلاد وكان الهبة ابن ماء العينين قد أعلن الجهاد وقدم من الجنوب واستقر كسلطان بمراكش بتاريخ 17 غشت/آب 1912. وقد استطاع الكلاوي رغم إقالته أن يلم حوله كل الذين كان يخفيهم الهبة بمن فيهم أنصار مولاي حفيظ وعدوه اللدود إدريس ولد منو. وقدموا للهبة مبايعة زائفة وكانوا في نفس الوقت يتسترون على رجال القنصلية الفرنسية واستدعوا الجيش الفرنسي وساعدوه بتقديم المعلومات فأدى ذلك إلى هزيمة الصحراويين .
وإذ ذاك عين الكلاوي من جديد باشا على مدينة مراكش وظل كذلك إلى استقلال المغرب .
القايدية العقارية؛ بين القطاع والحجز:
أول عملية قام بها الباشا الحاج التهامي هي تفكيك الشبكات التي حاربته وذلك بمبادرة لصالحه الفردي كل أراضي أعدائه التي استحوذوا عليها . وكان احتلال الأراضي يتم في غالب الأحيان بالعنف والرعب وبصفة خاصة أراضي مسفيوة. فكانت تنزع الملكية بشكل لا رجعة فيه من كل معارض أو رافض لدفع الضريبة. وفي ظرف بضعة أشهر استولى السيدان المنتصران الكلاوي والعيادي على آلاف الهكتارات وعلى الحقول الشاسعة المزروعة بالقمح طواعية أو بالإكراه .
لكن إذا كانت ظاهرة الاحتلال الفيزيائي العنيف لحقول القمح الشاسعة منذ 50 سنة خلت، هي القاعدة التي أصبحت تفرض نفسها تدريجيا وبوضوح في الحوز كنتيجة للعنف وللسطوة السياسية، فإن ما هو جديد ابتداء من 1912 هو جعل تلك المكتسبات مشروعة وضمان دوامها وحماية تلك الملكيات من طرف جيش دولة حديثة كما سنرى في الفصل التالي.
إن الجشع الكبير الذي أبداه كبار القياد على العقارات ونما في بداية القرن 19 ليصل إلى أقصى مداه في الحوز في السنوات الأولى بل الأحرى الشهور الأولى لدخول الفرق الفرنسية، ليستحق التحليل كخاصية أساسية لمرحلة القايدية هذه.
يجب أن نتساءل أولا لماذا تخلت الملكية العقارية الفردية وملكية المياه التي يمكن اعتبارها هي أيضا عقارا تلك الأهمية القصوى الفجائية بالنسبة للقياد وذلك حوالي سنة 1900. من المؤكد أن أعيان النظام والشخصيات المخزنية، طيلة القرن 19، كانت توفر وتكدس العقارات المهمة في الحوز، ولكن كان من المألوف أن إقالة وذهاب المستفيد يتضمن عودة الأراضي إلى الدولة لأن المسؤولية المخزنية هي وحدها التي يمكن أن تكون مصدر الإثراء. إن آخر إثراء هو الذي تم حين أصدر المولى عبد العزيز سنة 1900 أوامره بالحجز، واهتز لذلك الرأي العام في الحوز وانشغل به الناس لفترة طويلة، على ممتلكات باحمد عقب وفاته. ويظهر أنه كان يرمي بذلك الرفع من قيمة الحوز وتغذية بيت المال أكثر مما يرمي إلى الزيادة في المساحات التابعة للمخزن، وعلى كل فتلك الأراضي المحتجزة كانت ملكيتها تنتقل من شخص إلى آخر دون أن يتغير المستغلون للأرض بالمشاركة ودون تغيير نوع المزروعات. ونقصد أن تلك الأراضي أشبه ما تكون تابعة لمسؤولية المخزن. ولا نبالغ فندعي أنها كانت تشكل دخلا يعترف به المسؤولون الوزاريون أو القايديون، وإنما كانت تضمن في الواقع، نصيبا لا يستهان به من ذلك الدخل. وفي مجتمع يحرص أكثر على تقرير الحق ويؤكد مشروعية هذه المبالغ المالية مقابل القيام بالمهام، فمن غير شك أننا كنا سنسميها «اقطاعات terres d’apanges». غير أن من خاصيات المجتمع القايدي تفادى إقرار الحق ذلك أن التبرير القانوني لذلك الحق سيصعب غالبا إعطاؤه، وسيخلق سوابق ستقيد من حرية تصرف الأمير .
وانتقال القطاعات من الحائز القديم إلى الجديد يتم حسب ثلاثة أشكال:
1-الحجز عليها من طرف الدولة وبيعها في مزادات عمومية لصالح بيت المال .
2-حجز الدولة للمتلكات وبيعها إلى المستفيد الجديد.
3-دفع ديون الموظف المطرود، يدفعها المستفيد الجديد على أن يتحمل تغطية ممتلكات الأول لصالحه .
إن ما أصبح تدريجيا مجرد شراء للوظائف المخزنية لم يكن في البداية سوى مسطرة لتغطية الدولة لديون الموظفين المعزولين بواسطة مصادرة ممتلكاتهم التي غالبا ما اكتسبوها عن طريق استخدام السلطة والنفوذ.
والتعاقب السريع لموظفي المخزن عن طريق التوالي السريع لعمليات العفو، والإقالة لم يتح للمخزن الاحتفاظ بسجل مضبوط لملكياته العقارية ابتداء من سنة 1905.
ومن جهة أخرى فإن عبارات الاتفاقات حول الديون المغربية من الخارج تجعل من ملكيات المخزن إحدى الرهائن الأكثر ضمانة للدين، مع الجمارك، ولا تشجع المخزن على الإعلان على الملكيات التي حصل عليها بطريق المصادرة. أضف إلى ذلك أن التطور تم في اتجاه ترك حرية التصرف للماسكين على زمام السلطة المخزنية الجدد، في الاستفادة هم أنفسهم من أراضي الأشخاص المقالين.
كما لم يثنهم ذلك عن بسط أيديهم ليس فقط على ممتلكات السابقين المقالين، بل أيضا على ممتلكات الأشخاص الذين كانوا يساندونهم –لأن المناطق أصبحت منقسمة إلى أعداء وأصدقاء- بل حتى على أراضي جيرانهم، وذلك نظرا لانعدام سجل المساحة ومسطرات الأحكام المستقلة. وهكذا ارتفعت مساحات الأراضي المصادرة في الحوز حتى أصبحت تغطي كل المجال الواقع خارج القطاعات الأولى المسقية بصفة دائمة. فكان الطرد من الأراضي –وقد طبق مرتين ضد مسفيوة ولصالح الكلاوي- هو وحده الكفيل بإفراغ البقع الأرضية ونزع الحقوق في المياه بشكل كاف حتى يهتم بها القائد. والعمليات التخريبية مثل اقتلاع أشجار الزيتون، وحرق البيوت، التي قام بها كلاوة سنة 1894 وخاصة سنة 1907 في مسفيوة لم يكن الهدف منها فقط قمع التمردات بقيادة المخزن بل تهجير مسفيوة غير أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاحا تاما.
السبب الثاني للاهتمام الجديد الذي أبداه القياد نحو الملكية العقارية يظهر أنه يعود إلى محاكاة سلوك الأجانب. فقد تعدد الاتصال بينهم وبين رجال الأعمال الأوربيين ، الذين يهتمون بشكل خاص بتملك الأراضي. والمعلومات المستقاة من المهاجرين الجزائريين والعائدين من الحج ، حول التطور الاجتماعي والسياسي في الجزائر، أقنعت المتبصرين أن ضمان الملكية هو وسيلة للإثراء وخاصية من خاصيات الأزمنة الحديثة. غير أن هذا لم يدركه كل الناس وخاصة الطيب الكوندافي الذي ظل إلى النهاية محتفظا، في سذاجة، بصورة سيد الحرب رغم أنها لم تعد تماشي العصر. وقد أرسلته الحماية باتفاق مع الكلاوي إلى حملات بعيدة في وقت كان فيه القياد الحذقون يتقاسمون الحوز .
حول هذا الموضوع يمكن أن نقابل كومتين من الأدلة تحاول أن تثبت من ناحية أقدمية الملكية العقارية ودقة تشريعها ومن ناحية أخرى كيف أن الملكية العقارية كانت عابرة وموضوعا لحجوزات دائمة وضمانها زائف بعقود لا تحمل محمل الجد إلا حسب القوة التي يمكن أن تسخر لها.
غير أنه في نهاية القرن 19 يظل أمرا صحيحا أن ما يكفل الإثراء السريع هو السلطة السياسية، والقوة والعنف، وحوزة سلاح حديث. إن المصدر الزراعي لهذا الإثراء إنما كان بدرجة أولى السلطة الممارسة على الرجال الذين يفلحون الأرض مهما كانت وضعية ملكيتها. فقد اكتسب أسياد الحرب نفوذا وثروات من خلال مصادرة الفائض الزراعي، وفرض ضرائب قاسية، وبحصاد الحقول لا بفلاحتها، وحين كانوا يقولون: «أراضي ملكي» فذلك كان يعني: «هذه مقاطعتي» ولنقل الكلمة: «هذه اقتطاعتي» (Mon fief).
إن ما تغير ابتداء من سنة 1912 هو الشعور بأن ملكية الأراضي أصبحت هي القاعدة الجديدة التي تضمن السلطة والنفوذ والثراء. وهذا قلب كامل للرؤيات التي عاصرها المتنازعون. فالمحظوظون حينئذ كانوا هم الذين يتوفرون على مواقع ممتازة. ولنتخيل مثلا دخول الفرق الفرنسية إلى مراكش في أبريل/نيسان 1911. فقد كان من المفروض أن يكون المتوكي هو القوة الكبرى إذ ذاك، ذلك أنه في ظروف مماثلة لظروف الكلاوي في سنة ونصف بعد ذلك، كان هو الذي سيحبك الدسائس مع الأجانب. ولو تم دخول الفرنسيين بضع سنوات من قبل لكان الكوندافي هو الذي سيقوم بهذا العمل إذ كان في تلك الفترة في أوج صعوده.
إن سكان الحوز الذين تابعوا باندهاش التوالي الغريب لعدد من الأسياد وربما اعتقدوا أن من الصعب تجاوز ذلك وأملوا أن لا يحدث تغيير في الوضع، قد شاهدوا فجأة قيام ثروات عقارية جد ضخمة واستقرارها، لصالح الأشخاص المقالين من مهامهم والذين كانوا قد فقدوا كل شيء بضعة أشهر قبل هذا.
وفي سنة 1918 حين توفي المدني الكلاوي عين التهامي الكلاوي خلفا له ولم يكن قد طرأ سوى تعديل بسيط على التوزيع الجديد للقبائل التي كان يحكمها. وقد رد المارشال ليوطي بلهجة حادة على الجنرال «دو لاموث de Lamothe الذي دعا إلى ضرورة انتهاز تلك الفرصة للحد من سلطة عشيرة الكلاوي:
«إن الوضعية في أوربا وفي جنوب المغرب جد مضطربة ترغمنا على الاعتماد على أشخاص لهم وزنهم، أذكياء ونشيطين ويمكن الاعتماد عليهم. والتهامي أحد هذه الرجالات فهو الوحيد من كلاوة الذي تتوفر فيه كل هذه الشروط. ولكن يجب الاعتماد على تعاونه معنا دون تحفظ. ذلك أني متأكد أنه لن يوافق على التخلي عن حكمه على مدينة مراكش. يجب ألا يغيب عن أذهاننا كل ذلك العنف الذي سبغ التنازع على هذه الباشوية سنة 1912 حتى ندرك جيدا إلى أي حد كان هذا المنصب محط اهتمام القياد الكبار في الجنوب. باختصار نحن الآن في حاجة إلى كلاوة أكثر من أي وقت مضى وخاصة التهامي. ولا تسمح لنا الظروف الحالية بأن نبخل عليه بإسناد هذا المنصب له. يجب إذن أن نتابع المسير. وسنرى بعد الحرب…» .
والحقيقة أنه بعد الحرب كان من الضروري أن يتسع مجال حكم الباشا ليشمل عددا من القبائل الأخرى بمناسبة «الحركة التي حدثت في تودغة وتافلالت. وقد أخذت إدارة الحماية سنة 1924 تحاول زعزعة قيادات الطيب الكوندافي ، وعبد المالك المتوكي والتهامي الكلاوي، وذلك لقلقها من تزايد قوة كبار القياد. وقد عهدت بهذه العملية إلى ضابط فرنسي هو أورتليب ORTHLIEB الذي سجل في حيثيات تقريره:
«إن الباشا وابن أخيه سي حمو قد تقمصوا الآن بجد أدوارهم كأسياد كبار، لقد أصبحوا يعيشون حياة مترفة يوفرها لهم دوام مداخيلهم المالية الناجمة عن التنظيم الحالي أي الاستغلال المكثف للقبائل. ويعلمون أن مراقبتنا ستحد من إمكانيتهم في هذا المجال ولذلك يفعلون كل شيء ليعوقون كل تحسين لطريق تلوات وإقامة الخط التلفوني وإلحاق ضابط من الجيش» .
ويبدو أن السلطات المحلية للحماية تحاول الحد من نمو سلطة الكلاوي، دون أن تكون متأكدة من أن الدوائر العليا لها نفس الموقف. ذلك أن كل تقرير يبلغ يبعث به ضابط من ضباط الشؤون الأهلية إلى الرباط ينقل فيه مطالب هذه القبيلة المضطهدة أو تلك، يرد عليه بطريقة متأففة بحجة ربح الوقت أو إثارة وضعيات مؤقتة صعبة. وقد تراكمت إرساليات الاحتجاج المتعلقة بالابتزازات والتمردات، والقمع الضروري والنزوح من القرى بل بالأحرى دفع بأفخاذ بكاملها إلى الإفلاس . وقد قدم أورتليب إلى المارشال ليوطي بتاريخ 12 يوليوز/تموز 1924 تقريرا واقتراحات محددة لجعل حد للطغيان الذي يمارسه الحاج التهامي الكلاوي. وقد وافق المقيم العام على الحيثيات واستنتاجات التقرير، غير أن حرب الريف قامت إذ ذاك بحيث أخرت وسمحت للكلاوي من جديد بأن يلعب دور المنقذ الذي لا يستغنى عنه.
وقد أصبح الحاج التهامي الكلاوي سنة 1930 قوة مالية. وإذا كانت قوته السياسية قد أتاحت له غداة 1912 اغتصاب مجالات مالية كبرى وأهم أراضي الاقتطاعات apanage في الحوز فإن ما حدث هو العكس وذلك فيما بين الحربين العالميتين: فالمجالات التي كان يملكها أتاحت له اهتمام رجال الأعمال بها وكذلك رجال السياسة وبالتالي ضمان وتوسيع تطلعاته السياسية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق