السبت، 5 ديسمبر 2015

مكافئة نهاية خدمة فرق الموت بالمغرب: بالكريمات و الامتيازات

مكافئة نهاية خدمة فرق الموت بالمغرب: بالكريمات و الامتيازات 

 تعليق الصورة: جلادو "الكاب 1" الأربعة (من فوق لتحت من اليمين لليسار) صاكا، العشعاشي، التونزي والمسناوي 


قرأت لكم كتابا :

شهادة الاميتيازات على لسان احمد البخاري

بمجرد نشر لائحة 4000 مستفيد طفا على السطح ملف قتلة الشهيد بنبركة ..إن سياق نشر اللائحة ، وما رافقه من زخم في ردود الفعل ، يقتضي استثمار ماهيته السياسية في إفادة جيل جديد سمع عن الجلادين ولم يقرأ عنهم أو لهم ... خصوصا بعد ان شرع في التصالح مع ذات الاحتجاج و رفض الأمر الواقع ، ان حقه علينا وعلى غيرنا في ان يعرف تاريخ الهبات و التهنئات و الترقيات التي كانت تؤسس لمجتمع المخزن ، طيلة عقود من التدبير الدموي لملفات الحريات ، حق تاريخي وأي متساهل في عدم تسليط الضوء متى وكيفما أمكن ، يكون شريكا في الاستفادة من هاته الهبات و الامتيازات من باب غض النظر عن الحقائق ...سنحاول في هذه القراءة على غير العادة، أن نسبح بأعين احد الجلادين و المشاركين في رصد مرحلة دقيقة ، بغض النظر عن خلفيات الكتابة و الوثيقة و الشهادة...
إنها نظارة " احمد البخاري " في شهادته المكتوبة في كتاب :" الأجهزة السرية في المغرب : الاختطافات و الاغتيالات " ترجمة حسن اللحية ، التي ترصد تاريخ التطور الداخلي لمجتمع السلطة و الجريمة و النفوذ ...لنعد إلى التاريخ الحافل بجرائم من وكوفئوا ...ودائما بلسان المخزن وشهادة احد أهم المساهمين -1- في تأسيس جهاز الاستخبارات بعد الاستقلال الممنوح:
في شهادة البخاري عن فرقة الموت التي كوفئت بالكرمات:
بعد مرور 35 سنة، على اغتيال شهيد حركة التحرر الوطني وأنصار الثورة العالمية " المهدي بنبركة " هاهو احمد البخاري يجلس إلى جانب رئيسه السابق في الاستخبارات محمد العشعاشي ومحمد المسناوي و عبد القادر الصاكا ، ليتذكر ويستعرض بعض التطورات وحقائق الماضي ، وبعدها بحين يقرر احمد البخاري أن يكتب مذكراته وشهادته الصادمة ، لتحرر ويحرر جهازا من الطابوهات ولينير بعضا من الحقائق التي تفيد توثيق وتجميع الشهادات أكثر من التاريخ لجهاز ، وهو نفس القرار الذي كان سيقوم به سنة 1971 حينما كان ضيفا في باريس ، لكن الشروط العامة منعته فاجل الفكرة إلى تنضج ؟؟" قررت البوح الآن لأن الظروف اختلفت عن السابق كثيرا . "فالمغرب حاليا على وشك المصالحة مع تاريخه الحديث ، لقد شجعتني رياح الحرية على كتابة اعترافاتي – مذكراتي .".الخ-2- ، وهي نفس العلمية التي شجعت اليوم عبد العزيز الرباح، وزير النقل والتجهيز،في نشر غسيل تجربة مضت ، في انتظار نشر غسيل اغتيال عمر بنجلون و موناصير و اختفاء المانوزي ... و التأكد من المكافآت التي استفاد منها قتلتهم هم الآخرين .أيا كانت سيناريوهات وتكهنات إزهاق روح تجربة سوداء بقفازات بيضاء ، فإن معرفتنا لبعض الحقائق هو حق من حقوق هذا الشعب البريء.
تأسيس جهاز القمع و التجسس و الاختفاء القسري :
S.E.D.C.E إنها حروف تختصر اسم مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس الفرنسي في قلب الأمن الوطني المغربي،مطلع الستينات ، يمارس فيها التعذيب و الاغتصاب والابتزاز ، مصلحة كلفت بتفكيك و القضاء على جيش التحرير الوطني الذي دافع عن الاستقلال الكامل و الحقيقي للمغرب ، باشر الغزاوي تصفية المقاوم عباس المسعدي (احد قادة شمال الريف )وهو في طريقه للقاء بنبركة سنة 1956 : المسؤولون عن مباشرة العملية فرنسيون، يحررون تقارير نافدة موجهة مباشرة إلى رجل الأعمال "محمد الغزاوي " رئيس المخابرات السرية المغربية والأمن الوطني الذي لا يخضع لوزير الداخلية لكنه تحت السلطة المباشرة للقصر " لا يقيم فرقا بين جيوبه الخاصة وخزينة الدولة " -3 في شهر يوليوز 1960 عينه الملك محمد الخامس مديرا عاما للمكتب الشريف للفوسفاط ، ووضع على رأس الأمن الوطني الكولونيل محمد اوفقير ، الذي وضع على عاتقه القضاء على انتفاضات الريف و إعادة هيكلة الجهاز ، انتقلت العملية من مباشرة الفرنسيين إلى تولية خبراء أمريكيين من C.I.A، ويتعلق الأمر بالكولونيل سكوت وستيف مارتان اللذان وضعا خطة لتأهيل جهاز الاستخبارات المغربي ،حيث قسموا أنشطة المخابرات إلى 6 أقسام :
- القسم 1 : مكافحة قلب النظام يترأسه العشعاشي ذي الأصول البورجوازية الصغيرة المحلية يعتحت إمرته 230 رجل امن.
- القسم2 : مصلحة مكافحة التجسس يشغلها 10 رجل أمن و يرأسها الكوميسير علي بن تاهلا الذي فضل التقاعد المبكر غداة فضيحة الكوميسير ثابت سنة 1993.
- القسم 3: خاص بالعمليات التقنية يتألف من 30 رجل يرأسهم الكوميسير عبد الحميد جسوس في سنة 1966 سيغادر العمل ليحل محله التونزي ميلود الذي ظهر اسمه مستفيدا من الكريمة
- القسم4 : المصلحة الإدارية و المالية : تهتم بمشاكل الموظفين وتكوينهم يتقاسمها ثلاثة رؤساء :رشيد سكيرج ، أحمد الدليمي (ضابط سابق بالجيش الفرنسي وعميل ل SDECEما بين 1948-1956 في سنة 1963 سيعين رئيس مساعدا للكاب 1ومديرا عاما للأمن الوطني سنة 1964)، عبد الحق العشعاشي .
- المصلحة الأمنية : مراقبة سكنيات الكاب 1 و النقط الثابتة و أمكنة الاعتقال الغير قانونية ترأسها بدر الدين بنونة ( ملحوظة مهمة أن أغلب الأسماء التي سلف ذكرها كانت تبلغ من العمر ما بين 24 إلى 28 سنة )
- مصلحة الشؤون العامة : مكلفة بالاتصالات خارج الكاب 1 مع وزارة الداخلية ومصالح الأمن الإقليمي ومع قسم الاستعلامات العامة في الرباط تقوم بالبحث و التحقيق وترسل تقاريرها إلى مصلحة مكافحة قلب النظام .: يشتغل فيها 10 رجال الأمن يترأسهم الكوميسير محمد بن عبد الله في الثمانينيات سيعين هدا الأخير مدير مساعد في D.S.T.
رجال الكاب المكافئة لكل متقن لفنون التعذيب: في سنة 1967 بلغ رجال الكاب 1 أزيد من 900 رجل أمن مكلفون بمهام -*6- ، بالموازاة يستمر الاختطاف و التقتيل و الترهيب ، العائلات تحتج ، يكتفي وكيل الملك بإرسال ورقة صفراء إلى رجال الأمن الدائمي الإنكار بأسرارهم المهنية ، ثم توضع الشكاية في الأرشيف، أما التي يتوصل بها الديوان الملكي فإنها تبعث إلى وزير الداخلية ، في شكل ورقة بيضاء تحمل الرمز الذهبي للقصر ..."في وقت قصير صارت الكاب أحسن مصلحة استخبارات ،فمعظم قيادات الاتحاد المغربي للشغل تعاونت معه" وساعدت كل الفرق الأمنية بكل الوسائل الممكنة الاتحاد العام للشغالين على وضع رجال الكاب في كل موانئ المغرب .وفي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أصبح كل مكتب جهوي للحزب يحتوي على مخبرين أو أكثر ، وضعت أجهزة التنصت الهاتفية في أكثر من مكان ، أما الحزب الشيوعي الممنوع و السري فقد ظل علي يعتة مخبرا لطيفا مقتنعا بأنه يخدم مصلحة الدولة ومصلحة حزبه و الملكية .تحرك الفرق بدون عقاب .ولا تتردد في القيام باختطافات مفاجئة أمام الجميع .المساجين دائما معصوبي العيون ومربوطي الأرجل" كان يجر برجليه قيدا ثقيلا من حديد قديم الصنع يعرقل سيره ، توضع على فمه كمامة مصنوعة من جلد ، وهي تعود إلى السلطان مولاي اسماعيل الذي كان يضعها على فم المشاغبين كالمثقفين و الشعراء و الفلاسفة ..." فإن المرء لا يستطيع استنشاق الهواء لاختلاط روائح البراز و العراق و القيء "-7- يوجد على الدوام بدار المقري ما بين 200الى 300 معتقلا وفي زمن الانقلابات يصل الى 2000 معتقل ..وقد كان يحصل لهؤلاء الجلادين والحراس أن يغتصبوا المعارضين الشباب ..وفي حالة الوفاة توضع الجثث في أكياس سوداء وترمى في حفر جماعية أو فردية وبعضهم في المحيط الأطلسي ."
- PF2: نقطة تعذيب جهنمية من اختيار العشعاشي و صاكا و الكرواني ، وضع فيها هيكل حوض كميائي لتذويب الجثث " المهدي بنبركة "
- PF1توجد بمقر سكنى واسعة بحي السويسي بالرباط وهي إقامة تعود إلى الفرنسيين تحولت إلى فيلا صورت فيها شخصيات بارزة مع مرافقيهم
- PF3: ضيعة فلاحية صغيرة ببو لقنادل تعود للمستعمر الفرنسي
- PF4: نقطة مرور للمعتقلين ، يقبعون في قبو قصد التحقق من هوياتهم تتم تحت أنظار جميل الحسين رئيس الفرقة الأمنية بالبيضاء
- PF5: ضيعتين بالغرب مساحتها 10 هكتارات والأخرى 8 هك ، اغتال الكاب صاحبها ، خصصت لغوايات اوفقير و للاحتجاز استعملت إلى حدود 1973
عبد الحق صاكا من مواليد القنيطرة سنة 1937 حاصل على شهادة الدروس الابتدائية ، ترأس فرقا أمنية سرية ، أجرى عمليات مست المقاومين وملاحقة " العناصر المخربة "
الصندوق الأسود : اشرف عليه احمد الدليمي يتضمن 3صناديق سوداء تحتوي على أموال و ملفات سرية ، يجمع ماله من القوادة و دور الدعارة و مافيا العقارات والابتزاز والسرقة ...الخ وضع لتمول به مختلف العمليات السرية ، كما يتم من خلاله شراء الذمم ، عبر الإغراء : مال ، خمر ، جنس ، المخدرات ...بواسطة احد أخوة البخاري ، سيتم إسقاط المحامي الشهير المعطي بوعبيد " بدأ يصحب زملاؤه مرفقين بفتيات قاصرات ..تمكنا من استعراض المكتب السياسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ...حينما يكون اجتماع حزبي متوقعا يخبر عنه المعطي بوعبيد ويرسل تقريره بكل إخلاص ..بفضل هذه الشخصية سقط في الفخ مجموعة من أصدقائه الثقاة ..
اغتيال واختطاف بنبركة : انطلاقا من 27 مارس 1965 قام فريق من 10 أشخاص وبرئاسة الكولونيل محمد العلوي المدغري بوضع أجهزة تصنت هاتفية ، لمتابعة أدق تحركات المهدي بنبركة ، أما الكوميسير ميلود التونزي (المعروف باسم الشتوكي ) توجه إلى سويسرا لمطاردته صحبة 20 رجل امن ..وفي الجزائر وضعت سيناريوهات عديدة للاختطاف و الاغتيال ، لكن انقلاب يونيو في الجزائر قلب المعطيات ، كان التونزي يسافر بجواز مزور يحمل اسم الشتوكي أو اسما آخر ، مهمته ترصد المهدي في الخارج أينما حل ، في حين يتتبع الصاكا و البخاري مستجدات العلميات ..يقال أن المهدي بعد الانقلاب بالجزائر أخد يعاني من ضائقة مالية ، فانجر إلى مصيدة قبول فيلم عن الاستعمار بالمغرب يقدم فيه استشارات بمبالغ مالية مهمة(100.000فرنك) ، وهو سيناريو حبكته الاستخبارات على يد العشعاشس ، يوم 26 أكتوبر سافر كل من العشعاشي و صاكا ومسناوي بجوازات مزورة إلى فرنسا ..تكلف التونزي بتوزيع الأغلفة المالية على فريق العمل السينمائي ، تكلف بتصوير عملية التعذيب من خلال علبة سجائر تتضمن كاميرا خفية ..دخل اوفقير على الخط ، عذب المهدي بنبركة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ...كان منظرا مرعبا ...
*****
إنها قصة من قصص تسربت على يد احد جلادي العهد السابق ، تحت إكراه حسابات قد تكون جزء من مؤامرة عامة أو خاصة ، أو تصفية لحساب مع الجهاز الذي يرى البخاري أنه قد قدم له الكثير ولم يقدم له الآخر سوى الذاكرة السوداء ، لكن آيا كانت مسارات التكهنات و الحقيقة الناقصة ، أو المتلاعب بها فوق مياه التاريخ المعاصر للمغرب ، فإن حقيقة ثابتة ، هو أن النظام الحاكم بالمغرب ، عذب أبناء شعبه المخلصين بأسوأ أنواع التعذيب والسادية : محاولة لإتلاف الذاكرة و التنكر لها عبر ملف طي سنوات الرصاص ، و ديمقراطية واجهة لا تعكس حجم التضحيات ، و مكافئة وتستر على القتلة و المجرمين من أدواته ...ليظل النضال من اجل مغرب أخر يكافئ فيه المناضلين و المضحين و الصادقين ويحاكم فيه الجلادين والمتلاعبين بجوع الفقر وثروات شعبه ..قائما ومستمرا ...


الهامش:
1- احمد بخاري : الأجهزة السرية في المغرب الاختطافات و الاغتيالات ، ترجمة : حسن اللحية ، افريقيا الشرق طبعة 2006
2- نفس المصدر ص 11
3- نفس المصدر ص 20
4- - نفس المصدر ص 36
5- نفس المصدر ص67
............................

جرائم الاختطاف والقتل.. وخبايا آلاف الوثائق داخل “الشرطة السرية” بالمغرب

نشرت مجلة المجتمع في  عددها رقم  1677 بتاريخ  9/11/2005

 ترجمة  في حلقات  لكتاب أحمد البخاري العميل السابق للمخابرات
المغربية,  وفيما يلي  ما جاء في هذه الترجمة:


الحلقة (1)في يونيو من عام 2001 فجّر العميل المغربي السابق في جهاز المخابرات المغربية أحمد بخاري أزمة سياسية في المغرب إثر تصريحات أدلى بها لصحيفة “لوموند” الفرنسية اتهم فيها السلطات باغتيال المعارض المغربي وزعيم الاشتراكيين المهدي بن بركة عام 1965 بالتعاون مع السلطات الفرنسية وأجهزة أمنية أخرى، كما كشف البخاري عن عدة حقائق بشأن ما سمي في المغرب ب “سنوات الرصاص” خلال الستينيات والسبعينيات أثناء المواجهة بين النظام الملكي والمعارضة، والأدوار التي قام بها عدد من الزعماء السياسيين والنقابيين في تلك الأحداث، حيث اتهم عدداً من هؤلاء بالتعاون مع المخابرات والشرطة السرية المغربية.
وقد أثارت تلك الاعترافات الأولى من نوعها الكثير من الجدل وأسالت الكثير من المداد، وانقسمت مواقف الفاعلين السياسيين والرأي العام بين مشكك في تلك الحقائق وبين مصدق لها، وكان من بين هؤلاء.. المعتقلون السياسيون وعناصر الجيش الذين كانوا في السجون السرية مثل “تازمامارت” الشهير و”قلعة مكونة” و”درب مولاي الشريف” الذين بدأوا يطالبون بكشف حقائق الماضي بشكل رسمي من طرف السلطة، وتقديم المسؤولين عن عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي إلى المحاكمة، وتعويض الضحايا عن السنوات الطوال التي قضوها خلف القضبان.
وبالرغم من ذلك الجدل الذي أثارته تصريحات البخاري وكتابه الأول الذي صدر عام 2001 بعنوان “السر”، فقد كانت تلك الاعترافات بمثابة حجر كبير رمي به في بركة ماء راكدة، حيث تتالت ردود الفعل وانحلت بعض الألسنة وشرعت الصحف في نبش حقائق الماضي وتوجيه النقد الحاد إلى مرحلة الحسن الثاني بين 1961 و1999.
وأمام ازدياد وتيرة المطالبة بإصلاح ما حصل في الماضي بادر الملك محمد السادس إلى إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة” في العام الماضي، وعهد إليها خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر بوضع قائمة بضحايا تلك المرحلة السوداء من تاريخ المغرب وتعويضهم مادياً، لكن البعض لم يرض بهذه الخطوة التي رأى أنها تقفز على مطلبه الرئيس بمحاكمة المسؤولين الذين لا يزال يشغل مناصب مهمة في الدولة، وواجهت الهيئة عدة صعوبات مما حال دون إكمال مهمتها خلال المدة المطلوبة فتقرر التمديد في أجلها دون تحديد سقف زمني معين حتى الآن.
وفي شهر يونيو من العام الماضي كشف أحمد البخاري حقائق جديدة في قضية بن بركة الشائكة في المغرب التي ظلت خلال عقود مغارة مظلمة لا يقربها أحد بسبب رغبة الملك الراحل الحسن الثاني في حظر الاقتراب من هذا الملف، حتى إنه منع أسرة بن بركة المقيمة في فرنسا من دخول المغرب طيلة الفترة الماضية، ولم يرفع هذا المنع إلا في أواخر عام 2003 حينما سمح الملك الحالي لزوجة وأبناء الزعيم الاتحادي بالعودة إلى البلاد.
وقد فتحت السلطات القضائية الفرنسية تحقيقاً قضائياً في قضية بن “بركة” إثر اعترافات البخاري، بعد صمت طويل، لكن هذا الأخير منع من السفر إلى باريس مرتين للإدلاء بشهادته، ومنعته السلطات المغربية من الحصول على جواز سفره، وأصدرت إحدى المحاكم المغربية في نفس الوقت حكماً بالسجن بسبب دعاوى تتعلق بإصدار شيكات بنكية بدون رصيد، وهو ما اعتبره البخاري ومحاموه قضية ملفقة للحيلولة دون سفره إلى الخارج وقطع لسانه.
وقبل أشهر أصدر أحمد البخاري كتابه الجديد “مصالح الدول: كل شيء عن قضية بن بركة والجرائم السياسية الأخرى في المغرب”، قدم فيه حقائق مثيرة عن حقبة الستينيات والسبعينيات في المغرب وجرائم الاختطاف والاغتيال والاعتقال والخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت في تلك الفترة، وتورط مسؤولين مغاربة في الأمن والسلطة في تلك الجرائم، وأدوار بعض السياسيين والبرلمانيين وقادة الأحزاب في التعاون مع المخابرات. ويعتبر الكتاب شهادة قاسية عن أحداث تلك المرحلة العاصفة، لم يكتف فيها البخاري بتعرية الحقائق الرهيبة التي قال إنه عاشها، بل ذكر أسماء الشهود وسمى كل شيء باسمه ولم يلتزم بأي تحفظ.
الكتاب صدر في المغرب وسمحت سلطات الرقابة فيه بتوزيعه بشكل محدود، على عكس ما حدث مع الكتاب السابق للبخاري “السر” الذي تعرض للمنع مباشرة فور صدوره، الأمر الذي يؤشر إلى أن النظام في المغرب أصبح واعياً بضرورة السير في طريق المصالحة مع الماضي الكارثي وتصفية الملفات المنسية.
م تقدم لقرائها في العالم العربي على حلقات هذا الكتاب المثير بحقائقه الرهيبة والمخيفة، والأشبه برواية بوليسية لها شخوصها ومنعرجاتها، ضحاياها وجلادوها، لكن الفرق بين ما كتبه البخاري وما كتبته أجاثا كريستي أن روايات هذه الأخيرة من بنات الخيال الواسع، أما ما كتبه البخاري فهو حقائق مُرة كان شاهداً عليها أو على جزء منها، وشخوصه ليست وهمية بل من لحم ودم، لايزال بعضها حياً يرزق، كما أن أحداثها حدثت بالفعل ورسمت وجهاً أسود لماضي المغرب.
تقديم

لن أنسى أبداً ما حدث مع المهدي بن بركة، ولست الوحيد في ذلك. لقد قضيت فترة طويلة في “الكاب1″، الشرطة السرية الأكثر رعباً في تاريخ المغرب، ولقد كان المهدي بن بركة بالنسبة لي ولكثير من الزملاء هدفاً ينبغي “إخماده”، ورجلاً يجب القضاء عليه من أجل مصلحة استقرار النظام والبلاد، لذلك طاردناه ولاحقنا أدق تفاصيل حياته وتحركاته التي لا تنتهي وأفعاله وفكره وشخصيته، وهيأنا مرات عدة مخططات لاغتياله، كنت خلالها معنياً أنا شخصياً سواء عن قرب أو عن بعد، بعدد من هذه المحاولات أو “المخططات”، فمهنتنا كانت تلزمنا بالتصرف من غير طرح أسئلة، لقد كنا مجرد منفذين، إذن، لقد نفذنا.
في ذلك الوقت كنا قد تعرفنا جيداً على بن بركة، وربما أكثر مما كان يعرفه المقربون منه، ولكننا انتهينا عبر تلك المعرفة إلى احترامه، بل إلى الإعجاب به كأي شخص يحب وطنه ويقدم كل يوم الدليل على ذلك بنظافته وتفوقه وشجاعته. هذا هو بن بركة الذي عرفناه، أنا والآخرون، من الجانب الآخر للحاجز. مثل هذه الأفكار يمكنها أن تثير الاستغراب أو حتى الصدمة، لكن ذلك غير مهم بالنسبة لي حيث أنا الآن، فأنا أنام بطريقة هادئة وضميري أكثر اطمئناناً منذ أن قررت الكلام. إن مرور 35 سنة على رحيل بن بركة ليس كثيراً، ولقد وطنت نفسي على تحمل جميع الأخطار، بما فيها أن تُفهم بطريقة مغلوطة وأن يتم خداعك. لقد فكرت مرات عدة في الماضي في الخروج عن الصمت والتحفظ، وفي العديد من المرات كنت أتردد لأن الشجاعة كانت تخونني ببساطة. لكن يجب القول بأن الظروف السياسية في البلاد لم تكن تسمح بذلك، بل على العكس، أما اليوم فإن الأمور تغيرت، وبن بركة يمثل جزءاً من تاريخ هذه البلاد التي أحبها والتي خدمتها، مهما كانت طبيعة موقفي من تلك المرحلة التي قضيتها في “الكاب 1” وفي “شرطة صاحب الجلالة” في فترة مليئة بالتقلبات وقاسية بالنسبة للكثيرين. واليوم لست في عجلة من أمري، فأنا لم أعد ذلك الموظف الأمني الذي كان يكرس حياته لملاحقة “العناصر الهدامة”. لقد كانت مهمتي بالأمس هي مطاردة بن بركة وشركائه، أما مهمتي اليوم فهي تعرية جانب من الحقيقة التي عرفت عن كثب، للأجيال الجديدة. وأنا أرجو من عائلة بن بركة وأصدقائه الكثر أن يغفروا لي صمتي الطويل في السابق، كما ألتمس العذر لدى زملائي السابقين وسلطات هذا البلد لكوني رفعت الغطاء الذي حجب طويلاً مشاهد لا تشرّف تاريخنا في الحقيقة. إنني لست كاتباً ولا مؤرخاً، ولا أزعم معرفتي بجميع الحقائق، لكنني أطالب بحقي في أن يتم الاستماع إليّ لأنني أمثل جزءاً من فئة عريضة من المنفذين والجلادين والضحايا والفاعلين في التاريخ الحديث للبلاد، التاريخ الذي يهمنا جميعاً بشكل كبير.
إن هذا الكتاب يريد أن يكون شهادة صادقة عن الماضي الذي عشته، بعيوبه ولغوه وأخطائه ونواقصه وحدوده. ولاتستند شهادتي فقط إلى حياتي الشخصية اليومية كما عشتها داخل “الكاب1″، ولكن أيضاً إلى آلاف الوثائق والأرشيفات، سواء في “الكاب1” أو “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” أو “المخابرات العامة” الفرنسيتين، علاوة على “إدارة مراقبة التراب الوطني” (المخابرات المغربية) الحالية. هذه المصادر قد لا تقدم ربما كل الحقائق، ولكنها بالتأكيد مليئة بالحقائق، وقد قضيت أعواماً عدة منهمكاً في تلك الأرشيفات أقلب فيها بمعدل أربع ساعات في اليوم رفقة شخص يدعى “مارتان” كان يعمل عقيداً في المخابرات المركزية الأمريكية، وأنا أتمنى من فاعلين آخرين أعرف المئات منهم أن يسهموا هم أيضاً في الكشف عن جوانب أخرى من الحقيقة، فهناك الكثير مما يجب قوله وفعله من أجل التصالح مع ذاكرتنا وتاريخنا ووضع الأمور في نصابها.
وإذا كنت قد حملت القلم مجدداً اليوم فلأنني أصبحت مقتنعاً بأن إمكانية تقديم شهادتي بشكل مباشر وكامل، سواء أمام القضاء الفرنسي أو المغربي، قد أصبحت شبه مستحيلة، وأن الوقت يمر. وقد استنفدت جميع الوسائل ولا أريد أن تنتهي حياتي مليئة بالحسرة. ومرة ثانية ألتمس المسامحة من كل أولئك الذين مسستهم بأذى، بالأمس أو اليوم، فأنا لا أريد أقضي ما تبقى لي من العمر في انتظار يتكرموا عليّ بمنحي جواز سفري، وأن يتفضل أحد قضاة التحقيق بطرح الأسئلة عليّ والاستماع إلى إفاداتي، وأن يخرج زملائي الآخرون الذين تطحنهم الحسرة عن صمتهم.
هذا الكتاب هو إذن المحاولة الثانية لتسليط الضوء على عدد من الملفات المظلمة والحاسمة من تاريخنا: قضية المهدي بن بركة، والمخربين الفرنسيين المختفين بالمغرب، وتورط السلطات المغربية، ومشاركة مجموعة من الأطراف كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” من خلال توفير الدعم والمساندة، وأحداث مارس 1965، وقضية عباس المساعدي… إلخ.
في يوليو عام 2001 قمت بجولة في حي السويسي بالرباط (أحد الأحياء الراقية للذوات والأثرياء وكبار موظفي الدولة)، قريباً من المعتقل السري الشهير “دار المقري”، وقد لاحظت في ذلك اليوم أن أعمال البناء كانت قد انطلقت على وجه الاستعجال لزيادة علو السور المحيط به، وكانت هناك في نفس الوقت خلف السور أعمال الحفر والتنقيب من أجل تقوية سمك الأرض في عدة مواقع لتطهيرها، وبطبيعة الحال لجمع بقايا العظام البشرية، وخلال أسابيع قليلة اختفت إلى الأبد آثار العشرات من الجثت المدفونة في ذلك المعتقل بين 1960 و1973.
وفي عام 2002 سنحت لي الفرصة للسفر بقصد الاستراحة لأمر غير بعيد عن المقابر الجماعية التي دفن بها المئات من شباب المغرب بشكل جماعي في مارس 1965 على الطريق السيار بين الدار البيضاء ومطار محمد الخامس. وتبدو تلك المقابر الجماعية في هذه الأيام شيئاً مرعباً لا يمكن تصديقه، لأن تلك الجرائم كانت مروعة، لكن ذلك كان جزءاً من تاريخ “الكاب1” ومغرب تلك المرحلة.
كيف يمكن نسيان هذه الوقائع الرهيبة وأخرى غيرها؟، وكيف يمكن الربط بين هذه الوقائع وبين القضية الرئيسة، قضية المهدي بن بركة التي لم ننته منها بعد؟
لقد كان السلوك الفرنسي في هذه القضية من الوقاحة على قدر كبير، وإهانة لذكاء الشعب الفرنسي بالدرجة الأولى، ذلك لأن مسؤولية الدولة الفرنسية كانت واضحة، فمنذ 29 أكتوبر 1965 لم تفعل فرنسا شيئاً لكشف الحقيقة، بل على العكس قامت بوضع العراقيل للحيلولة دون الكشف عن الحقيقة، ومعظم السياسيين الذين حكموا فرنسا طيلة العقود الماضية كانوا وراء “ترسيخ” هذه العراقيل التي لم يستطع أي قاضي تحقيق فرنسي تجاوزها منذ تلك الفترة، كما هو الحال بالنسبة للمغرب، وقد حان الوقت لإحداث صدع في هذا السجل وتحديد المسؤوليات وترك العدالة والمجتمع يقولان كلمتهما.
الفصل الأول المهدي بن بركة في أرشيفات “الكاب1”
ولد بن بركة حوالي العام 1920 بالرباط من أسرة متوسطة يدير عائلها دكاناً لبيع المواد الغذائية. لم يكن التصريح بالمواليد الجدد في مغرب تلك الفترة إلزامياً، إذ كان يترك ذلك للأسر التي تصرح بمواليدها أياماً أو أسابيع أو شهوراً أو حتى سنوات بعد ذلك، ولم يصبح التصريح بالمواليد إلزامياً إلا في عام 1952.
كان والد بن بركة رجلاً متديناً شديد التدين، يصر على أن يحفظ أبناؤه القرآن الكريم في المدارس القرآنية الصغيرة التي كان يطلق عليها اسم “المسيد”، كما كان الأمر لدى جميع الأسر المغربية التقليدية في ذلك الزمن، حيث كان على الأبناء أن يحفظوا الأحزاب الستين من القرآن الكريم قبل أن يتفرغوا لممارسة أعمال آبائهم نفسها عند بلوغ سن الشباب، دون الذهاب إلى المدارس. فقد كان الأبناء يزاولون الأعمال نفسها التي يزاولها آباؤهم، وفي غالب الأحيان كان ذلك يقتصر على التجارة أو الصناعة التقليدية، حيث يبدؤون بمساعدة آبائهم، وبعد سنوات يحلون محلهم. كانت مناشط اللهو في الفترة ما بين 1920 و1930 غير موجودة بالمغرب تقريباً لأن حياة الأطفال كانت مبرمجة على نمط محدد، بين البيت و”المسيد” حيث يتلقون القرآن، وورشة رئيس الأسرة حيث يمارس مهنته كتاجر أو “صانع”.
كان عدد الأسر التي تسجل أبناءها في المدارس العمومية قليلاً جداً، إذ لم يكن عدد الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس يتجاوز نسبة ال10%، وفي المقابل كان عدد الأطفال الذين يذهبون إلى “المسيد” عند بلوغهم الخامسة كبيراً جداً لأن ذلك التقليد كان مترسخاً منذ قرون عدة، حتى أولئك الذين كانوا يتعلمون في المدارس كانوا يغادرونها مبكراً بعد حصولهم على “شهادة الدروس الابتدائية” لمساعدة آبائهم في أعمال التجارة أو الصناعة التقليدية.
كانت الأسر في هذه الفترة شديدة التوجس من سلطات الحماية الفرنسية، فقد كانت تخشى على أطفالها من المدارس العامة التي يقوم بالتدريس فيها مدرسون فرنسيون يحملون الجنسية الفرنسية ويدينون بالديانة الكاثوليكية ويذهبون إلى الكنيسة ولا يعرفون شيئاً عن القرآن أو عن أخلاق المسلمين وعاداتهم ويدخنون ويشربون الكحول ويأكلون لحم الخنزير ولا يربون أبناءهم، ويمنحون زوجاتهم وأطفالهم الكثير من الحرية.
لكن المهدي بن بركة وشقيقه عبد القادر كانا من بين الأطفال المغاربة القلائل الذين تابعوا دراستهم في التعليم العمومي حتى حصلوا على البكالوريا، وقد قدم والدهما تضحيات كبيرة من أجل أن يوفر لهما الوسائل لإكمال تعليمهما، فكان يقوم بعمل إضافي في المدارس القرآنية كقارئ للقرآن مقابل الحصول على أجر زهيد يتلقاه نقداً أو عيناً.
بعد الحصول على البكالوريا رحل المهدي بن بركة إلى الجزائر لإتمام تعليمه بفضل منحة دراسية من لدن السلطان محمد بن يوسف، حيث حصل على الإجازة في الرياضيات. وعند عودته إلى المغرب شغل منصب أستاذ للرياضيات في ثانوية “غورو” الشهيرة بالرباط، التي أصبحت تدعى بعد 1961 “ثانوية الحسن الثاني”، ثم في إعدادية القصر الملكي حيث كان من بين تلامذته الأمير مولاي الحسن، الذي سيصبح الملك الحسن الثاني فيما بعد.
في ثانوية “غورو” تميز المهدي بن بركة بلباسه التقليدي، الجلباب المغربي والطربوش والبابوج التقليدي عوض الحذاء، وهذا جعله شخصاً معروفاً في وسط بورجوازي حيث جميع الأساتذة من جنسيات فرنسية. وفي بداية الأربعينيات أصبح هذا “الأستاذ الشاب في مادة الرياضيات ذو القامة القصيرة الذي يشبه البهلوان بطريقته في اللباس” مثار سخرية الجميع، ولكنه كان مع ذلك موضع احترام بين زملائه الفرنسيين لأنه فرض نفسه عليهم بنبوغه وجديته ودقته في المواعيد ونظافته وثقافته الواسعة وتربيته وكرمه.
اهتمام مبكر بالسياسة
في مغرب الأربعينيات كانت الساحة السياسية موزعة فيما بين حزبين: حزب الاستقلال الذي كان يقوده علال الفاسي، وحزب الشورى والاستقلال الذي كان يتزعمه محمد بن الحسن الوزاني، وكان زعماء وقادة الحزبين معاً ينتمون إلى أوساط البورجوازية المغربية المنحدرة من فاس ومراكش.
كان بن بركة قد بدأ يهتم بالسياسة عندما بلغ العشرين من عمره، حيث أصبح أحد الشباب الذين انخرطوا في حزب الاستقلال كما سجلت ذلك سجلات الاستخبارات العامة لتلك الفترة. كان هؤلاء الشباب يشاركون في الاجتماعات العامة للحزب التي كانت تعقد في سرية تامة ويحضرها الوطنيون، الحقيقيون منهم والمزيفون، الذين لم يكونوا يتورعون عن التعاون مع عملاء الاستخبارات العامة. كان الهدف الرئيس للوطنيين الصادقين هو القتال ضد الحماية الفرنسية في المغرب للحصول على الاستقلال، وشكل المهدي بن بركة واحداً من هؤلاء منذ بداية سنوات الأربعينيات، أما المجموعة الأخرى من الوطنيين المزيفين فكانت تتكون من الانتهازيين والوصوليين الذين استخدموا السياسة لتحقيق أهدافهم الخاصة والإثراء.
وفي 11 يناير 1944 وقع قادة حزب الاستقلال على “عريضة المطالبة بالاستقلال” التي وجهوها إلى سلطات الحماية الفرنسية ونشرت في وسائل الإعلام، يلتمسون فيها من الحماية رسمياً منح المغرب استقلاله. ومن بين الموقعين على تلك العريضة برز اسم المهدي بن بركة الذي كان معروفاً قبل ذلك وفتح له ملف خاص عام 1940 لدى إدارة الاستخبارات العامة، ومن بين الأسماء الأخرى كان هناك:
أحمد بلافريج، الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية بعد الاستقلال، ورئيساً للحكومة ثم الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني.
محمد الغزاوي، الذي أصبح مديراً عاماً للأمن الوطني بين 1956 و1960 ثم مديراً للمكتب الشريف للفوسفاط.
إدريس المحمدي، الذي أصبح وزيراً للداخلية ثم مستشاراً للحسن الثاني.
بين 1956 و1962
في عام 1948 فتحت “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” الفرنسية مكتباً خاصاً لها في الرباط لحماية مصالح فرنسا في المغرب، وتصفية وإسكات الأحزاب السياسية والنقابات، والتحضير للقيام بحرب سرية ضد حركات المقاومة التي انطلقت عام 1953 وجيش التحرير المغربي أو “جيش التحرير الشعبي” الذي ظهر عام 1954 . وقد فتح المكتب التابع لهذه المصلحة ملفاً خاصاً بالمهدي بن بركة في تلك السنة نفسها التي بدأ فيها العمل بالمغرب، حيث تم وصف الزعيم الاستقلالي الشاب باعتباره “شاباً وطنياً يتناول الكلمة في كل اجتماع يعقده الحزب لنقد الحماية الفرنسية بالمغرب ودعوة المغاربة إلى القتال يداً بيد، باستخدام جميع الوسائل، من أجل إرغام فرنسا على منح الاستقلال للمغرب في أقرب الآجال”.
شبكة واسعة من العملاء
وضعت “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” في المغرب شبكة واسعة من العملاء والمخبرين تتكون من عدة أشخاص تم تجنيدهم ليس فقط من بين الوطنيين المنتمين إلى حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، ولكن من المنتمين أيضاً إلى الحزب الشيوعي المغربي والنقابة العامة للعمال والاتحاد المغربي للشغل الذي يقوده المحجوب بن الصديق.
في كل الاجتماعات التي كان يعقدها حزب الاستقلال، سواء على المستوى المركزي في الرباط أو على المستوى الجهوي في المدن المغربية الأخرى، كان المهدي بن بركة ينتقد بشدة سلطات الحماية الفرنسية، ويتكلم عن فقر الأغلبية من المواطنين المغاربة والأمية وثروات البلاد التي تحتكرها الأقلية الفرنسية، والمزارع والأراضي الخصبة التي استولى عليها منذ 1912 المقيمون الفرنسيون والبنوك والشركات التي يديرها فرنسيون… إلخ. وفي بداية عام 1950 أصبح بن بركة العدو رقم واحد للحماية الفرنسية في المغرب، والسياسي الذي يمثل خطراً على مصالح فرنسا بالمغرب، الزعيم الاستقلالي الذي تجب تصفيته لإخراس صوته في أقرب فرصة قبل أن يفوت الأوان.
(2)
المجتمع تنشر الترجمة الكاملة للكتاتب المثير لرجل المخابرات المغربي السابق أحمد بخاري
تلقى المكتب التابع ل “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس في الرباط” من باريس توجيهاً يقضي بإيقاعه “في فخ” لوضعه أمام الأمر الواقع وتخييره بين أمرين تحت الإكراه والتهديد:
إما التعاون مع مكتب المصلحة بالرباط أو أن مستقبله السياسي سيتعرض للخطر. ومن أجل تنفيذ هذا المخطط قام عملاء “مصلحة التوثيق الخارجي” و”الاستخبارات العامة” بالمغرب بإجراء عدة تحقيقات سرية ودقيقة للإجابة عن “150 سؤالاً لها علاقة بتحديد موقع المعني بالأمر”، ولكن بما أن بن بركة لم يكن شخصاً ضعيف الإرادة ولم تكن في حياته ثغرة يمكن التسلل منها، صعب إيقاعه في الفخ.
وأفتح هنا قوساً لأقول بأن تقرير “150 سؤالاً لها علاقة بتحديد موقع المعني بالأمر” الشهير هو بمثابة كشف شعاعي للأشخاص، معروف ومطبق لدى مختلف أجهزة الاستخبارات في مختلف بقاع العالم.
نقطة الضعف الوحيدة التي كانت في حياة بن بركة كانت متعلقة بالجانب المالي، ولكن بن بركة كان ذكياً ومنهجياً، فقد كان يخطط جيداً لمصاريفه المالية مكتفياً براتبه كرجل تعليم، وخلال 1940 و1950 كان يعيش حياة عادية ومتكتمة، بدون دعوات أو حفلات ولا سجائر أو خمور، ولم يكن يرتاد النوادي أو جلسات الخمر أو الخرجات العامة والسهرات الليلية، كما لم تكن له “صحبة سيئة” وكان قليل الأصدقاء. كانت عادته أداء الصلاة خمس مرات في اليوم والذهاب إلى المسجد بشكل دائم عندما يسمح له وقته بذلك، إذ إنه كان غارقاً ليل نهار في الشؤون السياسية والتحركات داخل حزب الاستقلال.
لكن السلطات القضائية التابعة لسلطات الحماية الفرنسية في المغرب لجأت إلى وسيلة أخرى لمضايقته ووضع العصا في العجلة لتعطيل سيره، حيث قامت باعتقاله مباشرة عقب توقيع عريضة المطالبة بالاستقلال عام 1944 لمدة سنتين، إذ وجهت المحكمة إليه تهمة التخابر مع السلطات الألمانية المعادية (كانت الحرب العالمية الثانية قائمة وقتها). وفي عام 1951 نفاه الجنرال “جوان” المقيم العام الفرنسي بالمغرب إلى الجنوب المغربي وفرض عليه الإقامة الإجبارية لعزله وإبعاده عن الرباط وعن الحزب الذي بدأ في ذلك الوقت في خلق شبكات سرية للمقاومة المسلحة بالمدن الكبرى. استمرت الإقامة الإجبارية حتى عام 1953، وعندما حل الجنرال “غيوم” محل الجنرال “جوان” نفاه بدوره مرة أخرى إلى جبال الأطلس حتى سبتمبر من عام 1954 بهدف إبعاده عن شؤون الحزب والمقاومة المسلحة في المدن التي كان يقودها محمد الزرقطوني.
فشل الاستخبارات
كان بن بركة شديد الاحترام للسلطة وللقانون، فقد كان حريصاً على ممارسة عمله السياسي في ظل الشرعية القانونية وفقاً للقوانين التي تنظم النشاط السياسي والنقابي في البلاد، وفي التجمعات التي كان ينظمها كانت لديه دائماً الجرأة لقول ما يفكر فيه بصراحة عالية، من غير أن يلقي بالاً لرجال الاستخبارات الفرنسية الحاضرين الذين يسجلون ما يقال وما يحدث، مدققين في برنامج الاجتماعات وما إن كان قد جرى احترام جدول أعمالها، وكانت مواقف بن بركة تعتبر بمثابة الدليل على فشل مصلحة الاستخبارات العامة ومكتب مصلحة التوثيق الخارجي.
في نهاية كل اجتماع كان عناصر الاستخبارات يعدون تقاريرهم لرواية ما حدث وتسجيل ملاحظاتهم، لكن بعض هؤلاء لم يكن يتردد في زيادة أشياء من عنده على لسان بن بركة من أجل خلق مشكلات إضافية له مع سلطات الحماية. كان العديد من هؤلاء العناصر من جنسيات كورسيكية، ولذا لم يكونوا يقبلون بأن يكون هناك سياسي مغربي محنك ومثقف ومعتز بجنسيته المغربية، ويرفض أن يمد إليهم يده لتحيتهم كما يفعل رفاقه في الحزب. ولا تترك قراءة هذه التقارير التي كتبها العملاء الكورسيكيون، خصوصاً في مرحلة ما بين 1940 و1956، أدنى شك حول وجود كراهية قوية، بل أحياناً نزعة عنصرية، موجهة ناحية بن بركة، ونظراً لأنهم لم يكونوا قادرين على إيذائه بطريقة مطابقة للقانون، كانوا يعوضون عن ذلك بتضخيم الأحداث في تقاريرهم لتسمينها.
حزب الاستقلال
كان العديد من قادة حزب الاستقلال رجالاً أثرياء، جلهم من مدينة فاس ويقيمون جميعاً تقريباً في الأحياء الراقية بكل من فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش وآسفي وأجادير. وقد اعتادوا على إقامة “ولائم” وحفلات ليلية فيما بينهم بالمناوبة، حيث يستمعون إلى طرب الملحون الذي تؤديه مغنية جميلة. لكن هذه الحفلات كانت بمثابة اجتماعات سرية لنخبة الحزب، وكان المهدي بن بركة يشارك في هذه الحفلات عادة حيث كان يتناول الكلمة لمدة ساعتين أو ثلاث ليقول ما يفكر فيه علناً حول الحماية الفرنسية في المغرب والسياسة الفرنسية العامة المطبقة في المستعمرات الفرنسية الأخرى وتفقير الشعب وانتشار الأمية والتخطيط للمقاومة المسلحة لإرغام فرنسا على الانسحاب.
بين هؤلاء الأثرياء من حزب الاستقلال كان هناك مخبرون يعملون لفائدة الاستخبارات العامة ومكتب مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس الفرنسيين، ومن خلالهم كان كل ما يحصل في تلك الاجتماعات “السرية” يصبح معروفاً ومقيداً في التقارير التي يعدها هؤلاء، لذا كان كل ما يقوله بن بركة موثقاً، خاصة في الفترة ما بين 1943 و1955، وكانت هذه التقارير الضخمة مصنفة كالتالي:
ملف المهدي بن بركة “رقم 1″، خاص بالاستخبارات العامة في الفترة ما بين 1940 و1956 .
ملف المهدي بن بركة “رقم 2″، خاص بمصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس فرع المغرب، في الفترة ما بين 1948 و1956 .
إن القراءة المتأنية لهذه التقارير وتحليل ملف بن بركة الذي قام به العقيد “مارتان” وأنا شخصياً في المكاتب التابعة لإدارة “مكافحة الشغب” خلال سنوات الستينيات سمحت لنا بملاحظة أن الشرطة الفرنسية السرية لتلك الفترة كان لديها ميل إلى تضخيم الوقائع وتهويلها وتحريفها، والحقيقة الدامغة هي أن الوقائع المسجلة عن بن بركة في تقارير الاستخبارات العامة تختلف كثيراً عن تلك المسجلة في تقارير مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس، الأقرب إلى الصحة.
في عام 1955 قررت الحكومة الاشتراكية الفرنسية التي كان يقودها “إدغار فور” الشروع في مفاوضات مع المغرب من أجل الاستقلال، عبر وفد مغربي مكون من شخصيات من مختلف التيارات السياسية، وقد أشرفت مصلحة التوثيق الخارجي فرع المغرب، بالتعاون مع الاستخبارات العامة على وضع قائمة بأسماء أعضاء الوفد بعناية فائقة، لاستبعاد الأشخاص غير المرغوب فيهم أو المشكوك في ولائهم، وشكل بن بركة أحد أعضاء هذا الوفد الذي ذهب إلى “إيكس ليبان” في فرنسا للتفاوض حول الاستقلال عام 1955، كما كان هناك أشخاص آخرون سينشئون مع بن بركة عام 1959 حزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. بدأت المفاوضات في 20 أغسطس 1955، أي سنتين بعد نفي السلطان محمد بن يوسف والعائلة الملكية إلى جزيرة مدغشقر، واستمرت ثلاثة أشهر تقريباً وقادت إلى اتفاق مجحف حول الاستقلال، فالنتائج كانت كارثية على الشعب المغربي، فلا بن بركة ولا السياسيون الذين كانوا يشاطرونه مواقفه وكانوا أقلية في الالجوكر.. ووضع العصا في العجلة!
لقد كانت نتائج المفاوضات بعد ثلاثة أشهر معروفة سلفاً في خطوطها الكبرى لدى رجال فرع مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس بالرباط ولدى الحكومة الفرنسية والإقامة العامة بالمغرب. فقد بات مؤكداً أن المغرب سيحصل على استقلاله في علاقته بفرنسا وليس على استقلال تام، كما كان يجري ترويج ذلك في وسائل الإعلام. وشعر بن بركة ورفاقه بأنهم كانوا ضحية فخ نصب لهم، عبر الزج بهم في وفد المفاوضات المعروفة نتائجها سلفاً، ووجدوا أنفسهم غير قادرين على الانسحاب من الوفد والتراجع أو حتى الإدلاء بتصريحات للصحافة أو تنظيم اجتماعات لإدانة مهزلة المفاوضات، فبوصفهم أعضاء في الوفد الرسمي المفاوض كان عليهم الالتزام بالصمت إلى نهاية المفاوضات التاريخية، لقد صارعوا بقوة في محاولة لتغيير مسار الأمور، ولكنهم كانوا أقلية داخل فخ رهيب يقودهم يوماً عن يوم نحو هاوية سحيقة تدعى استقلال المغرب.
أما بالنسبة للوفد الفرنسي الذي كان يرأسه “أنطوان بيناي” وزير المالية في حكومة “إدغار فور” فإن المفاوضات المغربية الفرنسية في إيكس ليبان قد حققت جميع أهدافها، فرجال الأعمال الفرنسيون أصبحوا مطمئنين على أن مصالحهم المالية والاقتصادية سيجري الدفاع عنها، والمصالح الكبرى الفرنسية كانت تدرك أنها لن تخسر بعد الاستقلال، فالبنوك والمالية والصناعة والفلاحة والمناجم والعقار في المغرب ستبقى حكراً على الفرنسيين.
إن المهدي بن بركة ورفاقه وافقوا على أن يكونوا في الوفد الذي فاوض حول شروط استقلال المغرب عام 1955 قد اقترفوا خطأ سياسياً جسيماً بقي محفوراً في تاريخ المغرب الحديث المستقل، أو بالأحرى التابع لفرنسا حتى يومنا هذا. وقد قام بن بركة بعد شهور من توقيع اتفاق إيكس ليبان بنقد ذاتي واعترف علناً في مرارة بهذا الخطأ السياسي. في الوقت نفسه، احتفل حزبا الاستقلال والشورى والاستقلال في جلبة بالنتائج التي تم التوصل إليها في ذلك الاتفاق بوصفها انتصاراً لهم، فيما رأى فيها بن بركة ورفاقه الذين استدرجهم معه إلى هذا الفخ من غير قصد ثمرة توافق غير متكافئ أكثر مما هي انتصار على فرنسا. كان ذلك الاتفاق في الشكل يعني الاستقلال في إطار تبعية كاملة متبادلة، لكن في العمق حافظت من خلاله الاستعمارية الفرنسية التي قدمت تنازلاً على الجبهة السياسية على جميع مصالحها الاقتصادية.
لم يكن بن بركة ورفاقه يعلمون عام 1955 أنهم قد سقطوا في فخ “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس”، لأن رجال الاستخبارات الفرنسية هم الذين قرروا إشراكهم في الوفد المفاوض. وقد شكلت تلك المفاوضات موضوعاً لعدة تقارير مفصلة أنجزها رجال مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس، وكانت هناك نسخة من كل تقرير على حدة ضمن ملف بن بركة رقم 2 الذي يشمل الفترة ما بين 1948 و1956 موجودة في أرشيفات المصلحة المذكورة فرع المغرب رهن إشارة إدريس حصار، رئيس ديوان الكولونيل محمد الغزاوي في “الإدارة العامة للأمن الوطني” بين 1956 و1960، وقد تم نقل هذه الأرشيفات التي استرجعها العقيد “مارتان” عام 1961 إلى الأرشيفات الخاصة بمصلحة “الكاب1″، ثم فيما بعد إلى الأرشيفات الخاصة ب “إدارة الدفاع عن التراب الوطني” (المخابرات المغربية) لدى إنشائها عام 1973، وقد سنحت لنا الفرصة (العقيد “مارتان” الخبير في جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية وأنا) لقراءة تلك الوثائق مرات عدة.
كان بن بركة يهتم بكل شيء في حزب الاستقلال، فهو كان موجوداً في الكتابة العامة وفي المالية والتوثيق والاجتماعات، كان رئيس الجوقة في الحزب الذي يعمل من 15 إلى 20 ساعة يومياً بدون توقف أو كلل، لذلك أطلق عليه أصدقاؤه في الحزب لقب “الدينامو” أو “الجوكر”، بالنظر إلى الدور المهم الذي كان ينهض به منذ فترة طويلة، وأيضاً بالنظر إلى تعدد مواهبه. وفي حزب الاستقلال كان هناك تياران متنازعان: تيار الشباب من جيل بن بركة ذو ميول ماركسية لينينية، وتيار المحافظين المحيطين حول علال الفاسي، وكان هذا التيار الأخير يرى في الأول مجموعة من الشباب “عديمي التجربة السياسية ومن ذوي الأفكار الشيوعية الخطيرة التي يمكن أن تهدد استقرار البلاد وأن تقودها نحو مستقبل مجهول”، لكن الهوة بين التيارين ظهرت في الفترة ما بين 1948 1950 ووصلت أوجها عام 1955 عندما برز الخلاف بشأن اتفاقية إيكس ليبان، وتعيين محمد الغزاوي على رأس الأمن في بداية الاستقلال والتجاوزات التي قام بها، واتسعت هذه الهوة إلى أن أدت إلى القطيعة النهائية بإنشاء “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” الذي أعلن عنه رسمياً يوم 8 سبتمبر 1959 من طرف بن بركة وأصدقائه.
الفصل بين السلطات
بدأ بن بركة خلال عامي 1955 1956 يقول بدون توقف وبشكل علني بأن المغرب يحتاج إلى ملكية دستورية حيث يسود الملك ولا يحكم أو يتدخل في الشؤون السياسية للبلاد، وكان يطالب بأن يتم انتخاب الحكومة في مغرب الاستقلال بالاقتراع العام لكي يمكنها أن تحكم البلاد بكل حرية بعد الحصول على الضوء الأخضر من البرلمان المنتخب من طرف الشعب في الاقتراع المباشر، وأن على الحكومة أن تقدم الحساب للبرلمان وليس للملك، وأن السلطة بيد الحكومة التي ستكون هي المسؤولة عن السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، وأن السلطة التشريعية يجب أن تكون من اختصاص البرلمان المنتخب بشكل ديمقراطي في إطار الشفافية والنزاهة من دون تزوير الانتخابات، وأن السلطة القضائية يجب أن تكون بيد القضاة وأن تكون المحاكم مستقلة، ودعا إلى الفصل بين السلطات وإلى ابتعاد الملك عن هذه السلطات الثلاث، وإلى تنظيم انتخابات تشريعية ومحلية ديمقراطية فور الحصول على الاستقلال، وهذه المطالب لم تفقد أهميتها بعد مرور نصف قرن من الزمن.وفد المفاوض استطاعوا تحقيق إنجاز كبير في هذا الاتفاق التاريخي مع فرنسا
لقد كان بركة صريحاً ومباشراً في جميع تصريحاته وتحليلاته السياسية، فقد كان يريد نظاماً فريداً من نوعه: اشتراكية تقودها المؤسسة الملكية التي لا يزال المغرب بحاجة إليها من أجل ضمان استقراره ومستقبله، وخصوصاً كضمانة في العلاقة مع البنوك الغربية ورجال الأعمال الفرنسيين الذين يسيطرون على مقاليد البلاد. لكن الملك محمد الخامس وولي العهد الحسن كانا يرفضان عام 1956 سماع أي اقتراح بملكية على النمط الغربي كما يطالب بن بركة، فالمغرب بالنسبة لهما كان بحاجة إلى ملكية على الطراز المغربي، مع كل ما يعنيه ذلك من تركيز جميع السلطات في يد الملك الذي يسود ويحكم، وكان الملك، الذي كانت شعبيته قوية بعد نيل الاستقلال، في حاجة إلى دعم حزب الاستقلال من أجل التحكم في الأوضاع الداخلية وفرض سلطته بهدوء واستتباب الأمن والنظام في بلاد لم يكن فيها بعد قوات عسكرية ولا قوات أمن ولا شرطة ولا قوات مساعدة.
في مغرب هذه المرحلة كان هناك آلاف الأشخاص المسلحين في مختلف مناطق البلاد. من جهة كانت هناك شبكات عدة للمقاومة المسلحة التي قاتلت بين 1953 و1955 في المدن من أجل الاستقلال، وقد تم إحصاء أعضاء “جيش التحرير المغربي” وحدد عددهم في 5400 فرد في مايو 1956. كان على رأس كل شبكة على حدة قائد يتبعه عدد من المقاتلين، وكانت الفوضى منتشرة داخل هذه الشبكات وفي “جيش التحرير الشعبي” بسبب عدم وجود قيادة موحدة، وتحول بعض هؤلاء المقاتلين الذين كانوا يقومون بدور التجسس في الماضي إلى تجارة الرقيق والمخدرات والتهريب والأعمال القذرة، وكانت أغلبية أعضاء جيش التحرير من المناطق القروية حيث الحياة صعبة في الكثير من الأحيان، لأن هدف زعماء هذه الشبكات كان الابتعاد عن المدن، حيث ينتشر جواسيس الاستخبارات العامة الفرنسية ورجال “مكتب التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس”.
دخل الملك محمد الخامس وحزبا الاستقلال والشورى والاستقلال طيلة أشهر في مفاوضات مع زعماء هذه الشبكات وقيادة جيش التحرير الشعبي، من أجل جمع أسلحة مقاتليهم والانضمام إلى الجيش المغربي الذي كان يجري الإعداد لتشكيله أو إلى الأمن الوطني. وفي مايو 1956 ظهرت “القوات المسلحة الملكية” التي أشرف عليها الملك وكان يترأسها ضباط فرنسيون وإسبان، وتضم آلاف القوات من شبكات المقاومة السابقة التي حلت نفسها، وعهدت إلى ولي العهد مولاي الحسن مسؤولية القيادة العليا لهذه القوات المسلحة، وكان إلى جانبه مساعدون غير مدربين جيداً عملوا سابقاً في صفوف الجيش الفرنسي مثل مذبوح وحبيبي والشلواتي وأبي الحمص والصفريوي وأوفقير، أو في صفوف جيش الجنرال فرانكو الإسباني مثل أمزيان والكتاني، وبعض زعماء جيش التحرير الشعبي أمثال بن حمو الذي تمت ترقيته إلى رتبة عقيد في تلك الفترة.
الطبقة السياسية: في الشهر نفسه، مايو 1956، أنشئت الإدارة العامة للأمن الوطني من قبل الملك ووضع على رأسها محمد الغزاوي الذي عين بظهير ملكي، وعين هذا الأخير مجموعة من المفتشين والضباط كان من بينهم الحداوي وحدو الشواد وإدريس حصار، وكذلك الحسين الصغير أحد قادة جيش التحرير الشعبي في منطقة الدار البيضاء مرس السلطان، الذي عين رئيساً للدائرة الأمنية السابعة في “درب البلدية” بالدار البيضاء، مقر الشرطة السياسية التي أنشئت هي الأخرى في نفس تلك الفترة لشن حرب سرية ضد أولئك الذين رفضوا إلقاء السلاح والسير وراء الملك وحزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، وكان يشتغل مع الحسين الصغير عدد من المقاتلين السابقين في جيش التحريرالشعبي، من بينهم شخص كان يعمل مرصصاً ورقي مباشرة إلى مفتش شرطة عام 1956 ثم مساعداً للشرطة السياسية إلى جانب محمد الغزاوي بين 1956 و1960، ولعب أدواراً رئيسة في عمليات التصفية الجسدية ضد المعارضين والجرائم السياسية في تلك المرحلة.
محمد العزاوي..
لقد التمس حزب الاستقلال، الذي كان يهيمن على الحياة السياسية في بداية الاستقلال، من الملك محمد الخامس تعيين محمد الغزاوي على رأس إدارة الأمن الوطني، لأن هذا المنصب كان أكثر أهمية في تلك الفترة من جميع المناصب الوزارية، بل أكثر أهمية من رئاسة الوزراء. كان الغزاوي من أعيان حزب الاستقلال المقربين من علال الفاسي، وكان شديد الكراهية للمهدي بن بركة “الدينامو” و”الجوكر” بالنسبة للحزب وللطبقة السياسية المغربية، كما أن الغزاوي كان يتمتع بقوة يستمدها من ثرواته الطائلة وتفرع مشروعاته الاقتصادية، فقد كان يعد الثري الأول في البلاد لأن ثروته كانت تفوق ثروة العائلة الملكية.
بوصوله في مايو 1956 إلى إدارة الأمن الوطني، حدد الغزاوي هدفه في تصفية قدماء المحاربين في المقاومة الذين رفضوا التخلي عن السلاح والتعاون مع القصر وحزب الاستقلال، من دون رحمة، وكذلك في تصفية قادة وأعضاء حزب الشورى والاستقلال الذي تم القضاء عليه نهائياً بعد ذلك، ثم استعادة الأمن في البلاد بعد عامين أو ثلاثة من المقاومة المسلحة بين 1953 و1955، لكن دون نسيان القضاء على المستقبل السياسي لبن بركة، وكان الغزاوي يتوافر على الضوء الأخضر من لدن الملك لتنفيذ مخططه الدموي، من أجل تقوية مكانته على رأس جميع أسلاك الأمن والشرطة في البلاد. وقد اتبع طريقة محددة في تحقيق هذه الأهداف، حيث اعتمد على قدماء المقاومين الموجودين في الدائرة السابعة بالدار البيضاء، بدءاً من الحسين الصغير نفسه، لاغتيال المئات من الأشخاص، كما اعتمد على مليشيات حزبه، الاستقلال، وبعض عناصر الدائرة السابعة للقضاء على رجال حزب الشورى والاستقلال، أما مع المهدي بن بركة فقد اتبع مخططاً مختلفاً، إذ زج به في ملف اغتيال عباس المساعدي الذي كان يعد في بداية 1956 كرجل مسلح يمثل خطراً سواء بالنسبة للقصر أو لحزب الاستقلال. لقد تم التخطيط لاغتيال المساعدي في جبال الريف بين 1954 و1955 من طرف عناصر الدائرة السابعة الذين أشرفوا هم أنفسهم على تنفيذ العملية بمشاركة اثنين من السياسيين كانا يقدمان على أنهما زعيمان في جيش التحرير الشعبي، وهذان الشخصان لا يزالان على قيد الحياة حتى اليوم رغم أنهما قد بلغا من الكبر عتياً، لكن بن بركة الذي كان قد دخل في مفاوضات مع المساعدي من أجل الانضمام إلى حزب الاستقلال لم تكن له يد في عملية الاغتيال التي دبرها الغزاوي وقادها الحسين الصغير وحاولا إلصاق التهمة به لتدمير مساره السياسي منذ بداية العام 1956.
تحالف سياسي
كان بن بركة طيلة السنوات الأولى للحصول على الاستقلال الرجل السياسي الأول في البلاد، ففي حزب الاستقلال الذي سيطر على الحياة السياسية بكاملها تقريباً كان هو الزعيم الأكثر شهرة وظهوراً وكفاءة. وقد حاول تقوية الحزب من خلال التحالف مع نقابة “المكتب المغربي للشغل” الذي كان يتبعه نحو 500 ألف من العمال في الفترة ما بين 1956 1958، إذ كان يرى أن هذا التحالف السياسي النقابي الكفيل بجذب الآلاف من الأتباع الجدد للحزب هو القادر وحده على دفع القصر الملكي إلى المزاوجة بين الاشتراكية والملكية الدستورية على غرار ما هو حاصل في أوروبا. كان هذا هو الهدف الرئيس لبن بركة ومبرر بقائه طيلة أعوام، ومن أجل تحقيقه كان يسافر كثيراً داخل المغرب لوضع أصدقائه ورجاله الأوفياء وأتباعه في مواقع المسؤولية والمناصب العامة والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، لكن كل ذلك كان يتم وفقاً للقانون الجاري به العمل. وفي المقر المركزي للحزب بالرباط سيطر بن بركة على كل ما يتعلق بالمهام الإدارية والمالية، وكان يشرف على جدولة الاجتماعات واللقاءات الدورية للحزب في الرباط وخارجها، ويتابع بنفسه جدول أعمال اللقاءات ويقوم بكتابة المحاضر والتقارير، وكانت هذه التقارير توجه عادة إلى مسؤولي حزب الاستقلال في الرباط، وتحديداً محمد الغزاوي، ولكن هذا الأخير الذي كان يخلط بين مصالحه الشخصية وأموره المهنية المتعلقة بالأمن، وبين مسؤولياته في الحزب، كان يوجه تلك التقارير إلى مكتب إدريس حصار، وقد أصبحت هذه التقارير في بداية الستينيات تصل إلى يد الجنرال “مارتان” ومصالح “الكاب1”.
لقد مكننا الاطلاع على تلك التقارير الخاصة بحزب الاستقلال (الجنرال “مارتان” الموظف في جهاز المخابرات الأمريكية وأنا) خلال سنوات الستينيات، من فهم كل ما كان يحصل تقريباً داخل حزب الاستقلال قبل انشقاقه عام 1959 وإنشاء “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” في نفس السنة. وحسب هذه التقارير فإن العلاقات كانت متوترة جداً بين المهدي بن بركة والغزاوي بسبب تداعيات قضية عباس المساعدي، والتي صارت نقطة سوداء في الحياة السياسية لبن بركة حتى أيامنا هذه.
يتبع
الحلقة (3)
في سبتمبر 1959 أنشأ بن بركة ورفاقه حزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، بين هؤلاء كان عبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري والمعطي بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي، والنقابيون المحجوب بن الصديق ومحمد عبد الرزاق، وعبد الله إبراهيم الذي كان رئيس الحكومة في تلك الفترة نفسها، وعدد آخر. وقد أدى هذا الانشقاق الذي هندسه بن بركة إلى إضعاف حزب الاستقلال وخلف خسائر كبيرة في صفوفه، حيث إن الأعضاء البارزين فيه غادروه للالتحاق بالحزب الجديد، أما الأعيان المحيطون بعلال الفاسي فقد تكبدوا أكثر من غيرهم خسارة فادحة.
أصبح الحزب الجديد يثير مخاوف الجميع منذ إنشائه، لأنه حصل على التأييد الشعبي بشكل سريع وتصدر المشهد السياسي خلال أسابيع فقط، الأمر الذي أقلق المخزن (النظام المغربي) الذي بدأ يفكر في سبل إيقاف زحف الحزب، فصدرت التعليمات الشفوية إلى الغزاوي وإدارة الأمن الوطني لوضع خطة لإفشال حكومة عبد الله إبراهيم، عضو الكتابة العامة للحزب الجديد، وزرع البلبلة وسط هذا الأخير، فقررت المخابرات والأمن “فبركة” أول مؤامرة في تاريخ المغرب بعد الاستقلال، وبدأت ملاحقة مسؤولين من حزب القوات الشعبية وبعض قدماء المحاربين في حي “درب غلف” بالدار البيضاء بدعوى تخطيطهم لاغتيال ولي العهد الأمير مولاي الحسن في ديسمبر1959، فتم اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي اللذين كانا يشرفان على صحيفة “التحرير” لسان الحزب بدون محاكمة في قضية تتعلق بجرائم الصحافة، وفر المهدي بن بركة خارج المغرب في سرية تامة في يناير 1960، وحكم على “بنحمو لوفاخري”، القيادي السابق في المقاومة المسلحة، وعدد من أصدقائه بالإعدام بعد محاكمة صورية، ثم نفذ الحكم بعد أشهر قليلة. وفي مايو 1960 تم “تسريح” حكومة عبد الله إبراهيم، وقرر الملك محمد الخامس أن يمارس بنفسه صلاحيات رئيس الحكومة، مفوضاً إلى ابنه مولاي الحسن السلطات الأخرى.
نشر الفزع..
لقد أدت عشرات عمليات الاعتقال والتفتيش التي حصلت في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى النتائج المرجوة، وهي نشر الفزع وسط أعضاء الحزب، ومع إعدام “حمو لوفاخري” وأصدقائه دخل المغرب مرحلة الحكم من خلال “المؤامرات” التي كانت كثيرة جداً خلال الفترة ما بين 1960 1970 وبعد أشهر قضياها وراء القضبان أطلق سراح البصري واليوسفي دون أن يصدر حكم في حقهما، لكن بن بركة قرر البقاء في المنفى الاختياري إلى شهر مايو 1962، ولم تكن قد صدرت في حقه أي مذكرة توقيف أو حكم قضائي في المحاكم المغربية في إطار ملف “المؤامرة الأولى” بالمغرب.
في يوليو 1960 تم تعيين العقيد محمد أوفقير مديراً عاماً للأمن الوطني خلفاً لمحمد الغزاوي الذي أقيل من منصبه ونقل إلى المكتب الشريف للفوسفاط. كان أوفقير قد خدم في الجيش الفرنسي وعمل في “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” الفرنسية، وبعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه عام 1955 تم تسريبه ليكون واحداً من محيط القصر، وقد اشتغل طويلاً لفائدة الموساد “الإسرائيلي”. كان تعيين أوفقير في ذلك المنصب راجعاً إلى التأثير القوي الذي كانت تمارسه ثلاث مصالح أجنبية في المغرب: الموساد، وجهاز الاستخبارات الأمريكية، ومصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس الفرنسية، وكانت كلها قريبة من الملك لدواعي تتعلق بأمن القصر وأمن البلاد، وقد لعبت النصائح “الإسرائيلية” دوراً في إقناع الملك محمد الخامس ليطلب من جهاز الاستخبارات الأمريكية إرسال ثلاثة خبراء أمريكيين لكي يعيدوا تنظيم وهيكلة المخابرات المغربية والإشراف عليها لمدة غير محددة لضمان أمن النظام والبلاد.
عميل.. من دولة إلى دولة
قبل تعيينه على رأس الأمن الوطني لم يكن أوفقير قد عمل سابقاً في أي إدارة للاستعلامات والتوثيق، ولا في مصلحة للأمن، وكانت رتبته في “مصلحة التوثيق الخارجي” الفرنسية هي عميل مصدر للمعلومات في مكاتب المقيم العام بالمغرب تم تعيينه في تلك الرتبة في الفترة ما بين 1948 1949 بتدخل من “لحسن الدليمي” الذي كان الضابط المغربي الوحيد في فرع “مصلحة التوثيق” بالرباط، وهو والد أحمد الدليمي الذي أصبح أحد محميي أوفقير في “الكاب1” بين 1961 و1966، ثم عدوه الأول بين 1967 و1972 أما في الموساد فقد كان أوفقير عميلاً مصدراً للمعلومات أيضاً في سنوات الأربعينيات بتدخل من اثنين من عملاء الموساد بالمغرب، هما السيدة داحان، صاحبة خمارة “لاماماس” بالقنيطرة، وزوريتا صاحبة خمارة “ويشيتا” في “عين الذياب” بالدار البيضاء. ويجب هنا أن أوضح أن العميل مصدر المعلومات ليس هو العميل السري الضابط أو العميل المعالج الذي يتناول المعلومات من المصدرين الأولين في لقاء سري ويحلل طبيعتها ويكتب التقارير الموجهة إلى من هم فوقه، وهو يقوم بدور الوسيط بين العملاء السابقين وبين المسؤولين الذين يتبع لهم. ولقد تعرف الحسن الدليمي على أوفقير عن طريق المقدم “الشنا محمد عبد القادر” والد فاطمة أوفقير (زوجة أوفقير فيما بعد)، وكانت بين الشنا والدليمي علاقة عمل في إحدى المناطق القروية بجهة الغرب.
رسالة عزاء
في 26 فبراير 1962 توفي الملك محمد الخامس فجأة إثر عملية جراحية بسيطة، رغم أنه كان ما يزال شاباً ويبدو في صحة جيدة. ومن مكان إقامته في باريس بعث المهدي بن بركة برقية تعزية ووفاء إلى الملك الحسن الثاني قال فيها: “إن مهمتنا هي أن نواصل المشروع الذي بدأه ملكنا الراحل من أجل بناء مغرب حر وديمقراطي ومزدهر، طبقاً لطموحات جلالته ولآمال الشعب”، ولكنه انتظر عاماً كاملاً قبل أن يختار الرجوع إلى البلاد. وفي 16 مايو 1962، في يوم عيد الأضحى، عاد بن بركة من منفاه الاختياري الذي قضى فيه زهاء ثلاثين شهراً. كانت هذه العودة غير المتوقعة مناسبة احتفالية كبرى تناسب الشعبية العريضة التي كان يحظى بها، والتي لم يكن لا القصر ولا “الكاب1” ولا الطبقة السياسية تضعها في الحسبان، لقد تم تشبيه عودة بن بركة في مايو 1962 بعودة الملك محمد الخامس من منفاه في 16 نوفمبر 1955، وفي الطريق إلى مطار الرباط سلا اصطف الآلاف من المواطنين المغاربة ينتظرون بن بركة وهم ينشدون “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، ولم تتوقف زيارات الوفود لمنزله في شارع تمارة بحي “ديور الجامع” بالرباط طيلة الأيام اللاحقة، لقد كانت أياماً متواصلة من العناق والنقاشات الطويلة واللقاء مع عائلته وأصدقائه وأعضاء الحزب بعد طول غياب، حيث إن أعضاء الحزب ومناضليه جاؤوا من جميع أنحاء المغرب.
التلميذ والعدو
كان بن بركة قد غادر المغرب في سرية تامة في يناير 1960، أربعة أشهر فقط بعد إنشاء حزبه في ظل حكم الملك محمد الخامس وفي فترة سيطرة محمد الغزاوي على إدارة الأمن الوطني، وعاد يوم 16 مايو 1962 تحت وابل من الترحيب الشعبي وفي ظل حكم الملك الحسن الثاني، تلميذه السابق في الأربعينيات، وعدوه الرئيس بعد الحصول على الاستقلال وإنشاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهذا معناه أن المرحلة الفاصلة بين تاريخ الخروج وتاريخ العودة كانت حافلة بالتطورات على جميع الأصعدة وفي جميع الميادين والقطاعات، أصبح موظفو الجيش الفرنسي المغاربة من الطبقة الثانية عديمة التكوين والخبرة، هم الذين يتولون المسؤولية في المراكز العليا للدولة، ويوجدون في المحيط الخاص للملك وفي القصر والحكومة والمكاتب العمومية والأقاليم والشركات والتجارة.
وفي إدارة الأمن الوطني ترك الغزاوي مكانه لأوفقير، وفي مصلحة “الكاب1” أصبح هناك ثلاثة خبراء أمريكيين يشرفون على تدريب 300 شرطي مغربي متخصصين في الحرب السرية ضد معارضي النظام وفي تصفية قادة الأحزاب السياسية والنقابات وعمليات الاختطاف والتعذيب وإخفاء الجثت والعمليات التقنية الخاصة.
لدى عودة بن بركة إلى المغرب كانت شبكات الاستخبارات التابعة ل “الكاب1” تتكون من 1800 عميل يتكلفون بتغطية شؤون التنظيمات والأحزاب والهيئات كالتالي:
الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: 150 عميلاً في المغرب، 20 في أوروبا، 30 في الجزائر و10 في منطقة الشرق الأوسط.
الاتحاد الوطني لطلبة المغرب: 350 عميلاً للمغرب وأوروبا.
الاتحاد المغربي للشغل: 30 عميلاً على جميع المستويات.
حزب الاستقلال: 250 عميلاً.
الاتحاد العام لطلبة المغرب: 30 عميلاً للمغرب والخارج.
الاتحاد العام للشغالين بالمغرب (تابع لحزب الاستقلال): 250 عميلاً.
حزب الشورى والاستقلال: 30 عميلاً.
الحركة الشعبية: 200 عميل.
الفديك (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية): 100 عميل بداية من عام 1963.
الحركة الشعبية الديمقراطية الدستورية: 300 عميل.
قدماء المقاومين: 300 عميل.
وبعملية مقارنة، فإن الشرطة السياسية التابعة للغزاوي كانت تتكون فقط من حوالي عشرين عميلاً عندما غادر بن بركة المغرب عام 1960في الفترة بين مارس وأبريل 1962، قبل فترة قصيرة من عودة بن بركة، اتخذت إدارة “مكافحة الشغب” التابعة ل “الكاب1” جميع الوسائل اللازمة لمراقبة كل ما يجري في المنطقة المحيطة بمنزل المعني، وفي مطار الرباط سلا والمنطقة المحيطة به، ولذلك تم فتح مكتب خاص بعناصر شرطة “العمليات الخاصة” يسمح لهم بالقيام بمهامهم في ظروف جيدة، لتصوير ما يجري وتسجيله، كما تم نصب أجهزة تنصت داخل بيت بن بركة، وتم ربط هاتف البيت بجهاز تنصت، ونفس الأمر حصل مع الخطوط الهاتفية لمكاتب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبيوت قياديي الحزب في الرباط والدار البيضاء وفاس ووجدة ومراكش وأجادير وآسفي، وباتخاذه لكل هذه التدابير أصبح “الكاب1” واثقاً من أنه قد وضع كل شيء تحت المراقبة المستمرة طيلة الليل والنهار: بن بركة وأسرته وأصدقاؤه وزواره وعلاقاته. لكن بن بركة كان يجهل كل هذه الأشياء، وبعد أن أخذ قسطاً من الراحة إثر عودته انكب على العمل مجدداً، بادئاً من قضية الاتحاد المغربي للشغل، ذلك لأن العلاقات بين هذا الأخير وبين حزبه كانت قد تدهورت قبل عدة أشهر.
وكان المؤتمر الثاني للحزب مبرمجاً في يونيو 1962، لذا كان عليه إيجاد حل يرضي الطرفين معاً قبل هذا التاريخ، صحبة ثلاثة من الشبان الذين أدوا أدواراً كبيرة في فترة غيابه: عمر بن جلون الذي سيتعرض للاغتيال بدوره في ديسمبر 1975، ومحمد اليازغي الذين سينجو من محاولة اغتيال بواسطة طرد بريدي ملغوم في يناير 1973، ومهدي العلوي الذي سيغادر المغرب إلى المنفى عام 1963 . غير أن بن بركة عندما قرر الانكباب على قضية الاتحاد المغربي للشغل كان يجهل أن بداخل المكتب المسير لهذا الأخير كما في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية متعاونين مع “الكاب1″، تم تجنيدهم من طرف العملاء السريين، لذا فإن بن بركة بالرغم من التأثير الذي كان يتمتع به والتنازلات التي قدمها قد فشل في الحيلولة دون حدوث القطيعة بين النقابة والحزب، فقد كان المخزن يريد هذه القطيعة، وأفلحت إدارة “مكافحة الشغب” في تحقيقها من خلال المجندين المتعاونين معها داخل الهيئات المسيرة للتنظيمين. كان “الكاب1” الذي عمل بنصائح جهاز الاستخبارات الأمريكية يقف خلف هذا الفشل الذي كان من سوء حظ بن بركة ورفاقه الثلاثة، وقد كلفت هذه العملية مبلغاً مالياً قدره 150 مليون سنتيم (حوالي 150 ألف دولار) وهو مبلغ ضخم في مغرب تلك الفترة.
تكلف بن بركة نفسه بالإعلان عن الطلاق بين نقابة الاتحاد المغربي للشغل وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في خطاب أكد فيه تفوق الحزب على جميع القوى السياسية الأخرى، لأنه المالك الوحيد للحقيقة الثورية بالنسبة له. وبعد هذه الخيبة التاريخية انشغل بن بركة بالتحضير للمؤتمر الثاني لحزبه والإعداد لأول دستور مقترح من لدن الملك الحسن الثاني، تنفيذاً لوعود عديدة قدمها والده بين 1956 و1957.
انعقد المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في يونيو 1962 كما كان مقرراً، في ظروف سيئة جداً، لأن العلاقات كانت متدهورة بين تيار بن بركة، ومعه عمر بن جلون ومحمد اليازغي ومهدي العلوي والفقيه البصري، وتيار عبد الرحيم بوعبيد ومعه محمد التبر والمعطي بوعبيد وعبد الهادي بوطالب والحاج بليوط بوشنتوف، وكانت هناك مجموعة من المحايدين من بينهم عبد الله إبراهيم وعبدالرحمن اليوسفي.
الصفعة: وبعد إجراء الانتخاب داخل المؤتمر بقي الأشخاص أنفسهم في مواقع المسؤولية نفسها التي كانوا فيها، وتجددت الثقة في بن بركة ككاتب عام للحزب، وأصبح عبد الرحيم بوعبيد نائباً له بحيث يمكن أن يحل محله إذا اقتضى الحال. لقد حاول زعيم الحزب بطبيعته البراجماتية الملازمة له، أن يراوغ مرة أخرى لأنه كان متشبثاً بنظريته حول تحالف الملكية الدستورية والاشتراكية، لأن بعض المسؤولين المجايلين له في الحزب كانوا متحالفين مع العرش (القصر) ويرفضون مواقف الطرف الآخر.
كان الدستور الذي اقترحه الملك الحسن الثاني على شعبه حصيلة سبع سنوات من التحضير، من (1956 إلى 1962م)، وشارك في إعداد هذه الوثيقة التي كانت تطالب بها جميع القوى السياسية مستشارو الملك وبعض الفقهاء القانونيين المعروفين دولياً مثل البروفيسور “لويس دوفرجيه”. وفي 14 نوفمبر 1962 عند إجراء الاستفتاء عليه كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الوحيد الذي دعا الشعب إلى المقاطعة، لكن نتائج الاستفتاء التي أعلن عنها في 7 ديسمبر من تلك السنة كانت مع الدستور بنسبة 97%، أي أنها كانت صفعة للاتحاد الوطني المقاطع. خلف هذا الانتصار للحسن الثاني على بن بركة وحزبه كان هناك “الكاب1” وعناصر جهاز الاستخبارات الأمريكية بالمغرب. في المقابل، أدى التأييد بالأغلبية الكاسحة للدستور الأول إلى بداية عهد الانتخابات المزورة في البلاد، ولكن بن بركة ورفاقه كانوا قد استخلصوا الدرس من الاستفتاء.
محاولة الاغتيال الثانية
في 18 نوفمبر 1962، وقد كان يوم عطلة لموافقته للذكرى السابعة لعيد الاستقلال، وبعد ستة أشهر على عودته، تم تدبير محاولة اغتيال لبن بركة كانت هي الثانية من نوعها بعد حادث 1957 في الرباط التي وقعت له أمام بيته في شارع تمارة. جرت هذه المحاولة الثانية على الطريق الرئيس بين الرباط والدار البيضاء وتم تمويهها بعناية على أنها حادث سير فر فيه الجاني، ولم يعلم أوفقير ولا محمد العشعاشي بنبأ هذا الحادث المدبر بطريقة سيئة ومتسرعة من طرف أحمد الدليمي وحده وتنفيذ ثلاثة عناصر من “الكاب1”: الكرواني، ريحان وأوزين، مستخدمين سيارة أحد أقرباء الدليمي. كان بن بركة وصديقه مهدي العلوي على متن سيارة من نوع “فولكس فاجن” صحبة السائق، فتقدم منهم عناصر من “الكاب1” يقودون سيارة من نوع “بيجو403” ثم حاولوا تجاوزهم فاحتكوا بالسيارة فوق جسر معدني معلق على الوادي قريباً من مدخل بوزنيقة (أربع كيلومترات من الرباط)، ولحسن الحظ لم تسقط السيارة في الوادي، لكن بن بركة أصيب بجروح بليغة، وتم تقييد الحادثة على أنها حادث سير عرضي من دون إجراء تحقيق أو معاينة لا من طرف الأمن الحضري ولا من طرف الدرك الملكي. وانتشل بن بركة من السيارة مصاباً بكسور، وفي المستشفى أجريت التحاليل التي أبانت عن وجود كسر في العمود الفقري أعلى العنق. وفي 24 نوفمبر غادر المغرب للعلاج في ألمانيا حيث كان يقيم شقيقه عبد القادر.
الجنرال محمد أوفقير كان عميلاً
في الأول من مايو 1963 قرر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية خوض أول انتخابات تشريعية، معلناً أن مقاطعته للاستفتاء على الدستور ليست رفضاً للمشاركة، فاختار بن بركة أن يقود الحملة الانتخابية بنفسه رغم اعتلال صحته، وخلال أسبوعين جال جميع مناطق البلاد، معبئاً للناس ومنظماً للتجمعات الشعبية، وكان يعلن سلفاً في جميع خطبه أن الحزب يدين أي عملية لتزوير نتائج الانتخابات. وبعد إجراء الانتخابات في 17 مايو من ذلك العام حصل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مبدئياً على 80 مقعداً في البرلمان المنتظر من أصل 144، وهي نتائج شكلت مفاجأة كبرى للجميع، فأعطى المخزن أمره بالتقليص من عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب إلى 30 مقعداً على الأقل، وانتهت عملية التزوير إلى تحديد هذا العدد في 28 مقعداً فقط، يوجد من بينهم بعض المتعاونين الأوفياء مع “الكاب1”. وقد تم انتخاب بن بركة في الحي الشعبي يعقوب المنصور (الرباط) بأغلبية كاسحة وصلت إلى90% من الأصوات، وصوتت جل المدن المغربية على مرشحين من الاتحاد الوطني، لكن الفائز الأكبر كان هو “الفديك” (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، أول حزب في المغرب تصنعه وزارة الداخلية وقاده أحمد رضا أكديرة، ولعب خبراء “الكاب1” الدور الرئيس في هذا الفوز.
المواجهة
بعد ظهور نتائج الانتخابات أدلى بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد بحوار صحافي مجلجل لأسبوعية “جون أفريك”، أدان فيه الرجلان عمليات التزوير التي شابت الاقتراع وسيطرة رجال الملك على البلاد، وقالا فيه: “إذا استمر الوضع على ما هو عليه فلن يكون هناك مخرج سوى المواجهة، فلا أحد الآن يعرف أين ستسير الأمور، وسنكون مضطرين أمام واقع الوصاية على الشعب إلى الرد ولن نستطيع أن نبقى حزباً علنياً”.
في الوقت الذي كان فيه بن بركة ورجاله منشغلين بالأزمة بين نقابة الاتحاد المغربي للشغل وبين الحزب، ويحضِّرون لعقد مؤتمرهم الثاني عام 1962، ويعبئون لمقاطعة الدستور الأول ويستعدون للانتخابات، كان “الكاب1” من جهته يهيئ بهدوء لمؤامرة ضد الحزب، وخاصة بن بركة وتياره. بدأ التحضير لهذه المؤامرة تحديداً في مايو 1962 إثر عودة بن بركة إلى المغرب، تماماً كما حصل مع “مؤامرة” 1959 1960(محاولة اغتيال ولي العهد). وخلال عام كامل كان عناصر “الكاب1” يعقدون الاجتماعات المتوالية ويجمعون كل المعطيات المتعلقة بالملف، أما السلاح فقد تم جلبه من القاعدة العسكرية الأمريكية بالقنيطرة (حوالي 40 كيلومتراً غرب الرباط) بوساطة عقيد أمريكي متقاعد كان يدير نادياً أمريكياً اسمه “لوفليت” بالمدينة، وقد تعاون مع “الكاب1” في هذه المؤامرة التي أعد لها جيداً وطويلاً بعض الرفاق الخونة لبن بركة في الحزب، وأطلق عليها اسم “مؤامرة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ل 16 يوليو 1963″، الأكثر شهرة في تاريخ المغرب المستقل. وبتاريخ 16 يوليو تم اعتقال عدد من مسؤولي الحزب الذين كانوا مجتمعين في الدار البيضاء، وكان من بينهم أعضاء الكتابة العامة جميعهم تقريباً وكل المقربين من بن بركة، وفي جميع مناطق المغرب الأخرى تم اعتقال نحو 5000 عضو من الحزب، وتم إيداع الغالبية من المختطفين في النقطة المركزية “دار المقري”.
الهروب سراً من المغرب
غير أن بن بركة نجح هذه المرة أيضاً في مغادرة المغرب كما حدث في يناير 1960 في سرية تامة وقبل بدء موجة الاختطافات، وبفراره في الوقت المناسب أفلح في النجاة من المحاكمة والإهانة والتعذيب والاعتقال في “دار المقري” أو السجن المركزي بالقنيطرة.
خلال العام 1963 نشب نزاع حدودي بين المغرب والجزائر التي كانت قد نالت استقلالها حديثاً. لم يكن الميزان متكافئاً بين الدولتين، فمن جانب كان هناك المغرب بجيشه الحديث الذي تأسس في مايو 1956 علاوة على طاقم قوي من رجال الأمن والدرك والقوات المساعدة، هذا زيادة على المساعدات الأمريكية المتميزة (القوات العسكرية الجوية في القواعد العسكرية بالقنيطرة، سيدي يحيى، سيدي سليمان وبوقنادل في جهة الرباط، وقاعدة النواصر في جهة الدار البيضاء، وقاعدة بن جرير في جهة مراكش)، ومن جانب ثان كانت هناك الجزائر التي استقلت في نوفمبر 1962 فقط، دولة بدون جيش ولا طائرات أو دبابات أو مساعدات خارجية، فقط جيش تحرير ضعيف بأحذية بالية وأسلحة خفيفة، غير أن تدخل منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية أوقف الحرب التي شنتها القوات المسلحة الملكية المغربية.
الحكم بالإعدام
كان زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية صديقاً كبيراً للرئيس الجزائري أحمد بن بلة، وكان يحب الجزائر حيث كان يعيش في منفاه الاختياري بعيداً عن المغرب منذ يونيو 1963، وقد قدم له خدمات كبيرة، وكان يتلقى تقريباً نفس الراتب الذي من نصيب الرئيس الجزائري، كما كان بحوزته جواز سفر ديبلوماسي ويغطي نفقات سفره على حساب الدولة الجزائرية، وعندما نشبت الحرب بين المغرب والجزائر اتخذ بن بركة موقفاً علنياً مناوئاً للمغرب ومؤيداً للجزائر، ووصف المغرب ب “المعتدي”، وقد كلفه هذا الموقف ثمناً غالياً، حيث أعطيت تعليمات من أعلى سلطة في البلاد لإدانته وإصدار حكم بالإعدام عليه غيابياً.
خلال العام 1964 قدم أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذين اعتقلوا في إطار مؤامرة 16 يوليو 1963 للمحاكمة بعد أشهر من التعذيب والاعتقال، وفي نهاية تلك المحاكمات الصورية صدرت أحكام مشددة على المدانين، الهدف من ورائها خلخلة الحزب والقضاء عليه. كان من بين الذين صدر بحقهم حكم بالإعدام المهدي بن بركة (غيابياً)، عمر بن جلون، سعيد بونعيلات، شيخ العرب، الفقيه البصري، مومن الديوري وآخرون. لقد كانت تلك المرة الثانية التي يصدر فيها حكم بالإعدام على بن بركة، ولكن الملك الحسن الثاني لم يوجه أي مذكرة توقيف دولية بحقه، لأنه كان يدرك بأن تسليمه يتطلب حججاً تثبت تورطه. وفي مكان إقامته خارج المغرب كلاجئ سياسي لم يعد بن بركة يخشى من الحسن الثاني، رغم حكمي الإعدام الغيابيين ضده، ولكن المعارض السياسي للنظام المغربي كان مجبراً على التخطيط لحياته في الخارج، خاصة في فرنسا وسويسرا والجزائر ومصر، ولفترة غير محددة لا يستطيع هو نفسه معرفة نهايتها.
يتبع
لحلقة (4)
لم يغفل بن بركة عن ذلك فهو يعرف جيداً العسكريين القدامى الذين خدموا في الجيش الفرنسي وطالما أهانهم خلال مرات عدة في أعوام 1956،1957،1958، 1959 أمام الملأ أو في اللقاءات الخاصة 1960م، وكان يرى أن هؤلاء العسكريين المنحدرين من البوادي من مناطق الريف والأطلس بالذات، وكانوا أميين وعديمي الثقافة ولم يتجاوزوا في تعليمهم الصف الخامس الابتدائي قد أصبحوا اليوم يشغلون مناصب عليا في الدولة في ظل حكم الملك الحسن الثاني، ويوجدون في كل المؤسسات والإدارات العامة ويديرون شؤون الأمن والدرك، ويقودون المجالس البلدية ويحتلون الوزارات، بل إنهم يوجدون في الديوان الخاص للملك.
وقد أصبح هؤلاء هم الأعداء الأشد خطراً عليه دون أن يخفوا ذلك؛ إذ كانوا يعلنون في كل مناسبة رغبتهم في القضاء على زعيم اليسار المغربي منذ رجوعه إلى المغرب، وكان من بين هؤلاء العسكريين الكولونيل محمد أوفقير الذي أصبح في ذلك الوقت مسؤولاً عن “الإدارة العامة للأمن الوطني” ورئيساً لمصلحة “الكاب1″ وأحمد الدليمي الذي كان يعمل مساعداً له.
مضايقات
كانت رغبة بن بركة لدى عودته إلى المغرب الاستقرار في بلده بشكل نهائي إلى جانب عائلته وأصدقائه، لكنه لم يستطع المكوث أكثر من 14 شهراً، بسبب مضايقات أوفقير والدليمي اللذين لم يتركا وسيلة من الوسائل لإجباره على مغادرة المغرب في أقرب الآجال بهدف إبعاده عن الحزب وعزله.
في يونيو 1963م استقبله رئيس الجمهورية الجزائرية آنذاك أحمد بن بلة بالأحضان، كانت الجزائر في تلك الفترة دولة ضعيفة خرجت لتوها من حرب طاحنة استمرت ثماني سنوات وخلفت نحو مليون شهيد وتوجت بالحصول على الاستقلال، لكن بن بلة كان معجباً ب”بن بركة” الذي كان يرى فيه رجلاً عبقرياً وزعيماً سياسياً من طراز استثنائي بإمكانه تقديم خدمات كبيرة للشعوب المغربية والشعوب العربية وإفريقيا وشعوب العالم الثالث عموماً، فمنحه اللجوء السياسي والجنسية الجزائرية ورفعه إلى مستوى رئيس دولة بكل التشريفات والامتيازات، بل خصص له نفس الراتب الذي يتلقاه هو نفسه كرئيس للجمهورية، ومنحه جواز سفر دبلوماسياً جزائرياً وتعويضات عن كل يوم تنقل، وتكفلت الدولة بتحمل الأعباء المالية لأسفاره في الخارج، كما خصصت له سكناً مريحاً وسيارة وسائقاً خاصاً وطباخاً وبستانياً. وبفضل بن بلة أصبح المهدي بن بركة زعيماً سياسياً تحت الحماية في انتظار الحاجة إليه، يعيش على حساب الدولة الجزائرية، فقد كان صديقاً مخلصاً للرئيس الجزائري الذي وفر له كل شيء في فترة كانت الجزائر دولة فقيرة، قبل الطفرة النفطية في السبعينيات.
لكن بن بركة اختار لدواع تتعلق بأمنه الرحيل إلى سويسرا للعيش كلاجئ سياسي، وفي جنيف أقام في شقة لائقة كان يستعملها كمكتب له في نفس الوقت، قريباً من مصلحة بريد حيث توفر له صندوق بريد خاصاً يستقبل فيه رسائله، تماماً كما كان الحال في الجزائر. وقد اقترح عليه رئيس الجمهورية المصرية جمال عبد الناصر الذي كان يعد زعيماً عربياً منذ حرب السويس عام 1956م، وكان شديد الاحترام والتقدير ل”بن بركة”، أن يأتي إلى مصر مع عائلته للاستقرار مؤقتاً، لمدة شهور أو أعوام، على نفقة الدولة المصرية في كل شيء. وقد جاء اقتراح عبد الناصر في الوقت المناسب، إذ كان صديقاً لكل من بن بلة وبن بركة معاً، فرحل إلى القاهرة مع أفراد عائلته بدعوة رسمية من الحكومة المصرية في بداية عام1964م.
خلال مرحلة المنفى كان بن بركة يسافر باستمرار بين جنيف والجزائر وباريس وألمانيا والقاهرة لرؤية أسرته التي سوف يطول بقاؤها في القاهرة سنوات عدة قبل أن ترحل إلى فرنسا فيما بعد، في رحلة اغتراب استمرت أكثر من أربعين عاماً، وكان بن بركة طيلة هذه الفترة يتلقى من أصدقائه في عالم السياسة الدعم المعنوي والمالي، من بين هؤلاء “تشي جيفارا” و”فيديل كاسترو” زعيمي الثورة الكوبية، ومحمد المصمودي الزعيم السياسي التونسي المعروف، والحبيب عاشور المناضل النقابي التونسي.
إهانة الملك
خلال فترة منفاه قام بن بركة بعدة سفريات إلى منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط لجمع التبرعات المالية لحزبه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وكانت تلك التبرعات توجه إلى حسابات بنكية باسمه في كل من باريس والقاهرة، فقد كان هو المسؤول عن الجانب المالي في حزبه بحيث كان يخصص لنفسه ما بين 10 إلى 15% من التبرعات الموجهة إلى الحزب، في الوقت الذي كان الفقيه البصري يخصص لنفسه ما بين 60 إلى 70% في الفترة بين 1966 و1976م.
وكان يتابع من منفاه كل شيء يتعلق بالحزب وأنشطته ويراقب ما يجري في المغرب، ويدلي بالتصريحات للصحافة والإذاعات الأجنبية بشكل متواصل لنقد سياسة الحسن الثاني بقوة والتنديد بانعدام الكفاءة في الدولة على جميع الصعد، وكان الحسن الثاني يرى في تلك التصريحات التي تناقلتها وسائل الإعلام والصحافة في العالم كله تحدياً مباشراً وخيانة وإهانة له ولمحيطه وللعسكريين السابقين في الجيش الفرنسي الذين انتشروا في جميع أجهزة الدولة، لكنه كان متحيراً بخصوص ما يمكن فعله لوقف انتقادات بن بركة الذي أصبح أكثر حضوراً في الإعلام الدولي، وما كان يقلقه أكثر هو أن المغرب في الداخل، في سنوات 1963 1965م، كان يعيش وضعية صعبة جداً، لأن تلك الفترة تزامنت مع فرض حالة الاستثناء عام 1964م لشن الحرب على المعارض المسلح المدعو “شيخ العرب”.
الفصل الثالثشيخ العرب والاستثناء!
كانت مصالح “الكاب1” الخاصة تبحث بشكل حثيث منذ 1962م عن مسلح سابق وعضو في “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” تعتبره الدولة شخصاً خطراً يعيش في السرية بعد اغتياله لمسؤول في جنوب المغرب عام 1960م، وحسب التقارير التي حصلت عليها المصالح المذكورة من مصادر عدة داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن هذا الشخص الذي كان منخرطاً في المقاومة المسلحة عامي 1954 و 1955م، وأصبح منذ ذلك الوقت عنصراً متمرداً ثم دخل في السرية في الأعوام التالية، فإن المبحوث عنه يحاول إجراء اتصالات بالجناح المتشدد داخل الحزب ليقترح عليه التعاون من أجل قلب نظام حكم الحسن الثاني، مدعياً أن عنده الأسلحة التي تساعدهم على تحقيق هذا الهدف، وأنه يحتاج فقط إلى بضع مئات من المقاتلين.
لقد مكن الحصول على تلك المعلومات مصالح “الكاب1” من معرفة أن الأمر يتعلق بشخص يدعى “شيخ العرب”، واسمه الحقيقي “أحمد أكوليز” يعيش في الخفاء منذ بداية الاستقلال، وسبق أن حكم عليه غيابياً بالإعدام عام 1958م من طرف إحدى المحاكم بإقليم سوس جنوب المغرب لاغتياله قاضياً ورجل أمن، وفي الملف المتعلق بمؤامرة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1963م صدر ضده حكم آخر غيابي بالإعدام، لكنه كان دائماً يفلح في الهرب من قبضة رجال الأمن، ما جعل الناس يطلقون عليه لقب “الفالت”.
وفي شهر أبريل 1964م تم العثور على حقيبة تحتوي على أسلحة بإحدى الشقق الواقعة بالمدينة الجديدة في الدار البيضاء، وقادت التحقيقات التي قامت بها مصالح “الكاب1” والفرقة الأمنية للدار البيضاء للعثور على صاحب الشقة في “فيلا” بحي “لارميتاج”.
وصل رجال الأمن في سيارتين عاديتين بأرقام تسجيل مضللة إلى المكان، فتوقفت الأولى أمام مدخل ال “الفيلا” بينما توقفت الثانية التي كان بها كل من عبد القادر صاكا وعبد القادر الوالي من مصلحة “مكافحة الشغب” الملحقة ب”الكاب1″ بعيداً عنها بحوالي عشرة أمتار ثم دفع الرجال الثلاثة الذين نزلوا من السيارة الأولى وهم عباد عباس وخطاب محمد وصدقي حمو من الشرطة القضائية بالدار البيضاء باب الحديقة.. وشرعوا في قرع جرس الباب الرئيس، لكنهم لم يتلقوا رداً لأن الموجودين بداخله كانوا قد لاحظوا من قبل وقوف السيارتين وأدركوا أن الأمر يتعلق برجال أمن مسلحين.
لكن في الوقت الذي كان الأشخاص الثلاثة ينتظرون قرب الباب انهال عليهم وابل من الرصاص من الجانب الآخر للمسكن، فسقط الثلاثة الذين كانوا من خيرة المخابرات السرية منذ 1960م صرعى للتو، فيما انبطح الاثنان الآخران اللذان كانا في السيارة الثانية بعيداً على الأرض تحت السيارة، وبهذه الطريقة تمكن صاكا والوالي من الإفلات من موت محقق.
تلك الحادثة كانت كارثة بالنسبة لمصالح الأمن، وقادت التحقيقات التي أجريت إلى معرفة هوية القتلة ومالك ومستأجر “الفيلا” وصاحب السيارة التي استعملها القتلة للفرار بعد الحادث مباشرة وصاحب الشقة التي عثر فيها على الحقيبة المليئة بالأسلحة. وقد أشرف على هذه التحقيقات التي قامت بها مصالح “الكاب1” أربعة عناصر من “مصلحة مكافحة الشغب” هم: محمد المسناوي وبناصر الكرواني وأحمد زيني وأنا شخصياً، وكانت النتيجة هي التالي:
عرفنا أن أحمد أكوليز المدعو “شيخ العرب” يوجد عنه في أرشيفات مصالح “الكاب1” ملف كبير وبإطلاعنا عليه عرفنا أنه في بداية الاستقلال عام 1956م فشل في الحصول على منصب رجل أمن أو قائد من درجة رفيعة لأنه كان أمياً، في الوقت الذي حصل فيه مقاومون أميون مثله على مناصب مهمة وعينوا قواداً أو قواداً من درجة رفيعة أو حكام أقاليم وولايات، أو رجال أمن بين 1956 و 1957م.
وبسبب خيبته تحول إلى مسلح متمرد وعدو للنظام الملكي العلوي، وفي نهاية 1956م دخل السرية للفرار من ملاحقات رجال الأمن له في عهد الغزاوي الذي كان يريد تصفيته.. وفي 1958م قتل قاضياً ورجل أمن في منطقة سوس التي ينحدر منها، فأصدرت إحدى المحاكم حكماً غيابياً ضده بالإعدام، ومن هذا التاريخ أصبح ملاحقاً، وخرجت دوريات عدة للبحث عنه بعد تزايد الشكاوى ضده بسبب اقترافه أعمال عنف وسرقة في أكادير وتيزنيت وتارودانت، وعندما حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962م تمكن من عبور الحدود المغربية الجزائرية للعيش في الجزائر بدون هوية، بانتظار إنشاء معسكرات تدريب لعناصر “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” في الجزائر لتكوين جماعات مسلحة (كوماندوهات) لقلب نظام الحسن الثاني، لكنه في شهر أبريل 1964م عاد إلى المغرب بشكل سري برفقة “عمر الفرشي” وهو معارض مسلح آخر كان مبحوثاً عنه، وسبق أن حكم عليه بالإعدام غيابياً في قضية “بنحمو لوفاخري” عام 1961م، وكان موجوداً في مدينة وهران الجزائرية قبل أن يقرر العودة مع شيخ العرب، وبحوزتهما أسلحة ورشاشات وقنابل ومسدسات أوتوماتيكية حديثة الصنع للقيام بعمليات في المغرب وزرع البلبلة.
عبرا الحدود سراً من منطقة “بني أدرار” التي يعبر منها المهربون، وفي طريق عودتهما مرا على “مونيري بوشعيب” الذي كان مقاوماً سابقاً معهما وأصبح بعد الاستقلال حارساً غابوياً بمدينة وجدة على الحدود مع الجزائر، فنقلهما بصحبة صديقه “عبد القادر الورطاسي” بسيارة الخدمة إلى مقر إقامته الوظيفي، وفي اليوم التالي قام “مونيري” الذي كان صديقاً للاثنين في المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي بنقلهما إلى مدينة الدار البيضاء على متن سيارة الخدمة.
القرار المناسب
في الدار البيضاء استقر شيخ العرب وعمر الفرشي عدة أيام لدى شخص من منطقة سوس يعرف الأول جيداً، ومعهما حقائبهما المليئة بالأسلحة والمسدسات والقنابل اليدوية، وبعد أسبوعين تعرف شيخ العرب على صديق آخر هو “مسليل إبراهيم الحلاوي” فقرر الافتراق عن “عمر الفرشي” لأسباب أمنية وترك حقيبة مليئة بالأسلحة لدى الصديق الجديد، وذات يوم بينما كانت ابنة الحلاوي تقوم بالأعمال المنزلية إذا بها تكتشف الحقيبة تحت السرير، فتحتها فاندهشت أمام رؤية الأسلحة، ولم تتردد عن إخبار خطيبها “مصطفى الطرفاوي” الذي كان للمصادفة رجل شرطة، ومباشرة بعد علمه بالنبأ أخبر رئيسيه: العميد يوسف قدور، رئيس المصلحة الجهوية للشرطة القضائية، وعميد الشرطة الحاج بوعلي رئيس مصلحة محاربة العصابات في مركز شرطة الدار البيضاء، فقام هذان الأخيران بإبلاغ النبأ إلى العميد الممتاز للشرطة لجهة الدار البيضاء “علي بلقاسم” الذي أخبر هو بدوره ممثلي “الكاب1” في الدار البيضاء، وبعث هؤلاء ببرقية عاجلة إلى مصلحة “الكاب1” بالرباط لرفع الخبر إلى “محمد العشعاشي” رئيس قسم “محاربة الشغب” فيها، وفور وصول البرقية أرسلها إلى أوفقير والدليمي، وقام بتعيين الرجال الثلاثة الذين سيتابعون هذه المهمة، وهم الذين قتلوا أمام الفيلا، كما عين الاثنين الآخرين للقيام بالمهام التقنية المساعدة، وكان هؤلاء الخمسة جميعهم مختصين في قضايا الاختطافات والاعتقالات خارج القانون في الفترة بين 1960 و 1964م، كما أنهم أثناء مباشرة مهمتهم كانوا جميعاً في حالة سكر، لأنهم قضوا ليلة ساهرة بحانة “الطالب” التي تقع في حي عين برجة بالدار البيضاء، ولذلك لم يستطيعوا التحكم في أنفسهم في الحادث وأخطؤوا في اتخاذ القرارات المناسبة، فقد تعاملوا مع المسألة باعتبارها شيئاً اعتيادياً وروتينياً، ومثل هذه الأحداث من هذا النوع وقعت مرات عدة بين 1960 و1973م.
كانت الشقة التي وجدت بها حقيبة الأسلحة في حي “سيدي معروف” مستأجرة من طرف إبراهيم الحلاوي، وتعود إلى ملكية شخص يسمى سعيد لا أذكر كنيته، ولم تكن مستأجرة بعقد، كما أن المستأجر لم يكن لديه عقد اشتراك في الماء والكهرباء، وهي أمور كانت شائعة في ذلك الوقت.
جمعت تلك الأسلحة التي أصبحت ملكاً ل”الكاب1″، وبعد أعوام تم استخدام تلك الأسلحة نفسها في المؤامرة المزعومة التي ألصقت ب”الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” عامي 1969 1970م والمعروفة باسم “قضية البعثيين التابعين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية”!
أما الفيلا التي قتل بها رجال الأمن الثلاثة التابعين ل”الكاب1″ فقد كانت تعود لشخص يدعى أحمد أوزي، وتم اعتقال هذا الأخير وخضع للتعذيب شهوراً عدة بدون حكم حتى 1965م، بينما لم يكن ذنبه سوى أنه قام بتأجير مسكنه لمقاوم سابق.
عفو ملكي
إن أصدقاء ومرافقي شيخ العرب عام 1964م الذين لا يزال بعضهم حياً حتى اليوم قد شاركوا في صنع هذه القضية المهمة التي تعد إحدى القضايا التي تم طمس حقائقها في مغرب الاستقلال، ويتعلق الأمر بكل من عمر ناصر الفرشي، وهو قائد شبكة للمقاومين في جهة الدار البيضاء، حكم عليه بالإعدام غيابياً في قضية “بنحمو لوفاخري” ثم بالسجن المؤبد في مؤامرة “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” عام 1963م، وقد أفرج عنه بظهير ملكي في عهد الحسن الثاني عام 1998م، وعبد الله الدكالي الذي حكم عليه بالسجن المؤبد غيابياً مع الأشغال الشاقة في بداية الستينيات، وقد كان صديقاً لشيخ العرب ثم للفقيه البصري فيما بعد بين 1966 1977م، وعضواً في “التنظيم” (خلية مسلحة) الذي قام بتدبير مؤامرات بين 1969 و1970م ومارس 1973م، وصدر في حقه عفو ملكي عام 1998م.
لقد شكل مقتل الرجال الثلاثة الذين قاموا بالتحقيق في القضية إهانة لأوفقير والدليمي ومحمد العشعاشي، ولم يتردد الحسن الثاني في فرض حالة الاستثناء، فوضعت القوات المسلحة والشرطة والأمن والقوات المساعدة في حالة استنفار قصوى، وتم نصب حواجز على الطرق الرابطة بين المدن وفي مداخلها، وفي المدن الكبرى نصبت حواجز على مداخل بعض الأحياء السكنية لمراقبة هويات الناس، وانتشرت مئات الأوراق التي تحمل صور شيخ العرب ومرافقيه في عموم مناطق المغرب تحث الناس على التبليغ عنهم في حال العثور عليهم. واستمرت هذه الوضعية حتى 7 أغسطس 1964م؛ إذ في هذا اليوم كان شيخ العرب ومرافقوه مختبئين لمدة أربعة أشهر في شقة تعود إلى أحد الأصدقاء وكان يعمل في القوات المساعدة بالدار البيضاء ويدعى “مبارك بوشوا”، وقد بدأ سقوط المجموعة بعد أن رفض أحد المرافقين وهو “أحمد أوزي” البقاء في شقة صغيرة لا تتعدى مساحتها 50 متراً مربعاً، فانسحب وقرر تبليغ رجال الأمن بوجودهم مقابل مبلغ مالي عرضته السلطات على من يدلها على مكان تواجد الفارين في بلاغ كانت تبثه الإذاعة، وتمكن أوزي من مغادرة الشقة بحجة الذهاب إلى الحمام، لأن لا أحد كان قادراً على الخروج من دون إذن شيخ العرب، ومن ثم استطاع الفرار وإبلاغ الشرطة التي جاءت بعد دقائق وحوطت المكان، ثم التحقت قوات الأمن المدججة بالأسلحة وحاصرت الشقة التي كان بها أشهر مطلوبين للسلطة في تاريخ المغرب الحديث.
وبعد دقائق من الصمت، بدأ الرجال الثلاثة المطلوبون في الخروج من باب الشقة أمام رجال الأمن المسلحين، كان شيخ العرب يرفع أسلحته في الهواء، فأطلق رجال الأمن النار، فسقط “مبارك بوشوا” قتيلاً وأصيب شيخ العرب إصابات بالغة في مواضع من جسمه، ثم أطلقت رصاصة على رأسه فأردته قتيلاً، وأصيب إبراهيم الحلاوي في مواضع من جسمه لكنه استطاع البقاء على قيد الحياة، أما أحمد أوزي فقد نجا من الموت وربح أيضاً المبلغ الذي عرضته السلطات على من يبلغ عن المطلوبين.
حضر بمسرح الأحداث في ذلك اليوم قبل إعطاء الإذن بإطلاق النار الذي تكلف به “علي بلقاسم” العميد الرئيس للشرطة بالدار البيضاء، كل من محمد أوفقير ومساعده أحمد الدليمي، وعبد الحق العشعاشي وشقيقه محمد، ومعاونوهم عينان محمد وجميل الحسين وصاكا ورزيق والكرواني والغيناوي وريان المعطي والوالي وكواشا وخمسي، وبمقتل شيخ العرب انتهت حالة الاستثناء!
يتبع…
الحلقة (5)
كانت نهاية “شيخ العرب” في 7 أغسطس 1964 فرصة بالنسبة لأوفقير للارتقاء بعد أيام قلائل إلى رتبة جنرال ووزير للداخلية خلفاً لأحمد رضا أكديرة، مع بقائه محتفظاً في ذات الوقت بإدارة الأمن الوطني ورئاسة “الكاب1” بشكل أثار حسد الجميع.
وبهذه المهام والمسؤوليات التي اجتمعت له أصبح أوفقير في الواقع الرجل الثاني في الدولة، مباشرة بعد الملك الحسن الثاني، وبخاصة عندما تلقى الضوء الأخضر من أجل إعادة تنظيم وزارة الداخلية والأمن الوطني و”الكاب1″، حيث استغل ذلك لوضع رجاله في المواقع الأولى بتلك المؤسسات:
الضوء الأخضر
في وزارة الداخلية أبقي على السيدة بديعة مسناوي زوجة محمد مسناوي العميل في “الكاب1” ثم مدير الكتابة العامة بالوزارة منذ1961، وتم تعيين العميد الرئيس مولاي أحمد التدلاوي على رأس “إدارة الشؤون العامة” بالوزارة، ومحمد بن عالم كاتباً للدولة، أما بوعزة الغازي الرجل الثاني الحقيقي في الكاب منذ 1960 فقد استولى على قسم التموين والتجهيز بالوزارة، مع بقائه محتفظاً بمهماته في الإدارة العامة للأمن الوطني.
في إدارة الأمن الوطني سُجلت تعيينات جديدة عدة سواء على المستوى المركزي بالرباط أو على المستوى الإقليمي والجهوي، في الشرطة القضائية ومصالح التوثيق والاستعلام ومخافر الشرطة بالعمالات.
في “الكاب1” لم تكن هناك تغييرات في مواقع المسؤولية، ولكن تم ترقية ثلاثة أرباع الموظفين بسرعة عبر حرق المراحل، حيث أصبح العمداء الصغار عمداء رئيسين، وضباط الشرطة عمداء، ومساعدو ضباط الشرطة ضباط شرطة، وأصبح حراس الشرف الذين كانوا كثيرين في الكاب مساعدي ضباط شرطة، وقد فاجأت هذه التعيينات الجديدة الجميع وبدت للكثيرين غير معقولة.
ومن بين هذه التعيينات غير المعقولة هناك ما يستحق أن نشير إليه: فجميل الحسوني مثلاً الذي كان مفتش شرطة في ميناء الدار البيضاء بين 1957 1960، ثم عميلاً بالكاب1 وقائد مفرزة بالدار البيضاء بين 1960 1961 ثم ضابط شرطة مساعداً بنهاية 1962، تمت ترقيته مباشرة إلى رتبة عميد رئيس متخطياً بذلك ثلاث مراحل: ضابط شرطة وضابط شرطة رئيس وعميد شرطة. وعدد كبير من المنحدرين من الجهة الشرقية، وجدة ونواحيها، الذين كانوا حراس شرف في سلك الأمن أو مفتشين رقُوا مباشرة إلى رتبة ضباط شرطة مساعدين، فرقي محمد السوسي الذي ينحدر من الجهة الشرقية من رتبة رئيس مفرزة ضابط شرطة مساعد إلى عميد شرطة، متخطياً درجتين: ضابط شرطة وضابط شرطة رئيس، ومحمد التونسي من رتبة قائد عمليات التدخل كضابط شرطة مساعد أصبح عميد شرطة أيضاً، متخطياً درجتين، ومولاي إبراهيم أوفقير الذي كان مساعد ممرض في القطاع الخاص أصبح حارس شرف رغم أنه لم يتلق أي تكوين (تعليم)، ونفس الشيء بالنسبة لمولاي أحمد أوفقير الذي كان راعي غنم وأمياً.
لقد كان الضوء الأخضر الذي مُنح لأوفقير عام 1964 حدثاً استثنائياً في تاريخ المغرب، فقد مكنه ذلك من تجميد العمل بكل القوانين التي تنظم الوظيفة العمومية وتحدد شروط الترقية في وزارة الداخلية وإدارة الأمن الوطني وأسلاك الشرطة مؤقتاً لمدة 17 شهراً، ما بين أغسطس 1964 وديسمبر 1965، وخلال هذه الفترة كان أوفقير طليق اليد يفعل ما يشاء، فألغيت أهمية الشهادات في التعيين، لأن غالبية المناصب والمسؤوليات أوكلت إلى أشخاص ليس لهم تكوين أو مؤهلات بل جلهم أميون، مقابل قبضة صغيرة من المال.
الرشوة والابتزاز
كانت الرشوة والابتزاز في ذلك العهد عملتين رائجتين، الأمر الذي سمح لعدد من المقربين من أوفقير بجمع ثروات طائلة، وهنا بعض الأمثلة:
لم يتردد بوعزة الغازي في تحديد سقف معين بالنسبة لمنصب مساعد مدير في الإدارة العامة للأمن الوطني ورؤساء المصالح الإقليمية وعمداء الدوائر الأمنية، وكانت المبالغ تختلف بحسب أهمية المدينة، وأصبح كوادر الأمن مجبرين على الخضوع لهذه الشروط للحصول على المناصب التي يطمحون إليها، فكانوا يدفعون مقدماً للمبلغ ويتعهدون بدفع الباقي نهاية كل شهر على دفعات إذا أرادوا البقاء في مناصبهم وفي المدن التي اختاروها، لقد كان هذا غير معقول، ولكنه كان جارياً، وقد در ذلك على بوعزة الغازي ثروة طائلة، كما أن عروض الأثمان المتعلقة بالمشاريع التي كانت تقوم بها وزارة الداخلية وإدارة الأمن الوطني كانت لها هي أيضاً أثمانها، لكن هذا لم يكن كل شيء ما مادامت “الصناديق السوداء” للوزارة والإدارة والتي كانت تقدر بنحو 5 إلى 10 مليارات سنتيم في السنة كانت تدار من دون مراقبة ولا فواتير أو وثائق، من طرف الغازي وحده.
جنت فاطمة أوفقير زوجة أوفقير ثروة طائلة من خلال توسطها لفائدة مئات من المرشحين من منطقة تيفلت الخميسات مسقط رأسها، وأيضاً من منطقة الغرب وتافيلالت، مسقط رأس أوفقير، وكانت التعيينات والترقيات والتبديلات تخضع للتفاوض على حدة بحسب المدينة والدرجة، وغالبية المرشحين كانوا أميين أو عديمي التأهيل بالمرة.
تهريب السلع
كان للحاج قادة قرابة عائلية مع فاطمة أوفقير، وكان يعمل في مصلحة الأمن بمدينة القنيطرة كضابط أمن رئيس في القاعدة الجوية الأمريكية، ويدير في نفس الوقت شبكتين تابعتين للجنرال أوفقير، الأولى متخصصة في تبييض الأموال والدعارة والشذوذ، والثانية في تهريب السلع الأمريكية التي تأتي من القواعد العسكرية الأمريكية في منطقة الغرب، وقد مكنته تلك القرابة من تحصيل أموال طائلة بسبب توسطه لفائدة المئات من الأشخاص في المحاكم ولدى إدارة الأمن الوطني بالنسبة للراغبين في التعيين أو التبديل أو الترقية، وكان الحاج قادة في مدن القنيطرة وتيفلت والخميسات وسيدي سليمان وسيدي يحيى شخصاً فوق الجميع، بالرغم من أنه كان أمياً.
حصل العقيد الشنا، والد فاطمة أوفقير وصهر الجنرال أوفقير، على ثروة كبيرة بسبب توسطه لفائدة أشخاص عدة لدى بوعزة الغازي، وكان الشنا وابنه يعملان أيضاً في فريق الحاج قادة.
كان الحسن الدليمي، والد أحمد الدليمي، عاملاً إقليمياً من دون مهمة، وضابطاً سابقاً في “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” الفرنسية مكلفاً بعدة عملاء ما بين 1948 1956 من بينهم أوفقير نفسه، وبفضل نفوذه القوي في منطقة الغرب وتحكمه في سائر العمال التابعين للداخلية ووساطاته في المحاكم وفي إدارة الأمن الوطني في المنطقة استطاع تحصيل أموال ضخمة.
جمع أحمد الدليمي الذي كان عون مدير في “الكاب1” وعوناً في إدارة الأمن الوطني بعد أغسطس 1964 ثروة كبيرة من وراء وساطته لفائدة المئات من الفلاحين المنحدرين من إقليم سيدي قاسم، مسقط رأسه، وكان يدير الصندوق الأسود للكاب الذي قدرت ميزانيته بنحو 5 مليارات سنتيم، حيث كان يحول لمصلحته ما يناهز 50% منها.
تعديلات وترقيات
نفس الأمر بالنسبة لعبد الحق العشعاشي، العميد الرئيس ومدير مكتب أوفقير في الكاب وإدارة الأمن الوطني، ورئيس الشؤون الإدارية والمالية في الكاب، فقد جمع ثروة لا تقدر من وراء ما قام به من تعيينات وتبديلات وترقيات، ومن عمليات إعداد جوازات سفر فردية أو جماعية لليهود المغاربة الراغبين في الهجرة إلى إسرائيل، والذين لم يكونوا يتوفرون على الشروط الإدارية المطلوبة للحصول على الجوازات.
حصل جميل الحسين الذي كان ضابط شرطة مساعداً عام 1962 ثم عميداً رئيساً عام 1964 ومكلفاً بالشؤون المشبوهة للجنرال أوفقير ثروة طائلة من وراء تعاونه مع مافيا الجماعات اليهودية المغربية في الدار البيضاء ومكناس، خصوصاً في منحهم جوازات سفر للهجرة إلى إسرائيل. وبعد اختفاء الجنرال أوفقير عام 1972 عادت كل الشؤون الحقيرة والمشبوهة لهذا الأخير إليه، لأن جميع المقربين من الجنرال اعتقلوا وحكم عليهم بعشرين سنة فما فوق. وما تزال هذه المهام تحت يده اليوم بعد أن أصبح مدير شرطة متقاعداً ومسؤولاً إدارياً ومالياً سابقاً بجهاز المخابرات المغربية (الديستي) إلى جانب إدريس البصري (وزير الداخلية الأسبق المقال عام 1999)، ويتعلق الأمر خصوصاً بالشؤون البحرية المسماة “شيب شاندلرز” (تموين البواخر بميناء الدار البيضاء المحمدية، ورص البضائع في السفن المنجمية، وحراسة المرافئ والأمن في البواخر والسفن).
وأخيراً السيدة بديعة مسناوي، زوجة محمد مسناوي مدير الكتبة الخاصة للجنرال أوفقير ولكل وزراء الداخلية من 1961 إلى أواخر 1999 والمرأة المقتدرة التي أصبحت اليد اليمنى لأوفقير وكانت تهتم بكل الملفات السرية الخاصة به وبملف المهدي بن بركة تحديداً، فقد تمكنت من جمع ثروات طائلة بفضل تدخلاتها ووساطاتها لدى القواد والعمال ومسؤولي الداخلية في جميع مدن المغرب، وإشرافها على توزيع الأراضي والعقارات على أطر كوادر وزارة الداخلية خلال مدة ثلاثين عاما، وهي مدة قياسية داخل الوزارة.
مجموعة من الأعداء
لم يكن الحظ القوي الذي يتمتع به المهدي بن بركة خرافة بل كان حقيقة. فقبل اختفائه في 29 أكتوبر 1965 في باريس حالفه حظه القوي هذا في أن ينجو أربع مرات من موت محقق، فقبل باريس كان زعيم المعارضة المغربية قد واجه الموت في الرباط عام 1957م، وفي الطريق بين الرباط والدار البيضاء عام 1962م ثم في الجزائر عام 1964م، وأخيراً في القاهرة في أكتوبر 1965م.
بعد حصول المغرب على الاستقلال وجد بن بركة نفسه في مواجهة مجموعة من الأعداء، خاصة من المقاومين السابقين الحقيقيين منهم والزائفين وأعضاء جيش التحرير المغربي وضباط القوات المسلحة الملكية وفي داخل حزبه، حزب الاستقلال، كان هناك الأعيان وكل المحافظين الذين يحيطون بالزعيم علال الفاسي، وقد كان المقاومون القدامى هم الأكثر استعداداً وحماساً لتصفيته لأنهم كانوا يتهمونه باغتيال عباس المساعدي عام 1956م.
من بين هؤلاء كان هناك ضابط صف مغربي من القوات الفرنسية ظهر في الساحة السياسية عام 1956م بفضل مشاركته المزعومة في صفوف جيش التحرير المغربي وخاصة لدوره في اغتيال عباس المساعدي، وقد قرر هذا الشخص الذي أصبح واحداً من المقاومين القدامى في الساعة الأخيرة أن يستأجر رامياً محترفاً لاغتيال بن بركة، تم اختياره بدقة من بين قدماء المقاومين الذين تحولوا إلى رجال أمن في الشرطة السياسية التابعة لمحمد الغزاوي، وهو شخص داعر التحق بهذه الأخير بعد تلقيه تدريباً في مايو يونيو1956م، وكان المبلغ المالي المتفق عليه لتنفيذ المهمة يوازي أجرته خلال عام كامل، تسلمه مقدماً.
أولى محاولات اغتياله: وفي مساء نفس اليوم أخذ هذا الشخص مكانه قريباً من بيت بن بركة يترصد عودته لتصفيته بطريقة خاطفة وسريعة، كما اعتاد أن يفعل في “مهمات” الشرطة السياسية، ولكن الحظ كان إلى جانب بن بركة لأن الرصاصات الثلاث أو الأربع التي أطلقت عليه أخطأت الهدف. وكانت هذه هي أولى محاولات الاغتيال التي تعرض لها بن بركة عام 1957م، وأنا أعرف جميع تفاصيلها لأن الشخص الذي قام بالمحاولة اتصل بي قبلها من أجل المشاركة في العملية، ولكن لحسن الحظ لم أتمكن من ذلك لأنني في ذلك الوقت كنت في مهمات خاصة أخرى مع الدائرة السابعة للأمن في حي البلدية بالدار البيضاء.
منذ تلك اللحظة بدأ منفذ العملية وصاحبه الذي استأجره للمهمة يسلكان طريق النجاح في الحياة السياسية، كل على شاكلته. وهذا المنفذ لا يزال على قيد الحياة محالاً على المعاش في السبعين من عمره وبالغ الثراء، وهو يدير منذ أربعين عاماً مزرعة كبيرة في منطقة الغرب ويملك شركة لنقل البضائع، أما بالنسبة لشريكه فقد تولى تكوين عدة أحزاب سياسية أو قيادة انشقاقات داخل الأحزاب التي تهتم بالعالم القروي، وشغل مناصب حكومية مهمة عدة، بل كان في وقت ما وزيراً للدفاع، وهو اليوم لا يزال على قيد الحياة في الثمانين من العمر ويقود حزباً سياسياً منذ زمن طويل.
محاولة الاغتيال الثانية قام بها ضابط صف من الجيش الفرنسي، نجل أحد الضباط الذين عملوا في “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” الفرنسية في فرع المغرب. كان ذلك في 18 نوفمبر 1962م وكان صاحب الخطة هو أحمد الدليمي الذي أعطى أوامره بذلك إلى مجموعة من ثلاثة أشخاص لاغتيال زعيم “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” على الطريق الرابط بين الرباط والدار البيضاء، وقام المنفذون بالاصطدام بسيارة بن بركة فوق جسر معدني قرب بوزنيقة، وقيدت الحادثة ضد مجهول، لكنها كانت غير مهيأة لها بشكل دقيق. وفي هذه المرة وقف الحظ إلى جانب بن بركة وخرج سالماً، ولكن ليس تماماً ما دام أنه سافر لتلقي العلاج في ألمانيا، ومنذ ذلك الوقت دأب على حمل قوام العنق طيلة ما تبقى من حياته لتجبير الكسر الذي أصيب به. ويجب تسجيل ملاحظة هنا: فهذه المحاولة قادها الدليمي وحده ولم يعلم بها أوفقير أو العشعاشي إلا فيما بعد، أما الرجال الثلاثة الذين تولوا تنفيذها فهم: بناصر الكرواني والمعطي ريان ومحند أوزين، الأول توفي في يناير 2003م بنوبة قلبية، والثاني أصبح مقاولاً عقارياً بعد أن عمل لسنوات عدة قائداً في بني ملال، وهو ما يزال حياً ويقيم بحي “المعاريف” بالدار البيضاء، أما الثالث فهو محال إلى المعاش اليوم حيث يعيش حياة رغيدة في مدينة “تيفلت”.
أما المحاولة الثالثة لاغتيال بن بركة فحدثت في أغسطس 1964م بعد فترة قصيرة على تصفية شيخ العرب بالدار البيضاء، وفي هذه المرة كان الدليمي أيضاً هو صاحب الخطة ولم يعرف بها لا أوفقير ولا العشعاشي كذلك. فقد عين الدليمي عصابة من ثلاثة رجال لاغتيال بن بركة في مسكنه بالجزائر، غير أن هذا الأخير حالفه الحظ مرة ثالثة. فبعد أن علمت مصالح المخابرات الجزائرية أن هناك مخططاً لاغتياله عبر مصادر وثيقة عملت بكرم على “تبديله” بشخص مشابه له من سلك الأمن الجزائري، وقد أصيب هذا الأخير بجروح من طلقات مسدس أحد المنفذين الثلاثة في مدخل الفيلا التي يقيم بها بن بركة، وبعد أن اعتقدوا أن المهمة انتهت غادر الثلاثة التراب الجزائري بسرعة بالرغم من الحواجز الكثيرة التي تم نصبها في الطرقات وحالة الطوارئ، واستقلوا القطار إلى وهران ومن ثم أخذوا الباخرة إلى مارسيليا، ومنها إلى الرباط. لقد كان هؤلاء الثلاثة الذين قاموا بتلك المهمة السرية جد معروفين في “الكاب”، ويتعلق الأمر ببناصر الكرواني وعبدالقادر الوالي وأنا. الأول توفي في يناير 2003، وقد شارك في عدة عمليات في مغرب الاستقلال، وكان إلى جانب أوفقير في جل المجازر والمذابح التي وقعت في جبال الريف عام 1959م، كما شارك في المجارز التي وقعت أثناء انتفاضة 23 مارس 1965م بالدار البيضاء، حيث كان أيضاً مع أوفقير داخل الحوامة (الهيليكوبتر) التي كان يطلق منها الرصاص على المتظاهرين، وفي أحداث قصر الصخيرات في 16 أغسطس 1972م كان حاضراً إلى جانب الدليمي ساعات قليلة بعد فشل المحاولة الانقلابية التي قام بها أوفقير وتفجير طائرة “البوينج” الملكية. أما عبد القادر الوالي الذي نجا بأعجوبة من حادث أبريل 1964م بالدار البيضاء خلال محاولة قتل شيخ العرب، فقد توفي خلال السبعينيات متأثراً بسرطان خبيث رغم أنه كان قد أجرى عملية تركيب رجل أخرى في فرنسا عام 1969م. ويجب أن أفتح قوساً هنا لأقول بأنه كان هناك كوماندوز آخر من ثلاثة أشخاص كان قد أرسل إلى الجزائر ووهران في نفس تلك الفترة من طرف “الكاب” لاغتيال أجار محمد المعروف بسعيد بونعيلات المعروف جيداً داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمقاومين القدامى، وبعد أن علمت مصالح الاستخبارات الجزائرية بالمهمتين معاً، استدعت الأشخاص الثلاثة، وكان من بينهم شخص اسمه خويا محمد من مدينة الفقيه بن صالح عين بين 1962 و1963 بالقسم الإداري والمالي ل”الكاب” إلى جانب كل من عبد الله مسناوي وعبد الرفيع العلوي، وقد اختفى هو وهذان الأخيران عام 1964م دون أن يتركوا خلفهم أي أثر أو ما يدل على أنهم أحياء. لكن في عام 2001م بعدما نشر تصريحاتي واعترافاتي اتصلت بي أسرة “خويا” عبر صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” و”منتدى الحقيقة والإنصاف” لمعرفة أي معلومات عن ابنهم المختفي الذي كان واحداً من الفريق العامل في “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس”.
قنَّاص محترف
أما المحاولة الرابعة والأخيرة لاغتيال بن بركة، فقد حدثت قبل أيام قليلة فقط من اختطافه في باريس، وكانت بالقاهرة في أكتوبر 1965م. أرسل أوفقير كوماندوز مكون من أربعة أشخاص إلى العاصمة المصرية، أحدهم رام محترف جداً في إصابة الهدف، لاغتيال الزعيم الاتحادي. نزل القتلة الأربعة بأحد فنادق القاهرة بجوار الغرفة التي كان ينزل بها ميلود التونسي ومحمد حليم اللذان كانا يلاحقان خطوات بن بركة في إطار العملية المسماة “بويا بشير”، وكان هؤلاء الأربعة مسلحين إلى الأسنان ومصحوبين ببنات الهوى، لكن الثقة الزائدة في أنفسهم وانعدام الخبرة في مثل هذه العمليات في السابق أديا إلى انكشاف أسلحتهم غير المخبأة جيداً من طرف الفتيات اللواتي أصبن بنوبة عصبية، وبدأن في الصراخ من الرعب، فانتشر الصراخ في جميع غرف الفندق، فهرع رجال الأمن الخاص بالفندق ثم حضرت قوات الأمن على عجل لتسجيل محضر بالواقعة، واقتيدت الفتيات والرجال الأربعة وكذلك الاثنان اللذان كانا في الغرفة المجاورة، التونسي وحليم، وقضى الجميع تلك الليلة في مخفر للشرطة، وفي الصباح قام السفير المغربي في القاهرة بالإجراءات اللازمة لدفن القضية دون فضائح، وتم إطلاق سراح الجميع قبل الظهر. وفي اليوم ذاته استقل الأربعة الطائرة إلى المغرب بعد “مهمة غير مكتملة” و”هدف أخطئ ولم يكتمل”، أما التونسي وحليم فقد بقيا في القاهرة بعد أن غيرا الفندق كنوع من التدبير الأمني الاحتياطي.
أخيراً بقيت جزئية مهمة جداً لم أقلها: إن هذه المهمة لم تكن في علم محمد العشعاشي رئيس مصلحة مكافحة الشغب، الذي كان يشرف على المراحل النهائية لعملية “بويا بشير”!.
يتبع
لحلقة(6)
لعدو الأول..!
كان المهدي بن بركة قد بدأ منذ يونيو 1963م، وهو تاريخ خروجه إلى المنفى، في إطلاق التصريحات القوية في الصحف الدولية عموماً وفي الصحف الفرنسية والمصرية والجزائرية بشكل خاص، وكانت تلك التصريحات تتضمن انتقادات عنيفة مرتكزة على أدلة وبراهين حقيقية، الأمر الذي جعل المخزن (النظام الملكي والسلطة بشكل عام) في موقع ضعف لا يعرف كيف يتصرف إزاء الزعيم الاشتراكي.
أصبح ذلك مسألة اعتيادية حيث دأبت “لوموند” و”لوكانار أونشيني” الفرنسيتان و”الأهرام” المصرية على نشر تصريحات بن بركة مرتين إلى ثلاث كل شهر. وقد وصل بن بركة الذي أصبح منذ تلك الفترة العدو الأول للنظام إلى نقطة اللاعودة، وشكلت تصريحاته موضوع تقارير تحليلية عدة كان ينجزها رئيس مصلحة مكافحة الشغب بشكل دوري ويوجهها إلى السلطة وإلى أوفقير والدليمي، ولم تكن هذه التقارير تحمل دائماً أنباء جيدة، ولذا انتهى المخزن إلى إعطاء تعليمات شفوية إلى رئيس مصلحة مكافحة الشغب لإسكات بن بركة وإبعاده عن وسائل الإعلام، وقد وجهت هذه التعليمات مباشرة إلى العشعاشي بدون المرور عبر أوفقير، رئيس “الكاب” والإدارة العامة للأمن الوطني.
اختطافه من الجزائر
جمع العشعاشي رجاله ومعاونيه في ديسمبر 1964م لإعداد مخطط مفصل بجميع الاحتمالات والتوقعات من أجل “إسكات المهدي بن بركة وإبعاده عن وسائل الإعلام في أقرب الآجال” بحسب التعليمات الواردة. وفي هذا الاجتماع الذي انعقد بمكتب رئيس مصلحة مكافحة الشغب من الساعة السابعة إلى العاشرة ليلاً كان هناك بعض العملاء السريين مثل محمد مسناوي وعبد القادر صاكا وأجدين أحمد المدعو “حميدة” وزيني أحمد وأنا. كان الحل الذي تم طرحه لمعادلة بن بركة: أن يجري اختطافه من الجزائر وتخديره حتى ينام وبعد ذلك يتم نقله في سيارة سريعة إلى المغرب عبر مدينة وجدة الحدودية بمساعدة المهربين و”التفاهم” مع حراس الحدود الجزائرية.
كان “الكاب” يتوفر على رجال تابعين له في الجزائر متسللين في أوساط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في وهران والجزائر منذ نوفمبر 1962م، تاريخ استقلال الجزائر. وفي العاصمة الجزائرية كان عميل من “الكاب” يدعى جيلالي بلكاهية ويلقب ب”با جلول” قد تمكن من التسلل إلى المحيط القريب من بن بركة كطباخ ومعد حلويات في الفيلا التي خصصتها الدولة الجزائرية للزعيم اليساري. وفي بلدة “برتوتا” التي تبعد عن العاصمة بحوالي 25 كيلومتراً على الطريق المؤدية إلى البليدة وبوفارك كانت ل”الكاب” مزرعة كبيرة يديرها عميل سري. من هنا جاءت فكرة تخديره بمخدر خفيف يوضع في القهوة أو في الحلوى لتحضيره للسفر الطويل إلى المغرب بعد إعطائه حقنتين لتنويمه، والتوجه به من الجزائر العاصمة إلى الرباط مع وقفة استراحة قصيرة في وجدة. وفي الرباط، حيث سيودع في “دار المقري” لتعذيبه شهوراً أو سنوات أو للأبد، وحده الله يعلم ما سيكون مصيره!.
وفي ديسمبر 1964م قمت بسفر في مهمة إلى العاصمة الجزائرية لمراقبة العملاء السريين الموجودين هناك والحديث مع العميل السري الذي يشتغل طباخاً في فيلا بن بركة، ومع العميل الآخر الذي يدير المزرعة التابعة ل”الكاب” في برتوتا، استغرق السفر في القطار ثلاثة أيام، وتم إعداد كل شيء وعدت إلى الرباط حيث شرعنا في وضع الاحتمالات والتوقعات كالتالي:
الوسائل البشرية: 50 رجل أمن، 10 منهم من مصلحة مكافحة الشغب والأربعون الآخرون من مصلحة العمليات التقنية.
الوسائل المادية: 200 مليون سنتيم للمصاريف من دون فواتير.
وسائل مبررة: على نفقة الإدارة العامة للأمن الوطني.
المهلة: ثلاثة أشهر كحد أقصى.
ثم تم إبلاغ مخطط العشعاشي الذي هيئ بدقة مع أخذ جميع الاحتمالات بعين الاعتبار إلى السلطة قبل 31 ديسمبر 1964م، وإلى أوفقير والدليمي على سبيل الإخبار، وتم اختيار رجال الأمن العشرة من بين أجود العملاء السريين الذين يوجدون في المحيط المقرب من العشعاشي، ويتعلق الأمر بالأسماء التالية:
محمد مسناوي رئيس شعبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مصلحة مكافحة الشغب منذ 1960م.
أنا شخصياً، مساعد رئيس شعبة الاتحاد في مصلحة مكافحة الشغب منذ 1960م، مسناوي.
عبد القادر صاكا، رئيس شعبة “العناصر المخربة” منذ 1961م.
أحمد أجدين مساعد رئيس شعبة “العناصر المخربة” منذ 1961م.
أحمد زيني رئيس الشعبة الخاصة بحزب الاستقلال والحركة الشعبية بمصلحة مكافحة الشغب منذ 1960م.
بوفوس بوجمعة رئيس الشعبة الخاصة بالاتحاد المغربي للشغل والحزب الشيوعي المغربي منذ 1960م.
محمد العلمي رئيس قسم الأرشيفات بمصلحة مكافحة الشغب منذ 1960م.
محمد الورديغي مساعد رئيس الوحدة الخاصة بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاتحاد العام لطلبة المغرب منذ 1962م.
بناصر الكرواني رئيس الفرقة الأمنية الثانية الخاصة منذ 1961م.
إدريس الزياتي مساعد رئيس الوحدة الخاصة بالاتحاد المغربي للشغل والحزب الشيوعي المغربي منذ 1961م.
كان هؤلاء العشرة المنتمون إلى مصلحة مكافحة الشغب يقومون بالمهام التالية:
الدوام الخاص في مكاتب المصلحة المذكورة.
حل شفرات التقارير المشفرة الواردة من الخارج مع نهاية كل أسبوع.
تحضير عناصر التقرير التحليلي الأسبوعي.
تحضير جوازات السفر ورخص القيادة المزورة.
المراقبة السرية عن بعد لرجال العمليات التقنية المكلفين بمهمات في الخارج.
متابعة جميع العمليات والتنسيق بين جميع شعب مصلحة مكافحة الشغب ومتابعة العمليات التقنية.
متابعة المبالغ المقدمة سلفاً والمصاريف غبر المبررة خارج المغرب.
رفع التقارير السرية إلى السلطة، وإلى أوفقير والدليمي على سبيل الإخبار.
التنسيق بين مصلحة مكافحة الشغب ووزارة الداخلية والإدارة العامة للأمن الوطني.
ويمكن شرح هذه المهام بشكل مفصل كما يلي:
يجب أن يكون هناك دوام مستمر في مكاتب مصلحة مكافحة الشغب بعد بداية تنفيذ المخطط، وأن يكون هناك سجل للدوام تسجل فيه جميع المكالمات الهاتفية والرسائل الهاتفية الواردة من المخزن أو من الجنرال أوفقير أو القائد الدليمي أو العملاء الموجودين في مهمات بالخارج متعلقة بمخطط العشعاشي. وقد كان هؤلاء العشرة من العملاء السريين، بجميع درجاتهم، على نفس الدرجة لأن الرئيس الوحيد هو العشعاشي، وكان رئيس الدوام مرتبطاً مباشرة بهذا الأخير ويربط بينه وبين أوفقير والدليمي.
حل شفرات التقارير يتم نهاية كل أسبوع بواسطة فريق مكون من اثنين إلى ثلاثة أشخاص، ويجب أن يكون هذا الفريق متوفراً على المفتاح لكي يستطيع حل الشفرات، ويعتبر رئيس الدوام في عطلة نهاية الأسبوع عضواً في هذا الفريق بشكل آلي لأن العملاء العشرة في مصلحة مكافحة الشغب هم عملاء متعددو الاختصاص ومحتفون جيداً.
إعداد عناصر التقرير التحليلي يتم في نهاية الأسبوع بعد إنجاز حل شفرات التقارير الواردة، ويجري تحليل شفرات التقارير المتعلقة باقتفاء أثر المهدي بن بركة والمكالمات الهاتفية والرسائل البريدية بعناية فائقة من أجل تلخيصها والاحتفاظ بالأساسي فيها من أجل استخدامها صباح كل اثنين من طرف قسم تحرير التقارير التحليلية الموجهة إلى المخزن وإلى أوفقير والدليمي، ويقوم العملاء العشرة هؤلاء بمهمة تحضير عناصر التقرير التحليلي بالتناوب.
إعداد جوازات السفر ورخص القيادة المزورة لفائدة العملاء السريين الموجودين في مهام بالخارج في إطار مخطط العشعاشي يفوض إلى هؤلاء العشرة. ويتم توقيع جوازات السفر الحقيقية من لدن السلطات المختصة على بياض ومن دون الإشارة إلى التاريخ، أما الوثائق والهويات المزورة التي تصاحبه فيختارها العملاء السريون الموجودون في الخارج، حيث يختار كل واحد من هؤلاء ثلاث هويات منتحلة تكون مطابقة للهويات الحقيقية لأصدقائه أو أفراد عائلته، ويحصل على ثلاثة جوازات مختلفة تحمل صوراً حقيقية للمعني، وهكذا فإن كل عميل سري في الخارج مفروض منه أن يحمل معه ثلاث جوازات مزورة حقيقية وثلاث رخص قيادة مزورة حقيقية، واحد يحتفظ به في جيبه أو في حاملة أوراقه، واثنان يضعهما في حقيبته. فإذا كانت المهمة في الخارج تتطلب السفر ثلاث إلى أربع مرات في الأسبوع عبر نفس المطار فإن الضرورة تقضي بأن يتم تغيير الهوية كل خمسة عشر يوماً بعد ثماني أو عشر رحلات كحد أقصى، وبهذه الطريقة لا يتم التعرف على العملاء في مختلف موانئ بلدان العالم من لدن أجهزة المخابرات أو شرطة الموانئ. وتعد رخص القيادة المزورة الحقيقية مهمة بالنسبة للعملاء لأنهم يضطرون إلى استعمال سيارات مستأجرة في الخارج. ويجب أن يحفظ العملاء هوياتهم جيداً، بحيث يستطيعون الرد على الأسئلة في مختلف المصالح بنفس الطريقة في حال تم استدعاؤهم أو اعتقالهم في الخارج. وقد تم وضع نحو مائتي جواز سفر ورخصة قيادة مزورة حقيقية في إطار مخطط العشعاشي لاستعمالها في ظرف ثلاثة أشهر، تم استردادها بعد انتهاء المهمة.
يشرف هؤلاء العشرة أيضاً ويراقبون مهمات العملاء السريين المكلفين بالمهام التقنية، بحيث يمكنهم الانتقال بطريقة سرية إلى الخارج بالتناوب وفي مجموعات من اثنين إلى ثلاثة أشخاص من أجل متابعة هؤلاء العملاء التقنيين من دون أن يعلموا هم بذلك.
متابعة جميع العمليات الميدانية خارج المغرب ومن خلال التقارير المشفرة الواردة من الخارج من أجل ضمان تنسيق جيد بين مصلحة مكافحة الشغب المكلفة بمخطط العشعاشي والمصلحة التقنية المكلفة بمهام اقتفاء الأثر في الخارج والتقاط المكالمات الهاتفية والرسائل البريدية الخاصة بالمهدي بن بركة في الخارج كما في الداخل.
متابعة المبالغ المقدمة سلفاً والمصاريف غبر المبررة خارج المغرب من أجل استباق نفاد المبالغ في الوقت المناسب وتحضير مبالغ أخرى لضمان السير الطبيعي للأمور.
نقل التقرير السري إلى المخزن ووزير الداخلية ونائب مدير الأمن الوطني مرة في الأسبوع لإحاطتهم علماً بسير مخطط العشعاشي، ويجري اجتماع صباح كل إثنين من أجل إعداد هذا التقرير بمكتب هذا الأخير، وإعداد تقرير تحليلي أسبوعي من طرف المعاونين المقربين من العشعاشي، مكتوب وموقع من لدنه، وينقر على الآلة الكاتبة من طرف أحمد زيني أو أنا شخصياً، وليس من طرف السيدة ثريا السويسي، الكاتبة الخاصة للعشعاشي. ويشارك في هذا الاجتماع الكولونيل مارتان من جهاز المخابرات المركزية الأمريكية إلى جانب العشعاشي نفسه وأقرب معاونيه، وهم أحمد مسناوي وصاكا واجدين وزيني وأنا، والمكلف بالأرشيف أحمد العلمي، أما الاتصال مع معاوني المخزن المقربين ومعاوني أوفقير والدليمي فيعهد بها إلى هؤلاء العشرة أيضاً.
التنسيق بين مصلحة مكافحة الشغب والمصالح الأخرى التابعة ل”الكاب” وبين وزارة الداخلية والإدارة العامة للأمن الوطني وجهاز الموساد الإسرائيلي.
العملاء العشرة
لقد كان هؤلاء العملاء العشرة الذين سهر على تدريبهم ثلاثة خبراء من جهاز المخابرات المركزية الأمريكية، وتم تعيينهم في “الكاب1” يعرفون جيداً التفاصيل الدقيقة في مخطط العشعاشي مثلما يعرف هذا الأخير نفسه وأكثر قليلاً مما يعرف أوفقير والدليمي، كما كانوا يعرفون جميع ما يتعلق بالعمليات التقنية بالخارج والمكالمات الهاتفية الملتقطة والرسائل البريدية المطلع عليها والخاصة ببن بركة أو بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالمغرب والخارج، كما كانوا يقومون بحل شفرات التقارير السرية المشفرة والاطلاع على رسائل أوفقير والدليمي وكتابة التقارير الأسبوعية التي تسلم يداً بيد لرجال المخزن أو معاوني أوفقير والدليمي.
لم يكن هناك أي سر يتعلق بالمهنة بين العشعاشي وبين هؤلاء العملاء العشرة الذين اختيروا ليكونوا جزءاً من مجموعة الخمسين الذين سينفذون “مخطط العشعاشي”. أما فيما يتعلق بالأربعين الآخرين الذين اختيروا من مصلحة العمليات التقنية فقد كانوا جميعهم من المقتدرين المجربين، وكانت غالبيتهم تنحدر من شرق المغرب، أي من وجدة وضواحيها، وضعهم رئيسهم عبد الحميد جسوس رهن إشارة رئيس مصلحة مكافحة الشغب، وتم توزيعهم إلى ثلاث مجموعات منفصلة عن بعضها لكن متكاملة في مهماتها في الخارج وداخل المغرب:
المجموعة الأولى تكونت من عشرين شخصاً يرأسهم ميلود التونسي، وكان من بينهم محمد حليم وحسن بن يوسف وعبد القادر الدرفوفي ومحمد بتيش وأحمد بدري ومحمد تهاد ومحمد بن رحو وأحمد العلمي ومحمد باعلي ومحمد المنصوري. كلفت هذه المجموعة بملاحقة خطوات بن بركة واقتفاء أثره في سويسرا والجزائر ومصر وفرنسا وألمانيا وفي أي بلد آخر لمدة ثلاثة أشهر، بحيث يجب على رئيس المجموعة أن يكون حاضراً في المطار الذي سيصل إليه بن بركة أربعاً وعشرين ساعة من قدوم هذا الأخير أو على الأقل ساعات من قبل، لأن مواعيد وبرنامج المعارض المغربي ينبغي أن تكون معروفة سلفاً من خلال التقاط مكالماته الهاتفية أو الاطلاع على الرسائل الموجهة إليه أو الموجهة منه. تتفرق هذه المجموعة إلى مجموعات كل واحدة مكونة من شخصين أو ثلاثة، وفي الطائرة التي يستقلها بن بركة يجب أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة اشخاص منفصلون يجلسون أمام وخلف المقعد الذي يجلس عليه، وعلى هؤلاء أن يتخذوا لهم هيئات متنكرة بين الحين والآخر لكي لا يتم التعرف عليهم، ومن أجل هذا الغرض يتوفرون على الوسائل التي تمكنهم من ذلك وسبق أن تلقوا تكويناً من الخبراء الأمريكيين الثلاثة. وكل عملية اقتفاء أثر يتم تخصيصها بتقرير مشفر يحرره رئيس المجموعة مساء كل يوم ويوجه إلى رئيس الفريق ميلود التونسي، ويتم إرسال ملخص مضمون كل تقرير على حدة عبر الهاتف إلى وحدة الدوام الخاص في مصلحة مكافحة الشغب، سواء بواسطة رئيس المجموعة الصغيرة أو رئيس الفريق التونسي، وعلى هذا الأخير أن يعلم وحدة الدوام كل أربع وعشرين ساعة بآخر المستجدات المتعلقة بالمهدي بن بركة.
وفي نهاية كل أسبوع يضع تقريراً مفصلاً ومشفراً لشرح جميع التفاصيل المتعلقة بالعمليات التقنية، ويتم إرسال هذا التقرير الأسبوعي مصحوباً بجميع التقارير اليومية المفصلة كأدلة ومرفوقاً بالصور والأفلام المصورة للمهدي بن بركة إلى المغرب في الطائرة مساء كل جمعة أو صبيحة كل سبت في وقت مبكر، ويذهب أحمد اجدين بنفسه إلى مطار الرباط أو الدار البيضاء لأخذ هذه الطرود المغلقة جيداً التي تأتي باسمه ومن تم يسلمها باليد إلى رئيس وحدة الدوام الخاص يفتحها ويسجل محتويات كل طرد على حدة في سجل الدوام قبل أن يشرع في فك شفرات الطرود بصحبة مجموعة من شخصين أو ثلاثة.
المجموعة الثانية المكونة من عشرة أشخاص يرأسها محمد العلوي المدغري وتختص بالتقاط المكالمات الهاتفية الخاصة ببن بركة وفتح الرسائل الموجهة إليه أو المرسلة منه، وتشتغل هذه المجموعات على شكل مجموعات صغيرة تتكون من شخصين أو ثلاثة عليهم رئيس يضع تقريراً يومياً يسلمه إلى رئيس المجموعة كلها، وهذا الأخير يوصل كل شيء بشكل مستمر عبر الهاتف مرتين أو ثلاثاً في اليوم إلى وحدة الدوام الخاص، وبنهاية كل أسبوع يضع المدغري تقريراً مفصلاً ومشفراً بجميع العمليات التقنية الخاصة ببن بركة في جنيف أو باريس أو الجزائر أو القاهرة، ويرسله مصحوباً بالتقارير اليومية المفصلة والمشفرة كأدلة والصور والأفلام والأشرطة الصوتية بالطائرة إلى الرباط أو الدار البيضاء، حيث تصل إلى المطار باسم أحمد اجدين أيضاً مساء الجمعة أو صبيحة السبت، وهذا الأخير يسلمها باليد مباشرة إلى رئيس وحدة الدوام الخاص الذي يسجلها في سجل خاص قبل الشروع في حل شفراتها صحبة فريق مساعد.
المجموعة الثالثة تتكون هي الأخرى من عشرة أشخاص يرأسها بن منصور، وهي مختصة في التقاط المكالمات الهاتفية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية والرسائل البريدية الخاصة به سواء في الرباط أو الدار البيضاء، أي نفس مهمة المجموعة السابقة ولكن في المغرب.
ويوجه الرؤساء الثلاثة لهذه المجموعات الثلاث تقاريرهم المفصلة والمشفرة إلى العميد عبد الحميد جسوس رئيس مصلحة العمليات التقنية أو الكولونيل “ستيف” من جهاز المخابرات المركزية الأمريكية المستشار التقني له.

لحلقة (7)
المجتمع تنشر الترجمة الكاملة للكتاب المثير لرجل المخابرات المغربي السابق أحمد بخاري “مصالح الدول: كل شيء عن قضية بن بركة”
كان ل”الكاب” في عام 1965م مكتبان كبيران مختلفان، الأول مركزي في الرباط ومكاتب إقليمية في ست مدن، المكتب المركزي كان بمقر “الكاب 1” رقم 5 مكرر، شارع مولاي إدريس، حي حسان في الرباط، والمكاتب الإقليمية كانت تتكون من ست مفرزات للأمن في الدار البيضاء ومراكش وبني ملال وفاس ووجدة وتطوان، وكانت كل مفرزة عبارة عن فيلا سكنية بها قبو في حي هادئ ومعزول لا يشهد الكثير من المارة والعابرين.
أولاً: المكتب المركزي في الرباط كان مكوناً من ست مصالح مستقلة عن بعضها البعض ولكنها متكاملة في مهماتها:
1 مصلحة مكافحة الشغب، وهي الأكثر أهمية وبمثابة المفتاح، حيث كانت مهمتها تصفية الأحزاب السياسية والنقابات والطلبة، والحرب السرية ضد التخريب، وأعمال الاختطاف والتعذيب والإخفاء والاعتقال. كان العميد محمد العشعاشي هو الذي يقود هذه المصلحة ومعه مستشاره التقني الكولونيل مارتان، الخبير في جهاز المخابرات المركزية الأمريكية، وكان للاثنين ستة من المعاونين المقربين وهم: محمد مسناوي وعبد القادر صاكا وأحمد ادجين وأحمد زيني ومحمد العلمي وأنا، أما المعاونون الآخرون فهم بناصر الكرواني وبوجمعة بوفوس ومحمد الورديغي والزياتي والخمسي علال وزولو ومواك ومرزوق والزراد وعبد السلام البقالي وأحمد أعباب ومولاي إبراهيم أوفقير ومولاي أحمد أوفقير والمعطي ريحان وعبد القادر الوالي والسيدة ثريا السوسي، وكانت مصلحة مكافحة الشغب في العام 1965 تتوفر على شبكة واسعة تغطي كامل التراب الوطني.
2 مصلحة مكافحة التجسس، وتأتي في الصف الثاني، ومهمتها جمع المعلومات والوثائق من السفارات والقنصليات المعتمدة والإعلام والشخصيات الأجنبية والأماكن العامة والأندية والحانات والمراقص والفنادق والمطاعم والبيوت المغلقة…إلخ، وكان على رأسها علي بن تاهيلة ومعه مستشاره التقني الكولونيل (سكوت) الخبير في جهاز المخابرات المركزية الأمريكية، وإلى جانبهما ستة معاونين مقربين هم: سفير ومناع وفنيش وبلمنصور ومحمد السوسي والسيدة التونسي إبنة السوسي زوجة ميلود التونسي من مصلحة العمليات التقنية، وشقيقة ثريا السوسي كاتبة مصلحة مكافحة الشغب. وكانت تتبع لمصلحة مكافحة التجسس في العام 1965 شبكة واسعة تغطي جميع التراب الوطني.
3 مصلحة العمليات التقنية التي تقع في الصف الثالث من الأهمية، وكانت مهمتها المراقبة السرية والترصد السري والعلني والتنصت على المكالمات الهاتفية وإعداد الطرود البريدية المفخخة وإبطال أنظمة الإنذار وفتح الصناديق القوية للسيارات وزيارة الأماكن بسرية من دون ترك آثار، وكان على رأسها العميد عبد الحميد جسوس ومستشاره التقني الكولونيل ستيف والعميد محمد العلوي المدغري، وكان إلى جانب كل من جسوس وستيف عدد من المعاونين من العملاء السريين يفوق عددهم العشرين، منهم: ميلود التونسي ومحمد النويمي ومحمد حليم وحسن بنيوسف ومحمد بتيش وعبد القادر الدرفوفي وبادري ومحمد تيهاد والعلمي والمنصوري وبنرحو وباعلي، ولم تكن هذه المصلحة تتوفر على شبكة للمعلومات.
4 مصلحة الشؤون العامة التي تأتي في الصف الرابع، وكان دورها هو التنسيق بين الكاب والإدارة العامة للأمن الوطني ووزارة الداخلية والمكاتب الإقليمية للأمن والمصلحة الجهوية للتوثيق العام والتنظيم والمحاكم والدرك الملكي والقوات المسلحة الملكية وجميع الإدارات العامة في البلاد. وكان على رأسها العميد أحمد بن عبد الله ومحمد غاليت، ونحو عشرين معاوناً، ولم يكن بها أي خبير أمريكي كما لم يكن المخبرون فيها يحصلون على ملفات أو يتلقون أجوراً.
5 مصلحة الأمن التي تأتي في الصف الخامس، وكانت مهمتها القيام بحراسة وأمن مقر الكاب والنقاط الثابتة والسكن الوظيفي لموظفي الكاب، وكان على رأسها العميد بدر الدين بنونة ومحمد بنعلي، ومعهما نحو أربعين معاوناً، ولم يكن بها خبير أمريكي أو مخبرون.
6 المصلحة الإدارية والمالية التي تأتي في الصف السادس، وكانت مهمتها تدبير الوسائل البشرية والمادية والمالية الموضوعة رهن إشارة الكاب من طرف الإدارة العامة للأمن الوطني، كما كانت مسؤولة عن الصندوق الأسود رقم 1 الذي كانت تقدر ميزانيته بخمسة مليارات سنتيم في السنة. وكان على رأس هذه المصلحة العميد جميل الحسين الذي كان معه نحو عشرين من المعاونين من بينهم السيدة وريث والسيدة الكرواني والعربي وريث والمعطي الشرقاوي وبوبكر الحسوني وعبد الرفيع العلوي وخويا وعبد الله المسناوي والحريشي وفاتح ونجاح ومولاي علي وجناح، ولم يكن بهذه المصلحة خبير أمريكي ولا مخبرون.
ثانياً: أما المكاتب الإقليمية، فكان على رأس مفرزة (الدار البيضاء) العميد محمد عينان ورزيق مع 70 من العملاء السريين، وعلى رأس مفرزة (وجدة) العميد محمد السوسي و60 عميلاً سرياً، وعلى رأس مفرزة (فاس) العميد حميدة بن عبد الله و10 عملاء سريين، وعلى رأس مفرزة (تطوان) ضابط الشرطة الشعيبي و10 عملاء سريين، وعلى رأس مفرزة (مراكش) ضابط الشرطة حمودة ومساعده الشيفوني و20 عميلاً سرياً، وعلى رأس مفرزة (بني ملال) الضابط علابوش و10 عملاء سريين.
أما المفرزات الثلاث المختصة بالاختطاف والاعتقال والملاحقة والتعذيب والمطاردة والبحث والمتابعة والإخفاء وإخفاء الجثت فقد كانت تتبع العميد محمد العشعاشي شخصياً، وكان على رأس المفرزة الأولى المختصة بالدار البيضاء عبد القادر صاكا وإلى جانبه ستة عملاء من بينهم عبد القادر الوالي وعبد العزيز الغيناوي، وعلى رأس الثانية المختصة بمنطقة الغرب والشمال والشرق وتافيلالت وفاس ومكناس كان هناك بناصر الغيناوي، أما الثالثة التي تغطي منطقة الجنوب وسوس عبدة ودكالة وتادلة والشاوية الكبرى فقد كان على رأسها المعطي ريان.
كان عساكر الكاب عام 1965م نحو عشرة أشخاص نقلوا من القوات المسلحة الملكية إلى الكاب بعد إنشائها في بداية الستينيات أو من الإدارة العامة للأمن الوطني، ويتعلق الأمر ب:
الجنرال محمد أوفقير، رئيس الكاب ومدير الإدارة العامة للأمن الوطني ووزير الداخلية.
القائد أحمد الدليمي مساعد رئيس الكاب ومساعد مدير الإدارة العامة للأمن الوطني.
القائد بلهاشمي مساعد مدير مصلحة محاربة التجسس.
القائد علال بن الشيخ مساعد رئيس مصلحة مكافحة الشغب.
الملازم أول بناصر الكرواني الذي رقي إلى رتبة ضابط رئيس في مصلحة مكافحة الشغب.
الملازم أول العربي وريث الذي رقي إلى رتبة ضابط رئيس في المصلحة المالية والإدارية.
السيدة وريث مساعد أول لرئيس الكتابة الخاصة لأوفقير في الكاب.
السيدة الكرواني مساعد أول لرئيس الكتابة الخاصة للدليمي في الكاب.
القائد بوسرغين والقائد بوبكيري.
وكان مجموع العملاء في الكاب لا يتجاوز300 عميل بجميع مراتبهم المهنية، ثلثهم أي نحو 200 يوجدون رهن إشارة رئيس مصلحة مكافحة الشغب الذي كان يدير بدون أي رقابة الصندوق الأسود رقم 2 الذي كانت ميزانيته السنوية تقدر بحوالي ملياري سنتيم.
لقد كان التخطيط يتم لعمليات الاختطاف داخل مصلحة مكافحة الشعب وبخاصة في الوحدة المختصة ب”الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وبمساعدة عملاء مصلحة العمليات التقنية وعملاء مفرزات الأمن بكل من الدار البيضاء ووجدة وفاس وتطوان ومراكش وبني ملال. وكان العميد عبد الحق العشعاشي مسؤولاً عن مكتب أوفقير في الكاب وفي الإدارة العامة للأمن الوطني، والتنسيق بين الكاب ووزارة الداخلية والإدارة العامة للأمن والإشراف على الصندوق الأسود رقم 1 التابع للدليمي والذي كانت تقدر ميزانيته السنوية بنحو خمسة مليارات سنتيم، كما كان أيضاً الذراع الأيمن لأوفقير ورجل أسراره.
وفي العام 1965م كان الكاب يتوفر على عدد من شبكات المعلومات والأخبار تتكون من 2000 مصدر تتعاون مع مصلحتي مكافحة الشغب ومحاربة التجسس، مقابل أجرة شهرية ورخصة بيع الخمور ورخصة نقل وامتيازات أخرى مهمة جداً. وبين هذا العدد كان يتبع لمصلحة محاربة التجسس 200 مصدر، والباقي يتبع لمصلحة مكافحة الشغب، أي 1800 مصدر، كان بينهم مسئولون في الأحزاب السياسية والنقابات ومسؤولو الحركة الطلابية من جميع المستويات التعليمية، وهذا على المستوى المركزي في الرباط أو المستويات الإقليمية في المدن الكبرى أو المحلية في المدن الصغيرة. لقد كان عدد كبير من مسؤولي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الوطني لطلبة المغرب يشكل جزءاً من مصادر أخبار الكاب، في المغرب كما في الخارج، وبين هؤلاء المسؤولين كان هناك أعضاء من الكتابة الوطنية (أعلى هيئة تقريرية) في الرباط مقربون من المهدي بن بركة في المنفى، ومسؤولون شباب من الاتحاد الوطني للطلبة يدورون حول زعيم المعارضة المغربية في الجزائر والقاهرة وخاصة في باريس.
في مصلحة مكافحة الشغب كان من عادتنا أن نقدم إحصاءات وتحليلات دورية تهم حصيلة ما تقدمه تلك المصادر من معلومات وأعداد هذه المصادر، مع إجراء مسح لكل القصاصات بشكل سنوي، وتسمح لي هذه الإحصاءات والتحليلات اليوم بالقول إن تل المصادر كانت تشكل نسبة 70% من أعضاء المكاتب السياسية (أعلى هيئة تقريرية) المنتخبين بشكل ديمقراطي داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، هؤلاء كانوا يتعاونون مع الكاب، وأقول 70% من المسؤولين المنتخبين حتى لا يتم الخلط بين هؤلاء وبين الأعضاء الثانويين، أما في الأحزاب السياسية الأخرى، فإن النسبة تتراوح بين 70 إلى 90% بين مسؤوليها. إن هذا يبدو غير قابل للتصديق، ولكن ذلك كان الحقيقة في الحياة السياسية المليئة بالنفاق والوقاحة، وقد حصل هذا قبل 1965م وبعدها لأن الغالبية من رجال السياسية قد وقعوا في فخ الكاب بين 1960 و1973م.
من هنا يجب أن أقول بأن المهدي بن بركة كان محاطاً دون أن يعلم بعدة متعاونين في المغرب بين مايو 1962 ويوليو 1963م، وفي خارج المغرب أيضاً، سواء في فرنسا أو الجزائر أو مصر أو ألمانيا أو إسبانيا أو تونس خلال الفترة التي عاشها في المنفى بين يوليو 1963 وأكتوبر 1965، لقد اقترف بن بركة خطأ كبيراً بالتقليل من أهمية العملاء السريين للكاب، معتقداً أن هؤلاء هم أنفسهم أولئك الهواة وقليلو الخبرة الذين كانوا يملئون الساحة بين 1956 و1960م تحت إمرة عميد الشرطة محمد الغزاوي، إنه لم يكن يعرف أن الملك محمد الخامس قد فوض إلى خبراء أمريكيين من جهاز المخابرات المركزية الأمريكية مهمة إعادة تنظيم وإصلاح جهاز المخابرات المغربية، وأن هؤلاء كانوا متمرسين جيداً في قضايا التجسس والاستعلامات والتوثيق!.
الفصل الثامن 23 مارس
خلال أربعين عاماً من الاحتلال الفرنسي كان المغرب يعيش في وضع تخلف كبير جداً على مستوى التعليم، ولذلك رأى العديد من الأسر البسيطة في استقلال البلاد علامة على ظهور الحق في تعليم أبنائها، وجميع الذين عاشوا تلك الفترة يتذكرون هذا جيداً، إذ كان الاستقلال وثبة جماعية نحو المدارس، حيث أخذ الآباء والأمهات يندفعون إلى المدارس التعليمية لتسجيل أبنائهم وأحفادهم. لقد كان العطش إلى التعلم كبيراً جداً إلى حد أن الأسر الفقيرة كانت تفعل كل ما تستطيع لتعليم أطفالها، ففي بلد لا تتجاوز فيه نسبة المتعلمين ال10% كانت معرفة القراءة والكتابة تفتح طريق المستقبل، وأي شهادة مدرسية مهما كانت تضمن حياة مستقرة ووظيفة في الدولة لأن المؤسسات والإدارات العامة كانت تدمج الشباب الحاصل على الشهادة تعليم الابتدائي بدون إجراء مسابقة.
كانت الدولة في حاجة إلى مضاعفة عدد المدارس الابتدائية الموجودة وبناء مدارس جديدة، لكن الجهود كانت أقل من المطلوب، لأن كل سنة كانت تشهد تقدم 300 ألف طفل للتسجيل، وكانت عملية التسجيل تتطلب من الأسر المعوزة أعباء مالية كبيرة، وأحياناً كان الآباء والأمهات يقفون في طوابير الساعات الطوال أمام إدارات المدارس للحصول على حقهم في تسجيل أبنائهم، لكن بالرغم من ذلك لم يكن التسجيل يفتح للأطفال طريق الولوج إلى النظام التعليمي، إذ في العام 1965م لم يجد 2 من كل 3 أطفال في سن التعليم فرصتهم في سلك التعليم. في هذا العام أغلقت الدولة عدداً من المدارس تحت ضغط الأزمة الاقتصادية، ودفع التقشف الدولة إلى وضع قرارات واختيارات مؤلمة بل كارثة.
مظاهرات الطلبة
وفي مارس 1965م وقَّع وزير التربية الوطنية دورية تنص على توجيه التلاميذ الذين تتجاوز أعمارهم ال 18 سنة إلى التعليم التقني بشكل إجباري، استناداً إلى معايير أوروبية صرف شجعته على اتخاذ هذا القرار الخطير. فحسب تلك المعايير الأوروبية يعتبر التلميذ الذي يبلغ عمره 18 سنة فما فوق ولم يعبر مرحلة التعليم الابتدائي سيئ التوجيه، إذ بسبب عدم وجود مقاعد شاغرة أصبح من غير الجائز بقاء التلاميذ سنتين أو ثلاثاً في المرحلة الإعدادية التحضيرية، حيث لم يكن التعليم يتم سوى في نصف الوقت، وهذا يعود إلى تأخر المغرب في بدء النظام التعليمي، مما فوَّت على الأطفال والشباب إمكانية إتمام تعليمهم الابتدائي في سن 17 سنة، من هنا كان رد الفعل العنيف والمبرر تماماً وغير المتوقع ضد قرار وزير التربية الوطنية.
وفي 23 مارس من تلك السنة انتشر الخبر مثل الفتيل في جميع المدارس الإعدادية والثانوية في الدار البيضاء، فنزل الأطفال بسرعة إلى الشوارع، وحدثت في ثانوية محمد الخامس الواقعة في شارع 2 مارس مواجهات خطيرة، وتجمع التلاميذ في الساحة الكبيرة وبدؤوا في رفع شعارات معادية للنظام قبل أن يغادروا الثانوية متوجهين إلى ثانوية مولاي عبد الله في حي “لارميتاج”، فسار التلاميذ في صفوف منظمة رافعين شعارات منددة بالسلطة، وكان عدد المتظاهرين يتزايد باطراد حتى أصبحوا آلافاً، وما إن حان وقت الظهيرة حتى كان عدد المتظاهرين في الشارع قد وصل إلى مئات الآلاف، حيث التحق بالمظاهرات عشرات الآلاف من الشباب الساخط الذي غادر المدرسة، وتحولت المظاهرات إلى بحر آدمي تدفق في جميع أزقة وشوارع المدينة القديمة وغطى المعابر الحيوية، لا يتراجع أمام أي شيء ويسطو على أي شيء يرمز إلى السلطة في طريقه، المكاتب العمومية والإدارات والبنوك ومخافر الشرطة ودوائر الأمن في الأحياء، كلها تعرضت للنهب أو الهدم أو الحرق، كما تعرض المتظاهرون إلى السيارات والحافلات العمومية وأضرموا فيها النيران، وكسروا زجاج المحلات التجارية الراقية لنهب ما فيها.
وبدأ رجال الأمن والشرطة يطلقون الرصاص الحقيقي في الهواء لتخويف المتظاهرين أو الدفاع عن أنفسهم، لكن بلا جدوى، فقد زاد ذلك في غضب المتظاهرين فحاصروا مقر الشرطة في “درب الكبير” بشارع أحمد الصباغ وأغلقوا الباب من الخارج وحاولوا إشعال النار في رجال الأمن المتخفين بالداخل، ففر رجال الأمن من الخلف بطريقة منظمة للنجاة بأرواحهم من ساحة الإعدام، حتى سجن “غبيلة” تعرض له المتظاهرون بهدف فتح أبوابه أمام المعتقلين. وتحولت المظاهرات إلى هبَّة شعبية بالمعنى الصريح للكلمة، بل ثورة دموية، وغطيت ساحات المدينة القديمة بالدماء والنيران، ولم يستطع المئات بل الآلاف من رجال الأمن والشرطة وعناصر القوات المساعدة فعل شيء أمام ذلك السيل البشري الذي تجاوزهم، وتدخلت كتيبة القوات المسلحة الملكية بالدار البيضاء، لكن دون جدوى، فكان لا بد من الاتصال بكوماندوهات القوات المساعدة ووحدات القوات المسلحة الملكية في الثكنات الواقعة بعين حرودة والرباط والصخيرات وبن سليمان للتدخل سريعاً قبل أن يتحول الوضع إلى كارثة حقيقية.
وفي النصف الثاني من النهار أقلع الجنرال أوفقير عبر مروحية تابعة للقوات المسلحة الملكية، مرفوقاً باثنين من البارعين في إطلاق النار من الكاب: بناصر الكرواني والمعطي ريحان، وعندما أصبحت المروحية فوق ساحة المدينة القديمة بدأ أوفقير ومرافقاه بإطلاق النيران على المتظاهرين. استمرت “دورات الرمي” نحو ثلاث ساعات مخلفة وراءها مجزرة حقيقية، لأن المروحية كانت مجهزة بثلاث رشاشات وعدد كبير من صناديق الذخيرة، وقد استعمل أوفقير نفس تلك المروحية لإطلاق النار على المتظاهرين في الدار البيضاء يومي 24 و25 التاليين.
لقد زعزعت تلك المظاهرات التي عمَّت أيضاً جميع مناطق المملكة النظام المغربي وكادت أن تودي به إلى الحافة وخلال الأيام الثلاثة، من 23 إلى 25 مارس، كان الملك الحسن الثاني يتابع من قصر الصخيرات تلك الأحداث الدامية، من خلال التقارير التي كانت تصله كل صباح من محمد العشعاشي. وكان هذا الأخير قد أرسل العشرات من العملاء لمتابعة التظاهرات وتسجيل الوقائع، وكنت أنا من بين هؤلاء.
وبعد انتهاء المظاهرات تم إحصاء نحو 1550 قتيلاً على الأقل، وآلاف الجرحى وآلاف المعتقلين، وفي يوم 23 مارس وحده أمكن إحصاء 550 قتيلاً في ثلاجة الأموات بمستشفى الدار البيضاء. وقد فرض أوفقير حظراً للتجول طيلة تلك الأيام الثلاثة الحزينة التي بدت بلا نهاية، ما بين الساعة السادسة مساء والسادسة صباحاً، وكانت الساعات الاثنتا عشرة تلك تسمح بالقيام ب”التنظيف” لجمع الجثت التي تنتشر في الشوارع في شاحنات صغيرة ذات صناديق، تابعة للجماعات المحلية ومخصصة لجمع القمامة. لقد كان هناك عدد كبير من الأطفال والنساء والشيوخ بين الأموات، أصيبوا بعدة رصاصات في الظهر والرأس. لكن المعلومات التي تم الحصول عليها في عين المكان تجعلني أؤكد أن عدد القتلى الذي حدد في 1550 لم يكن هو الرقم الحقيقي، لأنه لم يشمل عشرات الجثث التي أخطأها إحصاء عملاء الكاب لهذا السبب أو ذاك، فالشاحنات ذات الصناديق التي كانت تجمع الجثث لم تكن تتوجه بها إلى ثلاجة الأموات في المستشفى، بل كانت تتجه بها إلى حفر كبيرة، وقبور جماعية حفرتها الآلات الضخمة على بعد نحو 22 كيلومتراً من المدينة قريباً من مقلع للأحجار. وكان هذا المقلع في ملكية شركة “سيكسكام” التي كان يديرها يهود (شركة غرابال بين 1990 و2000م)، كما كانت الآلات الضخمة للحفر تابعة له، وقد أصدر الجنرال أوفقير أوامره إلى عميد الأمن علي بنقاسم لحجزها، حيث ظلت تعمل ليلاً ونهاراً طيلة أيام الأحداث الدامية لحفر القبور الجماعية ودفن الجثث، كما أصدر أوامره لمصادرة جميع منتجات معامل الدار البيضاء من الجير والجبس من أجل استعماله في تغطية الجثث بطبقة كبيرة منه قبل “الدفن” بالتراب ثم تغطية المقابر بطبقة أخرى من الجبس بسمك متر تقريباً مع التراب.
بعد أيام قليلة من تلك الأحداث ظهر الملك الحسن الثاني على شاشة التلفزيون يوم 29 مارس 1965م، حيث توجه إلى الشعب المغربي معبراً عن حسرته: “لقد وضعتني في اختبار شعبي العزيز” وبعد أن قدم عرضاً سوداوياً للوضعية الاقتصادية في البلاد، استشهد بتشرشل ولم يعد بغير “الدم والعرق والدموع” لكن الدم سال منه الكثير، ثم غمز ناحية “الوسطاء السياسيين” أي الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، مستعملاً مصطلحات لا تترك أي مجال للشك في مسؤوليتها عن تلك الأحداث والوقوف وراءها. كان الحسن الثاني في أقصى حالات الغضب، فقد شعر بأنه تعرض للإهانة من طرف هؤلاء الشباب الذين خرجوا للشوارع رافعين شعارات وكلمات معادية لحكمه أمام جميع وسائل الإعلام الدولية، وتعرَّضوا بالضرر لجميع رموز الدولة من رجال أمن وشرطة وقوات مساعدة وجيش، وحمل المسؤولية في كل ما حصل للشباب ولآبائهم الذين وصفهم بالكلاب التي تستحق “الفلقة”.
يتبع
الحلقة (8)
المجتمع تنشر الكتاب المثير لرجل المخابرات المغربي السابق أحمد بخاري “مصالح الدول: كل شيء عن قضية بن بركة
أراد الملك إلقاء المسؤولية على أكتاف الأحزاب السياسية والنقابات في تلك الأحداث التي تحدث عنها الإعلام في الخارج كثيراً وخاصة في فرنسا وذلك في حوار له مع الصحافي الفرنسي إريك رولو مراسل صحيفة “لوموند” بالرباط.
كانت تلك الأحداث يمكنها أن تغير النظام في المغرب؛ ف”المعارك” غير المتكافئة في الوسائل والإمكانات والدماء التي سالت في الشوارع والجثث التي غطت الأرض كانت في الحقيقة تعيد إلى الأذهان تلك الصور ظهرت في فيلم البؤساء المأخوذ عن الرواية الشهيرة لفيكتور هوجو وبطله “جافروش” وقد كان هناك الآلاف من “جافروش” في الدار البيضاء!
من أجل إعطاء القارئ فكرة واضحة عما حدث في تلك الفترة سأقدم بعض الإشارات والتفاصيل التي لم تكن معروفة حتى يومنا هذا سواء لدى الرأي العام الوطني أو الدولي مما نعرفه نحن الذين كنا قريبين من الدائرة المقربة من رئيس مصلحة مكافحة الشغب في “الكاب” محمد العشعاشي:
في تلك الفترة كان العشعاشي معتاداً على وضع تقرير تحليلي شهري يشرح فيه الأوضاع بالداخل كما بالخارج على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وكانت تلك التقارير توجه إلى القصر الملكي وأوفقير والدليمي، وفي تقرير فبراير 1965 كتب العشعاشي بأن تطبيق دورية وزير التربية الوطنية من شأنه أن يؤدي إلى ردود فعل سلبية لدى جميع تلاميذ وشباب المدارس والثانوي في عموم البلاد، والعديد من مصادر المعلومات التابعة للكاب في المكاتب السياسية للأحزاب الذين كانت غالبيتهم من رجال التعليم بلغوا عملاء الكاب “مباحث أمن الدولة” مرات عدة بأن تطبيق الدورية الوزارية سوف يؤدي إلى ثورة حقيقية!.
لقد كان الخطر كبيراً وكان الجنرال أوفقير يعرف كل هذه الأشياء ثلاثة أسابيع قبل وقوع تلك الأحداث وكان بمقدوره الحيلولة دون وقوعها من خلال تأجيل تنفيذ تلك الدورية المخجلة أو إلغائها أصلاً، ولكنه بعدم كفاءته واغتراره بنفسه قلل من المخاطر المحتملة وردود الفعل إزاء تلك الدورية. وعشية وقوع الأحداث أعطى أوفقير أوامره لنشر قوات التدخل السريع أمام جميع المدارس والثانوي والإعدادي صبيحة يوم 23 مارس تاريخ بداية سريان مفعول الدورية الوزارية من أجل إخافة التلاميذ والحيلولة دون تظاهرهم، حدث ذلك ولكن وقوف رجال الأمن بزيهم العسكري أمام التلاميذ أدى إلى رد عكسي!
في صبيحة يوم 23 مارس انتشر العشرات من عملاء الكاب قرب المدارس والثانوي في الدار البيضاء والرباط وبعض المدن الأخرى بأوامر من العشعاشي، وقد أشار هؤلاء العملاء السريون المتدربون جيداً في الساعة التاسعة صباحاً إلى أنه يجب انتظار أحداث خطيرة، وقد حاول العشعاشي الاتصال في ساعة مبكرة من ذلك اليوم بأوفقير في القنيطرة لإطلاعه على الوضع الميداني، ولكن الجنرال لم يكن جاهزاً، فأرسل أحد العملاء في الكاب هو أحمد ادجين لإيقاظه من سكره لأنه كان قد قضى ليلة ماجنة في ضيعته ب”الفوارات” قريباً من القنيطرة. وحاول ادجين بكل طاقته أن يجعل الجنرال يستفيق ويسترد وعيه قبل منتصف النهار على الساعة الثانية عشرة أو الواحدة لكي يكون في الرباط في الثانية بعد الزوال، وعندما حضر في تلك الساعة المتأخرة، أخذ معه الكرواني وريان وهما اثنان من أبرع رماة الرصاص وتوجه إلى الدار البيضاء حيث وقع حمام الدم الذي ذكرناه في الحلقة السابقة!
الفصل التاسع
شخصية بن بركة عام 1965
في العام 1965 كان بن بركة يستقر رسمياً في سويسرا التي منحته اللجوء السياسي، بينما كانت أسرته تعيش في القاهرة وقد أصبح زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية شخصية سياسية من الدرجة الأولى على الصعيد الدولي، فقد كان يهيمن على جميع تيارات اليسار الموحد وأصبح نجماً في المغرب العربي والعالم العربي وإفريقيا وآسيا بل حتى في أمريكا اللاتينية، ونسج علاقات قوية مع عدة رؤساء دول في العالم كله، كانوا يتعاملون معه على أساس أنه واحد منهم بكل الاحترام الذي يليق بالرؤساء.
وفي هذه السنة اتخذ زعماء بلدان العالم الثالث قراراً بتنظيم قمة القارات الثلاث بهافانا عاصمة كوبا في يناير 1966، بعد قمة باندونج الشهيرة التي أظهرت العالم الثالث في الواجهة مع كبار زعمائه كعبدالناصر ونهرو وسوكارنو وتيتو. وكانت قمة كوبا ستشهد ظهور الحزب الأقوى في العالم الثالث مع فيديل كاسترو الكوبي وبن بلة الجزائري ونكروما الغاني وآخرين، وجميع هؤلاء الزعماء اختاروا بالإجماع بن بركة كرئيس للجنة التحضيرية لذلك المؤتمر. هذه المسؤولية استغرقت كامل وقت المعارض المغربي، وفي ذلك الوقت كان الخلاف بين روسيا والصين كبيراً وكان ينبغي البحث عن رجل بمثل ذكاء بن بركة وقدرته على الإقناع للحيلولة دون اندلاع أزمة بين البلدين يمكنها أن تعيق عقد قمة هافانا.
كان المغرب في هذه الفترة يعيش أوضاعاً صعبة، خصوصاً بعد أحداث 23 مارس الدامية في الدار البيضاء حتى الدول التي كانت توفر الحماية للنظام مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية كانت تعتقد أن النظام في طوره الأخير. وبالنسبة للنظام كانت تلك الأوضاع تجعله مقتنعاً بأنه ينبغي “فعل شيء ما” من أجل تنفيس الاختناق الداخلي وهذا الشيء جاء بعد أيام قليلة من تلك الأحداث عندما قرر الحسن الثاني بمناسبة عيد الأضحى إصدار عفو شامل على جميع المعتقلين السياسيين، بمن فيهم الذين كانوا محكومين بالإعدام مثل الفقيه البصري وعمر بنجلون ومومن الديوري، وفي نفس الاتجاه وبهدف امتصاص الاحتقان الداخلي، وعبر عن أمله بوضع “حكومة وحدة وطنية” وقال إن المشاورات بشأنها سوف تبدأ قريباً مع جميع الأحزاب السياسية بما فيها “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”!.
شخصية مهمة دولياً
بعد فترة قليلة وتحديداً في 8 يونيو 1965 قرر رئيس الدولة حل البرلمان الذي أفرزته انتخابات 1963 المزورة وأعلن حالة الاستثناء، الأمر الذي مكنه من تركيز جميع السلطات بين يديه لمدة طويلة وصلت إلى خمس سنوات.
كان الحسن الثاني يتابع جيداً أخبار المهدي بن بركة في المنفى، وقد فهم سريعاً وأكثر من أي شخص آخر كيف أصبح زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية شخصية سياسية مهمة على الصعيد الدولي وفي زمن قصير جداً، وقرر أن يتفاوض معه بطريق غير مباشر من أجل إقناعه بالعودة إلى البلاد وإشراك حزبه في حكومة وحدة وطنية.
لكن المهدي بن بركة كان يدرك أن المغرب في أزمة حقيقية وأن المظاهر الخارجية تخفي الكثير من الحقائق، وما يسمى ب”التعددية” وكذا صحافة الأحزاب المعارضة ليس سوى واجهة ديمقراطية جميلة تعطي صورة ناصعة للمغرب في البلدان الأوروبية، أما في الداخل فكان هناك التزوير الانتخابي والمساومات السياسية والملاحقات الأمنية للحيلولة دون أي تقاسم للسلطة السياسية. لم يكن مسموحاً بمعارضة النظام إلا وفق مسافة معينة لا تتجاوزها وفي أحسن الأحوال كان يسمح لها بأن تكون “مظهراً ذكياً” ولكن عندما تحاول أن تحشر أنفها في قضايا الحكم فإن الصاعقة تنزل عليها. وكانت قواعد اللعبة معروفة جيداً ومحددة، أما أولئك الذين كانوا يرفضون تلك القواعد أو يتبرمون منها فلم يكن أمامهم سوى خيار واحد أخير: اللجوء إلى التآمر، ولكن التآمر هو الآخر كان يقدم خدمة للنظام لأنه يوفر له مبرراً قوياً لسحق المعارضة كلها وبالرغم من ذلك ظل بن بركة، وحتى لحظة مماته مقتنعاً بأنه يمكن التوصل إلى تفاهم مع النظام المغربي.
في 25 أبريل 1965 سافر زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى ألمانيا، فالتقى هناك في بيت أخيه عبدالقادر الأمير مولاي علي ابن عم وصهر الحسن الثاني الذي كان سفيراً للمغرب في باريس، حيث جاء إلى ألمانيا مبعوثاً من الملك إلى بن بركة لمفاتحته في موضوع العودة إلى المغرب في أقرب الآجال، وكرد على الاقتراح ألقى بن بركة على الأمير سؤالاً ظل يؤرقه كثيراً:”هل يمكن أن تقبل القوات المسلحة الملكية انفتاحاً للنظام على اليسار؟” ورد عليه الأمير مولاي علي قائلاً إن الجيش “لا يشكل مشكلة حقيقية”.
لقد كان بن بركة في العمق مستعداً لتحمل كامل مسؤولياته، فاقترح على مبعوث الحسن الثاني تشكيل حكومة من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمشاركة شخصيات مستقلة يعينها الحسن الثاني نفسه لمدة سنتين وببرنامج إصلاحات عميقة تشمل جميع القطاعات وخصوصاً الإصلاح الزراعي، أما فيما يتعلق بعودته إلى المغرب فقد وعد بن بركة بأنه سيفعل ذلك “بشوق كبير حالما يفرغ من التزاماته الدولية” في إشارة إلى قمة القارات الثلاث في كوبا.
مشروع مهم
خلال هذا الوقت كانت المشاورات بين الملك الحسن الثاني والقياديين البارزين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية تجري بوتيرة بطيئة قبل أن تتوقف نهائياً. استقبل الملك عبدالرحيم بوعبيد وعبدالرحمن اليوسفي فأبلغاه أن بن بركة مستعد للعودة إلى البلاد ولكن على أساس اتفاق مكتوب فاجأ الشرط الذي وضعه بن بركة الملك وصدمه، فهو لم يكن يتوقع شيئاً كهذا، خاصة بعد نجاح مهمة ابن عمه مولاي علي في ألمانيا.
وفي نهاية شهر أبريل 1965 اتصل ببن بركة شخص يدعى فيليب بيرنيي وهو صحافي كان معروفاً في وسائل الإعلام الفرنسية واليسار الفرنسي، وعمل صحافياً في الخمسينيات بإذاعة المغرب في الرباط، وقد أصبح صديقاً لبن بركة منذ فترة طويلة خلال مرحلة المنفى. أعلن بيرنيي أنه يريد الحديث مع بن بركة بخصوص “مشروع مهم” واقترح عليه بكل بساطة المشاركة في فيلم سينمائي كمستشار تاريخي، وقال إن الفيلم ستنتجه شركات إنتاج تابعة لليسار الفرنسي، أما عن موضوعه فهو يدور حول مشاكل الاستعمار الذي هو موضوع الساعة، في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط والمغرب العربي والعالم العربي والإسلامي. وكان اقتراح بيرنيي علاوة على أهميته يتضمن تعويضات سخية: فبن بركة سيتسلم مبلغ 20 مليون فرنك فرنسي مقابل خدماته في الفيلم، إضافة إلى نسبة 12% من أرباح الفيلم بعد تسويقه، وتعويضاً يومياً طيلة الفترة التي يستغرقها تصوير المشاهد، هذا دون احتساب تغطية جميع مصاريف النقل بالطائرة والنقل المختلف والإقامة في أي مكان في العالم يتم التصوير فيه، وأضاف بيرنيي لبن بركة أنه سيتسلم مقدماً 10 ملايين فرنك فرنسي بعد توقيعه على الاتفاق، وشيكاً بقيمة 10 ملايين أخرى مقابل أول جلسة تصوير.
وافق المعارض المغربي سريعاً وبدون شروط، فالمبلغ المقترح يوازي ما تقدمه له الدولة الجزائرية في عشر سنوات، وفوق ذلك كانت علاقته جيدة ببيرنيي وكان يحترمه. وودعه هذا الأخير على أمل أن يحدد معه مواعيد خلال الأسابيع والشهور القادمة، من أجل تقديمه إلى منتجي ومخرجي الفيلم المسمى “كفى” (باسطا). ورغم برنامجه المليء بالمواعيد والمهام نجح بن بركة في أن يعطي مواعيد للصحافي الفرنسي والمنتجين والمخرجين، وكانت أمكنة تلك المواعيد تختلف بحسب رغبات بن بركة والآخرين بين جنيف والقاهرة والجزائر وباريس، وكان بيرنيي في كل تلك اللقاءات يتكلف بمهمة تقديم الشخصيات بعضها للبعض والتعريف بها، فهو مثلاً الذي قدم لبن بركة الفرنسيين الأربعة الذين كانوا يقيمون بالرباط والمحمدية حيث كانوا يديرون بيوتاً مغلقة: جورج بوشيش وجوليان ليني وجون باليس وبيير دوبايل، بصفتهم ممثلين عن “المجموعة الممولة للفيلم السينمائي”، كما قدم إليه أيضاً الفرنسي جورج فيجون والكاتبة الفرنسية مارجريت دوراس بوصفهما كاتبي السيناريو، والمخرج الفرنسي المعروف في الأوساط السينمائية الفرنسية جورج فرانجو بوصفه مخرج الفيلم، كما تم تقديم أنطوان لوبيز العميل المزدوج لكل من “مكتب التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس” الفرنسي و”الكاب1″ وصديق بن بركة منذ الخمسينيات عندما كان يعمل لفائدة شركة فرنسا للطيران بمطار طنجة بوصفه “منسق المشروع” أما بيرنيي فقد كان يقدم نفسه بوصفه “مستشار مشروع فيلم كفى والمكلف بالإعلام”.
تعقيد القضية
كان بن بركة في تلك الفترة كثير الطواف في العالم من أجل التحضير لقمة القارات الثلاث التي كانت مرشحة في يناير 1966 بكوبا، لذلك كان برنامجه مليئاً بالمواعيد واللقاءات والأسفار، ولأنه كان بحاجة للمال فقد خصص ساعات في الشهر لدراسة مشروع الفيلم واللقاء مع فيليب بيرنيي وأصدقائه، بانتظار التوقيع على العقد في أكتوبر 1965 وبداية تنفيذ المشروع في ديسمبر من نفس العام، وكلف ثلاثة من أصدقائه في “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” و”الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” بجمع كل ما يتعلق بالاستعمار الفرنسي من أرشيف الجمهورية الفرنسية، والثلاثة هم: مهدي العلوي الذي كان برفقة بن بركة في حادثة سير 18 نوفمبر 1962، والتهامي الزموري وشخص آخر يدعى برادة.
في يوليو 1965 عاد شقيق بن بركة عبدالقادر بن بركة إلى الرباط من أجل إيجاد شقة لأسرة شقيقه التي كانت تعيش حتى ذلك الوقت في القاهرة، لأن المهدي كان من المفترض أن يعود إلى المغرب خلال الفترة ما بين يناير وفبراير من ذلك العام بعد انتهاء قمة القارات الثلاث، حسبما تسرب من اللقاء الشهير بينه وبين الأمير مولاي علي قبل ذلك في 25 أبريل، ولكن أحمد الدليمي كان يفكر في شيء آخر، محاولاً تعقيد القضية أكثر، ولذلك وضع العراقيل أمام عبدالقادر بن بركة لدفعه إلى مغادرة المغرب.
وعلى صعيد آخر كان الحسن الثاني معتاداً على أن يرى رغباته وأوامره تطبق في الحال دون أي تردد أو انتظار أسابيع أو أشهر، وكان المقربون منه مطلعين على قلقه من بن بركة وغضبه عليه لأنه لم يعد إلى المغرب في أبريل 1965 مباشرة بعد لقائه بالأمير مولاي علي.
وفي 20 أغسطس 1965 أربعة أشهر بعد اللقاء بين المهدي ومولاي علي وفي يوم عطلة تزامنت مع ذكرى نفي الملك محمد الخامس وعائلته في 20 أغسطس 1953 إلى جزيرة مدغشقر ألقى الحسن الثاني خطاباً تضمن ما يشير إلى أنه قد استثنى المهدي بن بركة من العفو حيث قال: “إذا كان هناك بعض الأشخاص لديهم نوايا سيئة أعطوا لمبادرتنا تفسيراً مغرضاً وتمادوا في الخطأ واستمروا في الإساءة إلى وطنهم ومواطنيهم، فإن الأمة قد تبرأت منهم ولفظتهم الجماعة”!
كان ذلك الخطاب يقصد بن بركة بشكل صريح، ولكن هذا الأخير بقي متشبثاً بتفاؤله ومصراً على العودة إلى المغرب متعباً من حياة المنفى. وكان يعرف أن الملك الحسن الثاني غاضب منه بسبب تأخره في العودة، غير أنه كان محافظاً على الأمل في أن يتم ترتيب كل شيء بسرعة لكنه كان عنيداً ومصراً فيما يتعلق بموضوع أوفقير، وكان يقول للمقربين إليه: “إما أنا وإما هو”.
وفي سبتمبر 1965 نزل بن بركة في مطار هافانا في زيارة عمل لبعض الساعات، فروى له “فيديل كاسترو” كيف أن الحسن الثاني ضغط عليه بشكل كبير من أجل حرمانه من المشاركة في قمة القارات الثلاث، وتابع كاسترو قائلاً إن الملك هدد بأن يوقف استيراد السكر الكوبي، مضيفاً أن عدداً من رؤساء بلدان العالم الثلاث المؤثرين قد تم الاتصال بهم لنفس الغرض بشكل أو بآخر لإقناعهم بإبعاد بن بركة من الأمانة العامة للقمة، هذا المنصب المهم الذي من شأنه أن يسمح لزعيم “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بأن يصبح أمين عام المؤتمر الثلاثي لسنوات عدة، الأمر الذي سيجعل منه شخصية بارزة على المستوى العالمي، لأن ذلك المنصب أكثر أهمية من منصب الأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية.
حوار الأهرام
في بداية شهر أكتوبر 1965 أعطى المهدي بن بركة بالقاهرة حواراً صحافياً ساخناً لمحمد حسنين هيكل رئيس تحرير صحيفة “الأهرام” الأكثر انتشاراً في العالم العربي، وقال بن بركة الكلمات الفظيعة التالية: “إنني أشعر اليوم بالخطر أكثر من أي وقت، لقد مددنا يدنا للحسن الثاني وهو أيضاً مد يده إلينا من أجل التعاون فيما بيننا بعد قطيعة دامت سنوات” واعتبر أن الجيش الملكي الذي تدرب رؤساؤه على يد الاحتلال الفرنسي الذي خدموا فيه طيلة مسارهم المهني، يشكل خطراً على الملكية وعلى الشعب المغربي، ومن أجل تجنب هذا الخطر ينبغي تحقيق هذا التعاون: “إنهم يعتقدون أن تعاوننا مع الملك قد بدأ أو أنه على وشك أن يبدأ، وهم يريدون أن يتحركوا قبل أن يفقدوا مواقعهم، فإما أنهم سوف يمارسون على الملك ضغوطاً قوية وإما أنهم سوف يشنون في صفوفنا حملة تصفيات بجميع الوسائل، إنني لا أعرف ماذا سيحدث غداً، لكن الشعور بالخطر لم يكن قوياً كما هو اليوم”.
مر هذا الحوار الصحافي الطويل من غير تعليقات وقد كان آخر حوار لبن بركة. فقد كشف الحقيقة المحزنة لما يجري بالمغرب وما يدور حول الحسن الثاني الذي كان محاطاً بالمئات من الضباط العسكريين الذين كانوا متعاونين مع الجيش الفرنسي وفي أدنى السلم، ثم قذف بهم إلى المواقع الحساسة للدولة وأصبحوا يعيثون في كل مكان، في الديوان الملكي والإقامة الملكية والقصور المختلفة والجيش والأمن والداخلية والدفاع والوزارات المختلفة والمخابرات والكاب1 والعمالات والأقاليم، إلخ.
لقد وقع المهدي بن بركة على وثيقة موته من غير أن يدري، لأن أوفقير والدليمي ضابطي الصف السابقين في الجيش الفرنسي اللذين كانا ينتظرانه في منعطف الطريق منذ أعوام، واللذين أقسما أن يحصلا على جلده، لن يفوتا هذه الفرصة الآن للتخلص منه، كانت المناسبة سانحة لأن بن بركة لم يكن على علاقة جيدة مع جميع مكونات الساحة السياسية المغربية، وهي المناسبة التي كان الرجلان ينتظرانها منذ دخولهما إلى الكاب عام 1960!
يتبع…
الحلقة (9)
المجتمع تنشر الترجمة الكاملة للكاتب المثير لرجل المخابرات المغربي السابق أحمد بخاري “مصالح الدول: كل شيء عن قضية بن بركة”
في الأسبوع الثالث من أكتوبر 1965 قام الجزائري الأخضر الإبراهيمي أحد أصدقاء بن بركة المقربين بنصيحته بأن يكون حذراً ومعتدلاً في تصريحاته الصحافية وأن يحذر حتى في وجوده بالخارج وشرح له كيف أن الضباط السامين في القوات المسلحة الملكية يمكن أن يصلوا إليه في أي مكان في العالم لأنهم أصبحوا أقوياء ونسجوا علاقات مع جميع أجهزة الاستخبارات في دول العالم وعندما علم بموضوع الفيلم السينمائي “باسطا” نصحه بأن يتخلى عن المشروع أو أن يؤجل مواعيده قليلاً إلى أوقات لاحقة، لكن الإبراهيمي كان يجهل أن بن بركة في ضائقة مالية!
في مرحلة متأخرة وخلال اعتقاله في فيلا “بوشيش” لاحظ رجال الكاب الذين استنطقوه لمدة ست ساعات أن بن بركة ما يزال متفائلاً. لقد كان يعتقد بنية صادقة وبقوة أن التفاهم مع الحسن الثاني ما يزال ممكناً. لأنه لم يكن قد فهم أن السلطة بالنسبة للحسن الثاني تلميذه السابق في مادة الرياضيات شيء غير قابل للقسمة، ولم يكن قد فهم أن ضباط الصف القدامى في صفوف الجيش الفرنسي لن يقبلوا أبداً بالعودة إلى الثكنات والتخلي عن المليارات التي يجنونها من وراء الفساد ويخزنونها في الصناديق السوداء التي يديرونها بكل حرية وبعيداً عن أي رقابة من أي نوع وبدون تقديم فواتير لأحد غير أنفسهم، وأن هؤلاء العسكريين أصبح لهم نفوذ قوي في دائرة القرار في الدولة، على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات، خاصة أوفقير والدليمي اللذين كانا يملكان السلطة والمال القذر!
نصائح العملاء
كان بن بركة في العام 1965 على علاقة سيئة مع عدد من قادة ومسئولي حزبه، وتحديداً مع عبدالرحيم بوعبيد نائبه الأول، وعبد الرحمن اليوسفي نائبه الثاني في الكتابة العامة للحزب منذ المؤتمر العام الثاني سنة 1962 لقد كان يأخذ عليهما “نسج علاقات جيدة مع القصر” وكونهما ليّنين مع الملك في المفاوضات المتعلقة بعودته إلى المغرب، لأن تلك المفاوضات انتهت إلى الفشل، ووصل إلى قناعة أن بوعبيد ربما كان يرغب في بقائه في المنفى لأخذ مكانه على رأس “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” والحصول على ذريعة أخرى لتبرير لقاءاته المستمرة بالملك الحسن الثاني.
وناقش بن بركة كل هذه الأمور الخاصة بالوضع الداخلي لحزبه مع صديقه اليهودي “جو أوحنا” الذي كان أحد مصادر “الكاب1″ وبلغ أوحنا المعلومات التي حصل عليها إلى عميل الكاب محمد المسناوي عدة مرات طيلة سنة 1965 وهذه المعلومات تشكل موضوع تقارير عدة توجد في ملف المهدي بن بركة المصنف في أرشيفات الكاب ومصلحة مكافحة الشغب.
لقد كان المهدي بن بركة على علاقة مع عدد من اليهود المقيمين بالمغرب و”إسرائيل” وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وهولندا وكندا، وكانت تلك العلاقات جيدة خلال إقامته بالمغرب بين 1956 ونهاية 1959 وبين مايو 1962 ويونيو 1963، وخلال فترة المنفى بين يناير 1960 إلى مايو 1962 وبين يونيو 1963 وأكتوبر 1965، ولكنه لم يكن الشخصية السياسية المغربية الوحيدة التي ترتبط مع اليهود بعلاقات ممتازة، بل كان هناك عدد من مسئولي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي المغربي والاتحاد المغربي للشغل مرتبطين بعلاقات جيدة مع اليهود المغاربة في مختلف أرجاء العالم، بل إن عدداً من هؤلاء قاموا بزيارات عمل إلى “إسرائيل” بين عامي 1956 و1965، وكان هؤلاء وعلى رأسهم بن بركة من المدافعين عن مصالح اليهود المغاربة الذين كان عدد كبير منهم عملاء تابعين لجهاز الموساد. وكان الموساد يرغب في عودة بن بركة وأسرته إلى المغرب نهائياً لتشكيل حكومة من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لأنه كان يرى أن حكومة مثل هذه ستكون في مصلحة الحسن الثاني والمغرب وخصوصاً في مصلحة الطائفة اليهودية المغربية سواء الموجودة بداخل المغرب أو في الخارج، وكثيراً ما نصح عملاء الموساد الذين كانوا يزورون المغرب مرات عدة في السنة الملك الحسن الثاني بتقديم اقتراح أو عرض مهم لبن بركة من أجل إقناعه بالعودة من المنفى لشغل منصب مهم يناسب شخصيته بعدما أصبح خلال مرحلة المنفى رجلاً من الوزن الثقيل ومعروفاً في العالم كله.
كان جو أوحنا، وهو صديق قديم لبن بركة منذ 1956، عميلاً مزدوجاً للموساد وللكاب، وقد جعل شقته الفاخرة الواقعة قريباً من “لشانزيليزيه” بباريس رهن إشارته كلما أتى لزيارة فرنسا، وبدوره تدخل بن بركة لفائدة أوحنا لدى أصدقائه الثوريين الكوبيين مثل جيفارا وكاسترو في بداية عام 1960 خلال فترة منفاه الأول من أجل السماح له باحتكار استيراد السكر الكوبي إلى المغرب، وكان بن بركة قد قام بنفس المساعي لفائدة صديقه اليهودي لدى وزير التجارة المغربي عام 1956 للسماح له بهذا الحق.
الضوء الأخضر!
في ظهيرة يوم 25 مارس 1965، ومباشرة بعد انتهاء انتفاضة الدار البيضاء الدامية، استدعى الملك الحسن الثاني على استعجال ثلاثة من المسئولين الأمنيين لعقد اجتماع طارئ: أوفقير، الدليمي ومحمد العشعاشي الذي كان رئيساً لمصلحة مكافحة الشغب حمل معه إلى الاجتماع نسخة من “مخطط العشعاشي” الذي كانت نسخته الأصلية موجودة لدى الملك منذ ديسمبر 1964 .
كان برفقة العشعاشي اثنان من حراسه الشخصيين من المقربين إليه هما أحمد أدجين وأنا(كاتب هذه السطور)، وقد كنا معه في الذهاب وفي العودة وانتظرنا معه نحو ثلاث ساعات قبل أن يبدأ الاجتماع الذي لم يستمر سوى نصف ساعة. وحسبما قال العشعاشي بعد الاجتماع فإن الملك كان غاضباً على الدليمي وأوفقير، وكان إلى يمينه التقارير الثلاثة لأيام 23 و24 و25 مارس موقعة من رئيس مصلحة مكافحة الشغب ونسخة من “مخطط العشعاشي” في ملف على حدة، وبعد “تصبين” أوفقير والدليمي قفز الملك إلى المخطط وأعطى موافقته عليه فأصبح يدعى لاحقاً ب”عملية بويا البشير” مع إيذان بالشروع في التنفيذ خلال الأربع والعشرين ساعة التالية، وتخصيص ميزانية غير محدودة ومسئول واحد هو محمد العشعاشي الذي حصل بالتالي على ضوء أخضر وصلاحيات كاملة للتقرير في الموضوع.
كان الملك الحسن الثاني يعرف العشعاشي جيداً ويثمن قدراته منذ العام 1962 ودوره في إحداث القطيعة بين نقابة الاتحاد المغربي للشغل وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقد لعب الكولونيل “مارتان” من جهاز المخابرات المركزية الأمريكية دوراً في التقريب بين رئيس الدولة ورئيس مصلحة مكافحة الشغب في الكاب، إذ كان “مارتان” يلتقي باستمرار بالملك خلال الفترة التي قضاها بالمغرب ما بين أغسطس 1960 ونهاية أكتوبر 1967 .
وخلال تلك اللقاءات السرية المتعددة وجهاً لوجه بينه وبين الحسن الثاني لم يكن الخبير الأمريكي في التجسس يتردد في قول الحقيقة حول ما يحدث في جهاز الكاب، مستعرضاً في ثنايا الحديث خصال العشعاشي الذي كان يعتبره الرئيس الفعلي لذلك الجهاز، ومنتقداً خلال ذلك الدليمي وأوفقير بشدة لأنه كان يرى أنهما يفتقدان الكفاءة في مجال التجسس والاستعلام.
مخطط العشعاشي
في نفس الوقت كان عملاء جهاز الموساد الإسرائيلي الذين يزورون المغرب بشكل منتظم يعرفون العشعاشي جيداً، ولم يكونوا بدورهم يترددون في امتداح كفاءاته أمام الملك كلما سنحت لهم الفرصة للقائه. وكان هؤلاء يستقبلون في مطار الرباط أو الدار البيضاء من طرف مقربين من محمد العشعاشي كلما أتوا إلى المغرب، ويقيمون في سرية تامة تحت حراسة رجال أمن تابعين لمصلحة مكافحة الشغب، في شقق فاخرة بحي السويسي بالرباط وليس في فنادق، حيث كانوا يناقشون جميع الأمور التقنية مع العشعاشي ومارتان، لكن من دون إشراك أوفقير والدليمي لم يكن هؤلاء يهتمون بهذا الثنائي إضافة إلى عبدالحق العشعاشي وجميل الحسوني إلا حينما بدأت المفاوضات حول الهجرة الكبرى لليهود المغاربة إلى إسرائيل بين 1960 و1967، تلك المفاوضات التي مكنت اللاعبين فيها من مراكمة أموال طائلة!
اجتماع في الكاب
انعقد بتاريخ 26 مارس 1965 اجتماع لقيادة الكاب بجميع أعضائها في قاعة الاجتماعات الكبرى في مقره بشارع مولاي إدريس تحت رئاسة أوفقير الساعة العاشرة صباحاً على وجه التقريب، وكان الاجتماع مخصصاً لمدارسة برنامج اليوم الذي كان كالتالي:
الوضع الأمني في المغرب بعد أحداث 23 و24 و25 مارس.
مخطط العشعاشي الذي أصبح يسمى بعملية “بويا البشير”.
وقد شارك في ذلك الاجتماع 25 مسئولاً في الكاب من بينهم: الجنرال أوفقير وزير الداخلية والمدير العام للإدارة العامة للأمن الوطني، والكولونيل مارتان المستشار بمصلحة مكافحة الشغب، والكولونيل سكوت من المخابرات الأمريكية المستشار بمصلحة محاربة التجسس، والكولونيل ستيف من المخابرات الأمريكية أيضاً المستشار بمصلحة العمليات التقنية، وأحمد الدليمي نائب رئيس الكاب والمدير المساعد في إدارة الأمن الوطني، ومحمد العشعاشي رئيس مصلحة مكافحة الشغب، وعبدالحق العشعاشي رئيس ديوان أوفقير في الكاب وإدارة الأمن الوطني، وعلي بنتاهيلة رئيس مصلحة محاربة التجسس، وعبدالحميد جسوس رئيس مصلحة العمليات التقنية، وجميل الحسين رئيس المصلحة المالية والإدارية، وأحمد بن عبدالله رئيس مصلحة الشؤون العامة، وبدرالدين بنونة رئيس مصلحة الأمن، ومولاي أحمد التدلاوي رئيس إدارة الشؤون العامة بوزارة الداخلية، وأحمد بن الشيخ المقرب من الدليمي ونائب رئيس مصلحة مكافحة الشغب.
وتناول أوفقير الكلمة في بداية الاجتماع لبعض الدقائق وهو ثمل كعادته (سكران) بعد قضاء ليلته السابقة في معاقرة الخمر، وتحدث في عجالة عن أحداث الدار البيضاء ثم وصل إلى عملية “بويا البشير” قبل أن يعطي الكلمة إلى محمد العشعاشي ليشرحها بتفصيل، فقام هذا الأخير بشرح تفاصيل العملية وأحداث الدار البيضاء لمدة ساعتين، ويمكن بسط تلك الشروحات في العناصر التالية:
خلفت أحداث الدار البيضاء 1550 قتيلاً وآلاف الجرحى جروحهم متفاوتة الخطورة، هذا فقط في الدار البيضاء دون احتساب الجرحى في المدن الأخرى للمملكة. أما عدد قوات الأمن وقوات حفظ النظام الذين شاركوا في إخماد الانتفاضة فقد تجاوزوا عشرين ألفاً، بينهم خمسة آلاف شرطي وخمسة آلاف من القوات المساعدة وعشرة آلاف جندي.
مخطط العشعاشي الذي تم وضعه في مصلحة مكافحة الشغب في ديسمبر 1964 حصل على موافقة رئيس الدولة في مارس 1965 وأصبح من ثم يسمى عملية “بويا البشير” ويجب أن تنطلق العملية في أقرب الآجال أي 27 مارس 1965 بتعبئة خمسين من رجال الأمن من الكاب، أما الميزانية المرصودة لتنفيذ العملية فهي غير محدودة، ولكن ميزانية المشروع فيها هي 500 مليون فرنك موجودة حالياً في صندوق مصلحة مكافحة الشغب سلفاً!
في نفس اليوم عقد اجتماع آخر وهذه المرة بمقر مصلحة مكافحة الشغب تحت رئاسة محمد العشعاشي رئيس المصلحة وبحضور الكولونيل مارتان، ومشاركة عشرة من رجال الأمن التابعين للمصلحة اختيروا بعناية للإشراف على العملية، وهم محمد المسناوي وأنا، رئيس ونائب رئيس وحدة “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بالكاب على التوالي، ومحمد الورديغي ومحمد العلمي رئيس وحدة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ورئيس قسم الأرشيف بالكاب على التوالي وعبدالقادر صاكا وأحمد ادجين رئيس ونائب رئيس وحدة العناصر المخربة على التوالي، وأحمد زيني وبناصر الكرواني رئيس وحدة حزب الاستقلال ورئيس المفرزة الأمنية الثانية على التوالي، ثم بوفوس بوجمعة وإدريس الزياتي رئيس ونائب رئيس وحدة الاتحاد المغربي للشغل والحزب الشيوعي المغربي على التوالي، وقد خصص ذلك الاجتماع لقضايا تهم الحصول على الوثائق وتحضير جوازات السفر ورخص السياقة المزورة الحقيقية لثلاثين من رجال الأمن التابعين لمصلحة العمليات التقنية قبل سفرهم إلى الخارج المقرر ليلة 26 مارس، وللعشرة الآخرين التابعين لمصلحة مكافحة الشغب الذين سيتكلفون بمهمة مراقبتهم خارج المغرب، كما تطرق الاجتماع إلى مسألة تعويض الغائبين في الدوام الخاص بعد 26 مارس. في حوالي الساعة السابعة مساء تسلم كل واحد من رجال الأمن الثلاثين المكلفين بمهمة في الخارج غلافاً يحتوي على مبلغ 200 ألف فرنك وتذكرة سفر بالطائرة إلى جنيف وجوازي سفر ورخصتي سياقة مزورة حقيقية، وتسلم رئيسا المجموعتين، وهما محمد المدغري العلوي وميلود التونسي، غلافاً بمبلغ مليوني فرنك لكل واحد وتذكرة سفر بالطائرة من الدار البيضاء إلى جنيف وجواز سفر ورخصة سياقة مزورين حقيقيين. وبعد أسبوعين تلقى كل واحد من الثلاثين المشار إليهم مبلغاً مالياً مقداره 500 ألف فرنك وجواز سفر ورخصة سياقة أخريين مزورين حقيقيين.
الأغلفة الأولى سلمت للمعنيين من طرف رئيس مصلحة مكافحة الشغب شخصياً في مكتبه، وبحضور محمد المسناوي وأحمد ادجين وأنا، وكانت هناك العشرات من الأغلفة المغلقة والموقعة معدة للإرسال والاستخدام في عملية “بويا البشير” خلال سبعة أشهر، ما بين 27 مارس و29 أكتوبر 1965 .
كانت المجموعة الأولى مكونة من عشرين شخصاً يرأسهم ميلود التونسي، مهمتها المتابعة السرية لخطوات المهدي بن بركة في سويسرا والجزائر ومصر وفرنسا وألمانيا وفي أي مكان آخر في العالم يسافر إليه. أما المجموعة الثانية فقد كانت مكونة من عشرة أشخاص يرأسهم محمد المدغري العلوي ومهمتها التنصت إلى مكالمات بن بركة الهاتفية والاطلاع على الرسائل والطرود البريدية التي تصله في جنيف والجزائر والقاهرة. وكانت هناك مجموعة ثالثة لكنها بقيت بالمغرب، مكونة من عشرة أشخاص يرأسهم بنمنصور، وتقوم بنفس مهمة المجموعة الثانية في الداخل، أي التنصت على مكالمات عناصر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وفتح الرسائل والطرود البريدية الموجهة منهم وإليهم.
تم ترتيب الدوام الخاص في جميع المكاتب التابعة لمصلحة مكافحة الشغب، ووضع خط هاتفي خاص جديد لمتابعة التطورات، وفتح سجل جديد للدوام يحمل تاريخ 27 مارس 1965 موقع من طرف رئيس المصلحة شخصياً. وتم في نفس اليوم تسجيل أول مكالمة هاتفية من الخارج، وبدأ رجال الأمن المكلفون بالدوام يتناوبون على الخدمة في نفس اليوم، وفي الأسبوع الأول من شهر أبريل الموالي تم تلقي أولى التقارير المشفرة الواردة من الخارج وأول تقرير تحليلي أسبوعي!
عملية بويا البشير
كانت عملية “بويا البشير” ذات هدف واحد: اختطاف المهدي بن بركة في الخارج، سواء في الجزائر أو في أي مكان آخر، ثم نقله منوماً إلى المغرب، وحمله مباشرة نحو النقطة المركزية (دار المقري) حيث يتم الاحتفاظ به لمدة أسابيع أو أشهر أو سنوات، إلى أن تأتي أوامر جديدة من المخزن (النظام).
كان مبرمجاً في البداية أن تجري عملية الاختطاف في الجزائر لأن الظروف كانت قد هيئت جيداً من قبل، ولكن بعد أسابيع من الشروع في تنفيذ العملية تم إدخال تعديلات على المخطط الأصلي، فتقرر أن تجري عملية الاختطاف في باريس فوق التراب الفرنسي، كما كان الوقت المخصص لإنهاء العملية في البداية هو ثلاثة أشهر فجرى تمديدها إلى أربعة.
بدأ رجال الأمن الخمسون مهماتهم يوم 27 مارس 1965 في الساعة السادسة صباحاً، وانطلقت عملية ملاحقة خطوات بن بركة في جنيف في نفس اليوم، قبل أن تنتشر إلى باريس والقاهرة والجزائر وفرانكفورت، وفي نفس اليوم أيضاً تم تجهيز وسائل التنصت على المكالمات الهاتفية لتسجيل جميع المكالمات الصادرة والقادمة من وإلى بن بركة في العالم، حيث تم نصب أجهزة تنصت في مقرات إقامة مسئولي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في جنيف والقاهرة والجزائر، وربط الاتصال مع الخطوط الهاتفية للاتحاد في الرباط والدار البيضاء ومسؤولية في جميع مدن المملكة، وكان الأمر سهلاً، حيث إنه ومنذ 27 مارس أصبحنا على اطلاع على كل ما يجري حول بن بركة وما يقوم به، وعلى اتصالاته وعلاقاته وتنقلاته ومواعيده وبريده ومحادثاته الهاتفية.
كان رجال الأمن العشرة المعينون في إطار متابعة العملية بمصلحة مكافحة الشغب يتحركون حول رئيسهم محمد العشعاشي ليلاً ونهاراً، بدون انقطاع وبالتناوب مرة أو مرتين في الأسبوع ومرة واحدة بين كل ثلاث عطل أسبوعية لمواصلة الدوام الخاص، وكان العشعاشي يغادر مكتبه حوالي الساعة السابعة وعشرين دقيقة مساء تاركاً خلفه للضرورة هواتف الأمكنة التي يفترض أن يكون بها أثناء غيابه، ويعود حوالي منتصف الليل للاطلاع على آخر المعلومات المتعلقة بعملية “بويا البشير” وقراءة آخر ما سجل في سجل الدوام الخاص بعد مغادرته، ثم يتحدث قليلاً مع مسئول الدوام الخاص قبل أن يلتحق بأصدقائه بإحدى علب الليل في العاصمة أو في القنيطرة المدينة “الأمريكية” التي تبعد عن الرباط بنحو أربعين كيلومتراً، وحوالي الساعة الثالثة أو الرابعة فجراً يعود إلى المقر لمعرفة المستجدات، وكتابة أوامره لمعاونيه بقلم أخضر في هوامش السجل، وهم المسناوي وصاكا وزيني وادجين والعلمي وأنا. كان هذا هو برنامج العشعاشي اليومي قبل أن يذهب إلى بيته الواقع بشارع مولاي إدريس قرب مقر الكاب حيث يطل مباشرة على نوافذ مقر مصلحة مكافحة الشغب، ولم يتغير هذا البرنامج طيلة سبعة أشهر ما بين 27 مارس و29 أكتوبر 1965 .
أما رجال الأمن العشرة التابعون للمصلحة فقد كان لهم هم أيضاً برنامجهم الذي لم يتغير طيلة هذه الفترة، حيث يبدءون يومهم بقراءة سجل الدوام لليلة أمس حوالي الساعة التاسعة صباحاً، ثم يطلعون على تعليمات العشعاشي المقيدة في الهوامش للشروع في تنفيذها فوراً، وحوالي الساعة العاشرة يأتي هذا الأخير لمكتبه ويتحدث إلى الكولونيل مارتان لمدة نصف ساعة أو أكثر، قبل أن يعقد اجتماعاً مع معاونيه للتحليل والتعليق على معلومات سجل الدوام الخاص المتعلقة بالمهدي بن بركة، وفيما يتعلق بالكولونيل مارتان الذي كان دقيقاً في مواعيده، فقد كان يلتحق بمقر مصلحة مكافحة الشغب في الساعة الثامنة صباحاً ويبدأ بقراءة السجل بدقة ثم يسجل بعض الملاحظات لمناقشتها مع العشعاشي لدى مجيئه في الساعة العاشرة!
يتبع….
الحلقة “10”
المجتمع تتنشر الترجمة الكاملة للكتاب المثير لرجل المخابرات المغربي السابق أحمد بخاري “مصالح الدول: كل شيء عن قضية بن بركة”
كان ل”الكاب” في عام 1965م مكتبان كبيران مختلفان، الأول مركزي في الرباط ومكاتب إقليمية في ست مدن، المكتب المركزي كان بمقر “الكاب 1” رقم 5 مكرر، شارع مولاي إدريس، حي حسان في الرباط، والمكاتب الإقليمية كانت تتكون من ست مفرزات للأمن في الدار البيضاء ومراكش وبني ملال وفاس ووجدة وتطوان، وكانت كل مفرزة عبارة عن فيلا سكنية بها قبو في حي هادئ ومعزول لا يشهد الكثير من المارة والعابرين.
كان يتوافر لدى مصلحة مكافحة الشغب عدة خطوط هاتفية مباشرة، إضافة إلى الرقم 325 90 الخاص بالمقسم الهاتفي للكاب.. وكان للعشعاشي خط مباشر خاص إضافة إلى المقسم الهاتفي.. أما الدوام الخاص الذي أعد خصيصاً لمتابعة عملية “بويا البشير” فقد كان لديه أيضاً خط خاص يستعمله رجال الأمن الثلاثون التابعون لمصلحة العمليات التقنية الموجودون في الخارج في إطار العملية والعشرة التابعون لمصلحة مكافحة الشغب المكلفون بتأمين ظروف العملية في الخارج أيضاً، كما يستعمله كل من الدليمي وأوفقير.
أما الخطوط الهاتفية الأخرى فكانت مخصصة ل “المصادر” التي تتصل مباشرة بالعملاء المرتبطين معهم لنقل المعلومات والأخبار إليهم، وكان هؤلاء الأشخاص “المصادر” (عملاء المصلحة) يستعملون أسماء مستعارة لإخفاء هوياتهم الحقيقية، كما كان أوفقير والدليمي يتصلان مرات عدة بالعشعاشي في الفترة بين 27 مارس و29 أكتوبر على خطه الهاتفي المباشر الخاص، وفي حال عدم وجوده كانا يتصلان بمقسمه الهاتفي لترك رسالة له، فإذا كانت هذه الرسالة استعجالية، فإن المكلف بالمقسم يتصل فوراً برئيسه على رقم الهاتف الذي يوجد عليه في تلك اللحظة سواء كان ذلك بالليل أم بالنهار، وحالما يتوصل العشعاشي بالمكالمة يتصل بأوفقير أو الدليمي لحل بعض المشكلات الطارئة.
تفاصيل العملية
لقد كانت السيدات الثلاث المسؤولات عن الكتابة الخاصة لرؤساء المصالح الثلاثة بالكاب على اطلاع بكل المكالمات الهاتفية الليلية لتلك المصالح للفترة ما بين 27 مارس و29 أكتوبر1965، وهن: بديعة المسناوي رئيسة الكتابة الخاصة لأوفقير في الكاب ووزارة الداخلية، والسيدة الكرواني رئيسة الكتابة الخاصة للدليمي، وثريا السوسي رئيسة الكتابة الخاصة للعشعاشي. لقد كن مطلعات على كل ما يحصل ويقال بين هؤلاء المسؤولين الثلاثة، وإلى جانبهن كان هناك شخص آخر يعرف كل ما يجري ويطلع على كل الجزئيات، وهو عبدالحق العشعاشي رئيس ديوان أوفقير في الكاب والإدارة العامة للأمن الوطني، المكلف بربط الاتصال بين الإدارتين ووزارة الداخلية. وكان الكولونيل مارتان والكولونيل سكوت الأمريكيان من جهاز المخابرات المركزية على اطلاع بتفاصيل عملية “بويا البشير” لأنهما كانا يقرآن يومياً سجل الدوام الخاص والتقارير الواردة من الخارج والتقارير المشفرة، كما كانا يطلعان على أرشيف الكاب وجميع المصالح التابعة لها.
كان محمد العشعاشي يحرر صبيحة كل إثنين تقريراً أسبوعياً تحليلياً في عدة نظائر يلخص فيه الأوضاع والمعلومات الخاصة بمجريات عملية “بويا البشير” ويوجهه إلى القصر الملكي وإلى أوفقير والدليمي والكولونيل مارتان. وكانت هذه التقارير التي يشرف عليها فريق العشعاشي تسمح للمخزن بمتابعة تفاصيل العملية عن كثب، ولم تنقطع طيلة الفترة التي استغرقتها العملية بين 27 مارس و29 أكتوبر.
المفتاح الشهري
لقد كان العميل السري موظف الكاب أحمد أدجين المعروف ب”حميدة” هو الذي يقوم بمتابعة التقارير الأسبوعية التحليلية والصور الملتقطة التي يرى فيها بن بركة مرفوقاً بأشخاص آخرين، حيث يسلمها مباشرة باليد إلى المعاونين التابعين للمخزن وعبدالحق العشعاشي والسيدتين الكرواني والمسناوي بديعة، مرة في الأسبوع ما بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة. وكانت تلك التقارير الأسبوعية التحليلية تحمل توقيع محمد العشعاشي ورمز”أ20″، ومكتوبة بالآلة الكاتبة من طرف أحمد زيني وأنا، الشخصين اللذين يعرفان الرقم على الآلة الكاتبة في الكاب، إذ في كل يوم إثنين كنا نرقم هذه التقارير الأسبوعية بعد أن نشارك في مناقشتها خلال يومي السبت والأحد، يومي العطلة الأسبوعية.
أما”المفتاح” الشهري المتجدد الذي يستخدم في حل شفرات التقارير المرسلة من لدن محمد المدغري العلوي وميلود التونسي رئيسي مجموعتي رجال الأمن التابعين لمصلحة العمليات التقنية في الخارج فقد كان يتم تحضيرها كل شهر من قبل المعاونين المقربين من رئيس مصلحة مكافحة الشغب محمد العشعاشي. وكان العمل الجيد على تلك التقارير السرية والخاصة خلال سبعة أشهر دونما أدنى خطأ نتاج عمل فريق متمرس ومتكامل ومحترف، وكانت توجه نسخة من ذلك “المفتاح” إلى رئيس مصلحة العمليات التقنية ليتمكن بها من حل شفرات التقارير السرية الواردة من المدغري والتونسي، العميلين التابعين لنفس المصلحة.
هذه التقارير التي يرسلها الرجلان كل يوم جمعة إلى مطار الرباط أو الدار البيضاء يتكلف به كما سبق القول أحمد ادجين لدى وصولها، وكانت ترد ملفوفة ومشفرة بحيث لا يمكن لأي شخص قراءتها ومعرفة محتواها في حال ما إذا سرقت مثلاً أو فتحت قبل الوصول، غير أنه لم يقع مثل هذا الأمر طيلة الأشهر السبعة التي استغرقتها عملية “بويا البشير”، وكان المدغري والتونسي يتصلان بعد إرسالها بالدوام الخاص بالكاب للإخبار برقم الطائرة والرحلة وشركة الطيران وساعة الوصول واسم المطار في الدار البيضاء أو الرباط وأرقام الطرود، ولم يسجل أي حادث أو تأخير طيلة تلك الفترة. وفور وصول الطرود يتم تسجيلها في سجل الدوام الخاص قبل الشروع في فك شفراتها بمصلحة مكافحة الشغب من طرف رئيس الدوام الخاص وأحد عملاء المصلحة أو اثنين بين يومي الجمعة والسبت.
كانت عملية فك الشفرات تتطلب فريقاً وتستغرق على الأقل من سبع إلى ثماني ساعات متواليات وأحياناً اليوم بكامله؛ بحيث يتم استئناف العملية في صبيحة اليوم التالي. وفي بعض المرات كان يطلب إجراء العملية بأقصى السرعة وفي وقت أقل لا يتجاوز ثلاث ساعات، فيشارك في العملية الأشخاص الذين تكلفوا بوضع “المفتاح”.
مهمة مستحيلة
خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر أبريل مكنتنا التقارير المشفرة من الحصول على معلومتين مهمتين جداً وفي اللحظات المناسبة: الأولى أن اختطاف بن بركة في الجزائر كما كان مقرراً وفقاً لمخطط العشعاشي القديم أصبح مهمة مستحيلة لأن الجزائر فرضت على المعارض المغربي حماية قوية، والثانية أن بن بركة يحتاج إلى المال لأن مؤتمر القارات الثلاث المقرر عقده في يناير 1966 يتطلب ميزانية أكبر من تلك التي كانت مبرمجة. كان هذان خبرين مهمين جداً، وفور العلم بهما عقد رئيس مصلحة مكافحة الشغب ومعاونوه اجتماعاً طارئاً لمدة ساعات بحضور الكولونيل مارتان لتعديل مخطط العشعاشي الأصلي الذي ترتكز عليه عملية “بويا البشير”، فتم إلغاء سيناريو الاختطاف من الجزائر، لكن هذا ليس مهماً، فالمعارض المغربي بحاجة للمال في العاجل، وهذا سيكون مدخلاً لنا إلى حياة بن بركة وثغرة للنفاذ منها إليه، ويجب استغلال هذه الثغرة لإيقاعه في المصيدة، فكان منطقياً إيجاد فكرة الفيلم الوثائقي التي طرحها أحد زملائنا وهو محمد المسناوي، فهذا المشروع السينمائي سوف يغري بن بركة، لأن موضوعه سينال إعجاب شخص مثله: المشكلات والقضايا المرتبطة بالاستعمار عبر العالم، وهو الموضوع الذي يشغل زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية جيداً، كما أنه سيرى فيه فرصة للحصول على المال، حيث سيتسلم مبلغ 20 مليون فرنك، 50% كمقدم أتعاب فور توقيع العقد والباقي مع انطلاق مشروع الفيلم قبل نهاية العام، كيف يمكن لبن بركة أن يرفض عرضاً مغرياًَ مثل هذا في اللحظة المناسبة، والذي سوف يشكل أيضاً بالنسبة له تحدياً ثقافياً؟.
لقد حددت ميزانية إنتاج فيلم “باسطا” المفترض ب 200 مليون فرنك مؤقتاً كخطوة أولى، وهو مبلغ ضخم جداً، ويمكن مضاعفته إذا دعت الضرورة؛ لأن الميزانية المرصودة لعملية “بويا البشير” لم تكن محددة سلفاً، فقد كان المطلوب إتمامها مهما كلف ذلك، لكن إجراء الحساب للنفقات التي تم صرفها حتى ذلك الوقت بين أن المبلغ الذي كان مقترحاً في البداية للعملية، وهو 500 مليون فرنك، لن يكون كافياً (رصد لمخطط العشعاشي الأصلي في ديسمبر 1964 على سبيل المقارنة مبلغ 200 مليون فرنك)، وفي يوليو 1965 كان المبلغ المنفق هو 350 مليون أي ما يفوق 40% من الميزانية المرصودة، وكان الإنفاق تدرج كل شهر في التقارير الشهرية الموجهة إلى المخزن كنوع من الإحاطة، وكانت تلك التقارير تحمل العلامة “أ 20” في الأعلى على الصفحة الأولى وليس اسم العشعاشي رئيس مصلحة مكافحة الشغب، وفي النهاية تحمل توقيع هذا الأخير باللغة الفرنسية، وعلى الصفحة الأولى كذلك كان يكتب “عملية بويا البشير”. وكان المخزن يقرأ تلك التقارير بعناية ولا يتردد في وضع مبلغ 200 مليون فرنك على الطاولة مرة كل شهرين لضمان السير الجيد للعملية.
أما في وزارة الداخلية فكانت تلك التقارير تُقرأ من طرف أوفقير شخصياً، لكن الجنرال لم يكن يعير اهتماماً كافياً لها، فقد كان يقرأ قليلاً ولا يخصص وقتاً للقراءة، بالرغم من أهمية العملية ومن كونها الأهم من نوعها في تاريخ (الكاب1)، ثم إنه لم يكن معنياً بها لأن المخزن أراده أن يبقى على الهامش وألا يتدخل، لكن كان هناك شخصان في المحيط الخاص به يقرآن هذه التقارير جيداً، ويتعلق الأمر بالسيدة بديعة المسناوي رئيسة كتابته الخاصة في الوزارة، ومولاي أحمد العلوي رئيس إدارة الشؤون العامة بالوزارة.
في الكاب والإدارة العامة للأمن الوطني كان أحمد الدليمي هو الذي يقرأ هذه التقارير الدورية التحليلية بعناية وتدقيق ولكن بشكل جزئي، فقد كان هو الآخر يشعر بأن المخزن لا يريد منه التدخل في العملية، بينما كان عبدالحق العشعاشي يقرأها بكاملها لأن شقيقه هو الذي كان يشرف على العملية بتفويض مباشر من المخزن.
تمت مراجعة مهلة الثلاثة أشهر التي مُنحت لاختطاف المهدي بن بركة في الجزائر في أبريل 1965 إذن، كما هو الحال مع الميزانية المخصصة للعملية برمتها، حيث ارتفعت إلى 600 مليون فرنك، أي بزيادة 20% فوق ما تم الاتفاق عليه في 26 مارس، و200% فوق ما خصص لمخطط العشعاشي الأصلي.
الإيقاع في الفخ
كان من الضروري البحث عن شخص ما يكون من أصدقاء بن بركة منذ فترة طويلة وفرنسي الجنسية ومعروفاً في أوساط اليسار الفرنسي من أجل إيقاع هذا الأخير في الفخ، وكان “فيليب بيرنيي” هو صاحب هذه المواصفات المطلوبة، فهو صديق بن بركة منذ بداية الخمسينيات وصحافي سابق في الإذاعة المغربية بالرباط لسنوات طويلة ولا يزال محافظاً على علاقات طيبة مع الدوائر الأمنية المغربية، كما أنه وجه معروف في الوسط اليساري الفرنسي، أما الباقون فهم لعب أطفال أو قريب من ذلك.
وقد تم تعيين اثنين من الكاب لمرافقة ميلود التونسي من أجل التفاهم مع بيرنيي هما أحمد بن عبد الله المعروف ب”حميدة” وعبد الرحمن مواك، وكانا يعرفان بيرنيي جيداً لأنهما من قدماء رجال “المصلحة الإقليمية للتوثيق والاستعلام”.
سافر الثلاثة إلى باريس في الأسبوع الرابع من شهر أبريل حيث اقترحا على بيرنيي مهمة مستشار إعلامي لمشروع فيلم “باسطا” ووسيط مع بن بركة مقابل مبلغ عشرة ملايين فرنك، وقد قبل بيرنيي العرض على الفور لأنه سبق له التعاون مع “المصلحة الإقليمية للتوثيق والاستعلام”. وبعد إجراء الاتفاق انسحب الرجلان وبقي على التونسي أن يكمل المهمة. ابتلع المعارض المغربي الطعم ووافق على العرض مقابل مبلغ عشرين مليون فرنك المقترح في نهاية أبريل. ولضمان أن تكون جميع الأوراق الرابحة إلى جانبنا وتشجيع بن بركة أكثر على قبول الاقتراح حتى النهاية أرسل محمد المسناوي في مهمة عاجلة إلى باريس، حيث قابل اليهودي “جو أوحنا” الذي هو مصدر أخبار للكاب وصديق قديم لزعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ووافق أوحنا على أن يقوم بإقناعه لقبول الاقتراح وتوقيع العقد، وأضاف قائلاً للعارض المغربي بأن موافقته هي “لمصلحة البلد”، لكن أوحنا كان يعتقد لدى تدخله بأن هدف الكاب هو جر بن بركة إلى التفاوض بشأن عودته إلى المغرب وليس أي شيء آخر!.
بعد إلغاء سيناريو الاختطاف في العاصمة الجزائرية بدأ التفكير في المكان البديل، وكان الاقتراح يتراوح بين باريس والقاهرة، وأخيراً رسا القرار عند العاصمة الفرنسية للأسباب التالية:
بين أجهزة المخابرات في البلدين علاقات تعاون قوي منذ استقلال المغرب عام 1956، بالرغم من حادث إبعاد الخبراء الفرنسيين من جهاز المخابرات في يوليو 1960 وتعويضهم بخبراء أمريكيين في الشهر التالي، كما أن جهاز المخابرات الفرنسية كان دائماً ما يتدخل لفائدة عناصر المخابرات المغربية لدى مصلحة الاستعلامات العامة الفرنسية في مطار أورلي لتسهيل الإجراءات الإدارية لهم للدخول والخروج، وبين 1960 و1965 كانت جوازات سفر عناصر الكاب المغاربة المزورة تُختم حتى من دون إلقاء نظرة على الصورة، وكثيراً ما سافر أوفقير والدليمي والأخوان العشعاشي في مهمات سرية عاجلة لمدة 24 أو 48 ساعة إلى باريس بجوازات سفر مزورة دون أي مشكلات، فقد كانت المخابرات الفرنسية تعرف ذلك جيداً، بل إن مصالح المخابرات الفرنسية لم تكن تعرف شخصية محمد العشعاشي الحقيقية، كانت تعرف فقط رئيس مصلحة مكافحة الشغب لكنها كانت تجهل شخصيته.
كان في مقر الرئاسة الفرنسية صديق حميم للمغرب هو جاك فوكار، أحد المقربين للجنرال ديجول رئيس الجمهورية الفرنسية، وكان فوكار يملك نفوذاً قوياً في جميع أجهزة المخابرات والاستعلامات الفرنسية ودوائر الشرطة في باريس.
كان هناك صديق آخر للمغرب في حكومة جورج بومبيدو هو جاك شيراك القريب من رئيس الوزراء وصاحب النفوذ في دوائر الأمن والمخابرات الفرنسية في باريس، وكان شيراك فوق ذلك يمت بصلة قرابة إلى الدكتور محمد بنهيمة الذي شغل عدة مناصب وزارية بالمغرب لعدة أعوام، كما كان يزور باستمرار مدينة تارودانت المغربية حيث يقضي أياماً جميلة في إقامة “الغزالة الذهبية” مع بنهيمة وأوفقير.
كان وزير الداخلية الفرنسية روجر فراي صديقاً للمغرب ولأوفقير شخصياً، حيث كان يقوم بزيارات عائلية لبيته مرتين أو ثلاثاً في السنة، وكان فراي أيضاً من المقربين للجنرال ديجول ورئيس الوزراء بومبيدو.
على مستوى ولاية الأمن المركزية في باريس كان هناك موريس بابون والي الأمن ورئيس أجهزة الأمن في العاصمة الفرنسية، وسبق له أن كان والياً للأمن في الرباط والدار البيضاء لعدة أعوام خلال السنوات الأولى لاستقلال المغرب، وقد بقي محافظاً على علاقات جيدة مع دوائر الأمن والشرطة في المغرب.
على مستوى الاستعلامات العامة في باريس كان هناك جون كاي، العميد الممتاز للأمن ورئيس الاستعلامات بباريس والرئيس السابق للاستعلامات بالدار البيضاء والرباط، ومثله مثل بابون كان كاي يحتفظ بعلاقات تعاون جيدة مع رجال الإدارة العامة للأمن الوطني بالمغرب الذين كانوا يشتغلون في نفس الوقت (بالكاب1) منذ بداية الستينيات، وعلى الأخص مع علي بنتاهيلة رئيس مصلحة محاربة التجسس بالكاب وجميل الحسين رئيس مصلحة العمليات التقنية بنفس الكاب، وعبد الحق العشعاشي رئيس ديون الجنرال أوفقير في الكاب ووزارة الداخلية، وجميعهم من الموظفين السابقين في جهاز الاستعلامات العامة.
على رأس ولاية الشرطة في باريس كان هناك عميد الشرطة “بوفييه” الذي عمل سابقاً في دوائر الشرطة المغربية بمكناس ثم في الإدارة العامة للأمن الوطني بالرباط، وبقي على علاقات جيدة مع رجال الشرطة في المغرب، خاصة مع عمداء الأمن الذين عملوا في الكاب في الفترة ما بين 1960 و1961، وبين هؤلاء عبد الملك الهمياني رئيس المكتب الوطني للشرطة والموظف السابق، وبدر الدين بنونة رئيس مصلحة الأمن بالكاب، وعبد القادر صاكا رئيس المفرزة الأمنية التابعة للكاب في فاس.
كان هناك العديد من الأشخاص في دوائر الشرطة والأمن بباريس الذين سبق لهم العمل في المغرب ولا يزالون على علاقات جيدة مع المغرب وخصوصاً مع رجال الكاب.
في مطار أورلي كان هناك شخصان في مناصب مهمة بإدارة المطار الدولية متعاونان مع الكاب أحدهما هو أنطوان لوبيز، العميل المزدوج ل”مكتب التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” والكاب، وكان في نفس الوقت رجل المهمات القذرة لأوفقير والدليمي وعبد الحق العشعاشي منذ عام 1961م.
كان في باريس أيضاً مكان آمن مؤقت معزول في الضواحي موضوع عبارة عن شقتين، موضوعتين رهن إشارة رجال الكاب لبضعة أيام يمكن استعماله لعملية الاعتقال، إحدى هاتين الشقتين كانت ل”جورج بوشيش” الذي كان يدير منازل مغلقة مشبوهة في المغرب لعدة أعوام، أما الشقة الأخرى فهي ل”أنطوان لوبيز” وتبعد ببضع كيلومترات عن الشقة الأولى.
أخيراً، وكدعم مضمون وإضافي هناك الفرنسيون الأربعة أصحاب المهمات المشبوهة: جورج بوشيش، جولين ليني، بيير دوبايل وجون باليس، علاوة على شبكة العلاقات التي يتوفرون عليها!
الحلقة (11)
كان الأجانب الذين يقيمون بالمغرب ويشتغلون في البغاء والمخدرات والتهريب والسمسرة ووكالات النقل البحري وحانات الخمور والفنادق كثيرين، فكان ينبغي اختيار بعضهم لتجنيدهم في إطار “عملية بويا البشير”. من هنا جاءت فكرة تجنيد الفرنسيين الأربعة الذين كانوا يديرون بيوتاً مغلقة في الدار البيضاء والمحمدية وآسفي وتتوافر فيهم المواصفات المطلوبة لدى الكاب.
كان هؤلاء الأربعة يشكلون فيما بينهم شبكة دولية وكانوا متضامنين معاً، وكانوا معروفين في عالم اللصوصية والجريمة المنظمة والقوادة والبغاء وكذلك في قضايا الاختطاف، وسبق لهم أن تعاونوا بين 1961 و1962 مع “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” في عملية اختطاف الكولونيل “أرجود” في ألمانيا وتحدد دورهم في عملية “بويا البشير” كالتالي:
سيتم تقديمهم بوصفهم المجموعة المالية التي ستمول مشروع فيلم “باسطا” الوثائقي.
تنظيم لقاءات مستمرة مع بن بركة في باريس والقاهرة وجنيف وفرانكفورت للتفاوض معه بشأن المشروع بوصفه المستشار التاريخي للفيلم، ويجب أن تتم هذه اللقاءات في أماكن عامة أو في مطاعم يختارها سلفاً ميلود التونسي.
إدراج ميلود التونسي داخل محيطهم الباريسي ومساعدته في مهمته السرية في فرنسا، وتقديمه كرجل أعمال مغربي والتدخل لدى شريكهم وصديقهم أنطوان لوبيز لتسهيل مهمته في مطار أورلي وخارجه.
وضع شقة بوشيش الواقعة في “فونطوناي لي كونت” رهن إشارة الكاب لاستعمالها لمدة أيام بعد تنسيق لقاء بين المهدي بن بركة وأحد المبعوثين الخاصين من طرف المخزن المغربي “الحكومة”.
مساعدة رجلي الأمن الفرنسيين في وقت توجيه الدعوة لبن بركة ونقله إلى الشقة المذكورة.
على أن ينتهي دور “عصابة الأربعة” عند دخول بن بركة للشقة، بعد هذه اللحظة سوف يصبح بيد رجال الكاب بانتظار تسليمه لمبعوث القصر الملكي الذي سيلتحق بهم فيما بعد، وسيتقاضى الرجال الأربعة مبلغاً بقيمة خمسة ملايين فرنك للواحد مقابل خدماتهم التي كانت تتحدد في عقد أربع لقاءات أو خمس مع المعارض المغربي بين مايو وأكتوبر 1965.
ملايين الفرنكات
أما الفريق السينمائي فقد تم اختياره باقتراح من الفرنسي “فيليب بيرنيي” من سينمائيين محترفين ذوي حساسية يسارية، وهكذا تم اختيار “جورج فرانجو” بوصفه مخرج الفيلم مقابل عشرة ملايين فرنك، وقد كان معروفاً في الأوساط السينمائية الفرنسية، حيث كان له فيلم شهير مثل فيه الدور الرئيس جون بول بلموندو. ووقع الاختيار على الكاتبة مارجريت دوراس وجورج فيجون لوضع سيناريو الفيلم مقابل خمسة ملايين فرنك لكل واحد. كانت دوراس معروفة في الأوساط الأدبية والسينمائية الفرنسية، أما فيجون فقد كان وجهاً معروفاً في الوسط الثقافي الفرنسي. وأسجل هنا أن الاثنين لم يكن لهما أي علم بخلفية العملية.
وضع المخطط النهائي للعملية في ضوء الترتيبات الأخيرة في الأسبوع الأخير من شهر أبريل 1965 وحرر تقرير تحليلي بذلك رفع إلى المخزن “الحكومة” وأوفقير والدليمي، ولم يدل أي طرف من هؤلاء الثلاثة بأي ملاحظات بخصوصه، لا قبل الشروع في التنفيذ ولا خلال ذلك ولا فيما بعد!.
الاختطاف والاغتيال
استيقظ المهدي بن بركة يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965 في ساعة مبكرة، فقد كان في جنيف، وكان عليه أن يستقل أول طائرة تابعة لشركة “سويس آير” متجهة إلى باريس، حيث كان على مواعيد عدة خلال النهار وفي المساء.
كانت الطائرة السويسرية ستنزل في مطار أورلي الساعة التاسعة صباحاً تقريباً، وكان المعارض المغربي مرتبطاً بموعد في الثانية عشرة والنصف زوالاً مع صديقه الصحافي الفرنسي فيليب بيرنيي وفريق العمل في الفيلم بمطعم “ليب” لتوقيع العقد وتسلم شيك بمبلغ عشرة ملايين فرنك.
وعلى متن الطائرة كان هناك اثنان من رجال مصلحة العمليات التقنية التابعة للكاب: حليم محمد وحسن بن يوسف في هيئة متنكرة يلاحقان بهدوء خطوات بن بركة، وكان الواحد منهما يملك جوازي سفر مزورين بهويتين مختلفتين. وعندما وصلت الطائرة إلى باريس كان هناك ثلاثة رجال آخرين ينتظرون وصول المعارض المغربي في بهو المطار، هم ميلود التونسي ومحمد بتيش وعبد القادر الدرفوفي، وبعيداً عنهم كان هناك اثنان آخران من مصلحة مكافحة الشغب هما عبد القادر صاكا ومحمد المسناوي، وكان هذان المبعوثان الخاصان للعشعاشي مكلفين بمراقبة عمل الرجال الخمسة التابعين لمصلحة العمليات التقنية.
آخر عمليات
قضى التونسي والدرفوفي وبتيش الليلة السابقة في فندق صغير بالعاصمة باريس التي نزلا بها ليلة 28 29 أكتوبر عائدين على متن قطار من جنيف التي قضوا بها اليومين السابقين، وقد سافروا جميعاً لكن متفرقين في المقصورات كالعادة، وبحوزة كل واحد منهم ثلاثة جوازات سفر مزورة بثلاث هويات مختلفة. استعمل ميلود التونسي عدة أسماء عائلية مستعارة بحسب الظروف والطوارئ: الشتوكي، حيمي وبن التهامي، وأسماء شخصية مختلفة هي: العربي، المختار، محمد، المعطي، عباس وميلود وعندما وصل الثلاثة إلى باريس استأجروا سيارة قبل أن يتوجهوا إلى الفندق لقضاء ليلتهم، والتوجه بعد ذلك إلى مطار أورلي في ساعة مبكرة من صبيحة اليوم التالي الموافق ل29 أكتوبر، قبل موعد وصول الطائرة التي تحمل المهدي بن بركة، وقد تم استئجار السيارة من طرف التونسي بإحدى الوثائق التي تحمل هوية مزورة.
أما محمد المسناوي وعبد القادر صاكا فقد وصلا باريس يوم الثلاثاء 26 أكتوبر مع رئيسهما محمد العشعاشي، بعد توقف في إسبانيا وكان العشعاشي يحمل جوازات سفر مزورة أعدها أحمد ادجين، وتحمل الأسماء التالية: مصطفى العشعاشي، مصطفى جاليت، مصطفى مناع، محمد جاليت، محمد مناع، بنيونس ادجين، مصطفى ادجين ومحمد ادجين. أما محمد المسناوي فقد كان يحمل جوازات بالأسماء التالية: عبد الله المسناوي، حسن المسناوي، محمد عمو، عبدالكريم عمو، عبد الله عمو وحسن عمو.
بينما كان عبد القادر صاكا يحمل الأسماء التالية في جوازات سفره المزورة: العربي شمس، عبد القادر شمس، كريم صاكا، العربي صاكا، عبد القادر الشريف، كريم الشريف، العربي الشريف، عبد القادر مرزوق، كريم مرزوق، والعربي مرزوق. تم تسجيل آخر عمليات ترصد لخطوات بن بركة في صباح الجمعة 29 أكتوبر، وقد بدأت من مطار أورلي في الساعة التاسعة صباحاً وانتهت في الساعة الثانية عشرة والنصف زوالاً بشارع “سان جيرمان” قرب مطعم “ليب”، وقام بها الثنائي محمد بتيش وعبد القادر الدرفوفي من المجموعة الثانية التي يرأسها ميلود التونسي، أما عملية الترصد ما قبل الأخيرة فقد انطلقت في نفس اليوم بجنيف عبر الطائرة من طرف حليم محمد وحسن بن يوسف من نفس المجموعة، وبدأت في الخامسة فجراً أمام مقر إقامة بن بركة وانتهت في التاسعة صباحاً بمطار أورلي.
قبل الاختطاف
في مطار أورلي أيضاً كان رجلا أمن فرنسيان من الاستعلامات العامة ينتظران بدورهما وصول المعارض المغربي، إنهما نفس الشخصين اللذين كانا ينتظرانه كلما زار العاصمة الفرنسية ويسيران على بعد خطوات منه لتوفير الحماية له، وقد كانا هنا أيضاً في هذا اليوم التاريخي المشهود الساعة التاسعة بالمطار والثانية عشرة والنصف قرب المطعم، ونجح التونسي في تصويرهما خلسة مرات عدة قبل وبعد وصول بن بركة.
في الساعة التي هبط فيها المعارض المغربي أرضية المطار انتقل الثلاثة: التونسي وحليم وبنيوسف إلى شارع “سان جيرمان” بجوار المطعم على متن السيارة المستأجرة ومعهم آلة تصوير وكاميرا بانتظار منتصف النهار لتصوير مشاهد اختطاف بن بركة مباشرة، وصل الثلاثي إلى الشارع المذكور في العاشرة والنصف صباحاً، قبل حتى وصول الشرطيين الفرنسيين المكلفين بدعوة بن بركة ونقله إلى شقة بوشيش.
أما المسناوي وصاكا فقد انتقلا هما أيضاً إلى المكان الذي سيكون بعد قليل مسرحاً لعملية الاختطاف على متن سيارة تابعة للسفارة المغربية بباريس، مهمتهما دائماً مراقبة عمل عناصر مصلحة العمليات التقنية التي يقودها التونسي، قبل التوجه إلى شقة بوشيش وانتظار حضور بن بركة ومختطفيه. وبالنسبة لرجلي الأمن الفرنسيين المكلفين بالدعوة-الاختطاف، وهما “روجر فواتوت” و”لويس سوشون” فقد استقلا سيارة تابعة للمفرزة الأمنية الحضرية لباريس برفقة أنطوان لوبيز وجوليان ليني وقصدوا جميعاً مطعم “ليب” لانتظار زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
كان بن بركة مصحوباً لدى وصوله إلى باريس بطالب مغربي هو التهامي الزموري الذي كلفه بأن يجمع له الوثائق المتعلقة بالحقبة التاريخية التي يتحدث عنها الفيلم الوثائقي.
وقبل اختطافه التفت المعارض المغربي إلى الطالب الشاب وقال له: “إنني متفائل جيداً ولدي ثقة كبيرة بالرغم من كل شيء، لأن هناك عروضاً إيجابية من الحسن الثاني، من المحتمل أن نشارك في حكومة يكون بها أيضاً أحزاب سياسية أخرى، وأعتقد أن ذلك سيكون أمراً جيداً بالنسبة للبلاد، إذ إن المعارضة المنهجية ليست مسألة إيجابية، ويجب أن يكون المرء إيجابياً في بعض الأوقات ومتعاوناً، وأنا أعتقد في الظروف الحالية أن البلاد بحاجة إلينا، ومن أجل هذا أريد العودة إلى المغرب”.
تسجيل الملاحظات
قرب الثانية عشرة مساءً وصل بن بركة أمام مطعم “ليب” على متن سيارة أجرة برفقة مرافقه الطالب المغربي، من خلفه كانت سيارتا أجرة أخريان تقل الأولى رجلي الأمن الفرنسيين، والثانية عنصري مصلحة العمليات التقنية: بتيش والدرفوفي اللذين لاحقا الزعيم المغربي المعارض من المطار. ولدى وصوله نادى الفرنسيان عليه وأركباه في المقعد الخلفي لسيارتهما دون أن يعيرا اهتماماً للتهامي الزموري المرافق له، لكن هذا الأخير بدأ يصرخ في الشارع العام، وخوفاً من أن تتطور الأمور إلى المنحى السلبي هرع بتيش والدرفوفي على جناح السرعة إلى الطالب المغربي وهدداه فانسحب بدون ضجيج.
كل هذا حدث أمام أعين رجلي الاستعلامات الفرنسية الخاصة المكلفين بحماية بن بركة، واللذين سجلا رقم السيارة التي أركب فيها بن بركة لحمله إلى جهة مجهولة، وخلال هذا الوقت كان التونسي وبنيوسف وحليم يقومون بتصوير كل تلك المشاهد. لقد كان ذلك شبيهاً برقصة باليه غريبة.
في تلك الصور الملتقطة التي رأيناها عشرات المرات فيما بعد كانت تبدو بوضوح السيارة والفرنسيون الأربعة بداخلها، وكان يمكن رؤية لوبيز متنكراً، ووصول بن بركة والطالب الشاب ورجلي الأمن الفرنسيين المكلفين بحمايته على متن السيارة الأجرة وعنصري مصلحة العمليات التقنية بالكاب، كما يمكن رؤية جميع الجزئيات المتعلقة بعملية الاختطاف وتدخل الدرفوفي وبتيش لإسكات الطالب وإبعاده عن مسرح العملية، وأيضاً رجلي الاستعلامات العامة الفرنسية وهما يسجلان الملاحظات ويثبتان في مكانهما دون حراك بشكل مثير.
بعد أن أوصل “فواتوت” و”سوشون” المهدي بن بركة إلى داخل الشقة انتهت مهمتهما، فأخذا طريق العودة بهدوء وفي قاعة الاستقبال بالشقة كان رجال الكاب الأربعة في الانتظار: محمد العشعاشي، محمد المسناوي، عبد القادر صاكا وعبدالحق العشعاشي الذي لم يكن حتى تلك اللحظة قد ظهر في جميع الصور التي التقطت خلال العملية، بعد ذلك حضر اثنان آخران من الكاب هما ميلود التونسي و”الممرض” أبو بكر الحسوني الذي سجل في تلك اللحظة أول ظهور له على مسرح الأحداث، وفي اللحظة ذاتها كانت العناصر الأربعة التابعة لمصلحة العمليات التقنية: حليم، بن يوسف، بتيش والدرفوفي، يغادرون الشقة عبر الحديقة بعد انتهاء مهمتهم، وفي مكان آخر بعيداً عن موقع الشقة في باريس، كان رجلا الاستعلامات العامة الفرنسية يقدمان محضر ما جرى إلى رئيسهما، لكن هذا الأخير كان في عطلته الأسبوعية، فوضع الرجلان المحضر وذهبا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع عائلتيهما، وبقي المحضر في مكانه إلى يوم الثلاثاء 2 نوفمبر، بعدما حصل ما حصل.
حقنة مخدرة
في شقة “بوشيش” دخل المهدي بن بركة ورجال الكاب الستة في نقاشات مطولة استمرت لمدة ست ساعات تقريباً، وبقيت الأجواء حتى تلك اللحظة ودية وهادئة إلى مجيء أحمد الدليمي في الساعة السابعة مساء، ولدى وصوله قرر على الفور أن يقوم بتعذيب بن بركة بعد تكميم فمه وربطه بوثاق إلى الكرسي بمساعدة التونسي والحسوني، ولإخراسه نهائياً أمر الدليمي “الممرض” الحسوني بحقنه بحقنة مخدرة، ففقد بن بركة وعيه ساعات، وبين الحين والآخر كان العشعاشي والدليمي يتخاصمان حول جدوى هذا التعذيب المجاني الذي ليس وارداً في مخطط الاختطاف، حسب رأي العشعاشي.
في منتصف الليل تقريباً وصل الجنرال محمد أوفقير بدوره إلى الشقة، كان في حالة سكر بيّنٍ، وفور وصوله بدأ في مشاركة الدليمي في تعذيب المعارض المغربي، بمساعدة الحسوني والتونسي والدليمي نفسه. كان بن بركة موثق اليدين إلى الخلف وواقفاً، وعندما بدأ يستعيد وعيه قليلاً أمر أوفقير بحقنه مجدداً للمرة الثانية خلال ساعات فقط، وتحت التعذيب المتواصل لكل من أوفقير والدليمي دخل بن بركة للمرة الثانية في غيبوبة. كانت الساعة آنذاك تشير إلى حوالي الثالثة صباحاً، ولم يفق زعيم المعارضة المغربية من غيبوبته بعد ذلك أبداً!!.
بقيت جثة بن بركة في شقة “بوشيش” لمدة ساعات وإلى جواره رجال الكاب الستة ومنعهم أوفقير الذي كان ما يزال مخموراً من الاتصال هاتفياً بالمغرب وطلب منهم الانتظار حتى تصلهم تعليمات جديدة، فظل الرجال الستة أمام الجثمان لا يعرفون ما هي هذه التعليمات التي يمكن أن تأتي الآن، وتوجه أوفقير والدليمي إلى مطار أورلي أو مطار بورجي حيث كانت طائرتان عسكريتان بانتظارهما، هما نفسهما اللتان حملتاهما إلى باريس في توقيتين متزامنين تقريباً، الأولى من فاس عبر الجزائر والثانية مباشرة من الرباط.
وبعد عودتهما إلى مطار “فاس سايس” مكثا هناك لبضع ساعات ثم عادا إلى باريس، لكن هذه المرة على متن طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية المغربية، ووصلا بشكل منفصل ولكن متزامن تقريباً إلى مطار أورلي في النصف الثاني من يوم السبت 30 أكتوبر.
خلال فترة غيابهما جرى إلباس جثمان المهدي بن بركة بعناية: بدلة رمادية اللون وقميصاً أبيض وربطة عنق ونظارة سوداء وطربوشاً، ثم نقل إلى شقة “لوبيز” في انتظار ترحيله إلى مطار أورلي، حيث ستهبط بعد قليل الطائرة العسكرية التي نقلت بالأمس أوفقير في رحلته السريعة من الرباط إلى باريس ثم من باريس إلى فاس لنقله إلى المغرب، وفي الساعة العاشرة ليلاً وصلت الطائرة ورافق التونسي والحسوني جثمان المعارض المغربي، حيث كانا يحملان جوازين مزورين في هذه الرحلة الاستثنائية، واستخرجا لبن بركة جوازاً مزوراً.
تقدم التونسي الذي كان يعرف جيداً الإجراءات الإدارية العادية والاستثنائية لشرطة المطار حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً إلى مكتب الاستعلامات العامة بمطار أورلي أو بورجي، مصحوباً بالجوازات الثلاثة وثلاث أوراق هوية معبأة الخانات، فختم الشرطي الوثائق دون طرح أية أسئلة ولا حتى إلقاء نظرة على الصور والوثائق لفحصها ولم يكن يعرف أن بين المسافرين الثلاثة شخصاً ميتاً، ليس أي شخص، بل: المهدي بن بركة شخصياً!.
الاختفاء النهائي: هكذا وصل جثمان المهدي بن بركة في سرية تامة إلى المغرب ليلة 30 31 أكتوبر 1965. وفي العاشرة صباحاً غادر الدليمي وأحد عناصر مصلحة العمليات التقنية التراب الفرنسي عائدين إلى المغرب. ووصل جثمان بن بركة للمغرب تمام الساعة الثالثة فجراً حيث حطت الطائرة العسكرية بمطار الرباط سلا يوم الأحد 31 أكتوبر، وكان بانتظاره أحمد ادجين وتم حمل الجثمان مباشرة إلى النقطة المركزية “دارالمقري” وبقي برفقته التونسي والحسوني وادجين في انتظار وصول التعليمات، بعد ذلك سيلتحق بهم محمد النويني ثم أحمد الدليمي فور نزوله من رحلة العودة من باريس.
في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر وضع جثمان المهدي بن بركة بداخل حوض من الفولاذ غير قابل للصدأ يحتوي على أحد الأحماض من أجل تذويبه ليختفي نهائياً بعد ذلك بدار المقري!
48 ساعة بعد عملية الاختطاف فوق التراب الفرنسي. وفي هذه الأوقات كانت السلطات الفرنسية تحاول العثور على أي شيء يدل على معالم الجريمة، لكن دون جدوى. فلا أحد في فرنسا كان يتصور أن شخصية سياسية معروفة مثل المهدي بن بركة يمكن أن يجري اختطافها فوق التراب الفرنسي، ثم يعذب ويقتل في فرنسا، ويتم نقل جثمانه بشكل سري إلى المغرب على متن طائرة عسكرية تابعة للجيش المغربي.
قبل وضعه داخل الحوض وتذويبه جرى تصوير الجثمان عدة مرات ومن زوايا مختلفة، كيف يمكن أن للمرء أن ينسى هذه الصور؟ لقد رأيتها عشرات المرات طيلة خمسة وثلاثين عاماً وحاولت أن أتصور المشاهد والجزئيات الأخرى التي لا يمكن تخيلها، وناقشت الأمر مع العشعاشي وصاكا والمسناوي، الشهود والفاعلين في القضية في فرنسا، ومع ادجين الشاهد فيما حصل في دار المقري وفي عملية تذويب الجثمان وإخفاء معالمه، وبقيت هناك صدمة قوية وجرح مفتوح، بالرغم من مضي سنوات على ذلك وحصول تجارب عدة.
الحلقة (12)
انتهى كل شيء.. وذابت الجثة في الحوض المملوء بمادة كيماوية!! لقد كانت عمليات الاختطاف في المغرب عملة رائجة، خاصة في فترة المؤامرات المزعومة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ فقد تم تجنيد ما بين 200 إلى 300 من رجال المخابرات المغربية، أي حوالي الثلثين لهذه المهمات وكانت مهماتهم هي تصفية الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الطلابية، وإخراس الزعماء السياسيين ونصب الفخاخ لهم ودفع عدد كبير منهم للتعاون مع المخابرات المغربية.
لتحقيق هذه الأهداف كان رجال المخابرات المغربية يقومون بعمليات اختطاف تصل إلى 350 حالة في السنة في الفترة ما بين 1960 و1973، لكن هذا المعدل كان يتغير في بعض الظروف السياسية المختلفة التي لا يكون فيها احتقان سياسي كبير.
وفي قضية مؤامرات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1963 جرى تسجيل خمسة آلاف حالة اختطاف في صفوف أتباع هذا الحزب داخل المغرب، ونزل هذا العدد إلى ثلاثة آلاف في مؤامرات 1969 1970، ثم ارتفع إلى ستة آلاف في أحداث مارس 1973.
كان الآلاف من المعارضين المختطفين يساقون إلى عدة أماكن سرية غير شرعية خاصة بالتعذيب والحجز الطويل وكان هناك خمسة أماكن في الرباط والدار البيضاء.
لقد اشتهرت دار المقري التي اقتيد إليها جثمان بن بركة بين هذه الأماكن في العالم كله بعد الشهادات التي أدلى بها رشيد اسكيرج العميد السابق الذي عمل في المخابرات المغربية في ملف بن بركة عام 1967 بباريس. وكانت عمليات الاختطاف ال350 في السنة الواحدة يتم الإعداد لها مدة أشهر داخل الخلية الخاصة بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية التابعة لمصلحة مكافحة الشغب بالمخابرات المغربية، والتي كان يشرف عليها محمد المسناوي وأنا، ويتم تنفيذها من طرف الأربعين عنصراً العاملين مع الخلية في عدة مدن بالمملكة، وكان كل شيء يجري تحت سلطة مصلحة مكافحة الشغب، ويشارك فيها عناصر مصلحة العمليات التقنية الذين يقومون بمهام الملاحقة والترصد والمراقبة السرية والتنصت على المكالمات وفتح الطرود والرسائل البريدية، كما كان يشارك فيها في حال الضرورة عناصر من الدرك الملكي والأمن الوطني والجيش الملكي.
مهمة خاصة!
عملية اختطاف بن بركة.. من العمليات الاستثنائية الناجحة التي قام بها العملاء السريون، وقد قامت مصلحة مكافحة الشغب بالإشراف على هذه المهمة الخاصة من خلال التخطيط لها ومتابعة تنفيذها وتمويلها وتوفير الوثائق الضرورية لها، كل ذلك في بحر سبعة أشهر ويومين. على رأس هذه المصلحة كان هناك رجل أمن استثنائي المواصفات هو محمد العشعاشي، وخبير أمريكي هو مارتان، وفي محيطهما عشرات من المعاونين وراءهم نحو عشرين من “العمل والتجربة”. وفي عملية بن بركة تم تجنيد حوالي خمسين، منهم من تجرد للمهمة بكامل قواه، إلى حد أن نسوا حتى أنفسهم لإنجاحها، ومن بين هذا العدد لم يتم التعرف في التحقيقات إلا إلى واحد هو التنونسي، لكن باسمه المستعار المنتحل وهو الشتوكي.
وأسجل هنا أن بعض رجال الأمن الآخرين من خارج المخابرات المغربية شاركوا في هذه العملية، وهم رجال الدليمي وأوفقير اللذين تم وضعهما على الحياد في بداية التحضير وخلال المهمات السرية في مارس 1965، فكانا يتابعان ما يجري فقط من بعيد طيلة سبعة أشهر، وفي اللحظة الأخيرة تلقيا الضوء الأخضر من المخزن للسفر إلى باريس يوم 29 أكتوبر باسمين منتحلين، وفي شبه سرية لحضور عملية تخدير بن بركة ونقله إلى مطار أورلي، ومنه إلى الرباط “حياً ومنوماً بمخدر”.
ولكن نجاح العملية يعود أيضاً إلى الدعم الذي حصلت عليه داخل فرنسا سواء من أجهزة المخابرات أو الأمن ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية والحكومة، بل من داخل رئاسة الجمهورية.
وقد شعر الجنرال ديجول بالإهانة بعد وقوع العملية ووقف موقفاً حرجاً: فبن بركة كان تحت الحماية الفرنسية، وقد اختطف فوق التراب الفرنسي، في قلب العاصمة الفرنسية، من طرف رجلي أمن فرنسيين، وتحت أعين رجلي أمن فرنسيين آخرين مكلفين بحمايته، ونقل على متن سيارة تابعة للشرطة الفرنسية، وعذب ومات فوق التراب الفرنسي أيضاً!!
تم تحقيق هدف عملية “بويا البشير” يوم 29 أكتوبر 1965، ولكن بشكل جزئي، لأن المخطط كان يتضمن اختطاف المعارض المغربي في باريس ونقله إلى المغرب حياً ومخدراً بكمية محددة من المخدر ونقله بعد ذلك إلى دار المقري حيث يظل فيها مدة أشهر أو سنوات إلى حين وصول تعليمات بشأنه مباشرة من المخزن!
اختبار الحالة
في صبيحة يوم 29 أكتوبر وضع محمد المسناوي قائمة بأسئلة مخصصة لبن بركة بتشاور مع محمد العشعاشي وعبدالقادر صاكا، بقاعة الاستقبال في شقة “بوشيش”.
كان المسناوي خبيراً كبيراً فيما نسميه “اختبار الحالة” بشعبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالمخابرات المغربية، لكن بن بركة هنا كان “حالة استثنائية” مما يوجب أن تكون الأسئلة مدرجة في إطار عملية “المحادثة النقاش” لكي لا يثير ذلك شكوك المعني أو غضبه، ويدفعه إلى التمترس وراء الصمت، وكان المسناوي يتصف بنوع من الدعابة بحيث إنه كان قادراً على نيل ثقة خصمه ووضعه تحت سيطرته، والحصول منه على إجابات حقيقية ومقنعة عن جميع الأسئلة المطروحة.
في حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف زوالاً هاتف ميلود التونسي محمد العشعاشي ليبلغه بأن “المعني قد سقط في الفخ” كما كان منتظراً، وأنهم سيكونون في الشقة في بحر ساعة، ومن جانبه اتصل العشعاشي فوراً بمصلحة الدوام الخاص في المخابرات المغربية بالرباط لإبلاغ النبأ إلى أوفقير والدليمي. وفي نهاية الأسبوع الطويلة تلك كنت مكلفاً بالدوام الخاص بين 29 أكتوبر الساعة الثامنة صباحاً، والأول من نوفمبر في نفس الساعة، قمت بتسجيل مكالمة العشعاشي حال وصولها الساعة الحادية عشرة صباحاً بالتوقيت المغربي في سجل الدوام، قبل أن أتصل بأوفقير والدليمي بالجزائر، توصل الدليمي بالمكالمة على الفور، أما أوفقير الذي كان في الطريق إلى الرباط على بعد حوالي أربعين كيلومتر فلم يتلقها إلا بعد ساعات على ذلك؛ لأن الهواتف التي كانت بحوزتي واتصلت بها عليه لم يكن يوجد بها.
وصل بن بركة إذن الساعة الواحدة والنصف زوالاً، إلى شقة “بوشيش”، مرفوقاً برجلي الأمن الفرنسيين، وفي اللحظة التي دخل فيها إلى قاعة الاستقبال صار متوتر الأعصاب وبدأ يحتج على الفرنسيين لأنهما لم يسمحا له بترك رسالة لرفيقه الطالب المغربي التهامي الزموري الذي كان برفقته حتى يبلغها للأشخاص المرتبط معهم بموعد في مطعم “ليب”. وعندما رآه رجال المخابرات المغربية الأربعة الذين كانوا في الانتظار بداخل الشقة لم يصدقوا أعينهم، استقبلوه استقبالاً حسناً وحاولوا تهدئته بالقول إن الرجلين لم يقوما إلا بما طلب منهما لأنه كان ينبغي أن يحضر إلى هنا في الوقت المحدد، وكشفوا له أيضاً عن هويتهم باعتبارهم من المخابرات المغربية، قائلين إنهم أرسلوا إلى هذه المهمة لتنسيق لقاء بينه وبين مبعوث من القصر الملكي ربما يكون اللقاء الأخير، فاستعاد بن بركة هدوءه المعتاد بعد دقائق مطمئناً إلى كلام المسناوي صاحب الدعابة!
بعد ذلك دخل زعيم اليسار المغربي في مناقشات مطولة مع رجال المخابرات المغربية الذين أصبحوا الآن ستة بعد أن لحق بهم التونسي والحسوني، وكان المسناوي أكثرهم ثرثرة، بينما كان الشقيقان العشعاشي يتحدثات قليلاً، أما التونسي والحسوني فقد التزما الصمت بعدما لاحظا أن الأحداث تجاوزتهما، وكان المسناوي بذكائه ومراوغته أكثر دبلوماسية في الحديث، فطرح أسئلة معدة جيداً من قبل لهذه المناسبة، وكان بن بركة يرد على جميع الأسئلة طيلة الفترة التي استغرقتها المناقشات التي سجلت جميعها في أشرطة تسجيل مخبأة لدى صاكا والتونسي.
كان زعيم المعارضة المغربية بقلب مفتوح وبثقة عالية ويقول ما يود أن يقوله، وكان يبدو جاداً وصادقاً ولديه رغبة قوية في العودة إلى المغرب “للمشاركة في حكومة وحدة وطنية والتعاون بصدق مع النظام القائم”؛ فقد كان يعتقد بأن الوصول إلى تفاهم مع النظام المغربي ما يزال ممكناً لصالح حاضر ومستقبل البلاد، وبالرغم من كل أخطاء الماضي والاختلافات السابقة كان متفائلاً بالنسبة لمستقبل البلاد، ولم يتردد في القول بأنه مل حياة المنفى وأنه يريد الدخول إلى المغرب في أقرب وقت للاستقرار إلى جانب عائلته وأصدقائه، ولكن هذه العودة مشروطة بالنسبة له بثلاثة شروط مهمة جداً:
1 قمة القارات الثلاث: المقررة في يناير 1966 لأنه كان مكلفاً بالتحضير لها ويرأس لجنتها التنظيمية منذ بداية 1965، وهو يكرس كامل وقته لإنجاح هذه القمة. ولم يتردد في الاعتراف بما يعرفه رجال المخابرات المغربية الواقفين أمامه، وهو أن تنظيم هذه القمة تعترضه ظروف مالية صعبة منذ 19 يونيو 1965 تاريخ وقوع الانقلاب العسكري في الجزائر الذي أطاح بنظام أحمد بن بلة الذي كان سيمول كل ما يتعلق بالقمة، وشرح كيف أن اللجنة التحضيرية بالرغم من هذه الصعوبات قررت مواجهة الأمر الواقع بالتقليص من المصاريف، وختم بالقول إن جميع التحضيرات قد شارفت على الانتهاء وأن القمة ستنعقد في موعدها المحدد في يناير المقبل.
2 اتفاق مكتوب حول عودته إلى المغرب: وكان هذا الاتفاق قد شكل موضوع مباحثات عدة بين الملك الحسن الثاني وقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الفترة ما بين مارس وأبريل 1965، حيث إن هذا الاتفاق المكتوب كان سيضع حداً للمتابعات القضائية التي يتعرض لها بن بركة، خصوصاً بعد حكمي الإعدام الصادرين ضده عامي 1963 و1964، وكان يعتقد صادقاً أن مثل هذا الاتفاق المكتوب يجب أن يتم قبل نهاية العام لأن جميع الشروط المرتبطة بعودته رفقة عائلته قد تمت تسويتها في اللقاء الذي جرى بينه وبين الأمير مولاي علي مبعوث الملك في فرانكفورت بألمانيا، واعترف بأنه هو شخصياً يثق في “مبعوث الملك، صهره وابن عمه وسفير المغرب في باريس الذي يحظى باحترام جميع الأطراف السياسية بالمغرب وفي فرنسا وباقي بلدان العالم”، وأكد أن اتفاقاً مكتوباً مسألة ضرورية لأنه بدون ذلك سيتعرض للتعذيب أو الاعتقال أو في أحسن الحالات للتسميم، وبخصوص التعذيب قال إنه منذ أن بدأ يشتغل في السياسة عام 1935 حين كان عمره الخامسة عشرة لم يسبق أن تعرض للتعذيب أو الاعتقال، وأن مسؤولي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذين حصل معهم ذلك شرحوا له كيف أن هذا الأمر يطرح مشكلة في المغرب لأنه ظهر مباشرة بعد الحصول على الاستقلال، وقال إنه في ظل الحماية الفرنسية تعرض مرات للاعتقال والنفي بجنوب المغرب واختطف وحوكم لكن ذلك كان يحصل في احترام تام للقانون وفي ظروف لائقة، وأضاف أنه غادر المغرب في سرية في يناير 1960 ويونيو 1963 لكي يتجنب اعتقاله التعسفي الذي كان وشيكا، والاختطاف والتعذيب، وأنه فضل حياة المنفى في الخارج مرتين بعد الاستقلال من أجل ضمان أمنه الشخصي، الأولى بين يناير 1960 ومايو 1962، والثانية بين يونيو 1963 ويونيو 1965، متمنيا أن يكون هذا “آخر مرة أعيش فيها حياة المنفى في حياتي السياسية إن شاء الله”.
3 عودة الجيش إلى الثكنات: بالنسبة لبن بركة قال انه يتعين على الجيش أن يغادر مواقع المسؤولية التي يشغلها حاليا ويعود إلى الثكنات العسكرية في القوات المسلحة الملكية للقيام بمهامه العسكرية والكليات الحربية والدرك والقيادة العامة. لقد كان زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يعتقد أن الجيش يمكن أن يعود إلى الثكنات بأمر بسيط من رئيس الدولة بعد حصول الاتفاق بينه وبين حزبه بخصوص هذا الأمر، ولكن ذلك لم يكن صحيحا لأن العساكر كانوا متشبثين بمواقعهم في المسؤولية داخل أجهزة الدولة مع كامل السلطات بين أيديهم والمليارات التي يجنونها من وراء الأعمال القذرة التي يقومون بها والفساد والبغاء والقوادة والتهريب والعقار والفلاحة…إلخ، لقد كان بن بركة في الحقيقة السياسي المغربي الوحيد الذي كان يعتقد أنه يمكن للجيش أن يلتزم بالدور الذي وجد من أجله، وكان ذلك تقديرا خاطئا جدا من جانبه.
خدام الاستعمار
فقد كان يتهم العسكريين بشكل مباشر ويشير إليهم بالأصابع وينعتهم بأنهم كانوا خدام الاستعمار الفرنسي وعملوا في صفوف جيش الاحتلال وأنهم أميون وعديمو التكوين وأبناء فلاحين متعاونين مع المستعمرين. وما كان يقوله بن بركة كان صحيحا، لأن الضباط السامين في القوات المسلحة الملكية يتوفرون بالكاد على شهادة التعليم الابتدائي، وبعضهم لم يتجاوز مرحلة الإعدادي بإعدادية”طارق بن زياد” بمدينة آزرو مثل أوفقير والدليمي ومذبوح وبوكرين والتحقوا بالمدرسة العسكرية”الدار لبعيدة” بمكناس أما الآخرون وهم الغالبية، فقد كانوا أميين منحدرين من أصول قروية حيث كانوا فلاحين أو رعاة أغنام ثم التحقوا بشكل إرادي بصفوف الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية بين 1939 و1945 وأثناء حرب الهند الصينية بين 1948 و1954 . كانت غالبيتهم تنحدر من أقاليم الريف والأطلس وتافيلالت وسوس، عمل آباؤهم أو أقاربهم مع الاستعمار الفرنسي كمتعاونين وكانت فرنسا تجري في عروقهم ودمائهم، فوالد وأعمام الجنرال أوفقير مثلاً كانوا من عملاء فرنسا في منطقة فكيك (الصحراء)، وهو نفسه وأشقاؤه كانوا من عملاء فرنسا، والجنرال “مذبوح” نفس الشيء لأن والده ذبح بعد خيانته للزعيم الريفي محمد بن عبدالكريم الخطابي، من هنا جاء لقبه في بداية عام 1920، والدليمي نفس الشيء إذ كان والده الحسن الدليمي ضابطاً في “مكتب التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” الفرنسي بالمغرب فرع الرباط، وجميع أقاربه وإخوته كانوا عملاء للحماية الفرنسية في منطقة سيدي قاسم وسيدي سليمان ومنطقة الغرب، وهي نفس حالة المحجوبي أحرضان (شغل منصب وزير الدفاع بالمغرب سابقاً وهو حالياً أمين عام حزب الحركة الشعبية وفي الثمانين من عمره) وآخرين.
من بين القضايا الأخرى التي أثارها المهدي بن بركة كانت هناك مسألة التفاوض حول استقلال المغرب، فقد ندم على مشاركته فيها “لأن غالبية أعضاء الوفد المغربي في مؤتمر إيكس ليبان قد باعوا المباراة سلفاً لفرنسا”؛ فقد أدخلت تلك المفاوضات المغرب في دوامة رهيبة من “الاستقلال داخل الاستقلال وجهاً لوجه مع فرنسا”، واعترف زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية صراحة أنه ارتكب “غلطة فادحة بالمشاركة في تلك المفاوضات” غلطة قال إن الندم بسببها سيرافقه “إلى آخر العمر”.
لقد انبهر رجال مصلحة مكافحة الشغب بشخصية المهدي بن بركة القوية وتمكنه من الموضوعات والقضايا التي ناقشها، وبجديته وصراحته وشجاعته وكفاءته ومستواه الثقافي وثقافته العامة، ولكن أيضاً بأفكاره ومخططاته الاقتصادية والصناعية والفلاحية التي ستخرج البلاد من الأزمة الخانقة منذ الحصول على الاستقلال. وكان بن بركة يثير الإعجاب بثقته في نفسه وبتفاؤله في مستقبل المغرب وبمستقبله هو شخصياً في بلاده، ذلك لأنه كان يردد بأنه سوف يعود إلى المغرب “بعد ثلاثة أشهر في أقصى حد” مع زوجته وأبنائه للاستقرار بشكل نهائي.
من جانبه هو أيضاً، أعجب المعارض المغربي الشهير بالثقافة الجيدة التي يملكها رجال المخابرات المغربية وانفتاحهم ومعرفتهم بالقضايا التي طرحت للنقاش خلال تلك الجلسة الإيجابية والمفيدة على جميع الصعد، فقد سبق له في الماضي أن تناقش مع رجال الأمن والمخابرات في الجزائر ومصر وفرنسا والمغرب، وكان المستوى الثقافي لمن قابلهم وناقش معهم ضعيفاً أو متوسطاً، ولذا أعجب ب”مستوى” رجال المخابرات المغربية المغاربة الذين كانوا معه، وقد اعترف لهم بذلك بكل مروءة.
إن الأشرطة التي سجل فيها الحوار الطويل الذي دار بين بن بركة ورجال الأمن المغاربة التابعين للكاب، والتي جرى اعتبارها “اختباراً استثنائياً لحالة المهدي بن بركة” توجد محفوظة في ملف بن بركة بالأرشيفات السرية لمصلحة مكافحة الشغب. وقد سنحت لي مرات عدة فرصة الاستماع إليها إلى جانب محمد العشعاشي والكولونيل مارتان ومحمد المسناوي وصاكا وادجين وزيني، بمكتب المصلحة، وكان ذلك يجري في صمت والدموع في الأعين.
إن ما حدث يمكن اليوم أن يفاجئ الجميع وأن يبدو غريباً، ولكن بكثرة ما لحق بهذا الرجل الصريح والكفء في حياته طيلة أعوام عدة انتهى به الأمر إلى الإعجاب به واحترامه بل ومحبته والأسف على فقدانه، والظروف التي تم فيها اغتياله وإخفاء جثته إلى الأبد
الحلقة (13)
كان المقدم أحمد الدليمي نائب رئيس المخابرات المغربية ونائب المدير العام للأمن موجوداً في الجزائر في مهمة خاصة بضعة أيام قبل حادث اختطاف بن بركة، وقبل ثلاث أيام فقط من الحادث لم يكن حضور الدليمي إلى باريس مقرراً في البرنامج، كما لم يكن ذلك مرغوباً فيه من جانب العشعاشي المسؤول الفعلي عن عملية “بويا البشير”!
في يوم الأربعاء 27 أكتوبر هاتَفَ الدليمي من الجزائر صديقه وزميله عبدالحق العشعاشي وطلب منه السفر إلى باريس في الغد لمساعدة شقيقه في المرحلة الأخيرة للعملية إن كان ذلك ضرورياً، وأن يحمل معه بعض المال نقداً من الصندوق الأسود رقم 2 الخاص بمكتب أوفقير في المخابرات المغربية للحاجة.
وفي اليوم التالي استقل عبدالحق العشعاشي أول طائرة متجهة إلى باريس من مدينة سلا، وكان معه “ممرض” المخابرات المغربية الحسوني الذي عوض في اللحظة الأخيرة الممرض الآخر حميدة ادجين الذي كان اسمه مبرمجاً في العملية ولكنه في آخر لحظة لم يسترجع وعيه من حالة السكْر التي كان فيها الليلة السابقة!
وعندما غادر الاثنان مقر المخابرات المغربية في اليوم التالي كانا يحملان معهما مبلغاً كبيراً من المال، لكنهما سافرا بجوازيْ سفرهما الحقيقيين لأن هذه الرحلة جاءت مباغتة.
ملاحظة مهمة
وفي يوم 29 أكتوبر كان الدليمي ما يزال في مهمة بالجزائر حيث كان يرتب الاستعدادات لسفر الملك الحسن الثاني لحضور القمة الإفريقية التي كانت مقررة في شهر نوفمبر 1965، وعندما تلقى مكالمة العشعاشي ترك رسالة مُفادها أنه سيكون في نفس اليوم بباريس قبل الظهر، ثم غادر الجزائر عبر فاس بالطائرة العسكرية التي كانت قد وضعت رهن إشارته في رحلة الجزائر. وكان الحسن الثاني موجوداً في فاس في تلك الفترة ويستعد للسفر إلى الجزائر بمناسبة انعقاد القمة، وقبل توجهه إلى العاصمة الفرنسية مر الدليمي لمقابلة الملك.
عندما غادر الدليمي الجزائر كان ينوي أن تكون رحلته إلى باريس “استكشافية” فقط لأنه ترك جميع أمتعته في الفندق بالعاصمة الجزائرية وكان يرافقه في هذه الرحلة أعضاء من المخابرات المغربية بقوا في الجزائر من بعده، بينهم “فاتح” يعتبر “ليم” الدليمي أي الشخص الشبيه له الذي يمكن أن يقوم مقامه دون أن يتم التعرف عليه لكنهم حزموا أمتعتهم وعادوا إلى المغرب بعدما لم يعد هناك ما يفعلونه أو من ينتظرون منه التعليمات!
قام بديل الدليمي “فاتح” خلال مقامه بالجزائر في غياب هذا الأخير ما بين 29 أكتوبر و2 نوفمبر بتمثيله وكان يستعمل خلال هذه الفترة جواز سفره الشخصي الحقيقي وأحياناً الهوية الحقيقية للدليمي ولديه هوية ثالثة مزورة. وعندما كان يسافر بدل الدليمي في مهمة خارج المغرب كان يستخدم الهوية الحقيقية لهذا الأخير سواء في المطار أو في الفندق، وحين “يمثل” الدليمي داخل المغرب كان يستخدم بطاقة التعريف الوطنية للمقدم نفسه أو رخصة قيادته، بينما يكون الدليمي الحقيقي موجوداً في مكان آخر بهوية مزورة أو رخصة قيادة مزورة وباستخدام “بديله” في المهمات السرية للمخابرات المغربية، أو بكل بساطة في خداع زوجته!! لقد كان الدليمي يخلق الكثير من التشويش لدى رجال الأمن في جميع مطارات العالم.
لم يكن في ذهن الدليمي أن يسافر إلى باريس قبل أن يتوصل بمكالمة العشعاشي، كان يعتقد أن بن بركة سوف يحالفه الحظ هذه المرة في الإفلات كما أفلت في المرات السابقة أعوام 1957 و1962 و1964 . وقد استخدم في سفره إلى باريس المرة الأولى على متن الطائرة العسكرية جواز سفر مزوراً، ولكنه في الرحلة الثانية يوم 30 أكتوبر على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية المغربية استخدم جواز سفره الحقيقي. فقد كان يريد في الرحلة الأولى ألا يتم التعرف عليه بعدما علم بخبر وقوع بن بركة في الفخ، لأنه رسم في ذهنه مخططاً جاهزاً: اغتيال المهدي بن بركة بعد تعذيبه لأنه اعتقد أن مثل هذه الفرصة لن تسنح له أبداً للقبض على المعارض الشهير.
سفر الشبيه!
من جهته سافر “بديل” الدليمي إلى باريس يوم 29 أكتوبر مباشرة من الجزائر، وقبل سفره بقي بها خمسة أو ستة أيام في فندق صغير رهن إشارة الدليمي الذي ظل على اتصال مستمر به عبر عميل تابع للمخابرات المغربية يعمل في السفارة المغربية.
في الساعة السابعة مساء على وجه التقريب وصل الدليمي إلى شقة “بوشيش” على متن سيارة أجرة لأن أحداً لم يكن بانتظاره في المطار؛ إذ كان معتاداً خلال أسفاره إلى العاصمة الفرنسية أن يأخذ بعد نزوله من الطائرة سيارة “ليموزين” تابعة للسفارة المغربية تكون في انتظاره قبل الوصول.
عندما دخل الشقة كان الدليمي يحمل في يديه قفازين شفافين كالطبيب الجراح عندما يهم بدخول جناح العمليات، كان في نيته سلفاً أن يقترف جريمة من دون أن يترك بصماته. ولدى دخوله كان أول من فوجئ به هو بن بركة نفسه، لأنه كان يتوقع مبعوثاً من الملك، وفهم المعارض المغربي أن الدليمي قد جاء مبعوثاً للموت أو الاغتيال والتعذيب، وأنه لن يخرج حياً من هذه المصيدة التي نصبها له عملاء المخابرات المغربية، وعندما قابلت عيناه نظرات الدليمي المباشرة الحادة أدرك أن الرجل ليس هنا من أجل التفاوض، قام بن بركة ونهض من مقعده لكي يوجه بعض الشتائم إلى العسكري بصوت عال، فأعطى الدليمي أمره إلى الحسوني والتونسي لتقييده بالمقعد باستخدام القوة، وبدأ بن بركة متعباً ومقيد الرجلين واليدين، يصرخ بأعلى صوته طالباً النجدة؛ فشمّع الحسوني والتونسي فمه ولكنه بالرغم من ذلك استمر يتحرك بعنف على المقعد ويحاول القيام، ولتهدئته أمر الدليمي الحسوني أن يعطيه حقنة مخدرة فقد بعدها بن بركة الوعي، وفي انتظار أن يستعيد وعيه وُضع ممدداً على كنبة لمدة ساعتين تقريباً.
جدوى التعذيب
خلال هذه الفترة القصيرة كان العشعاشي قد دخل في خصام مع الدليمي حول جدوى هذا التعذيب المجاني، وكاد ذلك يتحول إلى عراك بالأيدي لولا تدخل عبدالحق العشعاشي للتفريق بين الرجلين، وبعد ذلك الخصام انقسمت الشقة إلى معسكرين: العشعاشي ومعه صاكا والمسناوي، والدليمي ومعه التونسي والحسوني، وبقي عبدالحق العشعاشي في الوسط بين الجانبين!
بدأ الجميع يحتسون الخمر في صمت وقلق، وعندما أفاق بن بركة أعطي قليلاً من الماء المعدني ثم أخذ العشعاشي يلح على الدليمي لكي يتوقف عن استعمال العنف، فانصاع هذا الأخير ولكن مؤقتاً وألح على أن يطرح بعض الأسئلة على بن بركة بطريقة عشوائية وبشكل غير متوقع، لكن بن بركة بعد أن استعاد وعيه رفض الرد على أي من تلك الأسئلة.. كان جالساً على الكنبة ويبدو مشوش البال وغارقاً في الصمت، ربما كان يفكر في مجيء أوفقير لأن هذا الأخير والدليمي كانا عسكريين قاتلين لا يفترقان في الجريمة، أو ربما كان يفكر في كل ما جرى له سابقاً منذ أن تعرف إلى “صديقه” الصحافي فيلبيب بيرنيي ومشروع الفيلم الكاذب، ولكن كان عليه أن يفكر في ذلك من قبل، وكان يفكر بالأخص في رجلي الأمن الفرنسيين اللذين ناديا عليه لكي يضعاه في النهاية بين مخالب المخابرات المغربية!
الدوام الليلي
في يوم الخميس 28 أكتوبر قضى الجنرال أوفقير قرابة الساعتين بمقر وزارة الداخلية ما بين الحادية عشرة والواحدة زوالاً، ثم ترك أرقام هواتف الارتباط لرئيسة كتابته الخاصة السيدة بديعة المسناوي، وتوجه إلى مدينة القنيطرة التي اعتاد الذهاب إليها ثلاث مرات وأربعاً كل أسبوع، قضى هناك النصف الثاني من اليوم في لعب “البوكر” الذي كانت تنظمه امرأة يهودية تدعى “مدام داحان” في فيلا مخصصة لكبار ضباط الجيش والشخصيات الكبرى في الرباط، وكانت تلك الفيلا مشهورة بأنها مكان الأعمال القذرة كالدعارة والمخدرات والنزوات للشخصيات المعروفة في القنيطرة والرباط.
بعد ذلك ذهب إلى مزرعة في منطقة “الفوارات” قريباً من القنيطرة حيث بدأ ليلته الساعة العاشرة في حانة “ماماس”.. كانت الحفلات الليلية تبدأ عادة في الواحدة بعد منتصف الليل وتنتهي في السابعة صباحاً، لكن أوفقير هذه المرة مدد وقت نزوته إلى الثامنة من صباح الجمعة 29 أكتوبر.
في هذا الوقت أخذت مكاني في الدوام الخاص بمقر المخابرات المغربية وكالعادة بدأت في قراءة الصفحات الأخيرة في سجل الدوام الليلي للاطلاع على آخر المستجدات المتعلقة بعملية “بويا البشير” لضمان التنسيق الجيد بين زملائي في باريس ورؤسائي وأوفقير والدليمي في الرباط وخارجها، وهكذا لاحظت بالمصادفة أن أوفقير والدليمي والعشعاشي لم يغيروا أرقام هواتف ارتباطهم منذ الثلاثاء 26 أكتوبر: لماذا؟
العشعاشي في مهمة خاصة في باريس رفقة عبدالقادر صاكا ومحمد المسناوي منذ الثلاثاء 26 أكتوبر في إطار عملية “بويا البشير”.
أحمد الدليمي في مهمة خاصة في الجزائر للتحضير لزيارة الملك الحسن الثاني للمشاركة في القمة الإفريقية في نوفمبر القادم.
الجنرال أوفقير دائماً في سهراته الليلية بالفوارات قريباً من القنيطرة وفي مباريات البوكرعند السيدة داحان، وكانت أرقام ارتباطاته هي نفس هواتف هذه الأخيرة و”سيمون” صاحب العلبة الليلية “007” و”محمد المير” المعروف ب”بيج بوي” وهو أحد الوجوه المعروفة في عالم الفساد بالقنيطرة، و”الحاج قادة” عميد الشرطة الممتاز ورئيس مخفر الشرطة في القاعدة العسكرية الأمريكية بالقنيطرة، ورجل الأمن “الشنا” صهر الجنرال وشقيق زوجته فاطمة أوفقير.
الضيف الأخير
في تلك الساعة حضر الكولونيل مارتان كالعادة وبدأ للتو في قراءة سجل الدوام الخاص برفقتي وتسجيل بعض النقاط والملاحظات، وفي حوالي الساعة الحادية عشرة هاتفني محمد العشعاشي من باريس لتوجيه رسالة عاجلة إلى الجنرال أوفقير والمقدم الدليمي الموجود بالجزائر. تسلم الدليمي الرسالة في الحادية عشرة والنصف دون مشاكل، لكننا لم نحصل على الجنرال الذي كان يقال لنا في كل لحظة إنه غير موجود ولا يمكن الاتصال به، وحاولنا بكل الجهود التي بذلناها الحصول عليه أو على الأقل على ما يدل عليه، وكان ينبغي في تلك اللحظة الاتصال بأحد عملاء المخابرات المغربية في منطقة الغرب وإرساله على وجه السرعة لتقصي آثار الجنرال بين القنيطرة والفوارات.
لم يتصل أوفقير بالمخابرات المغربية إلا في الساعة الثالثة والنصف بعد الزوال، أي أكثر من أربع ساعات من وصول مكالمة العشعاشي، ليطلب منا سبب البحث عنه، كان يعتقد أن عملية “بويا البشير” لم تصل إلى نهايتها بعد، وأن بن بركة لم يسقط بين كماشة المخابرات المغربية، فشرحت له الوضع، وفي الساعة الرابعة والنصف حضر لأخذ بعض المال وربما أيضاً للبحث عن جواز سفر مزور في صندوق مكتبه في الطابق السلفي لمقر المخابرات المغربية بجوار الحديقة في الساحة الكبرى. كان لهذا الصندوق ثلاثة مفاتيح يحتفظ بها كل من الجنرال والدليمي والعشعاشي، فظهر أن الجنرال الذي كان ثملاً في ذلك الوقت فقد مفتاحه فأجبرنا على البحث عنه في أي مكان حتى عند زوجة عبدالحق العشعاشي الأمر الذي أضاع لنا وقتاً ثميناً!
الوصول إلى باريس
في الساعة الخامسة اتصل الجنرال بمقر شرطة مطار الرباط سلا، ووجه أمره إلى قائد الطائرة العسكرية بالاستعداد في أي لحظة للإقلاع، وبعد ذلك بنحو خمس وأربعين دقيقة توجه إلى المطار على متن سيارة “مرسيدس” يقودها السائق الوفي بوشعيب، حاملاً معه بعض الأوراق ومبلغاً من المال. وفي الساعة السادسة أي السابعة بالتوقيت الفرنسي أقلعت الطائرة في اتجاه مطار أورلي بباريس، وصل الجنرال إلى العاصمة الفرنسية في الساعة الحادية عشرة ليلاً، ولا يُعرف إن كان يحمل معه جواز سفر مزوراً أو جوازه الحقيقي، بل ما إن كان يحمل أي وثيقة هوية أصلاً فقد كان ثملاً للغاية وغير قادر على ضبط نفسه، ومن يعرف الجنرال جيداً يعرف أن مثل تلك السلوكات ليست غريبة عنه!
بعد ساعة من وصوله إلى باريس وصل إلى مكان شقة “بوشيش” على متن سيارة أجرة لكي يبقى بها نحو ثلاث ساعات الوقت الكافي لتعذيب بن بركة وقتله. وما إن رآه بن بركة حتى بدأ يصرخ ويطلب النجدة لأنه أدرك أن وجود الجنرال والدليمي أمامه في تلك الساعة ليس إلا لقتله، ولاحظ عملاء المخابرات المغربية أن أوفقير لا يزال ثملاً ولا يستطيع الوقوف إلا بصعوبة واستناداً إلى الجدران ويتكلم بصعوبة، ودون أن يضيع وقتاً أعطى أوامره بإيثاقه وحقنه بمخدر وإغلاق فمه وإبقائه واقفاً مربوطاً إلى أنبوب في الجدار لعله أنبوب التسخين!!
نفذ الدليمي والحسوني والتونسي وعبدالحق العشعاشي فوراً هذا الأمر، وبدأ الدليمي جلسة التعذيب باستعمال المنديل والمياه القذرة، أما محمد العشعاشي وصاكا والمسناوي فقد ابتعدوا جانباً بعد أن رأوا أن وتيرة الأحداث بدأت في تجاوزهم وأخذوا فقط يتابعون عملية التعذيب دون حراك.. إن النظرات الحزينة والحائرة لبن بركة لن تغادر ذاكرتهم أبداً حتى الموت!
في الساعة الثالثة صباحاً من ذلك اليوم المشهود، وبعد أن فقد قدرته على الحركة وبدأ يتنفس بصعوبة فك جلادوه وثاقه لكي يرتمي على الأرض فوق خرقة فأخذ أوفقير يستخدم طريقته المفضلة في التعذيب بغرز خنجره الشهير في لحم بن بركة (لطالما رأينا الجنرال في مقر المخابرات المغربية يستعمل تلك الطريقة في تعذيب المعتقلين والمختطفين)!!
سيارة السفارة
صباح السبت 30 أكتوبر في الثالثة صباحاً وبعد التأكد من وفاة بن بركة أعطى أوفقير والدليمي أوامرهما إلى الرجال الستة لكي لا يتصلوا بالمخابرات المغربية في الرباط ولا بأسرهم أو أصدقائهم وأن يبقوا في مكانهم بانتظار عودتهما وصدور تعليمات جديدة، بعد ذلك اتجها إلى المطار على متن سيارة تابعة للسفارة المغربية فاستقل كل واحد منهما طائرة عسكرية في اتجاه مطار فاس سايس، مباشرة.
وبعد وصولهما في وقت متزامن تقريباً أخذ الجنرال طائرة أخرى وعاد إلى باريس ليلحق به الدليمي بعد ساعة ونصف تقريباً، ولكن قبل العودة اتصل أوفقير من فاس بأنطوان لوبيز ليطلب منه انتظاره في مطار أورلي وترك شقته التي لا تبعد كثيراً عن شقة “بوشيش” رهن إشارته.
بقي جثمان المهدي بن بركة في الشقة يوم السبت حتى النصف الثاني من النهار، وجاءت تعليمات أوفقير والدليمي لكي يتم تنظيفه جيداً وإلباسه ثياباً نظيفة ونقله إلى شقة لوبيز في سيارة السفارة، وقد جاءت تلك التعليمات مباشرة بعد بث خبر اختفاء بن بركة بالإذاعة الفرنسية. وفي حوالي الساعة الثامنة من مساء السبت نقل الجثمان إلى الشقة، وبعد ذلك إلى مطار أورلي حوالي العاشرة ليلاً.
كان التونسي الذي قاد السيارة يعرف المطار والمستخدمين فيه جيداً، فدخل مباشرة إلى حيث الطائرة العسكرية التي كانت بالانتظار، وحمل بمساعدة الحسوني جثمان بن بركة في هيئة قائمة كما لو أن الأمر يتعلق بشخص في حالة سكر يحتاج إلى مساعدة لإخراجه من السيارة وإركابه الطائرة، وفي الداخل أجلست الجثمان على مقعد كشخص عادي وحي بجوار الحسوني، وعاد التونسي لتعبئة وثائق السفر الثلاث وختم الجوازات الثلاثة المزورة حيث تنقل شخصياً إلى رجال أمن المطار لكي يحول دون حضورهم إلى الطائرة، وهكذا تمكنوا من نقل جثمان المعارض المغربي نهائياً من التراب الفرنسي نحو مطار الرباط سلا!
عشرون ساعة بعد اغتياله و36 ساعة بعد اختطافه، أما سيارة السفارة المغربية في باريس التي استعملت لنقل الجثمان مرتين في ذلك اليوم من شقة “بوشيش” إلى شقة “لوبيز” ثم منها إلى مطار أورلي فقد بقيت في المطار إلى يوم 2 نوفمبر حيث جاء أحد موظفي السفارة لأخذها، وكان الجنرال عبدالحق القادري (هو اليوم أمين عام حزب سياسي) يشغل في تلك الفترة منصب ملحق عسكري بالسفارة المغربية بباريس ومسئولاً عن شؤون الأمن بها!
ويوم الأحد الموافق 31 أكتوبر حوالي الساعة الرابعة والنصف مساء غادر الجنرال أوفقير والدليمي شقة “لوبيز” إلى مطار أورلي على متن سيارة تابعة للسفارة برفقة لوبيز نفسه، وفي الطريق نزل أوفقير والدليمي لمدة ربع ساعة في مكان منعزل قرب إحدى الغابات حيث تحدثا بمفردهما. بعد ذلك استقل الجنرال طائرة متجهة إلى سويسرا لقضاء بعض الوقت مع أسرته وزوجته فاطمة في جنيف، بينما اتجه الدليمي إلى الدار البيضاء برفقة أحد عملاء مصلحة العمليات التقنية بالمخابرات المغربية.
إن الرحلتين اللتين قام بهما أوفقير والدليمي إلى باريس يوم 29 أكتوبر بعد الزوال وليلة 29 30 أكتوبر ليستا مسجلتين في الوثائق الرسمية لمطارات باريس ولكنهما حصلتا فعلاً وينبغي البحث عنهما في الوثائق السرية للمطارات في العاصمة باريس ويجب على القضاء الفرنسي أن يبحث في هذه الوثائق التي وضعتها الدولة الفرنسية ضمن خانة “سري للدفاع”.



هناك 7 تعليقات:



  1. وفاة العشعاشي المتهم باختطاف المهدي بن بركة
    الرباط : «الشرق الأوسط»
    توفي أول من أمس في الدار البيضاء محمد العشعاشي ضابط الشرطة رئيس جهاز «كاب 1» في عهد الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية المغربي الأسبق. وهو الجهاز السري المتهم باختطاف وتعذيب العديد من المعارضين السياسيين في «سنوات الجمر» كما تسميها وسائل الإعلام المغربية.

    وكان العشعاشي المحال على التقاعد قد عاد الى واجهة الأحداث بعدما اتهمه أحمد البخاري، عميل المخابرات المغربية السابق، بأنه كان على رأس الخلية التي دبرت اختطاف المعارض السياسي المهدي بن بركة في باريس يوم 29 أكتوير (تشرين الأول) .1965 وجاء في هذا الاتهام أن الخلية التي رأسها العشعاشي، وضمت كلا من مساعديه صاكا والمسناوي هي التي تولت اغتيال بن بركة والتخلص من جثته في الرباط بعد ذلك.

    وفيما أنكر العشعاشي ومساعداه هذه الاتهامات جملة وتفصيلا، رفع الثلاثة دعوى السب والقذف في حق البخاري الذي أدانته المحكمة الابتدائية، غير أنه استأنف هذا الحكم، وفي جلستها الأولى أجلت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء النظر في القضية الى موعد لاحق، لن يحضره المدعي العشعاشي، الرجل الذي دفن معه سره.

    ردحذف
  2. عميل مغربي سابق يروي تفاصيل تصفية بن بركة




    قال عميل سري سابق إن المعارض المغربي المهدي بن بركة تعرض لتعذيب وحشي قبل أن يقتله وزير الداخلية المغربي الأسبق الجنرال محمد أوفقير ومساعده أحمد دليمي. وكان العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني قد اصدر قرار باختطاف المعارض بن بركة ونقله إلى المغرب حيا.

    وحسب العميل أحمد بخاري فإن جثة بن بركة نقلت إلى المغرب وهناك أذيبت في خزان من الحمض الحارق.

    وقال بخاري في مقالين تنشرهما تباعا صحيفة "لوموند" الفرنسية والأسبوعية المغربية باللغة الفرنسية "لوجورنال" إنه "قرر أن يتكلم حتى يعرف المغربيون -بدءا بعائلة بن بركة- بما حدث فعلا لإظهار الحقيقة".

    وبحسب شهادة بخاري الحافلة بالتفاصيل فإن المعارض المغربي لقي حتفه في الساعة الثالثة فجر يوم السبت 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1965 بإحدى الفلل في فونتنوي لوفيكونت بالقرب من باريس.

    وقد وردت شهادة العميل السري السابق في مقالين متسلسلين يحملان عنوان "الحقيقة بشأن مقتل المهدي بن بركة في فرنسا", بدأ نشرهما اليوم. ويؤكد ستيفن سميث من "لوموند" الفرنسية وأبو بكر جماعي وعلي عمار من "لوجورنال" المغربية أن أحمد بخاري كان في تلك الفترة مساعدا مقربا جدا من محمد العشعاشي الذي كان رئيسا لجهاز مكافحة التخريب في المغرب.

    وحسب هؤلاء فإنه نظرا لكون بخاري على اتصال دائم برئيسه الذي كان في الفيلا الفرنسية, فقد كان في موقع جيد للحصول على المعلومات من مصدرها مباشرة بشأن جريمة دولة مازال الغموض يكتنف ظروف الإعداد لها وتنفيذها.

    وكان الملك المغربي الحسن الثاني اتخذ شخصيا قرار اختطاف بن بركة يوم 25 مارس/ آذار 1965 بعد إخماد اضطرابات خطيرة في الدار البيضاء (على بعد 100 كلم جنوبي العاصمة) أدت إلى مقتل مئات الأشخاص بينهم العديد من الشبان.

    وبحسب شهادة أحمد بخاري فإن "العملاء المغربيين وشركاءهم الفرنسيين -من الشرطة والمرتزقة- تم تكليفهم باختطاف بن بركة ونقله حيا إلى المغرب". ولكن "الوضع خرج عن السيطرة في جنوبي باريس".

    ففي فيلا فونتنوي لوفيكونت حيث اقتيد بن بركة بعد أن أوقفه شرطيان فرنسيان أمام حانة وسط باريس, وصل أحمد دليمي في بداية السهرة "مما أدى إلى تغيير المعطيات"، فالرجلان كانا يعرفان بعضهما شخصيا ويكرهان بعضهما، إذ حاول دليمي قتل بن بركة يوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1962.

    وحسب شهادة بخاري فإن دليمي فور دخوله إلى الصالة "شتم رئيس المعارضة المغربية وكاد أن يخنقه وبدأ بالصراخ: وقعت في الفخ". ويضيف العميل السابق أنه تم تقييد بن بركة بناء على طلب دليمي ثم قام ممرض بحقنه، لكن الجرعة كانت قوية جدا "فغاب بن بركة عن الوعي".

    عندئذ انقسم العملاء المغربيون إلى فئتين واحدة تزعمها محمد العشعاشي تعارض تعذيب بن بركة وتريد نقله حيا إلى المغرب، في حين أرادت الفئة الأخرى بزعامة أحمد دليمي تصفية حسابها مع المعارض.

    لكن وصول الجنرال أوفقير عند منتصف الليل حسم الموقف لصالح دليمي حسب شهادة بخاري الذي قال إن وصول الجنرال "لم يضع حدا لتمادي مساعده الذي أغضبه الصمت المطبق لبن بركة"، فقام دليمي بتعليق بن بركة بحبل, وأوثق يديه خلف ظهره بينما قام أوفقير بضرب بن بركة على صدره وظهره بخنجر مضلع. واستمرت عملية التعذيب ساعة كاملة. وعندما قرر محمد العشعاشي التدخل ودفع دليمي لتحرير المهدي بن بركة, كان قد فارق الحياة بحسب شهادة بخاري.

    وفي الجزء الثاني من الموضوع المقرر نشره في 30 يونيو/ حزيران فإن "لوموند" ستكشف الظروف التي تم خلالها نقل جثمان بن بركة إلى الرباط "وتذويبه في خزان مليء بالحمض".

    وقال بشير بن بركة أحد أبناء المهدي بن بركة إنه يعتبر ما نشر "مثيرا للاهتمام" لكنه "يطلب أن يتم تأكيده أمام القضاء". وأَضاف بشير بن بركة الذي يرأس معهد "المهدي بن بركة.. الذاكرة الحية" أن "شهادة بخاري مثيرة للاهتمام لكونها المرة الأولى التي تأتي فيها المعلومات من داخل أجهزة الاستخبارات المغربية".

    وأضاف بشير أن "مجمل هذه الشهادة تحتاج إلى تأكيد أمام القضاء، ولنا ملء الثقة في القاضي جان باتيست بارلوس للحصول على تأكيدات عن كل ما نشر"، مشيرا إلى أنه "يجب الاستماع إلى إفادات شخصيات أخرى أيضا".

    وفي سياق متصل قالت مصادر قضائية فرنسية إن القاضي المكلف بملف قضية اختفاء بن بركة سيطلع على هذين الموضوعين, ويمكن أن يستمع إلى بعض الإفادات لاستيضاح بعض الأمور الواردة في الموضوعين.

    المصدر : الفرنسية

    ردحذف
  3. البخاري أوفقير والمليارات الخمسة
    - كازا الان
    الإثنين 4 أغسطس 2014 -





    كازا الآن - متابعة

    أوضح أحمد البخاري ضابط المخابرات السابق، أن محمد العشعاشي، مدير قسم مكافحة التخريب، كان أهم رجل في "الكاب1"، في حين أن الجنرال أوفقير كان يسمى فقط "رئيسا" لـ"الكاب" بينما في الحقيقة لا دور له ولا صلاحيات.

    واضاف البخاري في حوار له مع يومية "الأخبار" في عددها ليوم غد الثلاثاء 5 غشت، قائلا: في أرشيف "الكاب1" لا توجد نهائيا أوامر باسم الجنرال أوفقير، كانت هناك أوامر سرية باسم محمد العشعاشي فقط؛ وحالات قليلة فقط (10 في المائة) كانت فيها الأوامر موقعة من من طرف بن تاهيلة مدير قسم مكافحة التجسس، وبدا الأمر واضحا خلال الاجتماعات القليلة بمقر "الكاب1" والتي كان أوفقير خلالها صامتا، بينما العشعاشي كا يمسك بزمام الأمور".

    وأضاف البخاري "أوفقير كان يهمل جميع أقسام "الكاب1" ولا يعير أي اهتمام إلا للمليارات الخمسة التي كانت مودعة في الخزينة.. "LA CAISSE NOIRE" وذلك لتمويل مشاريعه الوسخة في مدن الدار البيضاء والمحمدية، هذه المدن استثمر فيها أيضا في مجال الصيد البحري ودرت عليه أموالا طائلة، وقد تحولت ملكيتها بعد سنة 1972 إلى الحسين جميل، الذي عمل في "الكاب1" وكان على راس المخابرات أيام إدريس البصري، لأن صرف أموال الخزينة السوداء، لم يكن يحتاج إلى مبررات عكس الخزينة الرسمية التي يجب تبرير المبالغ المسحوبة منها.. إلى غير ذلك.

    بالنسبة لأحمد الدليمي، فإنه كان أيضا صامتا خلال تلك الاجتماعات، ولا رأي له على الإطلاق".

    ردحذف







  4. #FEB20 قائمة باسماء جلادى المخزن Liste en français et arabe
    LISTE ACTUALISEE DES NOMS DE CERTAINS RESPONSABLES POUR LESQUELS L'AMDH DISPOSE DE PRESOMPTIONS SUR LEUR IMPLICATION DANS LES CRIMES D'ENLEVEMENT, D'ASSASSINAT, D'ARRESTATION ARBITRAIRE ET DE TORTURE

    لائحة باسماء عدد من مسوولي المخزن الدين تتوفر قرائن بتورطهم في جرائم الاختطاف والاغتيال والاعتقال التعسفي والتعديب
    1/ Hosni BENSLIMANE2/ Hamidou LAANIGRI

    3/ Kadour EL YOUSFI4/ Mahmoude ARCHANE

    5/ Driss BASRI (décédé)

    6/ Abdelmalek HAMIANI7/ Boubker HASSOUNI

    8/ Miloud TOUNZI9/ Mohamed ACHAACHI

    10/ Colonel TAMSAMANI11/ Commandant Abdelaziz BENOUNA

    12/ Miloud BIKOUR 13/ Colonel ZERAKTOUNI

    14/ Taieb HABI15/ Mohamed FEDOUL

    16/ Abdelhak ACHAACHI17/ Abdelkader SAKA

    18/ Mohamed MESNAOUI19/ Capitaine ADDI

    20/ Mohamed KHOLTI21/ Mohamed NOUINI

    22/ Abdellatif BENGHANEM23/ Abdelhamid GUESSOUS

    24/ Mohamed HALIM25/ Ali BENTAHILA

    26/ Badreddine BENOUNA27/ Mohamed ELKADI

    28/ Mdaghri ALAOUI29/ Mohamed DOUPI KADMIRI

    30/ Ahmed BOUKHARI31/ Colonel EL YOUSSI

    32/ Mohamed FEDOUACHI33/ Benasser GUERROUANI

    34/ Jamil EL OUFIR35/ Commissaire BENMANSOUR

    36/ Allal KHOMSI

    37/ El Maati REYHANE38/ Abdelaziz GHINAOUI

    39/ Hassan BENYOUSSEF40/ Commandant Abdellah EL OUAHIDI

    41/ Jamil EL HOUSSINE (décédé)42/ Mohamed INANE (décédé)

    43/ Ahmed AJDAIN (décédé)44/ Mohamed OUFKIR (décédé)

    45/ Ahmed DLIMI (décédé)

    حسني بنسليمان

    حميدو العنيكري

    قدور اليوسفي

    محمود عرشان

    ادريس البصري

    عبد المالك الحمياني

    بوبكر الحسوني

    ميلود التونزي

    عبد الحق العشعاشي

    الكولونيل التمسماني

    الكومندار عبد العزيز بنونة

    ميلود ابيورك

    الكولونيل الزرهوني

    الطيب هابي

    محمد فضول

    محمد العشعاشي

    عبد القادرصاكا

    محمد المسناوي

    الكابتان عدي

    محمد الخلطي

    محمد النويني

    عبد اللطيف بنغانم

    عبد الحميد جسوس

    محمد حليم

    علي بن طلحة

    بدر الدين بنونة

    محمد القاضي

    العلوي المدغري

    محمد دبي القدميري

    احمد البخاري

    الكولونيل اليوسي

    محمد فدواشي

    الكرواني بن ناصر

    جميل العوفير

    الكومسير بنمنصور

    علال خمسي

    ريحان المعطي

    غيناوي عبد العزيز

    حسن بن يوسف

    الكومندار عبد الله الوحيدي

    جميل الحسين

    محمد عينان

    اجداين احمد

    محمد اوفقير

    احمد الدليمي

    منهم من قضى

    والائحة لازالت مفتوحة

    ردحذف
  5. الدار البيضاء: سجن "البخاري" عميل المخابرات السابق خمسة شهور وتغريمه 15مليونا

    الدار البيضاء - مكتب "الرياض"، محمود أحياتي:

    قضت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء الثلاثاء على أحمد البخاري العميل السابق بالمخابرات المغربية بالسجن خمسة شهور نافذة وغرامة مالية قدرها 15مليون سنتم. وكان زملاء سابقون للبخاري وهم عبد القادر صاكا ومحمد المسناوي والعشعاشي الذي توفي مؤخرا رفعوا دعوى ضده بتهمة القذف بعدما عمد إلى التصريح إلى وسائل الإعلام بأنهم كانوا وراء تدبير عملية اغتيال الزعيم الاشتراكي السابق المهدي بن بركة.
    وأثيرت قضية البخاري شهر يوليو من سنة 2002عندما تقدم كل من صاكا والمسناوي والعشعاشي وهم أعضاء سابقون بجهاز الاستعلامات العامة بشكاية لدى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء يتهمون خلالها زميلهم السابق أحمد البخاري بالمشاركة في جنحة القذف والسب وذلك على إثر تصريحات كان قد أدلى بها إلى القناة القطرية "الجزيرة" وأتبعها بنشر مذكراته في بعض الصحف المحلية أثارت الكثير من الجدل في صفوف الطبقة السياسية المغربية. واعتبر صاكا والمسناوي والعشعاشي تعرض زميلهم السابق أحمد البخاري إلى اسمائهم في معرض حديثه عن عملية اغتيال الزعيم الاشتراكي السابق "بن بركة" سبا وقذفا في حقهم. وكشف العشعاشي الذي كان المسؤول عن جهاز الاستعلامات آنذاك أن البخاري غير مؤهل بأن يكون شاهدا على تلك المرحلة على اعتبار أنه تعرض للتوقيف من وظيفته نفس السنة التي اغتيل فيها بن بركة أي سنة 1965وأدلى بوثيقة تفيد ذلك، غير أن دفاع البخاري كان قد شكك في تلك الوثيقة وطالب في جلسة سابقة إعطاءه مهلة لدراستها.
    وكان أحمد البخاري قال إن زملاءه في أجهزة الإستعلامات ورئيس هذا الجهاز السابق محمد العشعاشي وشرطيين متقاعدين هما عبد القادر صاكا ومحمد المسناوي كانوا موجودين عند اغتيال زعيم اليسار المغربي بن بركة في أكتوبر سنة 1965في باريس. وأكد البخاري أن بن بركة اغتيل بأمر من وزير الداخلية آنذاك الجنرال محمد أفقير ومساعده الجنرال أحمد الدليمي مضيفا أن جثة الزعيم اليساري تم نقلها بعد اغتياله من فرنسا إلى المغرب حيث قد تكون أذيبت في حمام من الحمض. يشار إلى أن أحمد البخاري عميل الإستعلامات السابق كان سبق أن قضى عقوبة حبسية لمدة 3أشهر بعد إدانته في قضية إصدار شيكات بدون رصيد.

    ردحذف
  6. يصر احمد البخاري العميل السابق للمخابرات السرية المغربية على أن يبقى حاضرا بقوة في صيف المغرب الهادئ الذي بدأ على إيقاعه. والبقاء في الصفحات الأولى للصحف اسما وأحيانا كثيرة مُرفقا بالصورة، قد لا يكون كله اختيارا "بخاريا". لكن ما بدأ به في نهاية يونيو الماضي لازمه حتى اليوم وسيبقى ملازما له حتى وقت قد لا يكون له قدرة على تقديره.

    احمد البخاري، الذي بدأ الصيف المغربي بتصريحات كشف فيها عن تفاصيل اختطاف واغتيال الزعيم المغربي المهدي بن بركة، يقبع اليوم في سجن بالدار البيضاء في قضية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بتصريحاته والمستور الذي كشف عنه.

    الاثنين الماضي استدعي احمد البخاري للمثول أمام الشرطة القضائية بتهمة إصدار شيكات بدون رصيد، وبدأت الشرطة تحقق مع البخاري وهو في حالة اعتقال، لذلك ارتفعت الأصوات منددة ومؤكدة على الربط بين الاعتقال و القنبلة التي فجرها حول المخابرات السرية المغربية والانتهاكات الخطيرة للحريات وحقوق الإنسان التي كانت سائدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
    شيك بدون رصيد أو رسالة إلى البخاري؟

    الأصوات التي ارتفعت قالت أن اعتقال البخاري تهدف إسكاته بعد أن فشلت محاولات أخرى وضغوطات مورست عليه من أطراف لم تسمها لتحقيق السكوت. إذ بعد أن أدلى بما أدلى به وكشف تفاصيل اختطاف واغتيال المهدي بن بركة ونقل جثمانه إلى الرباط حيث أذيب بحوض للأسيد في مقر للمخابرات المغربية، انتقل البخاري إلى ملفات أخرى حول دور الأجهزة السرية في اختطاف واغتيال شخصيات سياسية مغربية بارزة كانت تشكل شوكة في حلق نظام الملك الحسن الثاني.

    تصريحات البخاري خلطت الأوراق وطرحت أسئلة حول السياق الذي يسير به مغرب محمد السادس وان كان فتح ملفات انتهاك حقوق الإنسان وتصفيتها بتعويض ضحاياها، وهو ما ميز المغرب منذ صيف 1999 سيذهب إلى مداه ويصيب المحظور دون أن تعرف حدود هذا المحظور.

    مصدر التساؤل، وهو ما أثارته العديد من الصحف المغربية، إن ما أدلى به العميل السابق للمخابرات السرية المغربية كان يستدعى تحركا عاجلا للقضاء المغربي، والاستماع للبخاري أن كان للتأكد مما قاله وكشف عنه أو للتحقيق معه حول اتهامات القذف والكذب التي وجهها له محمد العشعاشي مسؤول المخابرات السرية المغربية من 1961 إلى 1999 أو عبد القادر ساكا و محمد المسناوي زميلا البخاري والذي قال إن الثلاثة " العشعاشي و ساكا والمسناوي " شاركوا في التخطيط والتنفيذ لعملية بويا البشير التي أطلقت على عملية اختطاف واغتيال بن بركة أو للتحقيق في الشكوى التي تقدم بها حول الملف حزب المهدي بن بركة "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الذي يتولى زعيمه عبد الرحمن اليوسفي رئاسة الحكومة.

    لكن القضاء المغربي اكتفى بجلستي استماع للبخاري في إطار دعوى القذف التي وجهها له رئيسه السابق وزميلاه ولم يذهب ابعد من الاستماع. لكن الاثنين الماضي أمر بالقبض على البخاري في إطار دعاوى الشيكات بدون رصيد رغم أن شيكين من شيكات موضوع الدعوى يعود إصدارهما إلى 1991 وحوكم عليها 1998 و الشيكان الآخران صادران 2000. وفي كل الأحوال كان يمكن عرضه على القضاء في حالة سراح إلا أن قاضي المحكمة الابتدائية تابعه في حالة اعتقال.
    هل الهدف اسكات البخاري؟

    عائلة البخاري والجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومنتدى الحقيقة والإنصاف وصحف مغربية أصرت على أن متابعة البخاري في تهمة إصدار شيكات بدون رصيد رسالة له ولاخرين وتستهدف إسكاته إما برغبته أو بقوة السجن.

    واستدل أصحاب هذا الربط على اختيار موعد المتابعة، عطلة رسمية تضاف إلى عطلة الصيف، وجود محاميه في عطلة أيضا و كذلك أن متابعة قضايا الشيكات بدون رصيد تكون في كثير من الأحيان والمتهم في حالة سراح ويمنح في الجلسة الأولى مهلة ثمانية أيام لتسوية وضعية الشيكات موضوع الدعوة.

    هل وصلت الرسالة للبخاري والآخرين؟ هل سيسكت البخاري بعد أن خرج الكلام المباح واصبح سكوته اكثر إثارة من استمراره في الكلام، أم أن البخاري لا زال يملك من الكلام الكثير الذي يهدد من تعاملوا مع كلامه حتى الأسبوع الماضي بالمراقبة عن بعد؟ أم أن الجهة التي كانت تحميه ضد أباطرة الأجهزة السرية قد رفعت حمايتها عنه وتركته يواجه مصيره؟

    أسئلة كثيرة تطرح إذ لم يعد يأتي من البخاري سوى الأسئلة.

    محمود معروف - الرباط

    ردحذف
  7. فضيحة: اثنان من جلادي 'الكاب 1' حصلا على 'لاكريمات' بعد تقديم تقرير 'هيئة الانصاف والمصالحة'
    لكم نشر في لكم يوم 05 - 03 - 2012

    كشفت لائحة رخص النقل "لاكريمات" التي عممتها وزارة التجهيز والنقل، أن اثنين من جلادي "الكاب 1" الجهاز السري في عهدي الجنرالين الدموين محمد أوفقير وأحمد الدليمي، حصلا على رخص النقل بعد عام 2005، وهو العام الذي تم فيه تقديم تقرير "هيئة الإنصاف والمصالحة" التي أوكل لها الملك محمد السادس التحقيق في "سنوات الرصاص" التي عرفها المغرب في عهد والده الملك الراحل الحسن الثاني.
    ومن خلال مراجعة اللائحة المنشورة على موقع وزارة التجهيز والنقل، يتبين أن ورثة محمد العشعاشي رئيس جهاز "الكاب 1" حصلوا على رخصة للنقل يوم 6 يوليو 2005، أي أربعة اشهر فقط قبل تقديم تقرير "هيئة الإنصاف والمصالحة" أمام الملك يوم 30 نوفمبر 2005. أما التونزي أحمد، المتهم في قضية اغتيال المهدي بن بركة، فقد حصل على رخصة ثانية للنقل سنة 2007 بعدما كان يستفيد من رخصة للنقل منحت له عام 1995.
    أما عبد القادر صاكا فقد حصل على رخصة للنقل عام 1992، ونفس الشيء بالنسبة للحسين جميل الذي استفاد من رخصتين عام 1992، وكلاهما من أبرز جلادي "الكاب 1" الذي تنسب له الكثير من الفظاعات في مجال خرق حقوق الانسان في "سنوات الرصاص" التي عاشها المغرب في عقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

    ردحذف