بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي
بول باسكون (12): تكوين المجتمع المغربي
محمد المساوي
في هذا
المقال يتحدث باسكون عن تشكّل المجتمع المغرب، كيف تشكّل وكيف تبلورت
بنياته الاجتماعية والثقافية والحضارية، يستعرض باسكون اولا أهم النظريات
الاجتماعية التي تصدت لدراسة صيرورة تشكل المجتمعات، ويخصص الجزء الاول من
المقال لهذا الجانب. وفي الاجزاء الموالية يكشف لنا عن النظرية التي
يتبناها، ثم يجرّب “كفاءة” هذه النظرية، وما الخلاصات التي خلص اليها حول
طبيعة تكوين المجتمع المغربي.
هذا المقال المهم تعود افكاره إلى محاضرة ألقاها باسكون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف “جمعية الأبحاث الثقافية” وأعاد صياغتها للنشر لتعميم الفائدة وتوسيع افاق النقاش حول موضوع تكوّن المجتمع المغربي.
هذا المقال المهم تعود افكاره إلى محاضرة ألقاها باسكون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف “جمعية الأبحاث الثقافية” وأعاد صياغتها للنشر لتعميم الفائدة وتوسيع افاق النقاش حول موضوع تكوّن المجتمع المغربي.
المقال ترجمه أحمد حمايمو ونُشر في مجلة المشروع العدد 4 حزيران/يونيو 1981
الجزء الاول من المقال:
هناك تاريخ مكتوب، هو تاريخ السلالات
الحاكمة والملوك، تاريخ المعارك الظافرة أو الخاسرة، ضد المنافسين المحليين
أو الغزاة الأجانب. إلا أن هذا التاريخ لا يعلمنا شيئا ذا بال، ما خلا بعض
الوقائع التي نستطيع التقاطها وجمعها فيما بين السطور.
وبإمكاننا إعادة كتابة هذا التاريخ بواسطة
أدلوجة مخالفة للسير السلالية المقدسة أو للامبريالية الاستعمارية: وقد
يمدنا هذا التاريخ المجدد بالقوة التي ستمكننا من التخلص من الأداليج
السابقة. غير أنه مثل سوابقه لن يعلمنا شيئا كثيرا، ما عدا اكتساب وسيلة
تمكننا من تنظيم نفس الوقائع والحكم عليها، على شاكلة مغايرة.
كما أن هناك اثنوغرافية مكتوبة من طرف
المحتل، انتهت إلى إثبات وجود فروق جهوية فعلية، لكنها كانت مصحوبة بنية
معلنة في العمل على استغلال هذه الاختلافات من أجل التفرقة، بحجة سكونية ما
سمي بالأجناس غير قابلة للانصهار فيما بينها.
وبمقدورنا اليوم إعادة كتابة هذه
الاثنوغرافية، على أساس إنقاذ محصول غني من الوقائع الثابتة علميا، وإن
كانت هذه الأخيرة قد سخرت سياسيا، لأهداف غير علمية. وإذن فباستطاعتنا
تحويل هذا الكنز وهذا التنوع إلى ثروة ثقافية. إلا أن هذا العمل لن يؤدي في
أحسن الأحوال سوى لتكوين متحف فولكلوري وإلا إلى تجميع وقائع هي بدورها
غير قابلة للتجانس.
وعليه، فيظهر لنا أن المهمة الأكثر
استعجالا ونجاعة هي التي تحدد كموضوع لها إيجاد التفسير عبر التاريخ، لا
لكيفية تكون الأمة المغربية، الشيء الذي سيرجع بنا إلى المتاهات الأولى،
ولا لكيفية تشكل الثقافة المغربية، وهو ما سيقودنا إلى المتاهات الثانية،
وإنما للطريقة التي تم عليها تكون المجتمع المغربي. ذلك أن هذه الطريقة
تمكننا في آن واحد من التوصل إلى فهم علمي للنوعين الآخرين من القضايا
اللذين تمثلهما الأمة والثقافة.
إن مشروعا من هذا النوع لا يمكن أن يكون
ثمرة عمل إنسان واحد، في يومنا هذا. وفيما يخصني فليس لي لا من الطموحات
ولا من الكفاءات ما يسمح لي بانجاز هذه المهمة لوحدي. ما أنوي القيام به
بكل بساطة، هو محاولة تمهيد الطريق في هذا الاتجاه، بواسطة مجموعة من
المحاولات والأخطاء، لكي يصبح بالإمكان، وفي آن واحد، إعادة تأويل الوقائع
المتراكمة للتاريخين الاستعماري وما قبله، ومن أجل فتح سبل جديدة أمام
البحث الاثنوغرافي والسوسيولوجي، بالمغرب.
1-لماذا تختلف المجتمعات، الواحدة عن الأخرى؟
سبق لعبد الله مازوني أن أبدى تبرمه من
المواقف المتميزة بالحشو، لبعض مواطنيه، حينما كتب: .«لقد أصبح من باب
تحصيل الحاصل أن هناك خصوصية جزائرية، من شدة ما تكررت هذه الفكرة لدرجة أن
كل شيء، أو تقريبا كل شيء خصوصي في الجزائر. الإنسان، المشاكل، الحلول،
الاشتراكية، الثقافة، السينما، المسرح، الموسيقى بل وحتى البرتقال. وعلى
هذا النحو، نلجأ لاستعمال النعت «خصوصي» والاسم «خصوصية» في كل المجالات،
وكأنهما أداة تفسير كونية، لما لهما من مفعول سحري ودلالات ثرة».
إن التيار الفكري المدان هنا، ليس في
الواقع جديدا. ومن المفارقات العجيبة التقاؤه مع التيار الذي يدعو إلى
سكونية الأعراف والعادات كتبرير للجمود والمحافظة. وإن المعني الحقيقي
لأقوال مثل «هكذا خلقنا» و«تلك طبيعة الأشياء» لهو تبرير تقطيع العالم على
هويات مجانية من طرف المستفيدين الحاليين من هذه الوضعية. وفي العمق فإن
هذا الموقف الفكري لا يعدو أن يكون تحديثنا بسيطا لخلفيات باحثي الحقبة
الاستعمارية من اثنوغرافيين وفولكوريين.
إلا أن هذا لا يتنافى مع الحقيقة القائلة
بالاختلاف الفعلي للمجتمعات، بعضها عن بعض، في فترات معينة من التاريخ،
واتصافها بنوع من «الخصوصية». وبمعنى أنه لا يمكن مقارنتها مع أي مجتمع
آخر، وكونها تسلك في تحولاتها مسارات منفردة.
ونخلص من هذا إلى أن انتقاد أسلوب النفاق
–أو الهوس- الكامن في الاعتصام خلف الخصوصية الفاتنة يعتبر ممارسة ناجعة
لصالح الوقاية الفكرية، شريطة الاعتراف بالواقع المنفرد لمجتمع ما، ومحاولة
تشخيص هذا الواقع، بصورة أفضل، وعلى أساس بذل المجهود المطلوب من أجل
تفسيره.
إن القول باختلاف المجتمعات يفرض في حد
ذاته وضع التساؤلات حول الأدلوجة الثاوية خلف تأملات عالم الاجتماع أو
المؤرخ، عن وعي من طرفهما أو دون وعي بها. وكان المرفوض أن يكون من واجبنا
قبل الإقبال على المغامرة العلمية، التصريح لدى الجمارك الابستمولوجية
للعلم بنوعية السلع الفكرية التي نحملها، تحت مظاهر الكلمات وبطاقات
الفرضيات.
إن أقل المحادثات شأنا، إزاء هذه المسألة،
سواء كانت بسيطة أو متعالمة، لتثير الكثير من الغرابة، وكأن لم تكن للعلوم
السياسية دوما سوى إسقاطات ضعيفة على التعليمين الثانوي والعالي. هناك
افتراضات، بل ومسلمات متفيهقة في هذا الخصوص. ولكي نتمكن من إدراك مداها
سنعمل على عرض ديوان من الحماقات المناقضة للسوسيولوجيا، كعلم.
أ-النظرية العنصرية أو المتسترة خلف العرقية هي الأكثر ذيوعا
تؤكد هذه النظرية أن مجتمعا ما يختلف عن
مجتمعنا لكون أعضائه مختلفين عنا: أي أن بيننا وبينهم فروقا طبيعية تكاد
تكوون قطيعة، ثابتة ونهائية، خصوصا عندما يكون أفراده جد مختلفين عنا من
الناحية الجسمانية، من جراء لون البشرة أو القامة أو نسق الشعر، أو أحيانا
بسبب الاختلاف في المظاهر المرتبطة بنموذج الحياة، بل وحتى بفعل المغايرة
الناتجة عن مظهر جد مؤقت مثل اللباس. وتعتبر العرقية ETHNISME بدورها مقدمة
للعنصرية أو عنصرية غير مكتملة بمجرد ما تنسب لشعب ما «نفسانية أساسية» مع
اعتبار هذه الأخيرة معطى أوليا بدل معالجتها على أساس كونها منتوجا
مجتمعيا ليس غير. وحتى ابن خلدون لم يستطع مقاومة هذا الإغراء عندما كان
بصدد الحديث عن الشعوب المغربية. أما بالنسبة للاثنولوجيا الاستعمارية فإن
أوج السياسية التي كانت تنهجها قد تجلى في إقامة تعارضات من نوع التعارض
بين العرب والبربر، ذلك الوهم الذي لم يعدم حتى الآن من يعتقد فيه. وما
يزال بين معاصرينا اليوم من يصدر أحكاما مسبقة على سكان مدينة أو ناحية ما،
لا من أجل الفكاهة، ولكن لاتخاذها أسسا للتفسير السياسي، بكل بساطة.
إن العنصرية والجنسية ETHNISME تصدران في
الواقع عن تيار كامل من المواقف و«التفسيرات» حيال «طبيعة» المجتمع
المغربي، شبيه جدا، في عموميته، بمنظور الكيمياء الوسطوية للعناصر المادية
للكون، من حيث أنها ثابتة ومتعارضة: كالنار والماء والتربة الخ. وما ترك
المجال فسيحا أمام هذه الفيتيشية FETICHISME هو غياب نظرية جدية، حتى لو
كانت بسيطة، وعلى شكل خطاطة، بل حتى ولو كانت خاطئة نسبيا، إلا أنها مع ذلك
معممة على نطاق واسع.
ب-أما النظرية الجغرافية فأكثر رقة:
وبحسبها فإن المجتمعات تختلف بعضها عن
البعض الآخر، لوقوعها داخل مناطق «طبيعية» مختلفة (هذا بدون اعتبار
الخصوصية الانتروبولوجية لمفهوم المنطقة الطبيعية). وهكذا فللمناخ وللنواحي
التي يعيش فيها الناس مفعول على العادات والقوانين ونظام الحكم ومستوى
الحضارة. وفي هذا الإطار فإننا نجد ابن خلدون، مرة أخرى، يثير مسألة تأثير
الصحراء على المجتمعات الظاعنة. كما نجد مونتسكيو مصرا على مفعول المناخ في
الأمزجة وروح الشرائع. بل أننا نجد في المغرب بعض المؤلفات التي لا تغفل
عن إثبات العلاقة بين المناخ والتنقل الموسمي، مع أن مجتمعات مستقرة قديمة
كانت متواجدة تحت مناخات مشابهة أو أكثر قساوة بل وأكثر تعارضا. وأمام هذه
الحجة يصيح أصحاب الرأي السابق: لكن الأمر يتعلق في هذه الحالة إما ببني
هلال وأما بالأمازيغ أي بالعنصر الليبي-البربري. وبعبارة أخرى فإن العرقية
والنظرية العنصرية تأخذان، مجددا، في الظهور.
ج. تبتدئ مرحلة التعميق النظري التعميق بظهور النظريات التطورية.
وبالنسبة لهذا الأخيرة، فإن السبب في
الاختلاف القائم بين المجتمعات راجع للدرجات المتباينة التي تحتلها في سلم
التطور، باتجاه تحقيق التقدم الذي يتحقق عبر سلوك مسار خطي LINEAIRE ووحيد.
وإذا كانت دواعي الحيطة قد حالت دون التعبير عن الأشياء بهذا الوضوح
التام، فإلى ذلك يعود جوهر النظريات التطورية، على العموم. وكيفما كان
الأمر فلن يعود العنصر أو الجغرافية هما المحددين لـ«طبيعة» المجتمع، وإنما
يجب البحث عن جوانب لهذه المسألة في التاريخ الخاص الذي مكنه من تجميع قسط
من التجارب والتقدم، على منوال مغاير (لماذا؟ وكيف؟) لبقية المجتمعات.
وبما أن مفكري القرن التاسع عشر الاشتراكيين كانوا سباقين إلى تطوير هذه
الأفكار فإلى التيار الفكري الاشتراكي، على العموم، ترجع مساندة هذه
التطورية، الحتمية، اللارجعية والسائرة وفق خط وحيد.
د- ثم جاءت النظرية الوظيفية الأكثر تفقها،
وإن كانت متهمة بالسوداوية، لتزعزع أركان هذا النسق الجميل والمتصاعد.
وحسب هذه النظرية، فمرد الاختلاف الحاصل بين المجتمعات إلى مشيئة الصدفة
وإلى نتائج المحاولات والأخطاء المكتنزة عبر التاريخ. فعلى شاكلة التنظيمات
البيولوجية، هناك بعض المجتمعات التي تتوفر أكثر من غيرها على «قدرة» في
مجال من المجالات. فقد يكون هناك ميلان نحو تضخيم المقدسات، كما قد يكون
هناك نزوع تجاه التضخم التقني. وعلى هذا النحو (؟) فإن مجتمعا ما قد يكون
مجرورا نحو إنتاج المزيد من السلع، في حين يساق الآخر نحو إنتاج المزيد من
الأداليج أو الديانات: ومرجع الاختلاف في هذا الشأن إلى «حاجيات» الشعوب
المعنية وإلى المنافسات فيما بينها. وإذا كان هناك من تغاير بين تطور
الأنواع البيولوجية وتطور «الأنواع» المجتمعية فإن العلة في ذلك تئوب إلى
السرعة في إيقاعات التبدل بالنسبة لهذه الأخيرة، وعلى الأخص إلى ظواهر
المثاقفة (لكيلا نسميها ظواهر التدجين) التي أصبحت تفرض نفسها كقاعدة، على
مر الأيام. واستنادا إلى هذه النظرية، فإن المجتمعات حينما تدخل في علاقات
فيما بينها تصبح في نفس الوقت متنافسة في هذا المجال أو ذاك، مما تنتج عنه
السيطرة المتبادلة أو الكلية، ومما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير كبير في
كينونتها، جميعا.
وبالنسبة للمغرب، لم تكن هناك حاجة إلى
«توظيف» هذه النظرية، ذلك أنها كانت معاشة بحدة، لدرجة صرنا معها عاجزين عن
إدراك التخلف على أساس كونه سيطرة، ليس غير.
ه- ثم ظهرت البنيوية التي طمحت لأن تلعب دور الطليعة في هذا النوع من الأبحاث.
وتبسيطا لهذه النظرية –التي نجدها مع الأسف، مبثوثة في نصوص عسيرة الفهم،
غامضة غالبا إلى الحد الأقصى، وإن كان هذا التبسيط يحتمل إثارة الجدال مع
معتنقي هذه المدرسة، فإن الفروق التي يمكن ملاحظتها بين مختلف المجتمعات ما
هي إلا سطحية وثانوية. فالإنسانية واحدة، ووظائفها الأساسية مكفولة في كل
مكان، تبعا لعدد محدود من الأشكال الممكنة. ومما تشترك فيه كافة المجتمعات،
انتظامها وفق أشكال يحددها نظام من التعارضات الديالكتيكية، معيشة على
كافة المستويات، وداخل بنيات ممثلة تمثيلا متساويا، في جميع أرجاء المعمور.
كفى إذن من العلية المبتذلة، ومن المعلولات التي تظهر وكأنها مسلمات! كل
ما هناك أن اللعبة المجتمعية تحتوي على عدد قليل من الأوراق والقواعد،
تتوزع باستمرار وفق أشكال تبدو وكأنها متغايرة، ولكنها في الواقع جد
محدودة. وبإمكان خريطة أساسية لمواقع الارتفاع والانخفاض وأماكن الامتلاء
والفراغ وكذا لنقط البياض والسواد الخ… تلخيص الفلسفة برمتها، فعلى سبيل
المثال هناك توزان بين الدال والمدلول: أي أن تضخيم الشكل (الطقوس
والاجتماعات الرسمية) يؤدي إلى تقليص المضمون (اللغو وعدم الإخبار)، ثم أن
تقليص الشعائر (الأعلام على عجل) يؤدي إلى تضخم المضمون (الشائعات) وهكذا…
وعلى هذه الصورة نتعرف على مجموعة من «قوانين البندول» و«القوانين
المتاضدة» المنتمية لديالكتيكية شكلانية، تلك القوانين التي تشكل اللحمة
الضرورية لعدد كبير من الأبحاث الجامعية «المتأرجحة».
و-ثم عملت النظريات البنيوية-التوليدية على تعديل التطورية بواسطة البنيوية.
وتبسيطا للموضوع، مرة أخرى، فإن النظريات البنيوية-التوليدية تشرح لنا على
أن هناك مجالات تكدس فيها المجتمعات، إلى ما لا نهاية (الحياة المادية،
على سبيل المثال) أكثر مما توازن. في حين أن هناك مجالات أخرى تعمل فيها
على تحقيق التوازن، أكثر من التراكم (الشكل، الفن…).
فقبل اكتشاف الكتابة لم يكن ممكنا للعلوم
والتقنيات أن تنتقل وتتراكم إلا بواسطة المواد نفسها (بما يستتبعه ذلك من
خلط بين الشكل والمضمون، بين الفن والمهارة، بين الأفعال والطقوس)، وإلا
باعتماد الطريقة الشفاهية التي لا تخلو هي الأخرى من الخلط. وفي المرحلة
اللاحقة تميزت المجتمعات الما قبل تاريخية بمظاهرها أكثر مما تميزت
بمستوياتها المادية. بمعنى أنها كانت متسمة بتضخم في الطقوس وتعقد في
المقدسات والبنيات الفوقية، وبمستوى واطئ للقوى المنتجة والتكنولوجيا. إن
كل هذا هو ما يفسر الهوس الاثنولوجي وحب الاستطلاع البنيوي تجاه هذه
المجتمعات.
وبعد اكتشاف الكتابة، وعلى الخصوص بعد
استخدامها في الأغراض الدنيوية، والتي لا علاقة لها بالمقدسات، انقلبت
الآية بفعل مسلسل التراكم ذاته الذي أتاحته الكتابة. وكان من نتيجة ذلك أن
حققت قوى الإنتاج والتكنلوجيا وإنتاج الخيرات المادية تقدما كبيرا بالنسبة
لما تم في مجالات الشعائر والبحث عن الأشكال: الشيء الذي يفسر نزوع
التطورية إلى التبسيطات.
فهل يعني هذا أن هناك مجالات تحتفظ فيها
النظرية بقوتها التفسيرية، في الوقت الذي تبقى فيه اللعبة البنيوية أكثر
ملاءمة في مجالات أخرى؟ لا! إن تداخل هذه المجموعات التفسيرية أشد تعقيدا
لكونها تتمفصل حسب أشكالا متغايرة في كل مجتمع على حدة، وعلى مستوى كل صعيد
صعيد. وكيفما كان الأمر، فإن كل حديث عن هذه المسألة يجب أن يكون منطلقا
من الوقائع.
ز- بين الفولكلورية والشيماوية SCHEMATISME هناك اتجاه آخر للبحث.
كان هذا الاستطراد المدرسي، نسبيا،
والمبسط إلى حد ما، ضروريا، لكون المحاولة التفسيرية التي لدى جرأة الإقدام
عليها خالية من الحياد والأحكام المسبقة وكثير من المسلمات. وبعبارة أخرى،
ففيما يخص هذه المسألة، نجدنا أمام ثلاث احتمالات: أما أن نستمر في الطريق
التي انتهجها قبلنا علماء الانثروبولوجيا والفولكور. فنضيف ملاحظاتنا إلى
ملاحظاتهم، مع قليل أو كثير من التوفيق والموهبة. وأما أن نقدم على بناء
انساق تعتمد في توضيحاتها على الوقائع المعروفة مسبقا، وأما أن نغامر في
الطريق المؤدية إلى التقدم في معرفة الواقع، بفتح النقاش حول النظريات
انطلاقا من الحقائق.
ويظهر لنا على أن الالتجاء إلى تجميع
وقائع يطبعها التشتت والعزلة، بعيدا عن النظريات السارية الآن في العالم،
أمر متجاوز وفولكلوري في نفس الوقت. كما يبدو لي أن الإعلان عن نظريات غير
مدعومة بالوقائع، مثله مثل انتقاء الوقائع وترتيبها، داخل هذه النظريات،
مسألة على قدر كبير من الدوغمائية. وإذن فمن الضروري، كما يتراءى لي،
المغامرة بالبحث عن التفسيرات للكيفية التي تم عليها تشكل المجتمع المغربي،
في خصوصيته التاريخية، انطلاقا من الوقائع التي تعرفها.
وإذا كان تصنيف مجتمع ما، في مرحلة معينة
من التاريخ، مسألة تبدو وكأنها ضرورة أولية بالنسبة لعالم الاجتماع أو
للرجل العملي، فإن الباحث المحلل سرعان ما يصطدم بتعقد وانتشار وتزايد
الأنواع، فضلا عن الأنواع المصغرة الخاصة، جهوية كانت هذه أم محلية أم
مؤقتة. ومن أجل الخروج من هذه البلبلة، غالبا ما يتم اللجوء، أما إلى
المونوغرافية وإما إلى الشيماوية والتعميمية، أو يقع الارتداد إلى النوع
المسيطر، باعتباره محملا بالمستقبل، من الناحية التاريخية.
ودونما ريب، فمن شأن تراكم المونوغرافيات،
إثبات وقائع اجتماعية ملموسة، على مستوى الزمان والمكان، يمكن استمالها في
التفسيرات والتركيبات. غير أنه في الظرف الراهن، وبسبب الافتقار إلى نظرية
عامة في تصنيف المجتمعات الحقيقية، فإن المونوغرافيات تغفل عن الخصوصيات
المميزة لهذه المجتمعات وتعمل بالتالي على تأجيل فهمها.
ومن باب تحصيل الحاصل أن الشيماوية
والتعميمية واعتبار النسق الاجتماعي السائد وحده، أمور تؤدي إلى تفقير خطير
للواقع. صحيح أن هذا التفقير يبدو لحظيا وكأنه إجرائي بالنسبة للعلم، بل
وعملي بالنسبة للسياسة، لتلاؤمه مع مقتضيات الممارسة. إلا أنه، فعليا، عاجز
عن تصوير تعقدات الواقع، ومسؤول في أغلب الأحيان عن فشل هذه الممارسة.
وهكذا، فلن نعثر بين مختلف النعوث التي
توصف بها المجتمعات القروية (تقليدية، ما قبل صناعية، ما قبل الرأسمالية،
إقطاعية، مائية، قبلية، أبوية، عشائرية) وبين الحياد الظاهري لانتشار
مونوغرافيات جهوية، بل وقروية، على أية مقاربة قادرة على تزويدنا بنموذج
سليم للواقع. فعندما نقوم بقراءة الأدبيات السوسيولوجية والاثنوغرافية
المتعلقة بالمجتمعات الفلاحية، وكذلك بغيرها، يحصل لدينا انطباع بأن هناك
من جهة، نماذج لمجتمعات «أصيلة»- مثلما نقول عن البلور والمعدن أنهما
أصيلان –والمقصود اتسامهما بالانسجام الداخلي، ومن جهة ثانية أمثلة عن
مونوغرافيات لمجتمعات مصغرة تعج بالسمات المتناقضة، يعرضها علينا مؤلفوها
للتأمل، دونما قدرة على السيطرة على تعقدات الواقع، بسبب تنافرها الداخلي
المستعصي على كل محاولة تفسيرية.
ولهذه الاعتبارات، فإن موضوع هذا البحث،
هو محاولة طرح مشكل تصنيف المجتمعات، على طريقة مغايرة من شأنها استشفاف
الوسائل القمينة بالخروج من المأزق السالف الذكر.
وعليه فإني سأطرح للنقاش ملفا أوليا وذا
طابع عام، ستتبعه فيما بعد ملفات أخرى، تحليلية أكثر، قصد التوسع في فكرة
التركيبية المميزة للمجتمع المغربي. والبحث في أصله عبارة عن محاضرة ألقيت
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف «جمعية الأبحاث
الثقافية»، استهدفت بأسلوبها ولغتها تعميم فكرة التركيبة في بناء
المجتمعات. وقد تعمدت إعطاء المناقشة طابع البساطة لضرورتين اثنين: أولاهما
تتعلق بتمكين عدد ممكن من الناس من المناقشة، وثانيهما بالبرهنة على أن
التبسيط لا يعني بالضرورة تفقير المفاهيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق