السبت، 12 ديسمبر 2015

الشهيد محمد بنونة-محمود-

«أبطال بلا مجد» يصنع مجده بعد وفاة الحسن الثاني

نشر في اليوم 24 يوم 29 - 08 - 2013

«لماذا حققت كتب بعينها أرقام مبيعات «خيالية»؟ هل للأمر علاقة بالموضوعات التي تتم معالجتها؟ أم بطريقة الكتابة والصياغة؟ أم بوجود اهتمام واسع من قبل القراء؟ مهما يكن. اليوم مع كتاب «أبطال بلا مجد» لصاحبه المهدي بنونة.
عادة ما يسلط التاريخ الضوء على زعماء الحركات الثورية، وينسى أو يتجاهل الفاعلين الحقيقيين فيها، أولئك الذين يؤمنون بقضية ما ويعملون بسواعدهم من أجل تنفيذها على أرض الواقع. إذ غالبا ما لا يذكرهم المؤرخون إلا لماما، أو على الهامش، حيث ينطبق هذا الأمر على عدد كبير ممن صنعوا أحداث سنوات الرصاص خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. غير أن كتاب المهدي بنونة «أبطال بلا مجد: فشل ثورة» يقلب هذه المعادلة، حيث يركز أكثر على الذين واجهوا الخطر بصدر مفتوح.
بعد صدور هذا الكتاب سنة 2002 ضمن منشورات طارق، استطاع أن يحقق مقروئية أكبر وانتشارا أوسع بين القراء، حيث كان لموضوعه، الذي تناول تجربة والد الكاتب المهدي بنونة وبعض رفاقه، أثر واضح في تحقيق هذا الانتشار، حيث بيعت منه 3000 نسخة خلال الأسبوع الأول من صدوره، و12 ألف نسخة خلال الأشهر الأربعة الأولى، كما قال الناشر بشر بناني في تصريحات صحافية مؤخرا. إذ يعود نجاحه الباهر، بحسب تعبير الناشر، إلى إسهامه الكبير في تسليط الضوء على «تاريخ المغرب المعاصر».
في حين، يشير الأديب والناقد مصطفى الحسناوي إلى أن نجاح الكتاب ارتبط، أيضا، بالسياق الذي صدر فيه. إذ يعتبر أن الأجواء العامة، التي خلقها النقاش حول هيأة الإنصاف والمصالحة، ساهمت في لفت الانتباه ليس فقط إلى هذا الكتاب، بل إلى كل الكتب التي تناولت مسارات ضحايا سنوات الرصاص أمثال: محمد الرايس، أحمد المرزوقي، عزيز بنبين، فاطنة البيه، خديجة المروازي، محمد العمري، وآخرين. كما يعتبر الحسناوي أنه بقدر ما اعتبر أن الكتاب يقدم تجربة حياتية مأساوية، فإنه يعرض مقاربة في التحليل السياسي لمرحلة تاريخية تميزت بشد الحبل بين السلطة المخزنية ونخبة مجتمعية أرادت أن تخلق التغيير على طريقتها.
والكتاب عبارة عن تحقيق امتد لخمس سنوات حول تجربة شخصية ضمن مجموعة يسارية حاولت الانقلاب سنة 1973، قبل أن يلقى عليها القبض، وينفذ حكم الإعدام في حق عدد من عناصرها سنة 1976. إذ اعتمد الكاتب المهدي بنونة، وهو ابن أحد هؤلاء الذين رغبوا في قلب نظام الحسن الثاني، منهجية خاصة رامت مقابلة ومحاورة الفاعلين الرئيسيين في هذه المجموعة، أو أبناءهم وأقاربهم وأصدقاءهم، ما عدا الفقيه البصري، الذي كان واحدا من الناجين من تبعات هذه «الثورة الفاشلة». إذ كان الكتاب، الصادر سنة 2002 والحاصل على جائزة الأطلس الكبير التي ترأسها المرحوم محمد أركون، ثمرة بحث ميداني مضن، بحثا عن الحقيقية التاريخية، التي كانت هي الأخرى سببا مباشرا في رواج الكتاب، كما قال بشر بناني.
يقول الكاتب إن الغاية من تأليف هذا الكتاب هي استعادة مرحلة تاريخية معاصرة «يضللها صمت البعض وكذب البعض الآخر». كما يتساءل عن مدى جدية إعادة كتابة التاريخ، وعن كيفية تملك تجربة إنسانية مأساوية عاشتها ثلة من الثوار، مجيبا أن كتابه يسعى إلى فحص الشهادات ومقارنتها، وتأويل التملص والصمت، اللذين يعبران أحيانا بأسلوب أبلغ من الخطابات الطويلة، كما يقول الكاتب.
من جهة أخرى، يقول الصحافي الفرنسي «ستيفان سميث»، واصفا الكتاب في مقالة نشرتها جريدة «لوموند» يوم 19 أبريل 2003، أنه يحاول اقتفاء أثر مرحلة تاريخية عنيفة، سعى البعض خلالها إلى خلع الحسن الثاني عن عرشه، خاصة منذ تحالف اليسار المغربي مع المعارضة آنذاك. واعتبر «سميث» أن هذا الفشل الجديد، الذي أعقب انقلابَين فاشلَين سنتي 1971 و1972، أقنع زعماء اليسار آنذاك باستحالة الإطاحة بالعرش العلوي عبر استعمال السلاح.
نقرأ من هذا الكتاب، الذي حققت ترجمته العربية هي الأخرى مبيعاتٍ قياسية، أن «الانتفاضة التي تنجح تسمى «ثورة»، وتوضع عليها كل علامات التقدير والإجلال، كما توضع لها تماثيلها ، ويلاحق مؤرخوها مسار الأحداث بحثا عمن ساهم فيها. بل إن الكلمة تعطى للموتى الذين يواصلون الحياة، محتشمين في شكل صور مقدسة من صور الاستشهاد من أجل الثورة، يقدرهم ويحترمهم البعض، ويضارب بهم البعض الآخر بعد أن أصبحوا صورا جامدة يحملها من أراد أن يرفع من شأنه الخاص ليتباهى بأمجاده.... وأما الانتفاضة التي تفشل فتسمى «عصيانا» دون أي علامة تقدير وإجلال، دلالة على الخزي الذي طالها».

..............................

لجنة المتابعة تحدد مكان دفن رفات كل من المرحومين محمد بنونة ومولاي سليمان العلوي

في إطار تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، تمكنت لجنة المتابعة المنبثقة عن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من تحديد مكان دفن رفات كل من المرحومين محمد بنونة ومولاي سليمان العلوي، وذلك بمقبرة "لحدب" بالرشيدية.
وقد توصلت لجنة المتابعة لهذه النتيجة بعد شهور من التحريات في موضوع مصير رفاتهما، حيث سبق لها، في سياق تحرياتها، أن انتقلت إلى قرية "أملاكو" وعاينت مكان الوفاة، كما زارت مستشفى الراشدية الذي نقلت إليه جثتا المرحومين، واطلعت على المعطيات والوثائق المتوفرة لدى السلطات، واستمعت للشهادات التي تقدم بها أمامها موظفون بالمستشفى عايشوا الأحداث.
ومعلوم أن المرحومين كانا قد توفيا بقرية "أملاكو" متأثرين بجراحهما إثر إصابتهما بالرصاص في سياق الأحداث الأليمة لمارس 1973. وقد تم نقلهما إثر ذلك بالطائرة إلى المستشفى بمدينة قصر السوق آنذاك - الرشيدية حاليا - ليتم دفنهما بمقبرة المدينة.
ومن جهة أخرى فقد اتصلت لجنة المتابعة بالعائلات المعنية من أجل إخبارها بنتائج تحرياتها وبإمكانية زيارة المدافن في أي وقت تختاره.
 ................................



المناضل اليساري محمد بوكرين : هكذا فشلنا في الثورة على نظام الحسن الثاني

المناضل اليساري محمد بوكرين : هكذا فشلنا في الثورة على نظام الحسن الثاني
ذاع صيت المناضل محمد بوكرين في الآونة الأخيرة، بسبب المحاكمة التي تعرض لها بتهمة المس بالمقدسات، وذلك على خلفية مظاهرات يوم فاتح ماي الماضي.
سيكتشف الكثيرون أن وراء شخصية الرجل، مسارا طويلا عريضا من النضال منذ ما قبل الاستقلال، ويحمل سجله فترات سجن طويلة على عهدي الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، وها هو يسجن أيضا في عهد محمد السادس.
يُشْرِف محمد بوكرين على العقد السابع من عمره الآن، ومع ذلك فهو يقبع في السجن دفاعا عن قناعاته ومبادئه.. ولديه الكثير مما يقوله لنا، نحن أبناء الأجيال الحالية، عن الفترات السياسية والاجتماعية التي عاشها.
اتصلنا بالرجل الذي ينحدر من طينة قل نظيرها، وطرحنا عليه أسئلتنا، ليجيبنا في حوار هو الأول من نوعه.
 *أصبحت معروفا بلقب "معتقل الملوك الثلاثة"، هل صحيح أنك سجنت أيام محمد الخامس؟ إذا كان ذلك قد حدث فنرجو أن تحكي لنا تفاصيل ذلك؟
 نعم سجنت في عهد محمد الخامس من 17 مارس 1960 إلى 30 دجنبر 1966، وحكمت بالبراءة لفائدة الشك بعد هذه المدة الطويلة.
وقبل إعطاء التفاصيل لابد من وضع الأمور في سياقها التاريخي، فبعد الاستقلال ظهرت في الساحة ثلاث قوى متصارعة : الأولى، القصر وحلفاؤه من الذين يعرقلون تحرير وتحرر البلاد من أمثال كديرة وعبد الكريم الخطيب والمحجوبي احرضان وقدماء المتعاونين مع الاستعمار.
القوة الثانية، تتكون من القيادة التقليدية لحزب الاستقلال، بقيادة بلافريج في البداية، ثم علال الفاسي انطلاقا من أواخر 1958، هدفها الحفاظ على حكومته تحت ظل الملك. أما القوة الثالثة، فتتشكل من المقاومة وجيش التحرير والعمال بقيادة الفقيه البصري والمحجوب بن الصديق والمهدي بنبركة.
لما تأسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، شعر القصر بالقلق، وبدأ الحسن الثاني ينسق مع حزب الاستقلال لضرب الاتحاد الوطني وإضعافه. فأصدر حزب الاستقلال جريدة "الأيام" التي كان يديرها السيد حسن التسولي، وكان هدفها إسقاط حكومة عبد الله ابراهيم والإيقاع بالمقاومين وأطر الاتحاد الوطني، وكلما نشرت اسم شخص يأتي البوليس لاعتقاله. والمعروف آنذاك أن الأستاذ علال الفاسي والحسن الثاني، حررا لائحة سوداء بأسماء المقاومين والأطر الحزبية بلغ عددهم 400 شخص، هذا ما جعلنا في حالة الدفاع عن النفس، وقد قرر الأحرار القيام بانتفاضة في مارس 1960 تشمل المغرب، لكن الخذلان جعلها تنحصر في بني ملال بقيادة القائد البشير بن التهامي لحمر، وفي مراكش بقيادة القائد البشير لمطاعي والضابط مولاي الشافعي، سواء بالأحداث أو بدونها، كانت تلك اللائحة السوداء تضم:
1.                      القائد الممتاز البشير بن التهامي لحمر.
2.                      حاكم السدد محمد المذكوري.
3.                      حدو امحى نايت التوس أوداد – شيخ زاوية أحنصال.
4.                      سيدي موح أولحسن أحنصال من تاكلفت.
5.                      الناجي زيد اكودي – مسؤول عن المقاومة جهويا.
6.                      حسن بن محمد لعريبي تاجر بالجملة في المواد الغذائية.
7.                      حماد اولمعطي أوبوجو تاجر كذلك بالجملة في المواد الغذائية.
8.                      محمد بن الحسين بوكرين كاتب مترجم.
وفي 17 مارس 1960 تم اغتيال عميد الشرطة أقبلي، وقد أقحمني البوليس قسرا في القضية واتهمت بالمشاركة في اغتياله، بينما في الحقيقة كنت أنفذ التعليمات الصادرة إلي بالتوجه إلى "أغبالة" للاستيلاء على مستودع الأسلحة، كما فعل رفاقي في كل من أنركي وتاكلفت وتيلوكيت وزاوية أحنصال، حيث نجحوا في المهمة بينما فشلت لأنني كنت ضمن اللائحة السوداء. وإن اعتقالي كان مقررا سواء شاركت في الانتفاضة المسلحة أم لم أشارك، كانت المجابهة مع الجيش الملكي بقيادة الكولونيل شنا صهر أوفقير ومولاي حفيظ العلوي، وقد دامت شهرين.

* تم اعتقالك في قضية أحداث مولاي بوعزة، فهل كنت تنتمي حقا لجماعة محمد بنونة (محمود) وعمر دهكون... ما هي حيثيات ذلك الاعتقال؟ وهل شاركت في الثورة التي قامت بها جماعة محمود؟
 حقا لا انتمي لجماعة محمد بنونة، وهذا لا يعني التنصل أو التنكر لشهيدنا العظيم، وإنما ساهمت خلال المرحلة الأخيرة في إنقاذ الرفاق وجمعهم من أجل انطلاقة جديدة. إلا أن خطأ ارتكبه بعض الرفاق قبل أخذي بالمسألة أفسد كل شيء، وقد تنبات بذلك وعاتبتهم عليه وشرعت في العمل رغم هذا الخطأ القاتل.
بالرغم من أنني كنت أعرف كل ما يجري في الخارج عند الإخوة، نظرا للعلاقات الوثيقة معهم، كما كنت أعرف بوسائلي الخاصة ان انقلابي 1971 و1972 سيحدثان في خطوطهما العريضة، لأنني أنتمي للجناح السياسي في الحزب واللجنة العمالية الوطنية بقيادة عمر بن جلون، وهي سداسية، فيها الكافوني من الفوسفاط وزغادة من مكتب التسويق والتصدير والدجاجة من السكك الحديدية وأنا من قطاع السكر واخ من الضمان الاجتماعي لا أتذكر اسمه الآن، ولدي الوثائق لكني لا أستطيع الآن الرجوع إليها وأعتذر له عن ذلك، وحتى أكون دقيقا أكثر فإن قيادة التنظيم السري كانت قد قررت أن يكون إقليما بني ملال وأزيلال قاعدة خلفية للانتفاضة أي للثورة. وقبل هذا القرار كان الرفيق أحمد بنجلون مكلفا بقيادة العمليات الحربية في هذين الإقليمين، لكن تمت مراجعة القرار في لقاء طرابلس بين الفقيه البصري والتوزاني ومحمد بنونة.
أما حيثيات ذلك الاعتقال : فكانت هي تخريب وتقديم مأوى للمتمردين وتزويدهم بالخرائط العسكرية وتسهيل التواصل بينهم،  وتم اعتقالي صحبة 34 مناضلا وعلى رأسهم صديقيَّ محمد بنراضي ومنير عمر، وصهري العمري مصطفى ليتم تعذيبنا في ضيعة مازيلا قرب قصبة تادلة من طرف اللجنة الثلاثية المكونة من الجيش والدرك والشرطة بجميع تفرعات الاستعلامات، بعدها نقلنا إلى السجن السري في الأوراش الصناعية للطيران (Ateliers industriels de l’air = A.I.A) الذي سميناه "الكوربيس"، ثم أُحلنا على محكمة سطات في يوليوز 1976.
* ما هي في نظرك العوامل التي أدت إلى فشل ثورة مولاي بوعزة يوم 2 مارس 1973؟ وهل لذلك علاقة بالخيانة التي كانت داخل التنظيم كما ذهب البعض إلى ذلك؟
 حسب علمي فإن فشل ثورة 1973 يوم 2 مارس بمولاي بوعزة، وبعدها "باملاكو"، لا علاقة لها بالخيانة داخل التنظيم وإنما لأسباب كثيرة ترجع إلى سوء التقدير والأخطاء، رغم شجاعة الرفاق وإيمانهم بالقضية، ويمكن سَرْدُ بعضها. في البداية كان لخصاصي يرفع التقارير إلى اليوسفي، الذي بدوره يسلمها للفقيه البصري كي يبث فيها، وكانت هذه التقارير تقول إن كل الظروف الموضوعية والذاتية قد نضجت للقيام بالثورة لتحرير المغرب من الإقطاع، الشيء الذي لم يكن متوفرا في الواقع.
من جهة أخرى كان الخلاف في الرأي على مستوى القيادة. فبينما كان الإخوة يعملون جميعا من أجل الثورة، وعلى رأسهم الشهيد محمود بنونة، كان الفقيه محمد بن ادريس البصري يرى عكس ذلك، فبالنسبة له الظروف لم تنضج بعد، وما كان يجب فعله هو التحريك ومناوشة الحكم. ونتيجة لذلك قرر محمود والرفاق، الدخول إلى الوطن للقيام بالثورة. الفقيه البصري لم يعارض هذا الدخول ولكنه قال لهم: "لا تعتمدوا علي في إمدادكم بأي شيء إذا أطلقتم الرصاص، وهكذا كانت الثورة معزولة منذ البداية".
والآن نتطرق إلى الأخطاء التقنية:
 الخطأ الأول: منذ البداية خلق الرفاق ثلاث جبهات متباعدة عن بعضها (فيكيك – املاكو – خنيفرة)، مما زاد في صعوبة التواصل والتنسيق.
الخطأ الثاني: إن الرفاق لم يذهبوا إلى عين المكان لاكتشافه ومعرفة تضاريسه (reconnaissance du terrain).
الخطأ الثالث: إن بعض القادة المحليين تجاوزوا حدود مسؤوليتهم، وتمردوا على القيادات المدربة، فمثلا قام موحى ألحاج امحزون بالهجوم على مركز الأسلحة بمولاي بوعزة، مرغما ابراهيم التزنيتي قائده المباشر على ذلك في 2 مارس دون علم محمود، وافتضح الأمر لما أصيبت سيارة أمحزون بالعطب وألقي عليه القبض.
الخطأ الرابع: إن محمود قسم الرفاق إلى أربع فرق، الواحدة بتنغير والأخرى بكلميمة والثالثة بإملشيل والرابعة بخنيفرة، وهذا الأسلوب قلص من فرص الدفاع عن النفس.
الخطأ الخامس: إن دخول البيوت في المرحلة الأولى للثورة عرض الثوريين للتطويق والقضاء عليهم، وهذا ما وقع للشهداء الثلاثة : محمد بنونة وسليمان العلوي وفريكس بن موحى ألحاج امحزون، حيث تم تطويق منزل عديشان وقتلت القواة المساعدة اثنين وجرحت فريكس. وقد أبدى الرفاق مقاومة شرسة أدهشت العدو وأظهرت تفوقهم القتالي رغم قلة عددهم مقارنة مع القوات المطوقة لهم، أي بمعدل واحد في مواجهة عشرين.
الخطأ السادس: يتجلى في خرق القانون الرئيسي لحرب العصابات، والذي يقتضي أنه عندما يخرج احد من المعسكر للقيام بمهمة يتبعه مراقب لاقتفاء أثره دون علمه، كما يكلف آخر بمراقبة المراقب والرجوع سريعا لإخبار أصحاب المعسكر بان لا خطر يتهددهم. وقبل ذلك يأمر القائد بإخلاء المعسكر إلى مكان آخر تحسبا لكل طارئ، وهذا ما أغفله شهيدنا العظيم محمود عندما أرسل حدو امهرير إلى منطقة تتطلب ساعتين ليأتيه بجهاز الإرسال وظل في نفس المكان ينتظره لمدة 16 ساعة دون أن يبعث من يراقبه ولا أن يغير مكان إقامته.  ذهب حدو امهرير وسلم كلاشنيكوفه إلى خليفة "تادغست" الذي أخبر عامل الراشيدية، وبعدها جاءت القوات العسكرية وطوقت المكان ونشب القتال مما أدى إلى استشهاده، كان عديشان صاحب المنزل يقترح على محمود تصفية حدو امهرير لأنه كان يشكك بأمره إلا أن قائدنا العظيم رد عليه: "كيف أسمح لنفسي بتصفية رفاقي"، غير أنه لو بقي محمد أخويا، المعروف بالقاضي الصغير إلى جانب محمود، لما تردد لحظة في تصفيته نظرا لخبرته.
هذه الأخطاء التي سردناها لم يكن محمود يجهلها، وإنما فرضت عليه طبيعة المنطقة ذلك، وقضية حواجز الثلوج التي عزلت المنطقة وسدت الطرق زادت من اطمئنانه.

 كيف يمكن أن تقارن لنا، نحن أبناء الأجيال الحالية، بين الطموحات التي رفعها جيلكم ما قبل الاستقلال، وواقع الحال الذي جاء فيما بعد؟
 طموحاتنا كانت كبيرة تجلت في وضع دستور يضمن بناء دولة الحق والقانون واقتصاد وطني منتج بدلا من اقتصاد الريع الذي يحول دون تشغيل المواطنين، ومنح الامتيازات للموالين للنظام، لكن طريقة عملنا كانت انتقائية تجريبية غير علمية لم تستطع خلق تراكمات كمية من أجل القفزات النوعية، أما جيلكم فيتعامل مع الواقع كما هو ويحاول التغيير في حدود الممكن. الفرق بيننا وبينكم أن جيلكم أكثر انتهازية من جيلنا بسبب تقلص مناصب الشغل والعدد المتزايد من المعطلين.
  من المسؤول، أو المسؤولون في نظرك، عن عدم تحقيق طموحات الاستقلال التي رفعها بعض من مناضلي أبناء جيلكم؟
 في الحقيقة هناك ظروف موضوعية وأخرى ذاتية، أثناء الاستعمار كانت الحركة الوطنية قد وظفت العامل الديني في مقاومة المحتل، وقد أشاعت في الأوساط الشعبية أن محمد الخامس يظهر على صفحة القمر وبذلك خلقت منه إنسانا فوق العادة. ولما رجع من المنفى صار في أعين شعبه رمز التحرير رغم أن محرر المغرب الحقيقي هو الاسكافي والخضار ..الخ، وبعد إسكات حزب الاستقلال تم نفي الملك.
في آخر حياته كان محمد الخامس يريد إصلاح أخطائه والتصالح مع الحركة الوطنية، إلا أن ابنه الحسن الثاني عرقل هذا التصالح وصار ينسق مع الدكتور الخطيب والمحجوبي أحرضان والحسن اليوسي لعرقلة مسيرة التحرير والديمقراطية، فهو الذي صنع الجلادين؛ باختصار عهده كان مظلما وفظيعا.
 بنظرك ما هي العوامل التي دفعت حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلى التخلي عن خياراته الثورية، أواسط سبعينات القرن الماضي، ويقرر الدخول في ما سمي بالمسلسل الديمقراطي، مع مؤتمر 1975؟
 الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ليس حزبا منسجما، وإنما كان عبارة عن تجمع سياسي يضم عدة تيارات، ولما تعرض للامتحان أبان عن حقيقته. في سنة 1961 تخاذل المحجوب بن الصديق بفعل الابتزاز [التهديد]، وفي 30 يوليوز 1972 كانت القطيعة مع هذا التيار الذي تقوده الأرستقراطية العمالية المكسرة للإضرابات.
بعد اختطاف المهدي بنبركة أواخر شهر أكتوبر سنة 1965، بدأ تيار اليمين السياسي يحاول الابتعاد عن الخط الثوري بمبررات واهية، ولما وقعت أحداث مارس 1973 استشهد كثير من الأطر ودخل آخرون السجن، وكان الحزب موقوفا بقرار الوزير الأول، واشترط النظام تغيير اسم الحزب للاعتراف به. وعليه نظمت ندوة 14 شتنبر 1974 من أجل هذا التغيير او عدم تغييره، لأن الفقيه البصري ومعه التيار الثوري، كانوا يرفضون التنازل عن الاسم القديم، بينما ألح عبد الرحيم بوعبيد واليازغي وعمر بنجلون على التغيير، وقد صارح الشهيد عمر الفقيه البصري خلال لقائهما بالجزائر العاصمة، حيث قال له ما معناه :"أتركونا نشتغل لنبني الحزب وكفى من المغامرة والارتجال، وفي نفس الاتجاه طلب محمد اليازغي أثناء لقائه في بغداد بالفقيه البصري، أن يجمد نشاطه لمدة خمس سنوات فغضب الفقيه وأحس بالإهانة، وللإشارة فإن المهدي بنبركة في صراعه الخفي مع الفقيه البصري أتى بمحمد اليازغي إلى الرباط ليواجه به خصمه الفقيه، وهذا ما جعل اليازغي والفقيه يتبادلان الجفاء، ولما كانت أغلبية الثوريين قد أجمعت في السجن على عقد المؤتمر الوطني في يناير 1975 وتبني الاشتراكية بالعلن غير أنه قرر القطيعة مع الأسلوب القديم، وهكذا بدأ التيار اليميني يقترب شيئا فشيئا من الحكم، إلا أن وجود عمر بنجلون في القيادة عرقل التحول السريع للحزب نحو الحكم، وهذا ما جعله يتعرض للاغتيال للتخلص منه، أتذكر أنه أثناء لقائنا التنظيمي العمالي يوم 4 مارس 1973، كنت أتدخل، ولما أخبرت الرفاق أن هجوما مسلحا وقع على مركز قيادة مولاي بوعزة، رأيت عمر يضع سبابته بين أسنانه ثم قاطعني قائلا :"الأخ بوكرين،  اختصر !"، فجأة توقفت عن الكلام وصاح عمر :"كل قطاع يجتمع في غرفة ويسجل خلاصاته"، عندئذ استفسرته، فقال :"هؤلاء المرتجلون أفسدوا كل ما فعلنا"، وجلس فوق الكرسي صامتا حزينا، وبعد ربع ساعة أمر بإنهاء الاجتماع فودعته للمرة الأخيرة، ويوم تاسع مارس القي عليه القبض.
 كيف جاء انشقاق قياديي حزب الاتحاد الاشتراكي بين جماعة عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان بنعمرو؟ وكيف تم القبض عليك في تلك الأثناء وقضاؤك فترة في السجن؟
 أولا إن ما تسمونه انشقاقا هو في الحقيقة حركة تصحيحية عارمة، تلقت الضربة الأولى في 1011 أبريل 1979 أثناء الإضراب، بحملة اعتقالات وتوقيفات، شردت العائلات من طرف الحكم، ثم قام التيار المتمخزن تدريجيا باستعمال "فلوس العراق" لشراء صمت بعض القادة النقابيين من المعتقلين المصدومين من وقع الضربة. ثم جاء يوم 8 ماي 1983، يوم اجتماع اللجنة المركزية للحزب، من أجل الحسم في مسألة المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات، إلا أننا منعنا بالعصي من الدخول لقاعة الاجتماع، واتصل التيار اليميني بالسلطات التي أرسلت القوات لاعتقالنا، وكان عددنا 34 مناضلا، ودخلنا السجن بعد تزوير المحاضر، وحكم علي بثلاث سنوات سجنا، وكذلك الرفاق عبد الرحمان بنعمرو واليزيد البركة ومحمد الفلاحي، ثم على الآخرين بسنة نافذة لكل واحد منهم، باستثناء أربعة حُكِمَ عليهم بالبراءة، قصد إضفاء نوع من المصداقية على القرار القضائي الجائر.
والغريب في الأمر أن الاتحاد الاشتراكي آنذاك، كان قد حصل على 34 مقعدا في البرلمان كجزاء له، إذن كنا في حزب واحد، فقام المخزن بإرسال 34 منا إلى السجن و34 أخرى إلى البرلمان (حلل وناقش ؟!).
وللإشارة فإنه بمجرد ما تم اعتقالنا، قامت السلطات بتسليم مقراتنا ومفاتحها إلى التيار الآخر، وهذا ما جعلنا اضطرارا نلجأ لتأسيس حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، لأن المخزن يساند من يؤيده، وقد تصرف بمثل هذه الطريقة مع المهدي بن بركة عندما أعطى الشرعية القانونية لعلال الفاسي وحزب الاستقلال، واضطر بنبركة والإخوة إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وفي 1972 تكررت نفس العملية مع جناح الرباط وجناح الدار البيضاء بقيادة عبد الله إبراهيم، فقام عمر بنجلون وعبد الرحيم بوعبيد بتأسيس الاتحاد الاشتراكي. إذن الحكم منع الانتفاضات التصحيحية فاضطر الرفاق إلى تأسيس إطار بديل.
أما كيف جاء الانشقاق الذي أشرتم إليه بين بوعبيد وبنعمرو، فللحقيقة والتاريخ وإنصافا للرجلين، فبوعبيد كان يكره الانقسام وكان آخر من التحق بالحركة، فهو مناضل ليبرالي مارس سياسة فن الممكن ولم تكن له طموحات في الزعامة، مارس قناعاته كما فعل عام 1981 واعتقل في ميسور من أجل ذلك. وكان لا يعلم كثيرا مما يدور في محيطه. في 1975 كان عمر بنجلون وعبد الرحيم بوعبيد يقترحان، كل واحد من جانبه، مهمة الكاتب الأول على الآخر، وفي الأخير تنازل عمر احتراما لسن عبد الرحيم بوعبيد.
أما عبد الرحمان بنعمرو فليست له طموحات الزعامة ولكن إذا طلب منه ذلك فإنه يتحمل مسؤوليته. لم ينافس أحدا في الزعامة، فهو مناضل منضبط ديمقراطي الطبع ويناضل بصدق وينفذ كل ما يطلب منه ولو من طرف أبسط مناضل في القاعدة، ولهذا لم يكن يقود الجماعة التي تسمونها "جماعة بنعمرو".
الحركة التصحيحية بدأت خريف 1976 عندما بدأ اطلاق المعتقلين التدريجي من السجون، كان اليزيد البركة وفجري خديجة وأخوها وزوجها المغروي يتحركون بالدار البيضاء، كما كان احمد بنجلون يتصل بالأفراد، لكن بحذر، نظرا للظرفية والمحيط الذي يتعامل معه في جريدة "ليبراسيون". ومن جهة أخرى، كنت أتنقل تارة بمفردي وتارة صحبة الإخوة أحمد الدحماني المحامي، بواسطة سيارته المناضلة عبر المغرب وبوشعيب الحلاق الذي يقطن بسلا، الدحماني وبوشعيب بخطابهما المقنع  قدما خدمات جليلة للحركة. بعد ذلك التحق بنا الرفاق الساسي طيب والمتوكل من آسفي، بولكيد والعروبي من أكادير ثم منير عمر ومحمد بنراضي من بني ملال، بعد إطلاق سراحهما. وكانت علاقات طيبة مع الإخوة محمد المجدوبي وباموح في القنيطرة والحيحي بالرباط وزخباط من البريد، وأستسمح إذا أغفلت الكثيرين. فصارت حركتنا ككرة الثلج تتضخم كلما تدحرجت، هذا جزء بسيط من التفاصيل الكثيرة، سردت هذه المعلومات بشكل غير منسق نظرا لوضعيتي الصحية واستعجالكم في الأمر. "الانشقاق"، هذا يتطلب لوحده استجوابين وقد كتبت ذلك بعجالة دون مسودة ولا مراجعة الصياغة، فمعذرة.
 ما الذي جعلك ترفض التوصل بتعويضات هيئة الإنصاف والمصالحة، مع انك في أمس الحاجة إليها بالنظر إلى وضعك الاجتماعي غير المريح؟
 لم أتقدم بطلب أصلا من أجل جبر الأضرار إلى ما يسمونه "هيئة الإنصاف والمصالحة"، لأنه ليست هناك مصالحة حقيقية. فالدولة المغربية مازالت ترفض الاعتذار الرسمي والعلني للشعب المغربي رغم مرور سنة وتسعة أشهر على تقرير الهيئة المذكورة.
الدولة ليست لها إرادة التصالح، وإنما فعلت الخطوة الأولى نتيجة الإكراهات المفروضة عليها من دول الغرب، وهذا ما جعلها تؤسس هذه الهيئة ومنح بعض الفتات للضحايا لشراء صمتهم، هكذا يحل المغرب المشكل نقدا دون أن يكون بحاجة إلى بناء دولة الحق والقانون.
أنا فعلا أعيش وضعا صعبا كما أني في أمس الحاجة إلى "الفلوس"، غير أن الجانب الأخلاقي يمنعني عن ذلك، أولا أعتبر الوصول إلى الحقيقة أسبق من التعويض. ويجب أن يتم رد الاعتبار لشهدائنا بإطلاق أسمائهم على المرافق العمومية من مدارس ومستشفيات وشوارع وساحات، ولنا كضحايا، قبل أن نفكر في جبر الأضرار المادية.
المصالحة عند الدول التي سبقتنا كانت تقتضي تنازل النظام للشعب عن السلطة، ليقوم ببناء دولة الحق والقانون التي تعطي الدور الحقيقي للمؤسسات (حكومة تستطيع ان تنفذ البرنامج الذي وعدت به الشعب وبرلمان يكون له الحق في التشريع وتأسيس لجن تقصي الحقائق ومحاسبة الحكومة ثم القضاء المستقل على شكل سلطة قائمة بذاتها لا تخضع لأية سلطة أخرى، وتُخْضِع الجميع إلى احترام القانون وتطبيقه ولا تترك أحدا فوق القانون، وأخيرا يكون رئيس الدولة كحكم ورمز الدولة).
أما في المغرب فكل شيء معكوس :"الضحايا بدلا من إنصافهم يتابعون بتهمة المقدسات، وبدلا من أن تكون الدولة في خدمة الشعب، أصبح الشعب في خدمة الدولة، الحكم عندنا يحتقر الشعب.
 ظللت على قناعاتك الجذرية، داخل حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، حيث دافعت، فيما أعتقد، عن عدم الدخول إلى تجربة الانتخابات التشريعية الحالية، هل يمكنك ان تفسر لنا هذا الأمر؟
 تنظم الانتخابات في جميع البلدان من أجل تحقيق هدفين : إما بناء الديمقراطية أو تطويرها، لكن في المغرب لا هذه ولا تلك. فمادامت الانتخابات لا تؤدي إلى الديمقراطية، وما دام الملك يهيمن على جميع السلط، فماذا سنجني من تنظيمها؟ وهذا ما جعلني أدافع داخل الحزب من أجل مقاطعتها، والبحث عن أساليب أخرى نضالية، منها توسيع التنظيم والنزول إلى الساحة الجماهيرية لتوعية المواطنين الذين لازالوا بحاجة إلى ذلك. مبدئيا لست ضد الانتخابات لأنها في جميع البلدان تجعل الأحزاب تصل إلى السلطة وتنفذ برامجها التي وعدت بها المواطنين. لكن عندنا في المغرب، إن وصلت إلى السلطة لا تستطيع تنفيذ برنامجك وإنما برنامج الملك، إذن تهدر الأموال من أجل ديمقراطية الواجهة للحفاظ على مصالح البورجوازية على حساب الشعب.
فالدولة تقول إنها تحارب شراء الذمم، فلماذا إذن تغدق الأموال على أحزابها؟ الانتخابات الحالية زورت قبل الوصول إلى صناديق الاقتراع عن طريق التقطيع الانتخابي والتصويت باللائحة وتوزيع الأموال واللعب باللوائح. أضف إلى ذلك الطريقة التي ترسل بها الصناديق من مكاتب التصويت إلى المراكز ثم إلى الرباط بعد تلاعب الأيدي بالأرقام.
أما عن دخول الحزب إلى الانتخابات الحالية بعد سنوات طويلة من المقاطعة، سببه هو شعور القيادة وبعض المناضلين أن المقاطعة كادت أن تصبح إستراتيجية، وأرادوا أن يكسروا هذه "العقدة" ويجربوا نوايا الحكم. أما عن التواصل مع الجماهير فالتنظيم هو أنجع طريقة، وطبعا هناك قلة من المناضلين، كانوا يغذون الوهم بأن العقلية المخزنية يمكن تغييرها من داخل المؤسسات الشكلية.
 أنت الآن محكوم بالسجن في قضية "المس بالمقدسات"، كيف تشرح لنا ما حدث لك بالضبط حتى تمت متابعتك قضائيا؟
 قبل وصولنا إلى باب المحكمة ببضعة أمتار من أجل الوقفة التضامنية، رآني أحد عمداء الشرطة الثلاثة الذين سبقوني، فأشار إلي بأصبعه قائلا لوالي الأمن عني: "ها هو!!" فعرفت من ذلك أنهم سيعتقلونني، وفعلا تم ذلك في صباح اليوم الموالي. أما ما جرى داخل المحكمة، فكان مجرد مسرحية لإعطاء الشرعية لاعتقالنا وقد رفضت المشاركة في تلك المسرحية.
التهمة هي "المس بالمقدسات" التي أصبحت تستعمل لتصفية الحسابات مع المعارضين، لأن "ظهير كل ما من شأنه"، الذي أصدره المقيم العام الفرنسي هينري بانسو عام 1935، افتضح أمره ولم يعد يعمل به.
 لماذا رفضت استئناف الحكم، هل لعدم ثقتك في القضاء المغربي؟
 القضاء المغربي ليس مستقلا ولهذا السبب لا أثق فيه، وقد كنت ضحية له عدة مرات. وقد نظمت ندوة منذ سنتين بالدار البيضاء، شارك فيها قضاة ومنتدى الحقيقة والإنصاف وهيئات المحامين، وكانت خلاصات تلك الندوة أن القضاء في المغرب غير مستقل ويجب إصلاحه والجميع يطالب بإصلاحه. أما استئناف الحكم فقد رفضته لأن  الأمر ليس قانونيا لنناقش هل هناك جريمة تستحق العقاب أم لا؟ المسألة سياسية بامتياز. وقد سجنت من أجل رفضي للمصالحة المغشوشة التي كان يسوقها في الخارج كل من الراحل ادريس بنزكري واحمد حرزني ..الخ، فتم استغلال الوقفة التضامنية للزج بي في السجن ومعاملتي كلص بدلا من رد الاعتبار لي عن كل ما لحق بي وبأبنائي من الأضرار، ناهيك عن سني وحالتي الصحية، قال المغاربة قديما :"لا ثقة فالواد ولا فالمخزن؟!"
 كيف تنظر إلى المشهد السياسي الحالي بالمغرب، هل تغيرت أشياء نحو ما هو إيجابي كما قال البعض، أم أن الوضع يسوء يوما عن يوم كما يقول البعض الآخر؟
 المشهد السياسي الحالي بئيس، فالخلل أصاب جميع المؤسسات، والقيادات الحزبية تقريبا انفصلت عن قواعدها نتيجة الفرز الطبقي. واقتصاد الريع ينمي البطالة، وتبعية الحكم المغربي لدوائر الامبريالية من البنك الدولي والشركات المتعددة الجنسية يعمق الأزمة والأسعار ترتفع، والاستياء ينتشر من الوقفات الاحتجاجية إلى مقاطعة الانتخابات إلى ارتفاع الأصوات المنددة بغلاء المعيشة إلى احتجاج رجال الشرطة ثم مراقبة سلوك الجنود اليومي، ورفض الدولة مراجعة الدستور يعمق الأزمة، والحكومة فاشلة قبل تكوينها وبرلمانها، لأن الناس لا يعيرون أي اهتمام لذلك.
 لماذا تتشبث بدفع ضريبة النضال، بعد كل هذه السنين من العمر، بالرغم من كل المحن التي اجتزتها، شابا وكهلا، هل لعدم ثقتك في كفاءات الأجيال الحالية؟
 لكل زمان رجاله ومشاكله والسياسة لا تخضع للتقاعد، الجيل الحالي هو الذي سيبني مستقبله، وعملي إلى جانب الشباب هو فقط لتسهيل مأموريتهم لكي لا تعاتبنا الأجيال القادمة. المسألة بالنسبة لي أخلاقية فالمواطن يبقى مواطنا حتى يموت، المواطن له حقوق وعليه واجبات. فما دمت لا أستطيع تحقيق الحقوق، فعلى الأقل أقوم بواجبي لأن الحرية شيء ثمين، والشعب الذي لا يعرف معنى الحرية بجميع أشكالها لا يستحق أن يعيش. أنا أقول ما قاله فيكتور هيكو:"لن تنزل الحرية إلى الناس بل يجب أن يرفعوا أنفسهم إليها، فهي نعمة يجب أن نشقى من أجلها قبل ان نتمتع بها"، "إذا كانت هناك مائة فأنا واحد منها وإن لم يبق إلا عشرة فأنا العاشر وإن لم يبق إلا واحدا فانا ذلك الواحد".

 سأسوق لك بعض أسماء شخصيات مغربية لتقول رأيك فيها :
 محمد بن عبد الكريم الخطابي ؟
 بطل واجه 740.000 جندي استعماري و70 جينرال و60 طائرة7. في الوقت الذي لم يكن يملك سوى 75.000 محارب، مقسمين إلى ثلاثة، أي 25.000 مقاتل، بمعدل ريفي واحد ضد ثلاثين جنديا إسبانيا. يستحق أن تقام له النصب التذكارية في المدن الكبرى ويخصص يوم في السنة لإحياء ذكراه.
 موحا اوحمو الزياني ؟
 إقطاعي مخزني وقائد قاس في منطقته، حاول المستعمر استمالته دون جدوى ثم حاربه بأبنائه 13، نقل عنه الفرنسيون قولته المشهورة "J’appartiens à un passé qui disparaît, je ne peux ni ne veux le trahir" (أنتمي لماض ينقرض ولا أستطيع ولا أريد خيانته)، استشهد في معركة "تاوجكالت" بعد أن نفدت ذخيرته ودفن في "تاملاوكت"، وأُطفئت النيران حزنا عليه كما بكاه الجميع.
 عدي أوبيهي نايت هرو؟
 ساعد الفرنسيين في الدخول إلى منطقة الريش وعين قائدا على كورمة، إنسان ماضوي يعتز بأمازيغيته ويكره الفاسيين. كان يجبر القواد المعينين في عمالته بالراشيدية على المبيت في خم الحمام وفي اليوم الموالي يرجعهم إلى وزير الداخلية آنذاك، عدي اوبيهي رجل شجاع، كريم وماجن.
................

الشهيد عمر دهكون ومن معه اعدموا يوم عيد الأضحى



صباح اليوم الثاني من نونبر 1973، أصدرت وزارة الأنباء بلاغا صحفيا جاء فيه أن المحكوم عليهم بالإعدام في ما سمي بمحاكمة القنيطرة من طرف المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية، المعروفين بقضية «مولاي بوعزة» قد نفذ فيهم الإعدام يوم الفاتح من نونبر 1973 في الساعة السادسة صباحا و 38 دقيقة بالسجن المركزي بالقنيطرة، بحضور رئيس المحكمة ووكيل الملك ومحامي الدفاع.
الذين نفذ فيهم الإعدام في ذلك اليوم الذي صادف احتفالات عيد الأضحى كانوا عمر دهكون، عبد الله بن محمد، أيت لحسن، بارو مبارك، بوشعكوك محمد، حسن الادريسي، موحا نايت بري، تفجيست لحسن، أجداني مصطفى، يونس مصطفى، أمحزون موحى، ولحاج، بيهي عبد الله الملقب بفريكس، دحمان سعيد نايت غريس، أيت زايد لحسن، حديدو موح، محمد بلحسين الملقب بـ «هوشي منه».
من هم؟ ماهي قضيتهم التي استنجدت الدولة المغربية للحد منها إلى العقوبة القصوى؟ كيف تراكبت عناصر السياسة والنضال والقمع، في ثلاثية مستحيلة الحل، إلى أن وصلت بعدة مناضلين إلى الوقوف أمام فرقة الإعدام، وجها لوجه أمام موت؟ وما هي الأحداث التي حدثت في مولاي بوعزة أو أحداث 3 مارس 1997 أولا؟
منذ بداية سنة 1973، اجتاز المغرب موجة من الأعمال المسلحة استهدفت المؤسسات الحكومية في بعض المدن والبوادي، وكانت هذه الأحداث التي أعقبت انقلابي 71 و 72، تتويجا لعمل سرّي فرضته على مجموعة من المناضلين آنذاك ظروف الانحسار السياسي و «التزمت» المؤسساتي في البلاد، ومع بداية شهر مارس 1973 «تسللت» مجموعة من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الحدود الجزائرية ـ المغربية، والتحقت بأعالي الأطلس لإشعال فتيل الثورة المسلحة ضد «النظام» المغربي وموروثه الاستعماري، بناء على التحليل الثوري الحالم وقتها، ولأسباب كثيرة، ليس هذا مجال سردها، انتهت المغامرة بمحاصرة مجموعة المقاتلين الثوريين وتم تبادل الرصاص في فجاج الأطلس وسفوحه ولقي بعض الثوريين حتفهم في تلك المواجهات ومنهم محمد بنونة المعروف باسم محمود، والذي نعتته البيانات الرسمية بـ «زعيم الإرهابيين»، وأسكور محمد وابراهيم التيزنيتي... في حين حاول آخرون العودة الى الجزائر، وقد نجحوا في ذلك، ومن ضمنهم أومدة، في حين تعرض آلاف المناضلين الى الاعتقال، وتم الحكم بالإعدام على مجموعة منهم، ذكرنا بعض الأسماء التي نفذ فيها الحكم، في كل حديث عن تلك الفترة، يعود على لسان أصحابها أو المهتمين بتلافيف دمائها وبشهدائها، اسمان رئيسيان ـ أو هكذا يبدوان لشباب لم يعش الفترة جسديا ـ وهذان الإسمان هما محمود بنونة وعمر دهكون، 
سيرة محمد بنونة، مهندس الثورة، وحدها تستوجب عملا جبارا للإحاطة بشخصيته ونضاليته ونهايته المأساوية الاستشهادية هو ومن معه، والتي استحقت عن جدارة، تلك الصفة البليغة التي أطلقها ابنه المهدي على التجربة «أبطال بلا مجد»، لكن قبل ذلك، نذكر أن وزارة الداخلية آنذاك أصدرت بلاغا ـ مفعما بالحبور! ـ تخبر فيه بـ «مقتل زعيم الكوماندوهات الإرهابية»، وألحت أيضا على ألا يعرف قبره حتى «يمحو الموت وجوده من الذاكرات» على حد قول ابنه المهدي، وعندما يحكي عن دفن أبيه، يتذكر الإبن الذي يعيش حاليا في سويسرا ما قاله له شهود عيان، عن وصول ثلاث طائرات مروحية بقيادة ضابط فرنسي إلى مدينة الرشيدية ـ التي كانت تسمى وقتها قصر السوق ـ وعن محاصرة مستشفى المدينة حصارا شديدا ومنع التقاط الصور للجثمانين اللذين سلمهما الضابط الفرنسي المشرف على العملين للعاملين بالمستشفى قصد التعرف عليهما، ويذكر أيضا ما قاله أحد هؤلاء العاملين بمجيء عميد شرطة لاستيلام الجثتين قصد دفنهما:
الجثة الأولى، جثة الزعيم، كانت لمحمود بنونة والثانية لأحد المناضلين معه.
وسيرة عمر دهكون أيضا سيرة مركبة، غنية بالأسماء والأماكن والمواقيت، تتقاطع فيها سلاسة الحلم والرومانسية الثورية بصلابة الواقع السياسي بخزائن العنف المنظم بأخاديد البؤس الاجتماعي التي انحفرت في التربة المحلية للبلاد،
أمام المحكمة التي سترسم طريقه الى الرصاص، والقبر بعدها، لم ينف دهكون عمر بن أحمد بن ابراهيم، حسب المنطوق المدني للحالة العدلية، أنه منذ 1967 وإلى حدود يوم 22 مارس 1973، تاريخ إلقاء القبض عليه، وهو يقوم بنشاط متواصل في إطار منظمة سرية تعمل على تغيير النظام، وأنه عمل على تنظيم الاستقطاب لهذا التنظيم السري، وأقر أيضا بأنه توجه صحبة رفاق الخلايا السرية إلى دولة أجنبية وبها تدربوا على استعمال السلاح، بكل أنواعه المتوفرة وعلى حرب العصابات،
وبعد التداريب عاد عمر دهكون، حسب ما جاء أمام المحكمة، وكون عدة خلايا بكل من البيضاء والرباط، وعمل أيضا على تسريب كمية ضخمة من الأسلحة وضعها رهن إشارة من نعتهم صك الاتهام بأفراد الخلايا، ولعمر دهكون نُسبت أيضا محاولة اغتيال «المسمى الورادي في أواخر شهر دجنبر 1972، عندما أطلق عليه ثلاث رصاصات بمدينة سلا، محاولا قتله، وذلك بعد نهب سيارة من الدار البيضاء استعملها لهذه العملية»، حسب صك الاتهام دوما.
وفي أوائل مارس من سنة 1973، قام بتعاون مع خلاياه بصنع قنابل متفجرة وضع بعضها بنفسه والبعض الآخر بواسطة بعض هؤلاء الأفراد في كل من مسرح محمد الخامس بالرباط والمكتبة الأمريكية بها وبدار أمريكا وتحت سيارة القنصل الأمريكي بالبيضاء، وإليه أيضا نسب الاتهام قيامه بوضع قنابل في مقر صحيفة «الصباح» (لوماتان) بالبيضاء وفي الدائرتين الخامسة والثامنة للأمن الوطني يوم 29 أكتوبر 1971»،
وأمام المحكمة، أجاب عمر دهكون بالإيجاب على هذه التهمة،
وكان قد أجاب عن أسئلة تفصيلية طرحتها رئاسة المحكمة في جلسة سابقة، لعلنا نسلط «بعض» الضوء على تلك الهَبّة الثورية التي اعتبرت، كنيزك، اللحظات السادرة في عتمة المغرب الحديث.
معمر فرنسي يقتل شقيقة 
دهكون وشقيقه

عمر دهكون سليل أسرة سوسية بسيطة، تتكون من 11 طفلة وطفلا، عندما تم إعدامه كان عمره لا يتجاوز 37 سنة،
كان أبوه أحمد بن ابراهيم من دوار كنارن قبيلة سكتانة ـ تالوين ـ إقليم تارودانت، دفعت به ظروف الاستعمار وعميله الكلاوي الى النزوح الى الدار البيضاء في العشرينيات من القرن الماضي، استقر به الحال في عين السبع، حيث بدأ عمله كمراقب بالسكك الحديدية، تزوج سنة 1933 من رقية بولغة بنت محمد التي تنحدر من نفس المنطقة التي ينتمي إليها، كان عمر ثالث أطفالهما بعد كل من أخته الكبرى زينة وأخيه لكبير، يحكي أحد أفراد العائلة من أسرة الوالد: «عرف عنه هو وأخوه مواقف نضالية ضمن حزب الاستقلال إبان الاحتلال الفرنسي مما جعلهما في مواجهات مباشرة مع المعمرين المتواجدين بعين السبع»، وكانت نتيجة ذلك أن ذهب الإبن والإبنة ضحية الغطرسة الاستعمارية، فقد دهستهما ـ يقول المصدر نفسه ـ سيارة المعمر الفرنسي فرونسوا أوليجيني فأردتهما قتيلين ولم يُتِمَّا بعد عقدهما الأول»، ورغم هذه الجريمة فلم يتعرض مرتكبها لأية عقوبة ولم يتلق الأب تعويضا يسليه عن فقدان فلذة كبده.
حدث ظل يسكن ذاكرة عمر دهكون، وحكى قصته لكل من التقوه من بعد، ولعلها المأساة التي فتحت عينيه على اختلالات العالم، وعن العدالة التي تظل عمياء، بعصابة على العينين، حتى وهي تحمل الميزان.
ورث عمر دهكون الجرحين وظل يقيم في المسافة الجارحة بينهما دما قابلا للفوران، وما من شك أن تلك الفاجعة ركّبت الغضب والحلم في الوجدان، وكانت بمثابة الحجر الأسود التي نقش عليه الوصف البشع للعالم والرؤية التي سيحملها عنه، وإن قاومها بسلوكه الطيب والإنساني تجاه من يقفون معه على نفس الضفة لمشاهدة الحياة المفعمة بالبؤس،
هذه الفاجعة لا يتردد أحد أصدقائه والمعتقلين معه سابقا، محمد أزغار في وصفها بالعقدة، يقول رفيق عمر دهكون، في تصريح للزميل العربي رياض ولكاتب هذه السطور: كانت هناك عقدة تسكن دواخله، عانى منها طويلا معاناة مريرة، وتتمثل في كون أحد المعمرين، أقدم في يوم من الأيام على قتل أخويه بمنطقة البرنوصي، حيث دهس الأول بسيارته وبعد أيام أعاد الكرة مرة أخرى مع الأخت .. لكن الملف أقبر» ولم يُقبر الجرح في روح عمر دهكون.
وعن طفولته الأولي، حكت لنا أخته خديجة دهكون أنه بدأ دراسته بالكتاب المتواجد آنذاك بدوار الواسطي وبعد ذلك انتقل الى مدرسة الهدى المتواجدة بشارع أيت يافلمان قرب ساحة السراغنة، وفي فترة لاحقة انتقل الى مدينة الرباط حيث تابع دروس الضرب على الآلة الكاتبة بكوليج الليمون».
وفي الرباط ربط أولى علاقاته مع الطلبة وأولى الخطوات في العالم السياسي، حيث «كان يشارك في التجمعات التي كان ينظمها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تحت قيادة المهدي بن بركة» وقادة آخرين،
وجاءت مرحلة سلا، ومدرسة النهضة التي كان يديرها آنذاك المجاهد أبو بكر القادري وابن أخيه أحمد، واكتفى عمر دهكون وبعض زملائه بالإقامة في ضريح مولاي الكمري بالمدينة، وهناك حصل على شهادة الدروس الثانوية الحرة في النصف الأول من الستينيات.
كان الاستعمار قد رحل، لكن عمر دهكون كان يحدس حضوره الدائم في كل لحظة ظلم، أو عضة جوع، وكان يواجه بشاعة تلك الأوضاع بالدفء الإنساني الذي يسبغه على كل زملائه، كما يحكي زميله ورفيقه أزغار «كان حنونا إلى أقصى حد بحيث كان يبذل كل ما في وسعه لمساعدة الزملاء المعوزين ويستقبل في بيته بالبيضاء كل الطلبة القادمين من مدن بعيدة، كما عرف عنه الاستقامة والانضباط، ويذكر أفراد أسرته كلهم سعة صدره وتقدريه لكل من عاشروه واهتمامه باخوته وأهله «سواء حين كان يتواجد بالمغرب أو حين يسافر الى فرنسا أو ألمانيا»
وانخرط عمر في العمل السياسي بسيدي البرنوصي بالدار البيضاء في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولما احتدم الصراع داخل الاتحاد بين ما كان يسمى بالتيار الثوري والتيار المسمى بالمهادن، كان هو ـ في البداية ـ يميل الى التيار الثاني، لكن مع توالي الاعتقالات والقمع ودخول إخوانه إلى غياهب السجون شعر، وكأن هناك نية مبيتة واتفاق قبلي على التخلص بعد الاستقلال من الوطنيين الذين حاربوا المستعمر الذي ترك حلفاءه في البلاد لينتقموا له، حسب شهادة أزغار الذي كان يستضيف عمر دهكون في بيته، سواء في فترة الدراسة أو بعدها في الفعل الاحتجاجي،
كانت مدرسة النهضة أيضا مختبرا للصداقات العادية التي تتحول بفعل صناعة سياسية في تلك المرحلة، إلى صداقة قدرية قادت العديد ممن عانقوها إلى الموت رميا بالرصاص صباح ذلك اليوم من نونبر 1973?
مجموعة دهكون، من رفاقية المدرسة
إلى رفاقية الموت!

في مدرسة النهضة بسلا، تعرف عمر دهكون على ثلة من الشبان المغاربة، انخرطوا في ما بعد في العمل السياسي، ومنهم من دخل التنظيم السري من اجل كفاح مسلح اعتبر ان الظروف، الموضوعية والذاتية منها، تفرض اللجوء اليه.
كان اغتيال الشهيد المهدي بنبركة الحدث الاساسي في تحولات المسار السياسي لمجموعة من المناضلين، والاقتناع بان «الدواء الوحيد لهذا النظام هو اجتثاثه»، كما كانت الادبيات المعارضة انذاك تصف المرحلة، واصبحت مقولة «بيننا وبين القصر جثة المهدي» التي نسبت الى الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد مقولة ثابتة، مهيكلة للخطاب الاتحادي، خصوصا في اوساط مثقفيه الثوريين وشبابه المتحفز.
وجاءت هزيمة 1967 لتدق اجراس اليأس من المكابدة السياسية والنضال المؤسساتي، واليأس ايضا من فئات البرجوازية الحاكمة وفشلها الطبقي» في تحرير الانسان والارض? ومن ثم بدأ العمل على تشكيل المنظمة السرية او الجناح المسلح، الذي سيعمل على قلب المعادلة في البلاد،
ومنذ 1967 شرع عمر دهكون في هذا الاختيار الكفاحي ولا أحد يستطيع ان يحدد بالضبط، حسب ما علمنا، التاريخ الذي غاص فيه عمر دهكون وزملاؤه في عتمة التنظيم السري، لكن من المؤكد ان مجموعة دهكون، كما اصطلح على ذلك فيما بعد لم تتشكل في لحظة ميلاد واحدة، بل كان الاستقطاب اليها تدريجيا وعلى فترات، اذ ان تاريخ التحاق الملياني الادريسي رحمه الله مثلا، ليس هو لحظة انخراط اقذاف احمد اطال الله في عمره او اجدايني مصطفى الذي اعدم في تلك الصبيحة البارحة من نونبر 1973 ، ولم يكن كل الذين مثلوا امام المحكمة العسكرية في القضية الجنائية 8754/1748 يوم الخامس والعشرين من يونيو 1973 على نفس المسافة من شهداء 1973.
فالادريسي الملياني المزداد سنة 1940 بسلا، من والده الهاشمي بن عبد الرحمان ووالدته فاطمة بنت محمد، كان لايزال اعزب ساعة اطلقت فرقة الاعدام عليه النار، وقد جاء في حيثيات اعدامه انه اطلع في شهر فبراير 1969، بواسطة عمر دهكون على وجود منظمة سرية، او ما عرف في حوليات الاتحاد الوطني بالتنظيم الموازي، يهدف الى القضاء على النظام الملكي واقامة نظام بديل له، وقبل الانخراط في التجربة? وفي 15 يوليوز 1971 ، توجه الى فرنسا بطلب من عمر دهكون، وكان الغرض من السفر هو الانتقال الى «دولة اجنبية للتدريب في معسكراتها تدريبا عسكريا حتى يكون مهيأ للعمل المسلح»، لكن الامور اتخذت وجهة اخرى، و لم يتم المطلوب لانه اخطأ في الموعد وجاء بعد ان سافرت المجموعة التي كانت سترافقه الى معسكرات التدريب، وعاد الى المغرب «على نفقة المنظمة» واتهم المرحوم الملياني الادريسي ايضا بانه قام، بمعية عمر دهكون، بوضع القنبلة المتفجرة التي استهدفت دار امريكا بالرباط، في الثاني من مارس 1973 اي قبل احداث مولاي بوعزة بيوم واحد، ومن المعلوم أيضا أن الإدريسي الملياني كان يسلم لعمر دهكون مفتاح البيت لينام فيه من وقت لآخر، لاسيما بعد أن أصبح هذا الأخير مطاردا بعد محاكمة مراكش الشهيرة، وكان الملياني مكلفا بالتدريس في سلا، ولم يسبق له أن تعرض للاعتقال أو المحاكمة.
وأمام المحكمة، نفى المرحوم الإدريسي الأفعال المنسوبة إليه واعتبر ما ورد في المحاضر نتيجة للتعذيب الوحشي الذي نهش جسده وجاء في تصريحه لرئيس المحكمة، الأستاذ محمد اللعبي «أنه لم يلتق بدهكون قبل سنة 1971» وإن كان قد تعرف عليه منذ 1962 عندما كانا في اعدادية النهضة بسلا ونفى أن يكون له علم مسبق بأن عمر دهكون مطارد من طرف الشرطة، أو أن هذا الأخير قد طلب منه استقطاب زملاء أساتذة، كما نفى أن يكون قد تلقب بلقب «سليم» كما هي العادة في الأعمال السرية التي يلجأ فيها مقاتلوها الى الأسماء الحركية،
تفاصيل أخرى، أوردها المرحوم الملياني أمام المحكمة، سيأتي ذكرها في حينها، لكن المحكمة لم تأخذ بمنطق الدفاع، وكان الحكم القاسي والنهائي في حقه،
إضافة الى الملياني ضمت مجموعة دهكون أيضا ملحاوي، وأقذاف أحمد، وهذا الأخير من مواليد البير الجديد (إقليم الجديدة)، كان وقت اعتقاله ومحاكمته يعمل مهندسا احصائيا بالرباط، ينسب إليه الانتماء الى العمل السري في سنة 1971، هيأ في رمضان من نفس السنة قنينة (مولوتوف) مع أحد أعضاء الخلية الى سفارة كوريا بالرباط، فألقاها عليها غير أنها لم تنفجر، وفي شهر يوليوز 1971 سافر إلى باريز وقابل الفقيه البصري وعبر له عن اقتناعه بالانخراط في المنظمة السرية، واتهمته المحكمة أيضا بأنه حمل رسالة إلى شخص بباريز سماه عمر دهكون الفقيه سي علي وطلب منه أن يأتيه من عنده بمبلغ مالي قدره قاضي التحقيق بـ 400 ألف فرنك فرنسي، كما نسب إليه تلقيه تداريب على السلاح مرنه عليه شخص، من الدار البيضاء، لم يأت القاضي على ذكر اسمه، ومن بين الأشياء الأخرى اطلاعه على وصول سيارة محملة بالأسلحة من بلجيكا.
الأستاذ بوبكر القادري والنواة التنظيمية الأولى للعمل السري!

الحلم، كالواقع، يجمع ويفرق، وتلك هي الحكاية بين أقذاف ودهكون، أصر الأول على تقديم رواية مغايرة أمام المحكمة لما ورد في محضر البوليس أو لما أقر به عمر دهكون في حقه، فنفى أن يكون سفره إلى باريس من أجل التنظيم السري أو التوجه الى سوريا قصد التدريب.
تحدثت روايته عن سفر استجمام الى باريس عبر مطار النواصر بالدار البيضاء، حطت به الطائرة بمطار أورلي، بعد أن أقلعت في الساعة الخامسة مساء، في أحد أيام الجمعة، رأى لافتة «النيون» يضيء اسم فندق فدخل، ولما استيقظ صباح اليوم الموالي لوصوله، توجه الى طبيب فرنسي اسمه جاك موران، بسبب قرحة في المعدة، عندما وقفت السيارة التي استقلها أمام مكتب هذا الطبيب، كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا و 15 دقيقة، انتظر ربع ساعة قبل أن يستقبله الطبيب وظل معه إلى أن قاربت الساعة العاشرة،
استنكر القاضي قائلا: «قضيت معه حوالي 20 دقيقة، ومازلت تذكر بالتفصيل الدقيق الساعة والدقيقة، لكنك لا تتذكر عنوان مصحته؟» فأجاب أقذاف باقتضاب «نعم»! فكان أن سأله رئيس المحكمة من جديد: «هل سلمك وصفة» فأجابه بالإيجاب مرة أخرى، لكنه لم يقبل منه أن يخبره أنها مازالت لدى الشرطة وقاطعه بجفاء»، بدون تعليق، أجب عن الأسئلة فقط».
وبخصوص التهمة المتعلقة باستلام المال وتسليمه إلى عمر دهكون دار بين الاتهام وأحمد أقذاف الحوار التالي:
ـ لم تلتق بأي أحد.
أبدا.
ـ لم يسلمك أحد المال لتأتي به،
لا أحد، إذا سمحت سيدي الرئيس أريد أن أعرف النصوص القانونية التي استندت إليها الشرطة لتكوين ملفي، فقد قيلت في حقي أشياء يندى لها الجبين. وكلما كنت أطلب الإدلاء بشهادتي كانوا يجيبونني بأنهم سي .... لهذا أريد أن أعرف «.
وهنا طلب الرئيس تدخل الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو، والذي رافع بقوله: «إن ثلثي ملف موكلي لا تخصه أو لا تتعلق به، حيث يتم الحديث فيها عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، علاوة على هذا، كلما شرع المتهمون في الحديث عن التعذيب الذي تعرضوا له، تقاطعهم قائلا بأنك على علم بالأمر إلخ، والحال في نظري أن تترك لهم حرية التعبير، لأن تصريحاتهم جزء من المرافعات « كان التعذيب شرسا، وسيحين الحديث عنه على لسان أهله، وتقاسمه كل من اعتقل في تلك السنة من جمر المغرب، وما لم يتقاسمه الجميع هو النهاية، فالمناضل أقذاف أحمد افترق عن صديقه وزميله دهكون ومازال حيا يرزق، بعد أن صدر فيه حكم يخالف حكم عمر دهكون.
لقد سردنا بعضا من أسماء الأصدقاء الذين قطعوا نفس الطريق لكنهم لم يصلوا الى نفس النقطة. في فضاء مدرسة النهضة بسلا كانت الانطلاقة، وكان المختبر الذي تشكلت في قاعاته الكيمياء الثورية التي جمعت الأصدقاء القدريين.
في سياق الصراع الشرس الدائر بين الحركة الشعبية الثورية والطبقة الحاكمة آنذاك، في العقد الأول من الستينيات، كانت كل محطة سياسية أو اجتماعية لحظة اختبار قوة، تتصارع فيها مشروعيتان تبدوان على طرفي نقيض، وكان البناء السياسي الظاهر ساحة هذا العراك القوي، ولعل سنة 1962، سنة الدستور الممنوح، كانت لحظة حاسمة في وعي مجموعة من شباب «النهضة»، للانتقال الى الكفاح المسلح.ومن بين الوجوه المعروفة في مغامرة الحل الثوري، يرد اسم مبارك بودرقة ـ المشهور باسم عباس، عضو اللجنة الادارية للاتحاد الاشتراكي حاليا ـ كعنصر فاعل ومؤطر ثوري لخلية المدن، وقد حكى لنا عن البداية بقوله: «تعرفت على دهكون في سنة 1962 عندما انتقلت بمعية أخي من مكناس لمتابعة دراستنا بالرباط ـ سلا.وقد اشتغلنا الى جانب دهكون، كتلاميذ اتحاديين بشكل فاعل في حملة مقاطعة الدستور الذي صادفت شهر دجنبر 1962، وكانت هناك مجموعة جاءت من أكادير، بعد الزلزال الذي دمر هذه المدينة، ومجموعات قادمة من فكيك ووجدة، مثل توفيق الادريسي ويوس مصطفى وأجدايني مصطفى. وكانت حملة المقاطعة شرسة، تلتها الانتخابات وحملتها التي قمنا فيها بالدعاية لمرشح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك الأخ المهدي العلوي ضد الأستاذ سيدي بوبكر القادري الذي كان يكن له السلاويون تبجيلا خاصا». وعند ذكر الأستاذ بوبكر القادري يفتح عباس بودرقة القوس ليقدم شهادة «سيحفظها له التاريخ» في حق هذا المجاهد الجليل وجاء فيها (في إطار تحركات التلاميذ الاتحاديين من أجل دعم المرشح الاتحادي ونسف حظوظ المجاهد أبو بكر القادري، قمنا بعدة إضرابات في المدرسة، وكان رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك حميد برادة، الصحفي المعروف حاليا، يقوم بالتنسيق مع التلاميذ بعد أن اقتنع بضرورة إلحاقهم بالعمل الطلابي استلهاما للنموذج الأمريكو لاتيني.
وعندما اندلعت الإضرابات بدأ سيدي بوبكر القادري، باعتباره مدير المدرسة، يتجول في الأقسام ويقرّع التلاميذ وبوبخهم، ويتوعد المخربين، وقد جاء على لسانه أنه لن يسمح بالفوضى ثم تساءل: «اشكون هاذ الفوضويين اللي كيخلقوا البلبلة»، فوقف عمر والمجموعة وقالوا «نحن»، فما كان من المجاهد القادري إلا أن قال «أهنئكم وأهنىء حزبكم على هذه الشجاعة».
ومن جهة أخرى، كان الأثرياء السلاويون يعمدون الى انتقاء بعض التلاميذ من المدرسة ليساعدوا أبناءهم على الدراسة في البيت، فاختار الأستاذ القادري من بين التلاميذ الاتحاديين من يدرس أبناء الأثرياء السلاويين مقابل بعض المال.
أول مسدس، لأول نواة

عمر دهكون رجل صموت، متكتم، دمث الأخلاق، كلامه أميل الى الهمس أكثر منه زعيق، يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع وفرض كلمته، يسوس من معه بلباقته وقوة حجته، هذا البورتريه رسمه كل الذين سألناهم عن شخص عمر العادي، في المعاملات والسلوك والسجايا، ولعل ذلك ما خوله القدرة على تنظيم النواة الأولى، في مستهل سنة 1962 و 1963، وفي تلك الفترة بالضبط حصلت الجماعة الشبابية علي أول مسدس، وحكايته أن أحد أصدقاء السلاح وقتها، يعمل حاليا استاذا كان أخوه يعمل في القاعدة الأمريكية بالقنيطرة واستطاع أن يحصل على مسدس سلمه لرفاقه من مقاتلي مدرسة النهضة.
لايمكن في الواقع، رصد تطور الأنوية الأولى للعمل السري عند عمر دهكون ومن معه، بدون الرجوع الى التاريخ الحامل لمغرب الاستقلال في مجال تنظيم المواجهة ما بين امتدادات الحركة الوطنية وحركة التحرير الشعبية وبين النظام بكل تركيبته الموروثة عن التاريخ أو عن الهياكل الاستعمارية، بثقافتها ورجالاتها ورهاناتها في تلك المرحلة، ومن خلال سرد كرونولوجيا لأهم هذه الأحداث، يتبين أن بعض المجموعات والمناضلين الكفاحيين ظلوا متشبثين بخيار المواجهة الجذرية، ومنهم من سيعمل في إطار التنظيم الجديد بعد إعادة تفعيله من طرف دهكون ورفاقه.
وقد جاء في كتاب عبد القادر بن بركة والمعنون بـ « المهدي بن بركة، شقيقي»، كرونولوجيا لأهم هذه الأحداث منذ أحداث الريف (أكتوبر 1958) والانتفاضة التي صاحبتها، وهي الأحداث التي تمرس فيها أوفقير على التنكيل بالجسد المغربي والانسان المغربي ، وانتهاء بمحاكمات السبعينيات، ولعل ما يلفت الانتباه حقا في هذه المحطات عدد المرات التي نسب فيها للمناضلين التقدميين والوطنيين استهداف حياة الملك الراحل، سواء عندما كان وليا للعهد أو بعد ذلك، وأول مؤامرة ضد حياة ولي العهد الحسن الثاني تزامنت فيها محاكمة الحزب الشيوعي المغربي في أكتوبر 1959 (بعد ما صدر ظهير يحل الحزب)، ثم الحملات القمعية الأولي (دجنبر 1959) ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على المحاكمة الأولى، وتواصلت الى حدود فبراير 1960، وتلت هذه المحاكمات هبة الأطلس المتوسط في نفس الشهر من نفس السنة والتي حوكم المتهمون فيها في سنة 1967! وقتها صدر الحكم بالاعدام ضد بن حمو والأشغال الشاقة ضد البشير الزموري اضافة الى أحكام قاسية أخرى.
أما المؤامرة الثانية التي استهدفت ولي العهد الحسن الثاني، فقد انتهت باعدام بن حمو الفواخري ومحمد أزناك وهما مقاومان سابقان، الى جانب أحكام أخرى تراوحت بين 10 و 25 سنة، ثم جاءت مؤامرة يوليوز 1963 الشهيرة والتي اعتقلت فيها اللجنة الادارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بكل أفرادها، وحكمت المحكمة وقتها، باعدام 11 مناضلا اتحاديا ومتابعة الآخرين بعقوبات تتراوح ما بين 3 و 20 سنة، ومن نافل القول أن الحملة الدولية الواسعة للتضامن والمآزرة أفلحت في استصدار عفو عن كل من الفقيه البصري والشهيد عمر بنجلون.
وبعد حرب الرمال، التي تواجه فيها الجيشان المغربي والجزائري صدر حكمان غيابيان بالاعدام في حق كل من الشهيد المهدي بن بركة وحميد برادة، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك، الصحفي المعروف حاليا، وفي أكتوبر 1963 نفسه جرت أطوار ما عرف بمحاكمة مراكش الأولى، وكانت التهمة الموجهة فيها ضد المعتقلين، «المحاولة الرابعة» لاغتيال الملك الراحل منذ حصول المغرب على الاستقلال فتم اعدام عدة مقاتلين من ضمنهم لحسن الملقب بالسكليست وعبد الرحيم المراكشي، وإدانة 25 متهما آخرين بمدد تتراوح ما بين 15 و 25 سنة ومن ضمن المعتقلين أحد أبطال المقاومة «محمد مول الكراج».
ثم جاءت قضية شيخ العرب أحمد أكوليز، والذي كان قد صدر فيه حكم غيابي بالاعدام في «مؤامرة» يوليوز 1963 لكنه قتل وهو يقاتل في مواجهة شرسة ضد رجال الأمن في يوليوز 1964 بالدار البيضاء، ثم جاءت أحداث الدار البيضاء في 1965 واغتيال الشهيد المهدي بن بركة وتوقيف الجرائد ما بين 67 و 1969 واعتقال مدرائها، ومع نهاية 1969 (أكتوبر) انطلقت حملة جديدة للاعتقالات مصاحبة بالتنكيل والتعذيب فيما سمي بمؤامرة مدريد، أو محاكمة مراكش الكبرى في يونيو 1971?...
إن التذكير المقتضب بهذه الأحداث ضروري للغاية لفهم الأجواء التي كانت تمارس فيها السياسة في البلاد في الفترة التي تكونت فيها خلايا العمل المسلح من جهة، ثم لفهم الاستمرارية التنظيمية للعديد من الخلايا من مرحلة الى أخرى أدت بالفعل الى ادماج عمر دهكون لأفرادها في التنظيم الجديد، ولعل أهم ما يمكن الاحتفاظ به في هذا الخصوص هو الخلايا التي عملت في زمن شيخ العرب، ولكنها لم تفكك أو يقصم ظهرها بعد اغتيال قائدها وملهمها، وظلت كامنة الى حين العمل من جديد تحت امرة عمر دهكون.
خلايا وتداريب عسكرية 
ونظرية حرب العصابات

نفذ محمد عواد المشرف على الخلية الاولى من خلايا شيخ العرب الكامنة، العملية التي استهدفت مقدم عين السبع المسمى علال، وبعد ذلك انتقل بمعية رفيقه ابراهيم الى الحي المحمدي حيث اخفيا السلاح المستعمل في العملية? ثم عاد الى مكان تنفيذ العملية ليستقصي اخبار الهدف وتحركات السلطات،
ثم توجها للقاء امارير الحسين، قائد الخلية الثانية، وسلماه المسدسين اللذين تمت بهما العملية، وهما نفس المسدسين اللذين «تسلمهما» امارير من يد المرحوم الحمداوي،
وسيظل السلاح بعيدا عن الانظار مدة خمس سنوات تقريبا الى حين جرت اطوار محاكمة مراكش الكبرى في 1969 وتم حجز المسدسين: الاول عند شداد عبد الكبير، العامل بشركة التبغ بالبيضاء، والذي اخفاه بمقر الشركة والى جانبه شاحن (شارجور) وست رصاصات، اما المسدس الثاني فقد حجزته الشرطة عند اللوسي الحاج بلقاسم، وكلاهما عضو في خلية امارير، وهي الخلية الثانية التي «ورثها» عمر دهكون عن فصول المجابهة بقيادة شيخ العرب،
وكانت الخلية الثانية تتكون من السابق ذكرهما اضافة الى محمد بن بلة، وصابر مبارك، وعبد الله العبدي، وعمر بن علي مسحي وابراهيم عبد الرحمان ومسلاك محمد،
وقد كانت لهذه الخلايا اسلحة: مسدسات اوتوماتيكية ومفرقعات ورشاشات الخ، جمعها عمر دهكون من جديد لنفس الاسباب والاهداف، ثم وزعها من جديد حسب ما تبين من كلام محدثينا،
ويصعب وضع سرد خطي، واضح المعالم لقصة كل عضو في الخليتين، نظرا للتداخل الموجود بين التنظيمين، ثم لسهر كل من كتاب الخلايا المسلحة على لقاء الآخرين والعمل معهم، كما هو حال محمد عواد وأمارير الحسين في كافة فصول العمل السري، لكن من الواضح ان اعادة تنشيط الخلايا من طرف دهكون عمر خضع لنفس المسارات السابقة.
من هو أمارير الحسين، كاتب الخلية الثانية والسابق الى العمل السري، امارير من مواليد 1928 بقبيلة فروكة من الجنوب كان يعمل بمعمل السكر (كوزيمار) في الستينيات، تعرف على احد العاملين معه، دله على وجود منظمة سرية سنة 1964، وكان يقودها انذاك في نظره المرحوم الحداوي محمد واقتنع بالخط الكفاحي للمنظمة وبدأ بدوره يقوم بالدعوة الى اعتماد المجابهة الجذرية مع «النظام القائم»، وهكذا استقطب محمد عواد - كندا - وبن بلة رحمه الله، وشرعت المجموعة في الاستقطاب من بين العناصر المنخرطة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك وتلقينها دروسا في استعمال الاسلحة، بمنازل افرادها ، وبعد الانتهاء من الدروس كان المرحوم الحداوي يحمل سلاحه معه الى وجهات مختلفة،
بعد العملية التي استهدفت المقدم علال، ووفاة المرحوم الحداوي اتصل حرتوف محمد الجندي السابق في حرب الهند الصينية واحد اعضاء المنظمة العاملين تحت امرة شيخ العرب، بامارير ليطلعه على النبأ، وليوصيه ايضا بالتزام السرية والاحتفاظ بالمسدس الذي يوجد بحوزته، وقد كان حرتوف محمد مشرفا على خلية مسلحة من خلايا شيخ العرب، لم يستطع عمر دهكون تشغيلها وهي الوحيدة، من بين خلايا شيخ العرب، التي ظلت بمنآى عن اشراف دهكون عمر، انقطعت صلة امارير بعمل السلاح منذ 1965 لكن امارير كان يسكن بحي البرنوصي البلوك 76، و كان عمر دهكون حينها جارا له، وفي سنة 1967 اتصل به وحضر هو وكندا الى بيت المرحوم عمر دهكون الذي طلب منهما العمل الى جانبه بمعية باقي أعضاء الخلية» أبديا استعدادهما لمواصلة الكفاح المسلح، وفي السنة نفسها عرض عليهما السفر إلى خارج البلاد لتلقي تداريب مفصلة ومتقدمة عن استعمال السلاح وإدارة حرب المدن، وحكى لنا محمد عواد أن ذلك «كان في صيف 1967، وأنه كان حاضرا بمعية زدي لحسن بالقطار ليلة السفر»، أما عن تفاصيل السفر، فقد سلم عمر دهكون مبلغ 200 دهـ لأمارير مقابل ثمن التذاكر، ومبلغا مماثلا لمن سيرافقه في الرحلة، إلى «جانب رقم تليفوني بباريس وكلمة السر «عباس» للشخص الذي سيستقبلهما بالعاصمة الفرنسية»، وفي السادس عشر من يوليوز سنة 1967، ولم تكن قد مرت على نكسة يونيو 1967 سوى أيام معدودة، توجه أمارير إلى محطة الدار البيضاء الميناء، وهناك التقى بكندا ولحسن زدي صديق الرحلة الثانية، وعندما وصلا إلى باريس، وجدا في انتظارهما، عمر دهكون!
ورافقهما المرحوم عمر دهكون الى أحد الفنادق حيث قضوا ليلة باريزية عادية، لم يروا منها سوى مصابيح الجن والإنس الافرنجة، وبعدها استقلوا الطائرة، هم الثلاثة، متوجهين الى الجزائر، وهناك استقبلهم «الاسم السري وكلمة السر» عباس، ودلهم بعدها إلى دار غير آهلة، وعمدهم عمر دهكون بأسمائهم الحركية الجديدة، ليصبحوا الثوار: «الخطابي» لأمارير و»بحري» لزدي أما عمر دهكون فقد أصبح يلقب بـ «بودرار»!
في تلك الليلة، التحقت مجموعة أخرى من القادمين من المغرب، وأصبح عدد الحاضرين عشرة أشخاص، إضافة الى «عباس»، انتقلوا من العاصمة الى معكسر «ارزو».. هناك قضى أمارير لحسن شهرا كاملا في التداريب، وقبل أن تنقضي عطلته السنوية عاد إلى المغرب، أما عمر دهكون، فقد ظل خارج المغرب إلى حدود شهر أكتوبر من نفس السنة، فعاد إلى الدار البيضاء وبدأ الاتصال من جديد بأعضاء الخلية،
في سنة 1969 جمع كل الأعضاء وطلب منهم الاستعداد لتلقي الدروس النظرية حول الثورة، وأساليبها وطرق المقاومة واستلهام تجارب سابقة، منها المقاومة الشرسة التي أبدتها إحدى القرى الأسيوية الصغيرة ضد القوات اليابانية القوية العدد والعدة!
إلى جانب الخليتين االمذكورتين، أكد لنا عباس بودرقة أن عمر دهكون كان يؤطر خلايا أخرى سماها «خلية دهكون»، ومن «العناصر التي تعرفت عليها - يقول عباس - رغم أنه لم يتعرف على أعضاء خليتي، هناك مصطفى يوس وعلي بوشوا وكان خياطا بالرباط، والمهتدي»، ولعل هذه المرحلة هي التي صنعها عمر دهكون من رفاقيته الدراسية وعساها تكون مرحلة متقدمة من عمله في مدينة سلا - الرباط، كما ألف عمر دهكون، مباشرة أو غير مباشرة، خلية أخرى تضم كلا من الصدقاوي عبد السلام (علي) وكوار الحسين (السعدي) والراشدي مصطفى (طلال) والدريوش بوعزة (جواد) وفوزي احمد (هاشم) ومحمد بن عبد الله (حبيب) وتوفيق الادريسي (عبد اللطيف) والرباطي ابراهيم (نصحي).. كما أن هذه الخلية تلقت جل تداريبها في سوريا، كما وجد من بين اعضائها مناضلون يتوفرون على قسط متقدم من الثقافة والتعليم، عملوا على التأطير النظري لافراد الخلايا الآخرين.
تداريب عسكرية في دمشق... 
وسوء اختيار الرجال!

عمل دهكون أيضا على مصاحبة الخلية المذكورة (خلية دهكون) في البيضاء في تكوينها وتداريبها، وسهر على أسفارها والعمل على إلحاقها بمقرات التدريب، وطوال الفترة التي عمل فيها، منذ الشروع مجددا في ترتيب العمل السري، ظل يستقطب العناصر الجديدة ويوجهها الى فرنسا، ومن ثم الى المشرق العربي، كماحدث مع الصدقاوي عبد السلام (واسمه الحركي علي)، فقد أطلعه عمر في ماي 1969، قبيل محاكمة مراكش الشهيرة، على وجود التنظيم السري، وبعدها سلمه تذكرة السفر الى باريس عبر القطار، وحان موعد السفر يوم 13 يوليوز من نفس السنة وبعد وصوله ورفيقه التحق بهما عمر دهكون رفقة (طلال)، أقاما في باريس أسبوعا كاملا بأحد المنازل بشارع سرفانطيس قبل أن ينتقلا الى دمشق حيث قضوا ثمانية أيام أخر، بمعية من التحق من المغاربة الآخرين، وتوجه الجميع الى معسكر «عين بيضا»، وهناك تلقوا تداريب جسمانية وعسكرية، وفي كل «مساء كانوا يحضرون دروسا نظرية حول الثورة».
نفس الشيء حدث بالنسبة لكوار الحسين بن صالح (السعدي) الذي اتصل به زهير (عمر دهكون) وأخبره أن المسؤولين عن الاتحاد الوطني (!) قرروا تغيير اتجاه العمل للمنظمة وكان ذلك في نفس الفترة، مما يعني أن سنة 1969 عرفت نشاطا متزايدا لعمر دهكون ولقادة المنظمة السرية، وهي السنة التي ستعرف أكبر عملية اعتقال في صفوف المناضلين الثوريين والسياسيين العلنيين منهم والسريين،
الراشدي مصطفى (طلال) الذي ورد اسمه على لسان الأحياء من خلية شيخ العرب، باعتباره المعلم الذي يلقنهم دروسا في حرب الأغوار والثورة، تعرف على دهكون باسم عمر السوسي «جاره»! سلمه كتابا بعنوان «المقاومون» وطلب منه إعطاء دروس مستوحاة من تجارب الفيتنام وكوبا حول الحرب الثورية.
ومن باب ثان، لم يقطع كل العاملين في خلايا العمل المسلح نفس الطريق نحو التداريب العسكرية، إذ هناك الذي عبر باريس نحو الشرق العربي، كما سبق القول، وهناك من عبر التراب الجزائري نحو نفس المواقع العسكرية.
ومن ضمن أعضاء خلية البيضاء التي أطرها دهكون منذ البداية، هناك عناصر من الأصدقاء والزملاء الذين رافقوا عمر في دراسته بسلا، وربما كانوا الأكثر اطلاعا على تفاصيل التنظيم والخلفيات المحكمة فيه، كما يتضح من المحضر الذي «استخرجته» الشرطة من المناضل ذ توفيق الادريسي، المحامي في ما عرف بمحاكمة مراكش الشهيرة، وقد جاء في المحضر: «إنه تعرف أثناء دراسته وتدريسه في مدرسة النهضة بسلا على كل من عمر دهكون والصدقاوي عبد السلام»، وأضاف أنه عمل من أجل «تأسيس جمعية للشبيبة الاتحادية، فقبل ذلك في سنة 1966 غير أنه لم يجد الجدية التي كان يأملها بعد تردده على الكتابة العامة للاتحاد أسبوعيا» ... وفي نفس الفترة، التقى بعمر دهكون الذي حدثه بدوره عن الوضعية السياسية في المغرب، وان الوقت مناسب لتنظيم عمل جدي، وان الاتحاد الوطني رغم ضعفه، فإنه الإطار الذي يمكن الانطلاق منه لتغيير الحالة الراهنة ..
أضاف انه خلال شهر يونيو 1969 اتصل به من جديد عمر دهكون وأخبره أن هناك منظمة جديدة في طريق التكوين لإخراج حزب الاتحاد من جموده دون أن يخبره بالوسائل التي ستتبعها المنظمة ولا بأهدافها، وفي منتصف شهر يوليوز، أفصح له دهكون عن حقيقة هذه المنظمة، حيث قال له إن الفقيه البصري ينوي تكوين منظمة سرية يكون اعتمادها على خلايا في المدن الرئيسية وان أعضاء الخلايا سيتلقون تدريبا في الخارج ثم يرجعون للعمل وفهم بأن البصري يريد قلب النظام القائم بالعمل المسلح، وان دهكون استفسره عما إذا كان يرغب في تلقي التدريب فقبل الاقتراح على شرط أن يتفق وقته مع رخصته السنوية التي تدوم شهرين (غشت وشتنبر) وان لا يحرم من الحضور في المؤتمر الدولي للمحامين الشباب الذي سينعقد في بيروت بين 20 و 30 شتنبر، فوافق دهكون على تنفيذ شروطه وأعطاه رقما تليفونيا للاتصال بالبصري الذي يحمل اسما مستعارا هو كامل، وفعلا أجرى هذا الاتصال عند وصوله الى باريس، فقدم عنده الى الفندق الذي يقيم فيه شخص لا يعرفه وقال له إن كامل يوجد في سفر وأخبره بأن التدريب سيكون في سوريا وأعطاه اسم شخص ورقما تليفونيا للاتصال به عند وصوله الى العاصمة السورية وفعلا اتصل بفؤاد عند وصوله الى دمشق فقدم لمقابلته مصحوبا بشخص آخر يسمى عبد المومن (أحمد بنجلون)، وبعد أن قضى الليل بدار اقتاده إليها الشخصان المذكوران ساقاه هما أيضا في اليوم التالي الى معسكر التدريب بعد أن أعطياه اسما مستعارا هو عبد اللطيف وأوصياه بعدم الكشف عن شخصيته للسوريين الذين لا يعرفون الجنسية الحقيقية للمغاربة الموجودين بالمعسكر ولا الهدف من تدريبهم، وأخبره فؤاد انه أفهم السوريين بأن المتدربين هم تونسيون تطوعوا للعمل في صفوف منظمة تحرير فلسطين وفعلا التحق بمعسكر عين البيضاء رفقة شخص يسمى حسن الذي قدمه الى قائد المعسكر المسمى نذير فأعطاه هذه الملابس والأشياء التي سيستعملها أثناء التدريب وأدخله الى خيمة وجد فيها عددا من المتدربين لم يعرف من بينهم إلا عمر دهكون الذي كان يحمل اسم الزبير وشخصا من سوس كان يعرفه معرفة سطحية في مدرسة النهضة ويحمل اسما مستعارا هو الهاشمي، وقد شرع في الحين في تلقي درس حول الهجوم على العدو كان يلقيه مغربي يسمى في المعسكر محمود ولا يعرف اسمه الحقيقي كما كان يتردد على المعسكر من أجل إلقاء الدروس مغاربة آخرون هم غالب، حسن، عبد المومن، وأبو علي .. اعترف بكونه مكث في المعسكر 15 يوما تلقى خلالها دروسا نظرية وعملية حول حرب العصابات والهجوم على المراكز الاستراتيجية للعدو ووضع الألغام ومختلف الوسائل الثورية، وعلى استعمال مختلف أنواع الأسلحة وبعد انتهاء التدريب في غشت 1969 عاد الى دمشق وصاحبه باقي المتدربين حيث استقبلهم فؤاد واقتادهم الى منزل مكثوا فيه مدة أربعة أيام تناقشوا خلالها حول التدريب الذي تلقوه، وأعطاهم فؤاد منشورات حول القوات المسلحة الملكية والأحزاب السياسية، وذكر لهم ان القوات المسلحة الملكية يوجد بين صفوفها انشقاق بين الشباب والقدماء، وان المنظمة ستستغل هذا الانشقاق لإضعاف الجيش وتشجيع الضباط الشباب في محاولتهم للانضمام الى قضيتها، ثم شرع فؤاد وصلاح في تنظيم سفر المتدربين، أما هو فقد ودعه فؤاد على أمل اللقاء بينهما في المستقبل وقد ظل عمر دهكون مع باقي المتدربين وسلمه المتهم حقيبة كي يوصلها الى باريس حيث يتسلمها منه في نهاية شهر شتنبر، وقال ان فؤاد التقى معه بعد ذلك وبعد مذاكرتهما حول التدريب طلب منه أن يلتقي بالبصري عند وصوله الى باريس ثم عاد الى بيروت بطريق البر ووقع التأشير على جواز سفره من طرف السوريين واللبنانيين، وأضاف انه بعد قضاء أسبوع في مصر عاد الى بيروت للقاء مع المحامين المغاربة الذين قدموا للحضور في المؤتمر الذي افتتح أشغاله يوم 20 شتنبر وظل مع زملائه الى أن وصلوا الى جنيف في طريق عودتهم يوم 27 شتنبر حيث افترق عنهم والتحق بباريس، وهناك اتصل بالبصري المدعو كامل، وبعد مذاكرة حول ما قام به من سفر وما تلقاه من تدريب قدم هو ملاحظة حول طريقة تجنيد المتدربين ووجوب الحذر في اختيارهم تلافيا لوقوع أي خطأ، الأمر الذي وافق عليه البصري ووعد بإصلاحه ملاحظا ان اختيار المتدربين لم يكن سليما، وخصوصا من طرف دهكون الذي لا يحسن اختيار رجاله، ثم حدثه البصري عن الأهداف القريبة والبعيدة للمنظمة فقال له، إنه في البداية يجب مواصلة تدريب الأعضاء في سوريا بعد تحري اختيارهم من الرجال المخلصين المؤمنين بالفكرة ثم يرجعون الى المغرب في انتظار التعليمات التي سيصدرها هو شخصيا بصفته الرئيس ويقومون بتدريب من لم يستطع السفر الى سوريا من أعضاء الخلايا، ثم سيتم تكوين خلايا للقيام بأعمال إرهابية في المدن بمجرد صدور الإشارة فتنشب حرب عصابات في بعض أطراف المملكة لم يحدد أماكنها، وبهذه الأعمال المتناسقة يتم القضاء على النظام القائم وإقامة جمهورية اشتراكية يتولى هو تسييرها ثم طلب منه البحث عن عناصر من الدار البيضاء لتقي التدريب في سوريا ومواصلة الاتصال بدهكون للاطلاع على سير الأمور، وقال إنه أجرى في اليوم التالي اتصالا آخر مع البصري الذي كان مرفوقا بدهكون وان البصري وجه لوما لدهكون على الطريقة التي اختار بها المتدربين محذرا إياه من ذلك، ولافتا نظره الى أن المنظمة في حاجة إلى الكيف أكثر من الكم للنجاح في مهمتها، وقال له انه كلف المتهم نفسه بالبحث عن الأشخاص الصالحين لتلقي التدريب من الدار البيضاء، وان عليه أن يبقى على اتصال به، وبعد أن تسلم من دهكون الحقيبة التي دفعها إليه في بيروت إثر مغادرة البصري لهما والمذاكرة في ما راج بينهما وبين البصري قضيا بقية يومهما في الفسحة ثم افترقا? وفي اليوم التالي، عاد الى المغرب عن طريق الجو، وفي أواخر شهر أكتوبر جاءه دهكون وسأله عما إذا كان قد وجد أشخاصا لتكوين الخلايا وتلقي التدريب في سوريا، فأجابه بأنه لم يفعل لكونه كان منشغلا بمسائله الخاصة منذ رجوعه من سفره، فنصحه دهكون بالتزام الحذر حتى لا يقع في نفس الأخطاء التي ارتكبها هو? وان دهكون زاره بعد ذلك عدة مرات للسؤال في نفس الموضوع، فكان يجيبه بأنه لم يستطع بعد القيام بما التزم به لعدم ثقته في من يختبر آراءهم في الموضوع».
سوء اختيار عناصر العمل المسلح! أول مرة نسمع انتقادا من هذا النوع في حق عمر دهكون، ولعل مبرره هو الرغبة القوية لدى الشهيد عمر دهكون على حرق المراحل والمسح البشري الواسع، بهدف تحقيق أكبر امتداد تنظيمي لفكرة الثورة.
التنظيم المسلح، البدايات والمواجهة 
مع الشرطة تخلق سبعة قتلى


ضمت الخلية السلاوية لعمر دهكون بالاضافة الى الاستاذ توفيق الادريسي، المناضل كوار الحسين بن صالح (واسمه الحركي السعدي)، والاخ حسين كوار الان مناضل تقدمي في صفوف منظمة العمل الديمقراطي، ويستفاد من الوثائق التي حصلنا عليها عن تلك الفترة، ان عمر دهكون الملقب بزهير - اتصل به في ماي 1969 .. واطلعه على قرار «المسؤولين عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بأنهم قرروا تغيير تجاه الحزب، وبعدها التحق بالمنظمة السرية المكلفة بتنفيذ التوجه الثوري الجدي» الذي كان العديد من شباب و مقاومي الحزب واطره المثقفة يبحثون له عن تجسيد عملي، وبالفعل سافر الحسين بمعية اعضاء الخلية الذين ذكرناهم في السابق الى باريس، ومثلهم توجه الى سوريا، وبالضبط الى معسكر عين بيضاء حيث تلقى كمن سبقوه والذين جاؤوا بعده التدريب العسكري والتكوين السياسي والنظري على الخصوص والذي كان يقوم به اساسا محمود (محمد بنونة) ولما عاد، مثل الكثيرين لم يقيض له اللقاء مجددا بعمر دهكون الا لماما، و اخبره هذا الاخير انه ينتظر التعليمات التي سترد عليه من المسؤولين» ويتضح بلاشك ان لحظة الكمون السابق للانطلاق كانت سمة عامة ومشتركة في كل التصريحات التي استقيناها من اصحابها او من وثائق تلك الفترة.
ومن بين اعضاء الخلية، تكلف بعض المثقفين باعطاء دروس تكوينية للتهييء النفسي والاعداد الذهني للانتقال الى الكفاح المسلح، وغالبا ما كان هذا التكوين إعادة وتصريفا للتكوين الذي تلقاه المكونون في معسكرات التدريب بالجزائر وسوريا، وتلك هي حالة راشدي مصطفى (طلال) الذي كان يعطي دروسا في الثورة الى اعضاء حزب الاتحاد ولاعضاء الخلايا السرية، قصد تهييئهم لممارسة التدريب العسكري، وقد كان - مثلا - يتوجه اسبوعيا صحبة محمد عواد - كندا لالقاء هذه الدروس في بيته.
وبخصوص التكوين النظري، فمن الواضح ان كل خلية كان لها مؤطر، يخضع بدوره لتكوين عسكري، وبالاقتصار على الخلايا التي ورثها عمر دهكون عن فترة شيخ العرب نجد انها كانت تتلقى تكوينا مستمرا، الى حدود 1969، وبعد ذلك تغيرت الظروف، بعد اعتقالات محاكمة مراكش الشهيرة والتي غيرت من سلوك المناضلين السريين، كما غيرت من التركيبة البشرية للخلايا.
عمل دهكون ايضا على تكوين خلايا بسلا والرباط، خلال سنة 1969 و 1970 ، كانت خلايا سلا تضم كلا من توفيق الادريسي، والصدقاوي عبد السلام، والرباطي ابراهيم وادريس خروج، واوعزة محمد بن الحسين والروداني محمد وصولج محمد بن احمد، ولكل واحد منهما قصة تتراوح بين الاستقطاب المباشر او الاستقطاب غير المباشر، على مدد متباعدة، بعضها يعود الى سنة 1957 والبعض الاخر الى فترات ما بعد 1969 ومواصلة العمل السري بعد اصدار الحكم غيابيا ضد عمر دهكون في محاكمة مراكش ب 20 سنة سجنا.
وفي الفترات الممتدة من 1964 الى حين محاكمة مراكش ظل عمر دهكون يتنقل من دولة الى أخرى، سواء في أوربا أو في العالم العربي، وحكى لنا عباس بودرقة أن عمر دهكون كان يزوره في فرنسا، كما يؤكد رفيقه أزغار محمد هذه المعطيات، وكذا الرسائل التي وجهها إلى عائلته، ومن الواضح أنه كان كثير التنقل، كما أنه كان كثير التخفي، لاسيما بعد صدور الحكم.
يقول عباس بودرقة: «عرفت من بين أعضاء خلاياه، أفراد خلية مصطفى يوس وهو من فجيج، وقد أعدم في سنة 1973 بعد محاكمات قضية مولاي بوعزة، وعلي بوشوا خياط، والمهتدي الذي أعدم كما هو معروف»، والذي تم «الاحتفاظ» به إلى حين محاكمة الفوج الثاني». وهذه قصة سنعود إليها في ما بعد إبان تناول قضية مولاي بوعزة بالتفصيل الممكن ومحاكمة أفرادها.»
وبالرجوع الى المعطيات الخاصة بكل منهما، فإن أغلبهم من رفاق الدراسة، تتقارب تواريخ انضمامهم الى العمل السري، وقد تكون أغلبهم في أجواء ما بعد اعتقالات 1963 ومؤامرة يوليوز، وعاشوا نهاية شيخ العرب ومصادرة حريات الرأي والتجمع والتنظيم و»استحالة» العمل السياسي الشرعي.
التنظيم السري
السؤال الواجب وضعه، هو كيف جاءت المنظمة السرية التي كان عمر دهكون يدعو إليها؟ هل كان منذ البداية في لحظة تأسيسها؟ أم ساهم في امتدادها العملي والتنظيمي؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة قليلا الى الوراء» ونقتصر على سنة 1963.
بعد محاكمات 1963، وماتلاها من تعذيب واعتقالات وقصف حقوقي، أصبح مؤشر الخروج عن الإطار المؤسساتي يميل أكثر نحو المد الثوري العالمي» الذي كان يتنامى مع تحقيق الدول المستعمرة لاستقلالاتها الوطنية، وفر العديد من المناضلين الاتحاديين في بداية الستينيات الى المنافي العربية والأوربية? وكان من بينهم مولاي عبد السلام الجبلي (البشير) والحسين الخضار (جلول) والأخضر بارو، وعمر العطاوي وابراهيم التيزنيتي (النمري) وبوراس الفيجيجي والحسين صغير (عمر) وعبد الله الدكالي، وشيخ العرب، وبعد توالي سياسة الكماشة الحديدية، واندلاع حرب الرمال، تقرر أن الوقت قد حان للشروع في العمل الجدي»، وبالنسبة لمحمد اجار (سعيد بونعيلات) فقد ربط الاتصال بضابط بالجزائر يدعى عبد العالي ومنذ ذلك الوقت بدأ التجنيد والتدريب للمغاربة الموجودين بالجارة الشرقية، ومنهم الاتحاديون الذين سلموا في يوليوز 1964 وأعدموا، أو قيل وقتها أنهم تسللوا عن طريق بركان وسيدي بوبكر للقيام بأعمال مسلحة.
في غشت في نفس السنة عقد اجتماع حضره الى جانب سعيد بونعيلات، بنحمو والفقير محمد، وتقررت فيه مواصلة التدريب بالجزائر رغم ما حدث لمن سلموا أو «تسربوا».
وتجدر الإشارة إلى أن تلك الفترة عرفت، خلافات في وجهات النظر بين الحسين الخضار (البشير) وبنحمو وتأثرت «المنظمة» السرية آنذاك بأجواء الخلاف مما أثر بطبيعة الحال على مردودية مناضليها، سواء في الداخل أو في الخارج? ويتضح من خلال الاتصالات بأن أسباب الخلاف كانت كثيرة، ولعل الخلاف الجوهري تعلق بتوقيت العمل المسلح في المغرب، وكذا حياة المنفيين المنتمين إلى المنظمة والمعارضة المسلحة في الخارج.
في تلك الأثناء، من 63 إلى 65، حدث حدثان مهمان، أولهما اغتيال شيخ العرب بعد مواجهة مسلحة مع رجال الأمن والثاني اغتيال المهدي بن بركة بالنسبة لقصة شيخ العرب التي انتهت صبيحة يوم 7 غشت 1964، وفي ذلك الصباح كان أحد رفاقه، أحمد أوزي، قد انهار وخرج من البيت الذي كان يأوي شيخ العرب ورفيقه المرحوم الحلاوي، بذريعة التوجه إلى الحمام، لكنه توجه الى مركز الشرطة ليطلع رجال الأمن على مختلف العناوين التي كان شيخ العرب ورفاقه يأوون إليها، وهكذا تمت محاصرة ثلاثة منازل، اعتقل أصحاب المنزل الأول بدون مواجهة، في حين لقيت قوات الأمن مواجهة عنيفة في المنزل الموجود بدرب «ميلا» حيث كان الحلاوي وأبا عقيل وبوشوا، مسلحين بالمسدسات والرشاشات والقنابل، خرج الحلاوي شاهرا مسدسين يطلق الرصاص بعد أن ظل مطاردا لمدة تزيد عن السنة جراء الحكم عليه غيابيا بالإعدام في سنة 1963، حين تمكنت الشرطة من اعتقال الآخرين بعد استعمال القنابل المسيلة للدموع وتشديد الحصار، بالنسبة لشيخ العرب ورفيقه أزناك أحمد الملقب بالنجار، أحد أفراد القوات المساعدة، فقد رفضا تسليم أنفسهما وظلا يقاتلان الى آخر رمق.
ولابد من العودة الى الوراء لوضع قضية شيخ العرب في سياقها، منذ استقلال البلاد، فقد كان أحمد أكوليز ـ اسمه الحقيقي ـ يرى بأن الاستقلال لم ينصف البلاد والعباد، بل أعاد «الخونة» وخدام الاستعمار والمحظوظين وضعاف النفوس الى الواجهة من جديد، أضف الى ذلك ما وقع من حل لجيش التحرير وإدماج عناصره الى الجيش النظامي إلى جانب عناصر من الجيش الفرنسي، وأحداث الريف، ومحاكمة حمو الفواخري ومن معه، وقرَّ قَرارُ شيخ العرب، بعد مؤامرة يوليوز 1963 على الاستقرار بالجزائر وبتندوف بالضبط، وهناك عمل، كما سبق الذكر على تجنيد وتنظيم المغاربة الموجودين هناك إلى جانب مقاومين آخرين من بينهم عبد الإله الجبلي ومحمد بنسعيد أيت يَدّر إلخ.
اعتقل شيخ العرب بوهران في ظروف لم تتضح كل ملابساتها الى حد الآن، فكان رد فعله أن غادر الجزائر ودخل المغرب مع بداية 1964 لتنظيم الكفاح المسلح بالداخل، وهكذا ربط الاتصال بالمناطق الجنوبية مراكش وبني ملال إلخ، وحدث وقتها أن تسلل حوالي مائة مناضل للمنظمة في فبراير 64 بقيادة الكولونيل بنحمو المسفيوي، واعتقل البعض منهم، فتبين للشرطة أن شيخ العرب قد دخل الى المغرب وهو يوجد بالداخل لتنظيم الكفاح المسلح، وبدأت المطاردة وأصبحت صور شيخ العرب على كل الجدران في البلاد، وفي مخافر الشرطة إلى أن كانت النهاية يوم 7 غشت 1964.
من هو شيخ العرب؟ أحمد أكوليز مقاوم عنيد دخل المقاومة المسلحة في بداية الخمسينات واعتقل لمدة سنتين قبل أن يطلق سراحه، ومع بداية الاستقلال، اختار لنفسه الخط الجذري، وتنسب له عملية 7 يونيو 64 تم فيها اغتيال 3 من رجال الشرطة بإحدى الفيلات بالدار البيضاء حاولوا اعتقاله، وبعد أسبوع اشتبك بالرصاص مع أحد رجال الأمن واستطاع الفرار من متابعته، كما نسبت إليه الأسلحة التي وجدت في بيت أحد الفرنسيين بالدار البيضاء حيث كانت أخته تعمل كـ «خادمة».
وشاية تؤدي إلى اكتشاف المنظمة السرية والخلايا المسلحة

مع سقوط شيخ العرب صباح ذلك اليوم القائظ من غشت 1964، لم ينته العمل السري، بل استعملت أسلحة مجموعته ومعداتها بعد سنة 1964 ضمن خلايا عمر دهكون،
وتواصل الإشراف من قيادة الخارج، واستمر معها تدريب وتكوين أفواج المقاتلين الحالمين بالتغيير الراديكالي، وانضم الى الرعيل الأول من المقاومين جيل جديد من الشباب الثوري، أو من الذين وجدوا الحقل السياسي في البلاد موصدا والمفسدين يعيثون في الأرض ولا رادع لهم،
وبدأ المتمرنون عسكريا يصلون الى المغرب تباعا، يؤسسون الخلايا السرية ويستقطبون عناصر جديدة، وتوالت الانخراطات، والتداريب العسكرية في المنازل وفي الأماكن الخالية في القرى والمدن، وظلت القيادة على اتصال بالرسائل المكتوبة بماء الليمون كحبر سري أو بالتلفون، وقامت الخلايا المكونة في مناطق عديدة من المغرب بعدة أنشطة مسلحة، هدفت الى تصفية المتعاونين آنذاك مع أجهزة القمع أو مراكز السلطة والقرار.
ولعل من المحبذ القول، أن التنظيم السري شمل خريطة الوطن، ولم يقتصر على المحور البيضاوي، وهكذا شمل كل من المغرب الشرقي (وجدة، بركان، فجيج)، كما امتدت خلايا المنظمة الى الجنوب ومدنه (مراكش ـ أمزميز ـ أكادير..)، وجبال الأطلس وسهوبها بكلميمة وخنيفرة، والتي عرفت أحداث المواجهات المسلحة، كما سيأتي ذكره لاحقا.
ومن الثابت أن اغتيال الشهيد المهدي بن بركة في أكتوبر 65 وما سبقها من أحداث دامية في مارس 1965 بالدار البيضاء، وما تلا ذلك كله من حالة طوارىء، فرض على القوى السياسية والتقدمية على الخصوص العمل بالتقية، وسلوك السرية في الاستقطاب وافتراض الخيارات الممكنة، وتزامن ذلك أيضا مع التفكير في تحويل الاتحاد من تيار جماهيري عارم وعائم أيضا إلى قوة منظمة ومهيكلة ذات بنية تنظيمية وخط إيديولوجي محددين.
لكن الإرادة المسؤولة للمقموع لا تكون ذريعة قوية للقامع في سلوك طريق المسؤولية بالضرورة، وهذا ما جعل التركيبة الحاكمة في تلك الفترة العاصفة من تاريخ المغرب، تدخل في رهان قوة ضد قوى المقاومة وحركة التحرير الشعبية، ولا تترك خيارا آخر سوى الصراع الشرس.
وعلى كل، ظلت المنظمة السرية تعمل في خفاء تام ـ أو هكذا خيل الى مناضليها من الاتحاديين آنذاك ـ إلى أن شق المناضي ابراهيم عصا السرية واتصل بمصالح الأمن بالدار البيضاء وكشف عن انتمائه الى الخلايا السرية المسلحة، وأعطى أسماء أعضائها ومؤطريها في مدينة مراكش على الخصوص، وكشف المناضي، باجتهاد المفزوعين، عن أسرار كثيرة وأسماء وتواريخ عديدة، خصوصا وأنه كان أحد العاملين في التنظيم الموازي، وبناء على ذلك، وكما كان متوقعا، اشتغلت الآلة البوليسية، وكانت البداية من المناضي نفسه.
وابراهيم المناضي بن محمد من مواليد تزكي بأمزميز، فلاح، كان عمره في ذلك اليوم 16 دجنبر 1969 لا يتجاوز 43 سنة، كان متزوجا له خمسة أولاد? وحكى المناضي أن أحد مناضلي الاتحاد في تلك السنة ربط له علاقة مع الحبيب الفرقاني «المدعو الغيغائي»، والذي عرفت المحاكمة فيما بعد باسمه، إلى جانب مؤامرة مدريد ومحاكمة مراكش الكبرى، وفي هذا اللقاء، كما يبدو، حدثه الفرقاني الذي كان يتحمل وقتها مسؤولية الكاتب العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش، عن وجود التنظيم السري والجدي، وعرض عليه الانضمام الى الأفق الجديد للعمل الثوري، ولم يتردد المناضي في التعامل بإيجابية مع العرض و «اجتهد» في تكوين ثلاث خلايا بأمزميز وبدأ السهر الجماعي على تكوينها نظريا وتهييئها سيكولوجيا، الى حين وصل «شُجار عبد الرحمان» من معارك الجبهة الفلسطينية وغبار الزبداني ، وقد جاء محملا بسلاح أوتوماتيكي، أو على الأقل هذا ما علم به المناضي المرتد في عرف العمل الكفاحي، وسهر على تدريب أعضاء الخلايا الثلاث، وهم 9 أفراد في المجموع، على استعمال هذا السلاح وأعطاهم أيضا دروسا في حرب المدن وقيادة الثورة وكيفية التعامل مع القوات العسكرية والقوى العاملة معها.
وانطلق مسلسل الاعتقالات، والاعترافات المنتزعة بالقوة والدم، ولا يمكن إلا أن نقول مع أندري مالرو «المجد لمن خضعوا للتعذيب، لكن المجد أيضا لمن عذبوا واعترفوا»، حينما نعلم القيامة التي اشتعلت في عضلات المقاتلين في أقبية العهد الأوفقيري،
ويستشف من تلك الفترة أن التأطير السري شمل دمنات ومراكش المدينة نفسها، كما امتدت الى البيضاء ونواحيها، خارج خلايا عمر دهكون في إطار تشكيل البؤر الثورية في المدن على أساس تقديم الدعم لخلايا حرب البوادي والجبال التي ستكون مهد الثورة، كما كانت أدبيات حرب العصابات تدعو الى ذلك، حسب ما وصلت إليه الدراسة الثورية للحالة المغربية آنذاك.
في محاكمة مراكش، وبعد وشاية المناضي، عرفت الأجهزة الحاكمة بوجود المنظمة وهيكلها التنظيمي، وإن ظلت قيادتها المركزية بالخارج تتنقل بين الجزائر وسوريا وليبيا أيضا، كما اتضح وجود ثلاث لجن مركزية تهتم الأولى بالشؤون المالية والثانية بالاعلام، أما اللجنة الثالثة، فقد كانت مهمتها العناية «بالعلاقات مع المغرب»!
بعد انقلاب 19 يونيو 1965، الذي أطاح فيه الهواري بومدين بالرئيس أحمد بن بلة، والذي أفرز ما سمته بعض الأدبيات التقدمية في المغرب «بالنظام نصف تقدمي، نصف فاشستي»، تغيرت مواقف السلطات الجزائرية بعض الشيء، وعلى الأقل جزء من القيادة السياسية والعسكرية، وتم نقل جزء من قيادة التنظيم الى العاصمة الجزائرية، وبدأت، كما صرح سعيد بونعيلات، بعض مضايقات من طرف السلطة الجزائرية، كما لاحظ تغييرا في موقفها بالنسبة للنشاط الذي يقوم به بمعية رفاقه على أرضها». ولعل الدعم السوري لنشاط المنظمة جاء في هذا السياق، كما جاء الانتقال الى مدريد، ولهذا أيضا سميت نفس القضية «بمؤامرة مدريد» وذلك ما حدث حين تقرر انتقال العديد من أطر الاتحاد «المسلحين» الى العاصمة الاسبانية في أجواء ماي 1968 والهدير الثوري الذي كان قد دوى في أنحاء المعمور وفي رؤوس الشبان الجموحين.
وانتقال جزء من القيادة العامة، في تقديرنا، إلى مدريد ربما أملته ضرورات الاقتراب الشمالي من حدود المغرب، وتسهيل الإشراف على تسرب المجندين عبر مليلية وسبتة المحتلتين، وسيتضح لاحقا مع توالي تسرب المناضلين وتبادل الرسائل ما بين قيادة الخارج وخلايا الداخل، ولاسيما تنظيمات المغرب الشرقي جدوى هذا الانتقال.
كما أسعف انتقال جزء من المؤطرين القياديين الى بلاد الموريسكيين في استقطاب جزء من رجال الأمن، سواء في الحدود بين مليلية وبني أنصار، أو في مطار وجدة أو على الحدود الشرقية، حيث يسهل التنقل من شرق البلاد إلى شمالها إلى الخارج عبر طريق مقتصر عوض المرور بالعاصمة المغربية.
وسيتبين أن مدريد أصبحت مركزا أساسيا وقبلة يحج إليها أعضاء القيادة، كما يقيم بها، في منازل مكتراة، بعض أطرها الدائمين، بعد أن مروا بمعسكرات الجزائر وسوريا ومواقع الفدائيين.
محمد بن سعيد عرض عليَّ الكفاح المسلح والبصري أقنعني به.. لأن تصفية أوفقير واجبة!

تفرعت المنظمة السرية وأصبحت لها امتدادات وجيوب للعمل في كافة التراب الوطني، وقد اختلفت قوة الحضور من جهة الى أخرى، حسب عدة معايير، لعل الأساس فيها هو قوة تواجد المقاومة وجيش التحرير، ومدى ترسخ الفعل النضالي تاريخيا، كما هو الحال في أقاليم الجنوب والأطلس، حيث يظهر أن الأغلبية الساحقة من مناضلي الخلايا المسلحة كانوا من المقاومين أو أبناء المقاومين، حتى إن من ضمن مَن مثلوا في محاكمة يونيو 1973 الشهيرة بمحاكمة القنيطرة العسكرية، والتي جاءت على إثر أحداث مولاي بوعزة، كان هناك مناضلون ناهزت أعمارهم الثمانين سنة.
علاوة على معيار البعد الوطني للمقاومة في المناطق التي ضربت فيها المنظمة السرية جذورها، هناك أيضا القرب من الحدود وسهولة التسرب والتأطير، انطلاقا من الجزائر وإسبانيا، كما هو حال المنطقة الشرقية، من وجدة الى الناظور، وهي المناطق التي شكلت الحلقة الوسطى في العبور إلى الوطن الثائر، سواء من بوابة فجيج أو وجدة أحفير وسيدي بوبكر أو بني أنصار الناظور.. إلخ.
وفي المقابل، عرفت الدار البيضاء، تمركزا قويا لخلايا المدن الى جانب آسفي ومراكش وأكادير، ويبدو من مصادر متطابقة أن العمل المسلح في المدن كان المطلوب منه هو ضمان التغطية والامتداد الطبيعيين لعمل الثورة في الجبال، انطلاقا من خنيفرة وكلميمة في المنحدر الجنوبي للأطلس، ومن الثابت لامحالة أن عمر دهكون كان العقل الرئيسي في تدبير الجانب الحضري للثورة، وكان هو المشرف على بناء الأداة الثورية في انتظار هبّة الجبال،
كيف كانت بدايته في هذا المجال.
عندما انقطع عمر دهكون عن الدراسة بثانوية النهضة، ولم يحصل بعد على البكالوريا، في يوليوز 1964، كان عمره يقارب 28 سنة. وبعد انقطاعه الدراسي، توجه الى الخارج: فرنسا ثم ألمانيا، إذ بعد شهر تقريبا من هذا التاريخ أرسل رسالة من باريس الى عائلته، مؤرخة بـ 64/8/17? الرسالة عادية، تشبه كل الرسائل الصادرة عن شاب منشغل بقضايا عائلته، يطلعها على ما جد في يومه المعيش كمثل قوله: «أما أخينا عبد الرحمان فقد ودعته يوم 64/8/1 على أمل السفر الى ألمانيا، لكن رسالة مستعجلة من الأخ منصور يخبرني فيها أنه سيأتي الى فرنسا لاجتياز تدريب في مدينة ديجون البعيدة عن باريس بما يقرب من 500 كلم، وأجد نفسي مضطرا لأن أبقى عند الصديق أزغار الى 25 أو 64/8/27 حيث سأسافر مع الأخ منصور الى ألمانيا»، وفي الرسالة أيضا بُعد حميمي يكشف عن طبيعة علاقته مع عائلته، ولاسيما في جانب العناية المادية بأحوالها والحدب العائي الواضح مثلا في قوله: «صديقي أزغار يشتغل بدار المغرب مكلفا بالهاتف وقد نبت عنه يوم السبت والأحد الماضيين وقبضت خلالها 5500 فرنك، وها أني أرسلت إليكم هذا الصباح 4000 ف عن طريق البريد.. ويضيف على نفس المنوال: «وأخي ابراهيم بالخصوص هل كتب الى السكك الحديدية أم لا؟ هل اجتاز امتحان المياه والغابات أم لا؟ ذلك الامتحان الذي كان مقررا يوم 7/24..» إلخ.
يبدو دهكون في تلك الفترة شخصا منشغلا بشؤون عائلة كثيرة الأفراد، شغله الشاغل مستقبلهم وسعادتهم، علاقته بهم بسيطة وعميقة في نفس الوقت، يحكي تفاصيل يومه كمن يحدس أن عليه أن يضاعف وجوده بالكتابة، لأنه لن يطول في أقل من سنة، سيدخل منعطفا حادا، على تماس جارح مع فترة الغليان السياسي والنضالي لم تضع أوزارها إلا في غبش تلك الصبيحة الباردة من نونبر 1973، عندما دوّت رشقات الرصاص بسجن القنيطرة.
قبل ذلك، توجه دهكون عمر الى الجزائر أول مرة في أواخر أحداث 1965، وقتها كان مجرد مناضل ثوري في صفوف طلبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى أن جاء رفاقه، مع فارق بسيط أنه لم يعد طالبا منذ يوليوز 64، وبالجزائر التقى بمحمد بنسعيد الشتوكي المقاوم وهناك حدثه عن الوضع الذي يوجد عليه المغرب كما «تحدث لي عن أحداث 1965 الطلابية ـ كما صرح عمر دهكون يوم 25 يونيو 1973 أمام المحكمة العسكرية واتضحت وحدة الرؤية وانسجام الأفكار بين مقاوم عنيد تربى في عراك جيش التحرير والمقاومة، وطالب شاب كان عمره لا يتجاوز عشرين ربيعا عندما غادر أبناء «إيريك لوبون» تراب المغرب الأقصى.
يقول عمر دهكون: «عرض علي المقاوم الشتوكي (أيت يدر) الانخراط في منظمة سرية للقيام بأعمال مسلحة لضرب الخونة والأيادي الخفية التي تقوم بتهريب الأموال الى الخارج، ومعها أياد أجنبية وصهيونية، لم أقبل في بداية الأمر..» 
وبينما الشهيد دهكون في الجزائر في تلك السنة القائظة من تاريخ المغرب المعاصر، علم بالعفو الصادر في حق الإخوة أعضاء المقاومة، كما يسمى هو نفسه ذلك، طلب منه الشتوكي بنسعيد الاتصال بالبصري بعد عودته الى المغرب، وكذلك كان، خصوصا وأن عمر دهكون رحمه الله كان عضوا نشيطا في الشبيبة من 65 الى 30 يوليوز 1966، تاريخ الانعطافة الكبرى، وفي المقر: وجدت الفقيه البصري يضيف عمر دهكون لقاضي جلسة يونيو 73، السيد محمد عبد الرحمان اللعبي لكن الفقيه طلب مني اللقاء خارج مقر الحزب، فعند اللقاء بأحد شواطىء الدار البيضاء، وهناك طرح الفقيه السؤال التالي على عمر دهكون:
ـ «يا عمر، ما رأيك في أن شخصا مسؤولا في الحكومة المغربية شارك في اغتيال زعيم مغربي وله يد طولى في هذا الاغتيال».
لزم عمر دهكون الصمت، ثم فكر وقدّر، ثم فكر وقدّر، وأدرك أن الأمر يتعلق بالمهدي بنبركة، أما الشخص الثاني، فهو الجنرال أوفقير، فكان جوابه حاسما، لا تردد فيه: «إذا ثبت أن هذه الشخصية وراء الاغتيال لابد أن تجتمع محكمة شعبية لمحاكمته».
افترق الرجلان بعد أن سلم عمر دهكون لصاحبه عنوانه في «ضريح بسلا» لعله ضريح مول الكمري، الذي كان يقطنه بمعية رفاقه السابقين، حاول القاضي في تلك الجلسة أن يحيل عمر على العمل المنظم والمؤسساتي وأراد أن ينبهه الى أن «السلطة كانت موجودة في 65 و 66» وعليها أن تنظر في مثل قضية الاغتيال، لكن جواب المرحوم دهكون كان قاطعا، حادا ينم عن قوة اقتناعه بالمسرى الجديد لعمله النضالي: «لقد اتخذت موقفي على أساس أن شخصا موجودا في تلك السلطة ولا يُحاكم، ولما اقتنعت في أواخر 1966 تحملت المسؤولية داخل المنظمة على أساس أنني سأقتفي خطوات أوفقير وألاحقه، وأعترف لو أنني وجدته أمامي لقتلته واقتناعي هذا منبثق من أن أوفقير مسؤول عن اختطاف المهدي وكانت المسؤولية التي كنت مقتنعا بها هي أن تصفية أوفقير واجبة ريثما أرى أي عمل أقوم به وأنا لا أقوم بأي عمل إلا إذا اقتنعت به وعلى أساس ألا يمس الأبرياء».
يمكن اعتبار سنة 1966، بداية الانخراط الفعلي لعمر دهكون في العمل السري والتهييء للثورة المسلحة وحرب المدن، وبدأ عمله من أجل توسيع التنظيم، عبر معارفه الجدد ولاسيما منهم الطلبة، كالمهتدي الذي أعدم بدوره، بعد أن ظن لفترة ما أن شهادته ضد رفاقه ستأتيه بالإعفاء من التهمة، كما حدث للمناضي ابراهيم في محاكمة مراكش.
في نفس السنة، وبالضبط في اليوم الرابع والعشرين من دجنبر، وصلت عمر دهكون رسالة من وهران بالغرب الجزائري، أرسلها صديقه الطالب أحمد تفسكا، ولعل موضوعها كان هو الدعوة الى القيام بزيارة في إطار الانخراط العملي والفعلي، تنظيما سيكولوجيا في المنظمة السرية، وهناك «اتصلت بمحمد بنسعيد الشتوكي (أيت يدر) والحسين الخطاب ـ يقول عمر دهكون أمام المحكمةـ وتدارسنا قضية اختيار بعض العناصر للتدريب العسكري.
بداية التداريب، والجوازات المزورة.. ومطاردة البوليس

بعد سفر عمر دهكون، رحمه الله، الى الجزائر مع نهاية 1966 بناء على رسالة من أحد أصدقائه ولقائه مع المقاومين محمد بنسعيد الشتوكي والحسين الخطاب تحدثوا عن تكوين عناصر مسلحة، وفي مارس 1967، وقبل شهرين و 3 أيام بالضبط من النكسة التي أصابت المد القومي بقيادة عبد الناصر، توجه عمر دهكون الى باريس بعد أن كان لقاؤه مع بنسعيد الشتوكي قد أسفر عن ضرورة اللقاء مع الفقيه البصري وتعميق النظر في تدريب عناصر جديدة لدعم الثورة الفلسطينية.
ولابد من القول، إن سنة 1967، التي عرفت بسنة النكسة أو الهزيمة (6 يونيو) بعد هجوم جوي اسرائيلي على الطائرات الحربية المصرية قبل إقلاعها في ما عرف بحرب الأيام الستة? كانت سنة المخاضات الكبرى، إذ لم تمر وقتها سوى سنتين (فاتح يناير 1965) على انطلاق الشرارة الأولى لحركة التحرير الفلسطينية (فتح)، كما عرفت تلك اللحظة توهج الخطاب القومي الداعي الى المنازلة الكبرى مع اسرائيل، قبل أن تصب هذه الأخيرة دلو الماء المثلج على الأمة التي أصاب مفاصلها روماتيزم عاطفي وسياسي مهول.
وفي هذا السياق، كان للعنصر «الخارجي» ممثلا في ارتفاع لواء المواجهة الشاملة، على المستويين القومي والعالمي، لسلك محاور جديدة ضد «الامبريالية وربيبتها الصهيونية»، دور محوري في اهتبال سلوك ثوري جديد في مواجهة «الأنظمة الرجعية والعميلة» ومنها الأنظمة العربية.
وتأسيسا على هذا، يكون التفكير في الخيار الثوري، اختيارا منطقيا، ولاسيما إذا أضفنا إليه المحركات الداخلية وصراع الشرعيات في الساحة الوطنية المغربية، وكانت القضية الفلسطينية في خضم هذا الغليان نقطة تقاطع بين الوطني والقومي والأممي، وأصبحت لدى المغاربة ومازالت قضية وطنية، لا يمكن للفاعل السياسي أن يتناول الهم الوطني أو المحلي دون الوصول إلى أم القضايا: فلسطين، ومن الطبيعي أن تكون أرض الزيتون «صرّة» الوعي الثوري ومحكه وعنصر اشتعاله الأول والدائم.
وفي هذا السياق، عرض الشهيد دهكون على قيادة الخارج العناصر التي اقترحها للتدريب، والتي تم الحديث حولها في 3 مارس 1967، وكان أول من توجه معهما الى باريس ومن ثم الى الجزائر، كما سبق الذكر في الحلقات السابقة، عناصر ضمن خلايا شيخ العرب التي ظلت كامنة منذ وفاة الشيخ أحمد أكوليز، ولم تمر على سفر 3 مارس 1967 أقل من 20 يوما حتى عاد عمر دهكون مجددا الى العاصمة الفرنسية، بعد أن جند عناصر جديدة للمشاركة في التدريب من بين أصدقائه في المدرسة وعمال أصدقاء في البرنوصي، في هذه السفرية استعمل عمر دهكون اسما مستعارا، من بين أسمائه المستعارة العديدة أنور محمد، على جواز سفر مزور جاءه من باريس، وهو الجواز نفسه الذي عثرت عليه الشرطة بتاريخ 15 أبريل 1969، أي بعد مرور قرابة سنتين في منزل بويفر العربي، أحد أعضاء خلية سلا والذين جندهم عمر دهكون بعد اتصالاته بباريس ووهران، وكان جواز السفر هذا (رقم 300/69)، الذي قال عمر رحمه الله أنه توصل به من باريس، (بعد معالجته!) صادرا عن القنصلية المغربية «ببورد» (شمال) ويحمل اسم أنور محمد المزداد بالدار البيضاء سنة 1933.
في هذه الرحلة صاحب عمر دهكون الى باريس، ومن ثمة الى وهران حسين أمارير عامل كوزيمار ولحسن عامل الكتان وابراهيم بن الجيلالي المعروف بالسيكلسيت، ودام التدريب ما بين 45 و 48 يوما، تمرن خلالها القادمون ومن سبقوهم على مسدسات صينية وأخرى فرنسية وبنادق 36 م وماط 49، وعن تلك الفترة روى عمر دهكون للمحكمة بقوله: «رجعت من الجزائر عن طريق باريس، و اتصلت بالبصري وكان رجوعي حوالي منتصف أكتوبر، تحدثنا في مسائل تهم التدريب وفي ما ستفعله العناصر المدربة، وكان هدفنا هو أن نعمل في المغرب، إذا ما زودنا البصري بالأسلحة، لكنه لم يزودني بأي شيء منها».
خارج تنقلاته الى الخارج، ظل عمر دهكون في الفترة ما بين أكتوبر 67 وأكتوبر 69 يعيش موزعا بين سلا والدار البيضاء، وفي ما بين التاريخين، تلقى في ماي 69 رسالة من باريس موضوعها ترشيح عناصر جديدة للتطوع والتداريب لصالح القضية الفلسطينية، وهكذا اتصل عمر دهكون بالعمال والطلبة والمعلمين الذين كان له اتصال بهم وقد ذكرهم هو نفسه في محاكمته سنة 1973 وهم «الورادي محمد، ابراهيم الرباطي، بوعزة درويش، عبد الكامل الزاوي، توفيق الادريسي، مصطفى الرونزي والحبيب نوار».
ولكل واحد من الذين ذكرهم دهكون قصة تروى، تكاد تكون أحيانا على طرفي نقيض من قصة الآخر، فالورادي مثلا ـ سنحكي قصته بالتفصيل فيما بعد ـ تدرب بالفعل في سوريا لكنه (باع) وقرر عمر دهكون تصفيته وكانت المحاولة يوم 29 دجنبر 1972 بمدينة سلا، في حين أن قصة بوعزة درويش انتهت بشكل مأساوي في اعتقالات مراكش وعرف الباقي مصائر مخالفة،
على كل، سافرت الأسماء المذكورة ما بين أواخر يونيو و 13 يوليوز 1969 للتدريب، وكان عمر دهكون صحبة المسافرين إلى أن عاد في أكتوبر من نفس السنة.
في 16 دجنبر 1969، بدأت اعتقالات محاكمة مراكش الشهيرة بعد وشاية المناضي، وأصبحت أجهزة الأمن على علم بالمنظمة وبدور عمر دهكون فيها، كان عمر دهكون يقيم في خيرية سلا أو لدى شخص يدعى بعثمان، لا تعرف هويته ولا أهدافه ولا انخراطه في العمل المسلح، وكان دهكون وقتها يقدم له نفسه على أساس أنه يتابع «دراسة حرة».. لا أكثر ولا أقل!
في هذه الأثناء، تعرضت عائلة الفقيد للمداهمات والاعتقالات والتعذيب، ففي يوم الجمعة 26 دجنبر 1969، ولم تنقض سوى عشرة أيام على اعترافات المناضي ابراهيم، هجمت قوات الأمن مسلحة بالرشاشات والمسدسات على منزل العائلة واعتقلوا أفرادها كلهم لمدة ثلاثة أيام، وقد شمل الاعتقال والد دهكون (أحمد) ووالدته (رقية) وإخوته الحسين، وخديجة ومحمد وفاطمة زوجة أخيه عبد الله ومصطفى دهكون ابن أخيه عبد الله.
وزوال نفس اليوم، تم اختطاف كل من عبد الله وابراهيم أخويه، وقد حكى عبد الله دهكون لجريدتنا عن تلك الفترة ـ ما سماه بالاختطاف الأول ـ بقوله: «حوالي الساعة الثانية زوالا من يوم الجمعة 26 دجنبر 69، خرجت من منزلنا بالبرنوصي كعادتي، متوجها الى عملي في محطة القطار بالدار البيضاء المسافرين، وأنا أمتطي دراجتي النارية الحمراء اللون، ولما وصلت مفترق الطرق بالقرب من العمارة «العَوْجة» وقفت أمامي سيارة بيضاء من نوع بوجو ونزل منها 3 أشخاص بزي مدني ودفعوني بقوة داخلها، بينما نزع أحدهم مني الدراجة بدون أن يأخذ أوراقها، أثناء الطريق قال لي أحدهم: «ان شركتك عَمْلَت ِبكْ شكاية لأنك تسرق السجائر وتبيعها، حينذاك بدأت أفكر رغما عني ألا أشتغل في شركة التبغ ولا أدخن بتاتا، في منتصف الطريق أرغموني على الانحناء بين أرجلهم واضعين أيديهم بقوة على عنقي حتى كدت أختنق.
بعد نصف ساعة تقريبا وصلنا إلى مكان مجهول فأنزلوني من السيارة وألبسوني جلابة وغطوا وجهي بـ «قبها» داخل المكان قبض علي الأشخاص وقال أحدهم: ادفعوه وارموه في المسبح، عندما سمعت ذلك شعرت بالخوف فترددت في المشي، لكنهم جروني بقوة كالكبش يريدون بذلك تخويفي وإرهابي مسبقا، وأنا الذي لا أعرف ماذا فعلت وماذا جرى حتى أنال كل هذه التعسفات.
الجواب سيكون داخل مكان التعذيب البشع «وأنتم تعرفون تقنيته وتفاصيله بواسطة الإخوان الذين استجوبتموهم مسبقا على صفحات جريدتنا «الاتحاد الاشتراكي» فلا داعي للتذكير بها.
أول سؤال بدأوا به الاستنطاق هو حول المناضل والشهيد أخي عمر، بدأت الأسئلة تتقاطر علي مثلا: ماذا يفعل ومع منْ كان يتصل ويجتمع؟ وأين ذهب صباح الجمعة، ومن حمله الى محطة القطار بعين السبع، قائلين وأنا تحت التعذيب. «إذا أردتَ أن تجيب، ارفع أصبعك»، كيف أرفعه وأنا معلق كالكبش.! إني أجهل كل هذه الأمور وكل ما أعرفه هو أن أخي المرحوم عمر كان يتابع دراسته في ثانوية النهضة بسلا بعدما أتم تعليمه الابتدائي بمدرسة الهدى الكائنة بشارع أيت يافلمان قرب ساحة السراغنة بالدار البيضاء.
عندما أرجعوني من التعذيب، سمعت صياح وأنين أخي إبراهيم الذي كان بجانبي ولم أره، فكيف أراه وأنا في حالة يرثى لها ومعصوب العينين، مكبل اليدين بالأصفاد! حيث رموني في مكان بارد وأنتم تعرفون طقس شهر دجنبر القارس.
في تلك اللحظة، تقدم مني أحد الأشخاص وقدم لي كأسا من الشاي وقطعة من الخبز وغطاني بعدما قدم لي صورة تذكارية لعدة أفراد وقال لي: هل تعرف هذا الشخص الواقف في الوسط، إنه ابني الغائب عنا معتقدا في نفسه أنني أعرفه، لكن كيف أعرفه وأنا لا أجتمع مع أحد ولا أتكلم مع أحد في الأمور التي لا تعنيني.
في اليوم الموالي ظهرا أخرجوني ورموني فوق البساط النباتي المتواجد خارج المكان (أظن أنها حديقة) وتركوني أتدفأ بأشعة الشمس القليلة، لأنني كنت أحس بألم شديد في يدي اليمنى التي بها جروح بسبب «التعليقة» وكانت تسيل دما بلا انقطاع، بعد ذلك أتى عندي واحد من الحراس وقال لي متهكما: ماذا وقع لك ومن الذي عمل لك هذا الجرح؟ لم أجبه قط.
في يوم الأحد 12/69/28 بعد الزوال وبعد 3 أيام في ضيافتهم غير الإنسانية، أتوا بي إلى مكتبهم وسلموا لي خاتم الزوجية ـ و 60 درهما عوض 80 درهما، وعندما أرادوا أن يخرجوني من هناك قلت لهم: إنكم لم تسلموا لي دراجتي النارية، فقالوا لي: إنك مازلت تتذكرها ولم تنسها، حملوني صحبة أخي ابراهيم في سيارتهم ورمونا في نهاية شارع الحزام الكبير قرب مركب العربي الزاولي حوالي 7 مساء.
وهناك وجدت دراجتي النارية (الموبيليت).. وعدنا الى البيت ووجدنا أفراد العائلة في حالة يرثى لهم وأغمي على الجميع».
الأمن يقيم في بيته وعمر يتنكر في لباس نسوي لضمان تحركاته

دخل عمر إلى السرية المطلقة مع بداية محاكمة مراكش، ولما تبين له أنه ملاحق من طرف الشرطة، لكن عمر دهكون لم يتردد في العمل وظل يواصل تحركاته، داخل البلاد وخارجها، بانتظام المقتنع بأن المعركة متواصلة، كما لو أنه يعمل لغده، علما أن محكمة مراكش كانت قاسية معه، عند النطق بالحكم، متهمة إياه «بارتكاب جريمة الاعتداء على النظام لإقامة نظام آخر مكانه والمس بالأمن الداخلي للدولة» معتزة بأن هذه الأفعال تحرم تمتيعه بظروف التخفيف».
وفي إطار البحث عنه عانت العائلة الأمرين، فقد تم اختطاف أخويه عبد الله والحسين، في حين هاجمت قوات الأمن المدججة بالسلاح بيت العائلة، وفي شهادة محمد دهكون وصف لما حصل ليلة 26 دجنبر 1969، وعمر دهكون في سلا يومها: «كنا في البيت ننتظر عودة الاخوين لأننا لم نعرف سبب غيابهما، بقي الخوف يتملكنا حوالي الثالثة صباحا سمعنا طرقا على الباب، اقتربت بمعية والدي من الباب وما كدنا نفتحه حتى دخل ثلاثة أشخاص نجهل هوياتهم، عنوة، سارع الأول إلى الإمساك بي في حين ارتمى الثاني على أبي، ودفع الثالث الباب بقدمه، حدث هرج ومرج في الوقت ذاته نزل عدة جنود من سطح البيت وبدأ الجميع في تفتيشه وقلبوا سافل الاثاث اعلاه، وحجزوا النساء في إحدى الغرف في حين دفعونا إلى الحائط وبدأ نفس السؤال يتكرر: «فين هو عمر دهكون، فين هو عمر دهكون»، ثم توجهوا إليّ «، لقد كان بينكم، وأنت من هربته، قل أين هو..
لقد أخذته يوم الخميس على متن الدراجة النارية، قل لنا أين أخذته» وسرعان ما بدأ أحدهم ينهال عليّ بالضرب بعقب رشاشته، كان عمري وقتها 16 عاما ولا أعرف ماذا يجري، بعد ذلك بدأوا في عزل كل واحد منّا على حدة، واستنطاقه بكل الوسائل، بالكلام المعسول، بالتهديد، بالضرب، بالكلام الفاحش، فتشوا جميع الأمكنة، بل إنهم أحاطوا بدولاب قديم كنا نضع فيه أشياءنا ووجهوا نحوه الرشاشات، اعتبروا أن هناك ممرا تحته في البرنوصي، عندما لم يجدوا شيئا، لم ينصرفوا، بل مكثوا معنا طيلة ثلاثة أيام (الجمعة، السبت، الأحد) - مكث معنا ثلاثة مسلحين بينما انصرف تسعة.
وفي الوقت الذي أجبروني فيه على عدم الخروج، كانوا هم الذين يقومون بأخذ الخبز إلى الفران وشراء المواد الغذائية وكل ما نحتاجه، كنا محتجزين في بيتنا، بل أكثر من ذلك، عندما كان يزورنا بعض الناس، كانوا يدخلونهم إلى أحد البيوت ويستنطقونهم لمعرفة مكان عمر دهكون.
حين كانت والدتنا ر حمها الله تسألهم عن مصير عبد الله وابراهيم المختطفين، كان يقول لها المدعو «الحاج الشريف»: «ألله آلوالدة، ولادك راهم مع أولادي مبرعين وفرحانين مع راسهم في الفيلا ديالي» في اليوم الثالث غادروا البيت، عندها عاد عبد الله وابراهيم إلى البيت ليلا..»
ما من شك أن الشهيد دهكون كان يعلم بأن تخفيه ومطادرته سوف يجني على أهله ومعارفه ويلات العسف والاضطهاد، لكنه أيضا كان يدري أن تلك ضريبة لابد من دفعها، وواصل عمله السري، وتوسيع الدائرة التنظيمية بقدرة على التخفي والعمل الدؤوب تثير الدهشة، وظل على اتصال بكل معارفه وأصدقائه ومن تربطهم بعائلته علاقات مودة أو نضال مشترك، كما هو حال عائلة أزغار، وقد حكت لنا جميعة أزغار عن هذه العلاقة ومتانتها عدة تفاصيل، بدأت من الطفولة:
«كان عمر دهكون رحمه الله يتردد على بيتنا لأنه كان صديق أخي محمد أزغار في الدراسة حيث كانا يتابعان دراستهما في مدينة سلا وفي نهاية الأسبوع والعطل يرافق أخي الى البيت، هكذا كانت معرفتي به، لتتطور هذه العلاقة وتصبح عائلية حيث تعرفنا على عائلته وتعرفت هي علينا وأصبحت بيننا علاقة جد حميمية،
عمر رحمه الله كان له 6 اخوان وأخت واحدة وهي خديجة، مازالت تجمعني بها وبأختي الحاجة زهرة علاقة كبيرة المهم أصبح عمر كأحد أفراد العائلة وظل يتردد على بيتنا كالعادة، الى أن سمعنا بمحاكمة مراكش وأن عمر حكم عليه غيابيا بعقوبة حبسية، منذ سماع الحكم لم نعد نراه حيث اختفى مدة تزيد عن السنة والنصف، توفيت خلالها والدتي، بعدها فاجأنا بزيارة حيث قدم لنا التعازي واقترح علينا أن نقيم ذكرى والدتي لأنها لم تكن امرأة عادية بل قدمت تضحيات من أجل الوطن لذا يجب أن تظل في ذاكرة كل النساء، كان إذاك مبحوثا عنه كما تعلمون وكانت الاعتقالات تطال كل من له صلة به، ظل يتردد على بيتنا بشكل عادي، انتبه الى أني انقطعت عن الدراسة وأصبحت أشتغل بالخياطة في البيت، فاقترح علي أن أشتغل في مكان أضمن فيه دخلا قارا، وبالفعل توسط لي عند أحد الأطباء الذي شغلني في مصحته، عمر لم يكن أبدا ضد النظام، بل ضد بعض المفسدين الذين يخربون البلاد حسب تعبيره، لما كنا نستفسره عن مشكلته مع الدولة حين علمنا بها، المدهش حقا أن عمر كان يعيش بشكل طبيعي رغم حملات البحث الجارية في شأنه في كل ربوع الوطن، فقد كان يخرج بشكل عادي، ويذهب قرب الكوميسارية بالحي المحمدي حيث محطة الحافلات ويركب من هناك بشكل عادي، كان كذلك يهتم بهندامه ويحافظ على أناقته وكأن لاشيء يحدث، لم نلاحظ أبدا أن الخوف انتابه أو أنه منزعج من البحث الذي يلاحقه.».
في دجنبر 69، كان عمر دهكون عائدا الى سلا في سيارة أجرة، أخبره صاحبها الذي كان على علاقة مع أحد أفراد الخلايا السرية بأن الشرطة تبحث عنه لهذا تفادى التوجه الى المكان المعتاد الذي يرتاده دائما، بحي الكمري، فتوجه الى بيت عثمان اليعقوبي الذي استضافه دون العلم بحقيقة ممارساته، وعن تلك الفترة يقول أحد المناضلين الذين كانوا على اتصال بعمر دهكون رحمه الله، وهو الروداني محمد «دخلت داري في الأسبوع الأول من شهر فبراير 1970 ـ ولم يمر آنذاك سوى شهر على بداية مطاردة عمر ـ فوجدت بها عمر دهكون رفقة عثمان»، فأخبره عمر بأن الشرطة تبحث عنه لأنه «شارك في اضرابات الطلبة» وطلب الاختفاء عندهم بضعة أيام قبل التوجه الى الدار البيضاء، وفعلا مكث في البيت أسبوعا تقريبا حدث خلالها الحاضرين في شؤون البلاد ودعاهم الى الانضمام الى حزب الاتحاد وقبل ثلاثة أيام من حلول عيد الأضحى، في تلك السنة (1970)، طلب عمر من رفيقه الوازي الحسين، أن يأتيه بجلباب وحذاء ونقاب نسويين قصد التنكر، وبعد أن أتم لباسه خرج بمعية رفيقه قصد مرافقته الى البيضاء، وعندما وصلها سلم بطاقة تعريفه وجواز سفره المزورين الى صاحبه وطلب منه تسليمه الى الوازي الذي ظل بسلا.
ولما وصل الى البيضاء اتصل بالمرحوم الوالوسي بن بلا وقد ذكر عمر في محاكمته سنة 1973 «لقد قضيت عند الوالوسي أربعة أيام» وفي تلك الأثناء أرسل بن بلا الى محمد عواد المشرف على خلية شيخ العرب الأولى، الذي أخبره بأن دهكون يريده، وكان ذلك قصد الاقامة في البيت والتي دامت يومين على حد قول الشهيد عمر دهكون، «ولما أدركت الصعوبات التي كنت أسببها لهم جميعا ـ يقول دهكون أمام المحكمة ـ التجأت الى الزاوية في مقبرة بن امسيك، حيث اخترتها كمقام لسكناي الى غاية 1971».
دهكون يطارد عملاء الموساد، والأجواء السياسية تنبىء بالانقلابات

ظل عمر دهكون يتنقل من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ويراسل القيادة بالخارج، ويواصل تكوين الشبكات السرية، والحال أن فترة 70/69، كانت فترة رهيبة بالنسبة للمنظمة السرية، حيث أن اعتقالات مراكش في صيف 69 والتي تواصلت فيما بعد الى حدود محاكمة كل الاتحاديين المعتقلين، كانت ضربة قوية للغاية حرمت المنظمة من أطرها الوسطى وبعض قيادييها، منهم سعيد بونعيلات، الخطير الخطير سعيد، أحمد بنجلون وحسين المانوزي والحبيب الفرقاني، والبركة اليزيد وآخرون تطول بأسمائهم لائحة المعتقلين، والتي شملت 193 مناضلا اتحاديا، من المنخرطين في المنظمة أو العاطفين عليها أو الذين لاعلم لهم بوجودها أصلا.
وعلى عكس ما يمكن تصوره، فإن الشراسة التي ووجهت بها خلايا التنظيم لم تدفعه إلى لحظة كمون، كما هي الحالة دائما عندما تتصاعد درجة القمع والتنكيل أي «الانحناء إلى أن تمر العاصفة»، بل تواصل العمل وتسريب المسلحين والعناصر الجديدة التي تلقت تداريبها حديثا، بعد الاعتقالات، أما بالنسبة لعمر دهكون فقد تم اعتقال الخلايا الثلاث العاملة تحت إشرافه بالدارالبيضاء، إضافة إلى عناصر خلية سلا الأولى وتم حجز كل الأسلحة التي كانت في ملكية أفرادها والمخبأة في أماكن عديدة من مناطق المغرب.
الى جانب هذا، بدأت صفوف الحركات السياسية التقدمية الكبرى في تلك الفترة، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية تعرف في أوساطها حركات انشقاقية وتمرد أجيال جديدة رأت أن لباس التنظيم «التقليدي» بدأ يضيق بها، وزادت من إحساسها بالتفرد والانفلات الرياح الشرقية الفلسطينية ورياح ماي 98 الغربية، وانفجار كتل الكبت السياسي والفكري والميتافيزيقي التي صاحبت الأفكار الثورية آنذاك، فتأسست الحركتان الماركسيتان اللينينيتان «ألف وباء»، أو حركة «إلى الأمام» وحركة «23 مارس».
في تلك الفترة أيضا كان التهيء لميلاد الكتلة الوطنية بين الاتحاد الوطني وحزب الاستقلال، بعد قرابة سبع سنوات من وحدة الخطاب واختلاف المسار بين الحزبين الوطنيين آنذاك، ولفهم الوحدة والاختلاف المؤديين الى النقاش حول كتلة 1970، لابد من استحضار التقديم الذي كتبه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد لكتاب محمد الحبابي «شبيبتنا في أفق الثمانينات». وقد جاء فيه: «منذ عشر سنوات تم تحريف المسار الذي حاول المغرب أن يسير فيه للخروج من التبعية والتخلف ..، عشر سنوات كانت كافية تجعل المغرب أكثر البلدان أمية وتخلفا في المغرب العربي في نهاية هذا القرن».
وقد تحدث الأستاذ الجباني أيضا عن ظروف ميلاد الكتلة الوطنية والشروط المحيطة بها آنذاك، وجاء في شهادة له في يناير 2000.
«لقد أحس عبد الرحيم بوعبيد مبكرا بالخطر الذي كان يواجه المغرب في بداية السبعينات، وكان ذلك يشكل موضوع نقاش عميق بيننا، فما العمل إذن، لإيقاف ما كان يستشعره عبد الرحيم بكونه «كارثة كبيرة قادمة.»
فقد كانت لدينا بعض «العلامات التي تؤشر على احتمال وقوع كارثة غير متوقعة، وسأقدم مثالين:
بعد أن استقبل إدريس السلاوي، الذي كان مديرا عاما للديوان الملكي وفدا عسكريا يضم على الخصوص العقيد شلواطي عامل مدينة وجدة، صدم بوقاحة عناصر هذا الوفد، وقد أسر لي آنذاك قائلا: «إني جد خائف».
هذا الحادث تم قبل 9 يوليوز 1971.
نقلت لي عناصر موثوق بها مقربة من عائلة المذبوح، إن هذا الأخير بعد عودته من زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، صدم من حالة الرشوة المستشرية في المغرب، وعبر رسميا عن امتعاضه وغضبه من ذلك،
لقد كان المذبوح رجلا نزيها، إذ كان يحتفظ بالأظرفة التي كانت تقدم له في خزانته، ولم يكن يستفيد منها أو يستعملها.
وبطبيعة الحال، كنت أنقل هذه المعلومات إلى عبد الرحيم بوعبيد، وأناقشها معه، إن عبد الرحيم بوعبيد كان قلقا جدا لهذه الاعتبارات، فما العمل إذن؟ إنه السؤال الذي كان يطرحه دائما.
ما العمل؟
من هنا بدأت تراود عبد الرحيم فكرة العودة الى وحدة القوى الوطنية، والتي مكنت في الماضي من انقاذ البلاد من استعمار نهائي، (أحداث 1953/1951)، كامن تحت مظاهر خادعة، والحال أنني أقدم هنا شهادتي الشخصية، فقد التقيت وأنا أستاذ في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية في الرباط، في مكتب القيدوم في تلك الفترة، وكان هو عبد الواحد بلقزيز القيدوم الحالي لجامعة محمد الخامس، بأستاذنا الكبير علال الفاسي الذي كان بدوره أستاذا في نفس الكلية، وعند خروجنا من مكتب العميد طلب مني أن نذهب الى منزلي لاحتساء كأس شاي.
وتحدثنا مدة طويلة، وفهمت أن علال بدوره كان منشغلا بالوضع في البلاد?
وكان يبحث مثل عبد الرحيم عن حل لإنقاذ البلاد، فأخبرت عبد الرحيم بما حدث? وإذا لم تخني الذاكرة، فقد تم ذلك ما بين ماي ويونيو 1970 (خلال فترة الامتحانات التي كنا قد ناقشناها مع القيدوم).
فكان بذلك ميلاد الكتلة الوطنية يوم 22 يوليوز 1970».
في ظل هذه الأجواء المتلاطمة الدم والاختيارات، كان عمر دهكون يسرع في استقطاب العناصر الجديدة ويستحث القيادة بالخارج على الإسراع بتمويله بالأسلحة للشروع في العمل، أو يتصل بباقي أفراد الخلايا الذين لم يتم اعتقالهم بعد، و بدأ السؤال الخالد يقلقه: ما العمل، وما الذي نفعله بالعناصر المدربة، طال انتظاره ولم يحر جوابا، في حين بدأ طوق رجال الأمن يضيق من حوله، وبدأ الذين يحبهم يتساقطون الواحد تلو الآخر، وخلية تبعا لأخرى، وفي سنة 1971، «كنتُ أتهيأ للخروج، قال دهكون، وكنت أطلب من الفقيه البصري أن ينظم لي ذلك، لكنه لم يفعل إلا في أبريل 1971»? ذهب عمر دهكون الى الجزائر، أقام بها من 24 أبريل الى 15 أكتوبر 1971، أي ما يقارب خمسة أشهر.
لماذا عاد عمر دهكون، رغم أنه كان يريد الذهاب بصفة نهائية إلى الجبهة العربية للقتال الى جانب الفلسطينيين، فسر عمر دهكون هذا بأنه «اتصل مع البصري» فقال لي يستحيل الالتحاق بالجبهة وأقنعني بدور المصالح الأمريكية بالمغرب، فتحملت مسؤوليتي للعودة الى العمل في المغرب».
ومن المعروف الآن أن أوفقير كان قد ربط علاقات قوية مع الموساد بفضل مساعدة يهود مغاربة قريبين منه، منهم دافيد عمار وروبير اسراف، ولاسيما ايلي توردجمان الذين نظموا في باريس سلسلة من اللقاءات جمعت في الفترة ما بين نهاية دجنبر 59 ويناير 1960 بين أوفقير ومسؤول كبير في «المؤسسة»، ولعل هذا المسؤول الكبير هو إفراييم رونيل، وهو رجل الثقة بالنسبة لي يسير هاريل صديق بن غوريون والذي جمع الموساد والشين بيت الى حدود يناير 1964? وقد كان هاريل هذا قد زرع ابتداء من 1954 بشبكتين للموساد في المغرب بإشراف رونيل، الأولى للاستخبار يديرها في عين المكان أليكس غاتمون، والثانية لتهجير اليهود المغاربة الى اسرائيل، وفي أكتوبر 59 زار رونيل المغرب في سرية تامة وعرض فيما بعد على أوفقير صفقة سياسية على المدى البعيد تقدم بموجبها الموساد الدعم لأوفقير على أن يتولى هو حماية شبكتها السرية لتهجير اليهود، وقد قبل أوفقير الصفقة التي وقعها مع الموساد مقابل الكشف عن تفاصيل مؤامرة تحاك على أعلى مستويات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذي نجحت «الموساد» في اختراقه، كما اخترقت المحيط الضيق للمهدي بن بركة، على حد ما جاء في كتاب أنيس بنسيمون.
وفي سياق العلاقة بين الموساد وأوفقير واغتيال الشهيد المهدي بنبركة، لابد من أن نستحضر كون اختطاف الشهيد المهدي كان الحافز الرئيسي لانخراط عمر دهكون في العمل المسلح، كما سبق وأن قال هو نفسه بخصوص بداياته،
وحول الموضوع نفسه، توصل عمر دهكون من الشهيد محمد بنونة، المعروف باسم محمود، والذي لقي مصرعه في اشتباك مع قوات الأمن في مارس 73 ـ كما سنشرح ذلك بتفصيل في القادم من الأيام ـ توصل دهكون برسالة منه تحمل لائحة أسماء طلب منه الاحتفاظ بها في ذاكرته الى حين يحين الوقت، ومن بين كل الأسماء، كان هناك اسمان اثنان يهمان عمر دهكون هما: «دافيد عمار، واسم يهودي صاحب ملهى ليلي بأنفا بالبيضاء يدعى «لوتوب Le tube»، والذي كان يرتاده كبار القوم.
وقد حكت مليكة أوفقير قصة ذات دلالة في هذا الشأن، إذ كانت في أحد المنتجعات بالجنوب، حيث ذهبت عائلة أوفقير لقضاء العطلة هناك، وصادف أن كانت بجوارها عائلة مسؤول مغربي (كبير!) عرف عنه تشدده الظاهري في معاملات أهله، وحدث أن التقى هذا المسؤول ابنة أوفقير في ساعة متأخرة من الليل وهي عائدة من سهر ليلية حمراء، وحذاؤها بيدها، لم يرق المشهد للمسؤول فبلغه إلى أوفقير، فأجابه الجنرال أمام العديد من الحاضرين: «أين تقضي لياليك، لقد قيل لي إنك ذهبت الى مرقص «لوتوب» بالبيضاء وهي مدينة خطيرة»!
على كل، كان الملهى قبلة علية القوم، وكان صاحبه من عملاء الموساد الى جانب دافيد عمار، وهما الإسمان اللذان استأثرا باهتمام دهكون، لماذا؟ «لأنهما شاركا في اختطاف المهدي بنبركة، ولو أنني صادفت أحدهما لقتلته».
انقلاب الصخيرات وعمر دهكون يقول لرفيقه: «لن أخرج من المغرب، فقد عدت لأموت»

أصبح عمر دهكون منشغلا بأهداف عديدة، كان عليه أن يضمن سرية تحركات أعضاء الخلية، ويواصل الاستقطاب ويعمل على سلامة وجوده الشخصي، إضافة الى متابعة تطور العمل السري بعد الضربة القاصمة التي نالت من جسم التنظيم السري، بعد وشاية ابراهيم المناضي بالخلايا السرية والتداريب المسلحة.
عاد دهكون للسهر على كل هذه الجوانب في أكتوبر 1971، والحال أن أحداثا مهمة هزت المغرب أثناء غيابه، أولها انقلاب يوليوز 1971، وثانيها صدور الأحكام بالإعدام والمؤبد والسجن المديد في حق المناضلين المعتقلين في قضية مراكش، المعروفة بملف «الغيغائي ومن معه» وكذا «مؤامرة مدريد»، كما سبق ذكره.
بعد دخوله فصول المطاردة البوليسية، بدأت أسطورة الفقيه الميلود، بجلبابه ونظاراته ولحيته، وقد حكى دهكون عن بداية أسطورته: «لما عدت من الخارج، لم تكن لدي لحية، وبقيت مختفيا الى حين أرخيتها، واعتمرت الطربوش..» ومن وجدة الى الرباط، وهناك اتصل ببودرقة عباس الذي استقبله في بيته وقد كان وقتها محاميا متمرّنا في مكتب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وقد حكى لنا عباس عن تلك اللحظات قائلا: «بالفعل، لم يأت عمر دهكون رحمه الله مباشرة الى بيتي، إذ ظل مدة معينة بين أماكن في سلا والدار البيضاء.. وقد كان عمر دهكون قد أرسل لي من قبل «كارت بوسطال» في يوليوز 71، أي قبل دخوله، وكان ذلك آخر عهدي به إلى أن وجدته أمام منزلي بالرباط بعد دخوله، لم أسأله، كما جرت العادة بيننا، وكنت أعلم بطبيعة الحال أنه محكوم غيابيا بـ 20 سنة سجنا نافذا، وظل أحيانا يتردد على الرباط، وبذلك ولدت شخصية لفقيه الميلود».
عندما تحول عمر الى فقيه بدأ يتحرك في رقعة ضيقة، ذلك أن المغرب في تلك الفترة العصيبة من تاريخه كان قد عرف انقلاب الصخيرات 71، الذي مر بمرحلتين في الواقع? المرحلة الأولى، تصادفت مع 14 ماي، ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية، وكان الإخوان محمد وامحمد عبابو بمعية الجنرال مذبوح يريدون اختطاف المرحوم الحسن الثاني أو اغتياله، بمناسبة استعراض عسكري كبير، نظم وقتها في الحاجب، وليلة القيام بالعملية تم تشكيل 15 كوماندو، كل واحد يتشكل من 43 جنديا بقيادة ملازم وعريف، وكان من المقرر أن تغادر كوماندوهات الانقلاب اهرمومو في الساعة الثانية صباحا لاتخاذ مواقعها في العملية، وفي آخر لحظة، تلقوا مكالمة هاتفية من الجنرال مذبوح تلغي العملية، وكان السبب المقدم لهذا التأخير، تواجد طائرة مروحية لحراسة الملك.
بعد فشل محاولة 14 ماي للانقلاب، قرر الجنرال المذبوح والملازم أول اعبابو أن يعيدا الكَرَّة يوم الجمعة تاسع يوليوز من نفس السنة (71)، الذي تزامن مع الذكرى 42 لعيد الشباب، رافق امحمد اعبابو زوجته وابنته سميرة الى منزل أحد أصدقائه من رجال الشرطة بالرباط، لأنهما كانتا ستسافران الى الخارج في اليوم الموالي، وبعد أن تناول الكولونيل غذاءه في العاصمة عاد الى اهرمومو، هناك استدعى الضباط وضباط الصف وأخبرهم بعملية ستقام في بنسليمان خلال 48 ساعة القادمة، ولما سأله الحاضرون عن تفاصيل العملية أجاب جوابا فضفاضا مفاده أن القضية «تهم الجنرالات» وأن «اجتماعا قياديا» سيقدم توضيحات في عين المكان، وبالرغم من أن كلمة «انقلاب» لم تُنطق، فإن البعض شك في الأمر، إذ أن العديد من الضباط تحدثوا عنها في المساء.
تقررت الرحلة في الساعة الثالثة صباحا، فانطلقت حوالي 40 شاحنة عسكرية باتجاه الساحل الأطلسي، وقضت حوالي 9 ساعات لقطع مسافة 250 كلم تقريبا، في العاشر من يوليوز 1971 والساعة قد تجاوزت منتصف النهار، توقفت القافلة عند غابة معمورة، هناك وجد المجندون «الكولونيل اعبابو الذي سبقهم إلى عين المكان بمعية «القيادة العامة» وكانوا مجموعة من الأشخاص ببذلات مدنية آخر موضة، كان من بينهم شقيق اعبابو الذي كان يسوق به سيارته، والطالب الضابط «مزيرق» صهر الجنرال مذبوح والملازم أول عبد الله القادري، والقائدان المنوّر والمالطي ورجل شرطة يدعى الفتوحي، وتبين من الحضور أن القضية ليست «قضية جنرالات»، إضافة الى أن الضباط الحاضرين جاؤوا، لأن اعبابو دعاهم «لزيارة ضيعة جميلة في المنطقة».
لقد اكتشفوا البرنامج مع القواد الخمسة والعشرين الذين يديرون الكوماندوهات وضباط الفرق الخاصة، لم يتم إلى حدود تلك الفترة أي حديث عن الانقلاب، بل دار فقط عن «هجوم على عدة بنايات» حيث توجد «عناصر انقلابية» يجب اعتقالها ولو اقتضى الأمر إطلاق النار على المقاومين»، أعطي الأمر بتهييء الرشاشات، وقال اعبابو على سبيل الختام: «أنتم ضباط عليكم أن تفهموا».
تم رفع غطاء الشاحنات (الباش) وانطلقت القافلة تحت شمس حارقة، اخترقت الرباط ثم اتجهت نحو الدار البيضاء، في الطريق مرت بها سيارة الكاتب الفرنسي جاك بينوا ميشان الذاهب الى الحفل، تفاجأ الكاتب من الطابور العسكري وعدد الجنود وقسمات وجوههم المتجهمة، ومع ذلك لم يخبر أي أحد عندما وصل الى الصخيرات أو يعطي إشارة الإنذار مخافة أن يصبح أضحوكة،
كانت العادة الملكية تقتضي أن تجري مباراة في الغولف صباح يوم العيد، لكن الجنرال مذبوح ألح على جلالة الملك الحسن الثاني بعدم المشاركة، لأن جلالته كان سيستقبل ضيوفه في الواحدة والنصف زوالا، ويمكن أن يتأخر عن الموعد لو طالت المباراة.
إلى جانب العائلة الملكية، كانت بالقصر كل الشخصيات السامية والمهمة بالرباط، الوطنية منها والدولية، المدنية والعسكرية ورجال الأعمال والديبلوماسيون والوزراء، أي حوالي ألف مدعو ضمنهم نجل الحبيب بورقيبة والوزير الفرنسي لويس جوكس.. كان الجو جو احتفال وبهجة، كانت الساعة تشير الى الثانية زوالا، و 8 دقائق عندما أصيب مهندس زراعي يعمل في ديوان إيفون بورج في الوزارة الفرنسية للتعاون، بأول رصاصة ودخل الساحة الداخلية وهو يعرج، وسط الحفلة غطت طلقات البنادق المقذفة (للتمرن على الرمي) على الرشقات الأولى للرشاشات، فلقد وصل رتلان (طابوران) من المجندين، الأول قدم من جهة الشمال والثاني من جهة الجنوب، الطابور الأول الذي يقوده محمد اعبابو استطاع أن ينزع سلاح الحرس بدون مواجهة، لكنه وجد في طريقه الكولونيل لوباريس، الصديق الحميم للجنرال المذبوح، لقد كان لوباريس هو قائد المظليين المكلفين ذلك السبت بأمن الصخيرات، وقد قتله محمد اعبابو برشقات من رشاشه، كانت تلك بداية الانزلاق حيث انهارت أعصاب محمد اعبابو، فأنزل المجندين الذين بدأوا يتقدمون دون الاهتمام بأوامره خصوصا وأن قليلا منهم فقط يعرفون الأخ الأصغر لرئيسهم وقائد الانقلاب، فعمت الفوضى، نفس البداية عرفها الطابور الآخر، فقد وجد محمد اعبابو في وجهه نقيبا شابا عند الجدار الأول للأمن صاح فيه «لا تقتربوا وإلا أطلقت النار»، فقام الانقلابيون بإطلاق الرصاص فخرَّ النقيب صريعا بعد أن أصاب محمد اعبابو في ذراعه، وقام بدوره بإعطاء الأمر للمجندين بالترجل عن الشاحنات، كانوا متوترين بعد أن فهم الكل، حتى الأكثر سذاجة بأنهم يقومون بانقلاب عسكري.. منهم من فر، كما حدث مع الملازم بنبين الذي كان يقود الكوماندو الثامن الذي هرب وركب سيارة «بأوطوسطوب» وسلم سلاحه في إحدى ثكنات المظليين بالرباط، (وقد أدين فيما بعد وقضى 18 سنة في تزمامارت...)
وفي الأخير فشل الانقلاب بتفاصيله الأخرى المعروفة.
غير أن المغرب دخل في لحظة فوبيا سياسية يسود فيها الرعب واللاستقرار وبروز كل سمات الحلول الجذرية، في حين تقوت الضربات القمعية وعرف الحقل السياسي الوطني درجات متقدمة من اللاثقة والتخبط،
وقبل انقلاب يوليوز 71، كانت محاكمة مراكش قد بدأت في 14 يونيو 71، وصدرت الأحكام قاسية، وبدأ إحساس المناضلين وعموم المهتمين بالشأن السياسي بلا جدوى الممارسة السياسية، ولاسيما بعد التزوير الذي حصل في الانتخابات التشريعية لسنة 70/69، والذي أفرز ما سمي «ببرلمان أوفقير».
ومن الطرائف السوداء التي يحكيها كاتب سيرة أوفقير، ستيفان سميت أن إحدى السيدات من المجتمع الراقي سألت الجنرال في هذه الانتخابات عن اتجاهات الرأي العام فأجابها بخبثه المعروف: «هل تريدين نتائج انتخابات البارحة أم الانتخابات التي ستجري بعد عام؟».
زاد من انسداد الأفق، إحكام الجنرال أوفقير قبضته على الحياة العامة، المدنية منها والعسكرية، أوفقير الذي كان عمر دهكون (الفقيه الميلود) يبحث عنه ليصَفّيه ويحلم بذلك ليل نهار، موازاة مع ذلك، بدأ عمر يسهر على تسليم أسر المعتقلين والمحكومين المعوزين منهم على الخصوص بمبالغ مالية يجمعها من المناضلين أو تصله من المناضلين وأعضاء المنظمة السرية والمسلحة في الخارج،
ولابد من القول أيضا، إن صدور الأحكام وتنامي الصراع بين القوى المنحدرة من جيش التحرير والحركة الوطنية وقوى المحافظة والمخزن العتيق، قد بدأ يفرض على المناضلين الإسراع في الرد ومحاولة خلق ضغط سياسي وإعلامي لفك الحصار عن المعتقلين.
ركز عمر دهكون مجمل جهوده على العمل الداخلي، وأصبح الاتصال بالخارج يتم عبر قنوات أخرى ومناضلين آخرين، ولاسيما منهم المدربون الذين أفلتوا من شبكة الشرطة في محاكمة مراكش، وفي تلك الأثناء، ذكر لنا أحد المناضلين أنه عرض على عمر دهكون السفر إلى الخارج من أجل نجاته والتقليص من حظوظ الأمن في اكتشاف ما تبقى من خطط العمل وأعضاء التنظيم، فكان جوابه «لن أغادر البلاد، لقد جئت لأموت».
الشرطة تبحث عن عمر دهكون، وهو يقيم في مقبرة بن امسيك ويدير العمليات ويأتي بالأسلحة

عاد عمر دهكون في أكتوبر 71 من سفره الى فرنسا التي توجه منها إلى الجزائر، سافر باسم عبد العالي المرنيسي، بعد أن ترك جواز سفره الحامل لإسم محمد أنور ضمن محتويات المنزل بسلا، وكان هذا الجواز قد سلمه له الشهيد محمود بنونة، في العاشر من يونيو، وفي باريس، أعاد الحديث عن السلاح للشروع في عمل «كبير»، لكن القيادة هناك أجابته بالقول: «لا يمكن ونحن ضيوف على فرنسا، أن نرسل الأسلحة إلى المغرب انطلاقا من ترابها». فأحيل على محمد بنونة (محمود) الذي كان وقتها في الجزائر، وبذلك ألغى عملية نقل الأسلحة من فرنسا، ولما انتقل الى الجزائر، كانت تلك أول مرة التقى فيها محمد بنونة، بعد أن علم أنه مهندس إلكتروني تخرج من ألمانيا الفيدرالية، يقوم بنشاط في الخارج، وأن آخر مرة سيزور فيها المغرب، قبل التسلل المسلح في أحداث مولاي بوعزة، كانت في صيف 1968. اتفق الشهيدان على نقل الأسلحة، وسلم بنونة لعمر دهكون مسدسين، ولعل ذلك كان من أجل المواجهة المحتملة في طريق العودة، لأن عمر أصبح على علم بأن جهاز الأمن يبحث عنه على قدم وساق، دخل عمر عن طريق أحفير، وجدة، وعن تلك اللحظات يحكي عمر دهكون «عندما كنت راجعا من الجزائر في أكتوبر 1971 اتصلت بمحمود بنونة، الذي ربط لي اتصالا بشخص آخر، كُلف بالسهر على اجتيازي للحدود»، وكان من ضمن عناصر العبور أيضا «تسلم الكمية الأولى من الأسلحة»، ويواصل دهكون حديثه عن دخوله الأول من الجزائر، «عندما توقفت مع هذا الشخص الذي رافقني من مكناس قدَّمني لشخص آخر اسمه المتوكل وقال لي بأنه مستعد ليهيء لي العدد الكافي مما أحتاجه من أوراق التعريف»، وتم الاتفاق على ذلك، وتم الاتفاق أيضا على مكان اللقاء والكيفية التي يتم بها، وتفاصيل ذلك كما رواها دهكون نفسه: «اتفقت معه على عقد اللقاءات أمام صندوق البريد في مكناس، وهناك أعطيته أربعين درهما، حتى يهيىء لي ورقة تعريف وصورة عادية لي وأخرى بلحية وجلابة، ووضع الختم الرسمي على ورقة التعريف بصورة عادية وملأتها أنا شخصيا وسميت نفسي الطاهر العلوي».
وكان اسم الطاهر العلوي واحد من عشرات الأسماء المستعارة التي كان عمر دهكون يتحرك بها، إلى درجة أنه كان شخصيا ينسى بعض أسمائه المستعارة!! كما صرح بذلك أمام المحكمة «لقد كان اسمي المستعار في الجزائر، بين المتدربين هو بودرار، لكنني نسيت الإسم الذي كان يمثله جواز سفري لما توجهت الى الجزائر..
بودرار، زهير، بن احمد، عمر السوسي، الزبير، المرنيسي.. كلها أسماء مستعارة، وهي غيض من فيض، لكن أكثر الأسماء رواجا هو الفقيه الميلود الذي كان يقرأ القرآن في المقبرة، ترحما على الموتى، ولكنه من وراء ذلك كان يربط اتصاله الدائم بأعضاء الخلايا الذين لم تطلهم اعتقالات محاكمة مراكش أو الذين انخرطوا فيما بعد.
أقام عمر، بعد عودته، في أماكن عديدة، لدى معارفه ورفاقه ولكن أكثر أماكنه ارتيادا كانت ولاشك مقبرة بن امسيك، وإضافة الى منزل عائلة أزغار، التي كان أفرادها على علاقة حميمية وأخوية به، وقد صرحت لنا جميعة وزهرة أزغار أن عائلتهما كانت تأوي عمر دهكون بمنزلهما، الموجود وقتها بالحي المحمدي، زنقة القبطان مونطوكي بدوار بوعزة.
أمام صلابة العلاقة الرابطة بين آل دهكون وآل ازغار، لم تضعف العائلة أمام المخاطر المحدقة بها في استضافة وإيواء مناضل تطارده كل أجهزة الدولة، وتعلم انه احد العناصر النشطة في المنظمة السرية التي اعتقل اهم اعضائها، بل كان عمر يراسل العائلة من فرنسا، قبل دخوله. «في الرسالة، تقول اختها، طلب عمر من الحاجة الالتحاق بمقبرة اليهود باولاد زيان في الساعة الخامسة، وكعلامة للتعارف بينها وبين المبعوث الذي سيرسله عمر، طلب منها ان تحمل كتابا بيدها، وتشهره بشكل لافت».
اسلوب التخفي والتزيي الذي اعتمده عمر دهكون وتفاصيل يومه في السرية، روتها لنا «زينب» الاسم الحركي لرفيقة عمر دهكون، جميعة والتي مازالت تدمع عيناها كلما تذكرت الانسان، البسيط، الحنون والنبيل».
قالت جميعة / زينب كنت «اشتغل بمصحة ابن سينا، وقتها كان عمري حوالي 27 سنة، كان عمر يتصل بي يوميا ليضرب لي موعدا أو يخبرني بأسفاره، ودام ذلك الى حين القي عليه القبض في 22 مارس 1973».
ومن كلينيك الغوتي، في المكان المسمى الرهيبات بالقرب من ملعب «كورس لكليبات» كانت جميعة تنسل خلسة للذهاب الى لقائه، «يوميا كنت اغير ـ تقول ـ وزرتي البيضاء وأخرج خفية لمدة لا تتعدى نصف ساعة او اربعين دقيقة.
في الفترة التي تصادف وقت الغذاء، لم أكن أتناول غذائي، وكان الحارس يخال، وهو يراني اخرج يوميا من الباب الخلفي مستعجلة امري، انني اخرج للقاء عاطفي مع عشيق» احيانا كان اللقاء يتم مساء، ترافقه زينب الى عناوين بعينها اوتتسلم منه اغراضه وملابسه لتصبينها او تأخذ «بعض الارساليات الى اصحابها» تصف الرفيقة رفيقها في لحظات المطاردة والتخفي وتصف هيأته ولباسه: «كان عمر يرتدي جلبابا واسعا ويمشي محدودب الظهر كرجل مسن» تثقل سنوات العمر كاهله، وهن منه العظم وفقد استقامة عموده الفقري، ولنا ان نخمن أن عمر دهكون كان يلبس جلبابا واسعا ويمشي منحنيا لانه، ولاشك، يحمل سلاحا تحت الجلباب، قد يكون مسدسا - رشاشا، يخفيه بتلك الطريقة، لان المشية المستقيمة ستفضح ما تحت الملابس،
الى جانب الجلباب، كان يضع سبحة حول معصمه، كعادة الفقهاء الورعين، ويحمل بيده قفة صغيرة من «الدوم»، وسجادة (صلاية) ولا احد كان يشك في لفقيه الميلود، عندما يمشي في الطرقات او يدخل المقبرة او يدخل الكتاب لتدريس التلاميذ في «المسيد» بسيدي محمد في منطقة بنمسيك».
من حيلهما معا التظاهر «بالتسول، كان عمر يضع نظارات سوداء يخاله الناظر بسببها ضريرا»، وكانت طريقته في المشي وحركاته المتثاقلة البطيئة بفعل ما يحمله من سلاح، تزكي هذا الظن، تقول جميعة: «كنت امد صحنا صغيرا (طبسيل) باتجاه المارة، وقد تظاهرت بمظهر الغبن والحاجة، حتى نبدوا كسائلين يتسولان عطف الناس وما تجود به اريحيتهم، احيانا كثيرة كان رجال شرطة المرور يوقفون المارة واصحاب السيارات لتسهيل مرورنا».
بوليس يبحث عن دهكون، وبوليس آخر يسهل مروره، ويساعده على اتصالاته بمن بقي على الدرب في السرية وكانت اغلب الاتصالات تتم في المقبرة، حيث كان عمر يمثل دور فقيه المقابر.
ومن ذلك ما حكاه لنا العديد من المناضلين الذين اعتقلوا في 1973، ومنهم مجموعة 76، الذين مثلوا أمام محكمة الاستئناف بالبيضاء، بعد إعدام عمر دهكون بحوالي ثلاث سنوات (!) أحد هؤلاء المناضلين، فضل عدم ذكر اسمه تعففا، قال انه التقاه صدفة في نهاية 71، بدرب السلطان، وكان «متنكرا في زي الفقيه، ولو أن دهكون لم يكن أول من ناداني لما تعرفت عليه». وفي شهر أكتوبر أعطاه موعدا بمعية مناضلين آخرين وكان زمن اللقاء هو أكتوبر 1971، ودار الحديث حول الطريقة التي لابد منها لإحياء الذكرى السادسة لاختطاف واغتيال المهدي بن بركة، ويومها لم يكن عمر دهكون قد توصل بالمفرقعات التي تسمح لخليته بالتفجير وإحداث صدى يليق بذكرى الشهيد المهدي، تعاهد الحاضرون على اللقاء ليلة 26 أكتوبر، أي قبل يوم الذكرى بثلاثة أيام، في الساعة الثامنة ليلا بالمقبرة المذكورة، وحضره الأعضاء الأربعة بمعية مناضل خامس كان يسوق سيارة من نوع «بوجو» وتم الاتفاق على القيام بالعملية ليلة 28 أكتوبر 1973، في الساعة 9 ليلا، وكانت العملية تقضي بتفجير قنبلتين بالدائرة الثامنة للشرطة بالبيضاء، وقد تم في البداية إجراء تجربة بقنبلة المولوتوف بباب المقبرة، لكن القنبلتين لم تنفجرا كما كان أعضاء الخلية يريدون ذلك، في تلك السنة تفرغ عمر كلية للمنظمة، وأصبحت المنظمة من جهتها تتكفل بكل مصاريفه، وقد أكد المرحوم شخصيا هذا الأمر أمام المحكمة عندما قال: «في سنة 1971 فقط، أصبحت أعي».
انتظار زورق أسلحة بشواطئ تطوان، وتهييء منازل لإيواء المسلحين القادمين!

 في تلك السنة تفرغ عمر كلية للمنظمة، وأصبحت المنظمة من جهتها تتكفل بكل مصاريفه، وقد أكد المرحوم شخصيات هذا الأمر أمام المحكمة عندما قال: في سنة 1971 فقط، أصبحت أعيش بالوسائل المادية للفقيه البصري».
كانت أجهزة الأمن تجدُّ في البحث عن عمر دهكون، تتقفى خطوات أهله وعائلته، في حين لجأ عمر دهكون الى الاتصال بالمناضلين الاتحادين الذين كانوا يعيشون انتماءهم بشكل عادي أو يكاد، ومن المفاجئ حقا أن العديد من الذين اعتقلوا معه أو قبله في أحداث 1973، أو الذين أعدموا، انخرطوا على يد عمر في الفترات التي كانت الشرطة تلاحق خطواته وتتقصى أخباره، ومن هؤلاء عدة مناضلين تعرف عليهم?? في المقبرة!!.
من أهم الأسماء «الاشكالية» التي ترد في الفترة ما بعد دخول دهكون عالم السرية وبداية شخصية لفقيه الميلود، ويتردد باستمرار اسم المهتدي محمد بن بوشعيب، من مواليد 1943 بالنواصر (قيادة مديونة، الشاوية الشمالية آنذاك)، المهتدي، الذي سنعود الى نشاطه و»شهادته» في المحكمة بتفصيل أكثر، توبع في قضية 1973والتنظيم المسلح، بكونه منذ صيف 1967 والى يوم 22 مارس 73، تاريخ القاء القبض علىه وهو يقوم بنشاط متواصل في إطار منظمة سرية تدار من الخارج وتهدف الى القضاء على النظام الملكي القائم في البلاد واقامة نظام آخر مكانه وأنه بعدما انخرط في هذه المنظمة سافر الى باريز في أوائل شهر مارس من سنة 1969 واتصل هناك بالبصري الذي بعث به على حساب المنظمة الى دولة أجنبية تدرب في معسكراتها على استعمال كثير من أنواع الأسلحة وعلى حرب العصابات، ثم رجع الى المغرب حيث أصبح عضوا نشيطا في الخلية التي يترأسها دهكون وباتفاق بينهما وبين بعض أفراد هذه الخلية تقرر القيام بعمليات ضد الأشخاص والمنشات في أواخر شهر أكتوبر 1971 ساهم في صنع قنابل من طرف أحد أعضاء الخلية، وذلك بإحضاره بعض المواد اللازمة لصنعها واختيار الأماكن التي ينبغي وضع القنابل فيها وهي عمارة المطابع المتحدة والخزانة الأمريكية، وفي ليلة 28 أكتوبر 1971 توجه الى الخزانة الأمريكية لوضع قنبلة بها فوجدها مغلقة ثم الى القنصلية الأمريكية للقيام بنفس العمل فوجدها محروسة من طرف رجال الأمن وبذلك تخلى عن مهمته التي تعذر عليه القيام بها للأسباب المذكورة، سافر المهتدي الى فرنسا يوم 21 دجنبر 1971 حيث قابل قادة المنظمة في الخارج وطلب منهم تزويد الخلية بالسلاح اللازم كما سافر في أواخر أبريل 1972 الى وهران في شأن السلاح والمال وبطلب من دهكون عمر، سافر أثناء شهر يوليوز من سنة 1972 الى الرباط حيث قام بدراسة حول بناية القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، وباتفاق مع دهكون عمر تقرر القيام بمحاصرة شخص يعمل بأحد المصارف ونهب النقود التي يحملها غير أن ذلك لم يتم، نظرا للحراسة الموجودة حول المصرف وأنه في شهر أكتوبر 1972 تسلم من دهكون قائمة تحمل أسماء الأشخاص الذين يجب القضاء عليهم وطلب منه دهكون البحث عنهم فشرع في هذا البحث فعلا وتعرف على بعضهم تمهيدا لاغتيالهم وأنه درب أحد أعضاء الخلية على كيفية استعمال السلاح.
في يوم ثاني مارس 1973، شارك في وضع قنابل بالخزانة الأمريكية وتحت سيارة القنصل الأمريكي بالدار البيضاء بعدما شارك في صنع هذه القنابل،
وأقر المهتدي بصك الاتهام في حقه، وإن كان تعليله للإقرار يرمي بكل المسؤولية على دهكون طبعا، وما نستشفه من خلال شهادة فرد واحد فقط، أن عمر ظل دائب الحركة، ساهرا كل السهر على عمل الخلايا، متتبعا لنشاط المنظمة، وحريصا على تدبير حرب المدن? فقد سهر شخصيا على تسريب كمية من السلاح وصفتها المحكمة نفسها بأنه كمية ضخمة، وكان يعمل على تزويد أفراد الخلايا، في كل أنحاء المغرب، وفي البيضاء والرباط ووجدة خصوصا بها.
ومن الأشياء التي تثير في سيرة الشهيد دهكون، هو حرصه المتواصل على تهيئة أماكن اللقاء والتداريب، وفي هذا السياق نذكر أنه في نونبر 1971 أي بعد عمليات ذكرى الشهيد المهدي وقنابل المولوتوف، قام المرحوم المهتدي محمد بكراء دار في الرباط، وقال المهتدي «لقد اكتريت الدار في اسمي ولكن عمر دهكون هو الذي كان يستعملها ويؤدي نفقاتها»، وكان المنزل في الأول مخصصا لاستقبال القادمين من الخارج، والأعضاء الذين تلقوا تداريبهم، في سوريا والجزائر وليبيا فيما بعد الثورة على الملك السنوسي، وبعد أقل من شهر (دجنبر 71) كلف المهتدي بزيارة باريس، روى فحواها المهتدي نفسه بالقول «كلفني دهكون في دجنبر 71 بالذهاب الى باريس، ودارت بيني وبين البصري مناقشات عن عائلة المعتقلين في محاكمة مراكش (...) وأعطيته تقريرا من انجاز عمر دهكون» عاد المهتدي في نهاية نفس الشهر، وبعدها كلفه عمر بتقفي خطوات مفتش شرطة يدعى «المتنبي» ولعل اسمه كان واردا في اللائحة التي اعتبرت المنظمة أن أصحابها كانوا وراء الاعتقالات التي طالت مناضلي التنظيم المسلح في يوليوز 69، أو أن مهامهم تتطلب منهم مراقبة الاتحاد ومناضليه وعساهم أبدوا بعضا من « الحماس» في هذه المهمة.
ومن الأحداث التي حدثت في نفس السنة والتي نسبت الى المنظمة السرية، كما جاءت في صك الاتهام الذي عرض وقائع المحاكمة، العثور يوم 27 أبريل 1972، بضواحي مدينة وجدة على جثة رجل أمن يدعى الغربي ميلود وقد قتل رميا بالرصاص، ويكشف استهداف رجال الأمن، عن الوتيرة المتصاعدة لأعضاء الخلايا المسلحة في التحرك سنة 1972، منذ بدايتها، وعن المنعطف الذي دخلته المنظمة السرية، والذي سيعرف أوجه في مارس 1973 مع اندلاع أحداث الأطلس وكلميمة والناظور ووجدة.
بخصوص عمر دهكون، يبدو وكأنه عشرة رجال في واحد، عندما تقرأ الوثائق الخاصة بخلايا وجدة، أو تنصت لبعض مناضلي تلك الفترة الحامية من جمر السبعينات، تسمع عن عمر دهكون أو تقرأ عنه، ونفس الشيء تجده عن أعضاء المنظمة الذين استطاعوا الخروج الى المنفى وعادوا مع الثمانينيات، عندما يحكون لك عن اتصالات عمر، غير المباشرة، ورسائله التي لاتنقطع. وفي العمليات التي استهدفت الوشاة وتصفيتهم أو محاولة تصفيتهم، في كل حركة وتفصيل، يقفز اسم عمر دهكون كاسم ثابت في الحديث والحادثة.
المنفيون في الجزائر في سنوات الرماد وأعضاء القيادة العسكرية بدورهم يتحدثون عن دهكون والاتصال معه.
وتسريب السلاح، دهكون أيضا!
وفي هذا السياق، هناك عدة عمليات أشرف عليها وهو مقيم في الداخل وذلك عبر الرسائل المشفرة (الكود) التي كان يكتبها بعصير الليمون، أو عبر الأشخاص الذين كان يرسلهم، عبر الحدود الشرقية أو الذين يسافرون عبر الناظور/ مليلية أو بشكل عاد عبر المطار.
وكان عمر دهكون قد اتفق مع القيادة في الخارج، على ارسال أسلحة عبر البحر الأبيض المتوسط، على الشاطئ الشمالي للمغرب، و»استعان» عمر دهكون، في هذه العملية بمختبر لحسن، وهو من مواليد الدار البيضاء كان عمره في سنة 1973، لايتعدى 30 سنة، ويشغل منصب قائد بواد لاو الجميلة باقليم تطوان، وقد توبع مختبر في ملف عمر دهكون بكونه أحد أعضاء التنظيم السري، انخرط فيه وعمره لايتجاوز 24 سنة، وكان عمر دهكون هو الذي اطلعه على التنظيم والأهداف السياسية التي كانت وراء انشائه، وقد تابعته النيابة العامة بأنه سلم للمنظمة المسلحة قائمة تتضمن معلومات عن كثير من زملائه القواد، كما نسبت الى مختبر محمد المحامي حاليا تسليمه لدهكون وأفراد الخلايا المسلحة لبطاقات تعريف ممهورة وتستجيب لكل الشروط القانونية، إلا أنها خلو من أي اسم، حتى يمكن استعمالها من طرف أصحاب الصور، بل توبع أيضا بواقعة لم تتم! ومفادها أن عمر دهكون اتصل به في سنة 1971، وأخبره بأن المنظمة تنوي ادخال بعض الأسلحة عن طريق سبتة واتفق معه على أن يقوم هو بنفسه وفي سيارته بنقل هذه الأسلحة وهو يرتدي لباسه الرسمي، كقائد ولم يتم هذا الأمر لتأخير القيام بهذه العملية».
على كل اتفق عمر دهكون مع قيادة الخارج على انزال الأسلحة بالمغرب عن طريق البحر وذلك في زورق مخصص لهذا الغرض، وقد حكى عمر دهكون تفاصيل هذه العملية «كنت اتفقت مع البصري ليرسل لي زورقا الى شاطئ تطوان، وعلى هذا الأساس ذهبت عند مختبر محمد، ودرست المنطقة وكان مختبر لايعلم بالهدف من العملية، سجل عمر دهكون كل المعطيات الخاصة بالمنطقة، بتضاريسها ومساربها ووتيرة الحركة بها، وكان يريد منطقة متوحشة لا بنيات بحرية فيها لأنه كان يعلم أن في ميناء عادي، لايمكن القيام بتسريب السلاح، نظرا لوجود حراسة مشددة ووجود سلطة حذرة، الى جانب الجمارك، وكل من له حاجة في الميناء، وكان السلاح منذورا، حسب تصريحات دهكون أمام المحكمة، للقيام بعمليات فدائية «في مليلية وسبتة ضد مقري المقيمين العامين بهما».
الحرب ضد «البَيَّاعة»... محاولة اغتيال أوراضي محمد بسلا

إبان المحاكمة التي جرت أطوارها في شتنبر 1971، والتي مثل فيها المناضلون الاتحاديون المعتقلون منذ يوليوز 69، في إطار محاكمة مراكش الكبرى، أثناء هذه المحاكمة، اقتنع الكثير من أعضاء الخلايا المسلحة بأن (الورادي محمد، عميل للشرطة، وأنه كان وراء التبليغ عن العديد من المناضلين.
(أوراضي) محمد المزداد سنة 1940 بتزنيت، كان أحد العناصر التي ضمها عمر دهكون الى الخلايا السرية، بعد أن كان ضمن صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية? وقد سبق له أن انضم الى صفوف الشبيبة العاملة منذ أواخر 1960 الى أواخر 1962، أي مع انعقاد المؤتمر الثاني للاتحاد، وقد حكى بنفسه عن تلك الفترة في كتابه عن الأغلبية المخدوعة الذي أراده دفاعا وتبرئة لنفسه. جاء في الكتاب أيضا أنه كان ـ وهو عضو في الاتحاد ـ يحضر «عدة اجتماعات سرية يعقدها الحزب الشيوعي المحظور، وكان ذلك في أواخر سنة 1962، هناك في منزل متواضع قرب ثانوية النهضة بسلا، حيث يتزعم الرفيق أحمد صولج إحدى الخلايا السرية للحزب»!! (صولج نفسه الذي سيكلفه عمر دهكون بتكوين خلية سرية في مراكش قبل اعتقاله سنة 1970)? ويذكر الورادي أيضا أنه شارك في الحملة الانتخابية لسنة 1963 ضد المرشح الاستقلالي ـ مدير ثانوية النهضة آنذاك سيدي بوبكر القادري لفائدة المرشح الاتحادي «مصطفى العلوي!!» والصحيح هو مولاي المهدي العلوي.. وفي سنة 1965 كان الورادي ـ على حد قوله ـ «أقوم بتوزيع المناشير، الشيء الذي أوقعني ذات صباح في يد رجال الأمن» ولم يستطع التخلص من التهمة، لأن «رجل الأمن السري» ضبط في حوزته «ما يقرب من ألف منشور». لم يكن الورادي وحده، بل كانوا «ثلاثة عشر طالبا، أذكر من بينهم عبد القادر باينة والعراقي والقادري وبن جلون وبنكيران»، وبعد أن أفرج عن رفاق الزنزانة بسجن لعلو، على حد قوله، بقي وحيدا لكن علاقته توطدت بثلاثة معتقلين هم على التوالي: القايد البشير ابن حمو، محمد الأطلسي وكل هؤلاء ينتمون لفريق الجنوب».
ويقول إنه في السجن أحس بالغبن، عندما رأى «ان نزلاء السجن السياسيين هم بدورهم على درجات، تعلمت أن العراقي وبنكيران ليسا هما أوراضي، أو لم تكن الخيرات فائضة على الغرفة 13 خلال تواجد الآخرين معي قبل محاكمتهم وتسريحهم أمامي؟ أو لم تصبح الخيرات معدومة عندما بقيت وحدي أطمع في أكلة شهية أو سيجارة رفيعة ولا أجدهما؟».
وأنه أمام القاضي: «اكتشف أنه لم يطلع على المنشور الذي كان يوزعه!! إذ تسلمه في المساء «من مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في كيس محكم الإغلاق، وحين عودتي الى البيت وضعت الكيس تحت رأسي كالوسادة، في الصباح الباكر (...) وقفت أوزع المنشور دون أن أقرأه أو أدرك محتواه»!!.
على كل، هذا مناضل سياسي، انتقل من حزب الاستقلال الى الشبيبة العاملة بالاتحاد المغربي للشغل، انخرط في الاتحاد الوطني وظل يحضر اللقاءات السرية للحزب الشيوعي المحظور... ولا يقرأ البيانات التي سيوزعها!!؟
ورغم كل ما قد يثيره هذا الأمر من أسئلة «ماكرة»، فإنه بعد مغادرته للاعتقال (كم دام؟!) أصبح من أنصار «الاختيار الثوري» ومن المعجبين بالمهدي بن بركة بعد أن قرأ كتابا لصحفي مصري يصف فيه كيفية اعتقال الرجل وعنوان الكتاب هو: «بنبركة رجل العالم الثالث!»?
وظل الى جانب ذلك، يجتمع مع أعضاء الخلية الحزبية، إلى أن وقعت القطيعة من جديد بينه وبين الاتحاد (!!)، وبعد إحدى المواجهات التي يصفها الورادي في كتابه، تخلى عن الحضور «ومنذ ذلك الحين لزمت بيتي أهتم بدروسي، يقول الورادي (...) ـ واعتقدت بعد شهرين أو ثلاثة من القطيعة ان أصدقائي في الخلية والمنظمة الطلابية سوف لا يعتبرونني بعد مناضلا (...)، لكنني فوجئت ذات صباح بالطالبة زهور العلوي ـ خطيبة علي أومليل حينها ـ تخبرني أن الطلبة قرروا إيفادي لأداء فريضة الحج ضمن وفد يمثل المنظمة الطلابية»!! وقد قبل أوراضي هذا الاقتراح بعد «إيمان مفاجىء» أوحي إليه به قبل «ثلاثة أيام فقط» من العرض الطلابي! وذلك ما رواه هو نفسه بقوله: «وقبيل أيام ثلاثة من البشرى التي حملتها لي زهور العلوي، كنت قد عشت تجربة دينية لا تعوض، كانت مقبرة سيدي بن عاشر بسلا مسرحا لها، قبيل غروب الشمس وبعد طلوع القمر من مساء يوم لا ينسى، فقد أحسست أن رب العزة يضمني إليه (!!!) كما أحس من قبل القديس أوغسطين إذ عاش نفس التجربة التي عشتها كما ورد في اعترافاته»!
طبعا ستكون «اعترافات» الورادي غير اعترافات القديس أوغسطين، ولن يصبح الحاج «الورادي» قديسا كأوغسطين!
بعد الحج «الطارىء» على الورادي، التقى هذا الأخير بعمر دهكون ودار الحديث عاديا بلا منعطف أو حديث خاص، حديث صديقين يعرفان بعضهما البعض، وقد حكى الورادي عن اللقاء الثاني بينهما بهذه العبارات:
«عاد عمر دهكون مرة ثانية الى بيتي، كان يعرف وضعي المادي باعتباري طالبا أستاذا لم أتخرج بعد، وكان يحمل إلى منزلي كلما حضر إليه، ما يكفي لوجبة الغذاء أو العشاء، بل انه يفعل ذلك مع جميع أصدقائه ممن يعرف ضعف أحوالهم المادية، بل وقد يقدم لهم مساعدات مادية للتغلب على الزمن ـ كما كان يقول ـ ومازلت أذكر أنه ساعدني على شراء الأضحية بعد أن عجزت ماديا عن شرائها، وبعد أن أمعنت في التشبث بالسنة كعمل يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، وبعد أن رغبت رغبة أكيدة في تخطي التقاليد الدينية كالاحتفال في الأعياد، نظرا لفراغ جيبي، لكنه منع علي ذلك قائلا: «إنه عيدك الأول مع زوجتك، فلا أريد أن تظل وحيدا بين الجيران بلا أضحية».
بدأنا أحاديث في الموضوعات السياسية، وجد لدي تطابقا لأفكاره وشرحا لهمومه، رجوته بحكم تجربته وسنه أن يزودني بمعلومات كافية عن الصراعات السياسية في المغرب المستقل».
ومن الأشياء المثيرة حقا للتساؤل والاستغراب أن يقول الورادي «رجوته أن نفتح ملفات خاصة بكل شخصية سياسية مرموقة»!!
المهم، تشاء رواية الورادي أن اللقاءات ناقشت أيضا سؤالا محوريا حول: من يجلي الغموض الإيديولوجي، الذي كان سائدا آنذاك في نظره، وبالموازاة مع ذلك، بدأ دهكون ـ حسب نفس المصدر ـ «يأتي بالكتب» الى بيت الورادي ويتظاهر بنسيانها إلى أن جاءه بكتاب معنون بـ «المناضلون»، وقرأه مرتين وأثنى عليه بانبهار واضح لم يفت عمر دهكون «ولاحظت ـ يضيف الورادي، انه أبدى اهتماما بالغا بتعليقاتي على الكتاب، وتبين لي أن عمر لم يقرأ الكتاب فحسب، بل حفظ مضمونه عن ظهر قلب»، وجاءت الفرصة التي طرح فيها عمر دهكون على الورادي مسألة الاختيار من بين ماهو مطروح داخل الخريطة الحزبية، وفي سياق «الاستئناس» برواية الورادي، نورد، كما حكاه عن هذا اللقاء الحاسم.
سألني عمر قائلا:
ـ «هل أعجبت بالكتاب حقا؟
ـ نعم أعجبت به أيما إعجاب.
قال: هل تستطيع أن تتقمص في يوم ما شخصية أحد أبطاله؟
ـ نعم ولم لا.
قال: عندي لك حديث هام، كنت أتردد كل هذه الشهور في مفاتحتك فيه وأرى اليوم مناسبا لذلك.
ـ هات ما عندك من حديث، فقد استملحنا السهر.
قال: هل تذكر الزيارة التي قمنا بها في صيف سنة 1966 الى الفقيه البصري بالبيضاء؟
ـ نعم أذكرها جيدا وأتمثلها أمامي كحدث لا ينسى?
قال: إن الفقيه البصري يسأل باستمرار عن الطلبة الأكاديريين الذين زاروه.
ـ ولأي سبب يا ترى؟
قال: أنت صديق لي وأريد أن أقول لك وبكل صراحة: إن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة سألقي بها إليك كي ترتاح من التساؤلات التي سببت لك أرقا متواصلا.
ـ هات ما عندك فأنا منتبه.
قال: إن من يجلي الغموض الإيديولوجي ويصقله هو الفقيه البصري والمتعاطفون معه.
ـ كيف ذلك؟
الطريق إلى معسكر «الزبداني»

روى أواراضي أن عمر دهكون رحمه الله، أخبره أن الرجل «الذي سيجيبه عن أسئلته الحائرة وأسئلة اللحظة أيضا» ـ هو الفقيه البصري، فسأله أوراضي عن الكيفية التي سيتم بها هذا فأجابه حسب أوراضي دائما.
« إن فريق الجنوب ـ كما تعلم له هدف واحد ولاثان، إنه يسعى لاستئصال النظام من جذوره، وكل واحد يدعى الانتماء للاتحاد الوطني للقوات الشعبية دون أن يحمل في نفسه هذا الهدف، يعتبر بصفة مباشرة من المرتدين (يليه كلام حاقد ليس مجالا للتعليق).
قلت له: الآن فهمت، هل تعني أن الأمر يتعلق بتنظيمات سرية مسلحة يشرف عليها محمد البصري؟
قال: ذلك ما أعنيه بالتأكيد، وفي نفس الوقت أعرض عليك الانتماء لمنظمتنا.
مددت يدي إليه وصافحته بحرارة، قلت له بلا تردد: «أنا معكم منذ الآن، وهل من شروط؟
قال: العمل في الخفاء، واظهار الولاء للحكم، وتجنب العمل الحزبي، ومهاجمة السياسة والسياسيين، والتقرب من السلطة ورجالها، ومجاراتهم في كل مايبدو لهم حقا حتى وإن كان ظلما، ولتكن بداية عملك في المنظمة بازالة هذه الصورة الضخمة لقائدة الثورة الكوبية (تشي كيفارا).
لن أطيل في سرد كل ما يتعلق بعملنا السري في سلا، فقد كلفني بتكوين خلية من أربعة الى خمسة أفراد، وأخذ هو نفسه في الاتصال برفاق الدراسة لاقناعهم بالمشاركة، وكنت فعلا قد نجحت في التمويه وربط اتصالات عديدة على مختلف المستويات، كما نجحت في تكوين خلية من بعض رفاقي الأكاديريين، واستطعت أن أزرع فيهم روح الحماس والتمرد على الأوضاع المغربية القائمة، وهيأتهم مرة للاجتماع بعمر دهكون في منزلي، وقد كان في غنى عن التعرف عليهم قبل مخاطبتهم في شأن المنظمة وما ينتظرها في المستقبل من أعمال.
ومن الأشياء التي يسردها أوراضي وكأنها عادية وبسيطة هي حديثه عن تقديمه لأحد رجال الشرطة، كصديق مشترك «حتى بعض رجال الأمن هنا وهناك تم الاتصال بهم لاتخاذهم أفرادا في المنظمة»، والحال أن واقع هذا حق، وإن كنا ندري أن هذا استدراج من أوراضي لما سيأتي من بعد، لأن درجة التفاعل بين بعض رجال الأمن والمنظمة، كانت مختلفة كما سيأتي الحديث عن ذلك فيما بعد.
والمهم في الحكاية أن أوراضي تعرف عن طريق صديق له من أكادير على مفتش شرطة بسلا يدعى اعروس وكان أوراضي يعرف «أن اعروس كان دوما يراقب تحركاتي فأصبحت أكرهه وأتحاشى ملاقاته، لكن حسن اللباقة! دعاه الى «أن عانقته بحرارة!؟» وكذا استضافته في البيت. وبالفعل ـ يقول أوراضي ـ «عقدت صداقة متينة باعروس (مفتش الشرطة)، تبادلت الزيارات معه (...) بدأت أزوره في مفوضية الشرطة بسلا، أطلعني على ملفي هناك»!!
ويحسن بنا أن نعطي الحرية لأوراضي أن ليسرد «حقائقه» حول علاقته برجل السلطة كما أراد أن يدعو لها في سنة 1980، عندما أصدر كتابه بعد اعدام عمر دهكون بـ ..... سبع سنوات!!
«ازدادت علاقتنا مع الأيام رسوخا، بدأنا معا نوجه انتقادات مرة للحكومة، لأوفقير خاصة، بدأ يكشف لي عن سخطه، عن عدم رضاه عن وضعه العائلي، عن ظروفه المادية، عن الصعوبات التي وجدها حتى في تكوين أسرته، وكنت باستمرار أنقل الى عمر دهكون ما انتهيت إليه في علاقتي برجل الأمن الخطير في سلا، ولم أقدم على مفاتحته في موضوع المنظمة السرية إلا بإذن من عمر نفسه، وربما بإذن من الفقيه البصري كما اتضح لي خلال لقائي معه بباريس في صيف 1969.
المهم أن أعروس أصبح صديقا وعضوا في المنظمة السرية، وأصبح يعرف عمر وعمر يعرفه، ولكن الفرصة لم تتح لربط لقاء بينهما، كانا معا يرغبان فيه، غير أن الأهم هو الاتصال الذي كان يتم عن طريقي، فقد كنت واسطة وصل بينهما قبل حلول أكتوبر 1969، وكان أعروس يزودني باستمرار بمعلومات تتعلق برجال الأمن، تتعلق بمراقبة تحركات كل شخص شك في أن له اتصالا بالفقيه البصري، علاوة على معلومات عن الأشخاص المهمين في الشرطة، كل ذلك دون أن يثير عمل أعروس انتباه رؤسائه، والسبب يعود الى أنه كان مفتشا نشيطا على مستوى التقارير التي يقدمها عن تحركات الحزب وأعضائه بسلا، بل لطالما نعت أعروس أتباع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالجبناء المتعصبين الذين يسيرون خلف رجال هم أنفسهم متخاذلون.
من جهة أخرى، كان عمر قد توجه الى باريس والجزائر وسوريا في الفترة مابين 67 و 69، وكان عليه أن ينظم رحلات لتدريب الأعضاء الجدد في المنظمة، ومنهم خلية سلا ـ الرباط والتي ضمت في صفوفها أوراضي محمد، وكان عمر أيضا قد ذكر أمام محكمة 73 أن أوراضي كان ضمن المسافرين من أجل التجنيد.
ومما رواه أوراضي هذا: «كان عمر يقول لي باستمرار إن لدينا رحلة طويلة في الصيف للتدريب على استخدام السلاح وعليك أن تكون مستعدا ولا تنس أن تبلغ رفاقك في الخلايا خبر رحلتنا»، وعن تفاصيل الرحلة ذكر أوراضي أنه التحق بمعية عضو آخر من الخلية (الرباطي) بعمر دهكون في البيضاء».
«ووجدناه قد هيأ لنا تذاكر السفر كما زودنا بمعلومات لابد من تنفيذها الحرفي حين الوصول لباريز وخلال الطريق أيضا». يقول، ثم يضيف «قضينا الليل في منزل عمر، وفي الصباح الباكر كنا في المحطة لنستقل القطار السريع في اتجاه طنجة، وبعدها الى الخزيرات عن طريق السفينة، ثم عن طريق القطار في اتجاه باريز، وحين وصولنا لمحطة الشمال، قطعنا الشارع الذي يقابلنا عند المخرج لنقضي لحظات قلقة في مقهى مقابل لباب المحطة في نفس الشارع، حيث حاولنا الاتصال بالسيد عباس في الرقم التلفوني الذي سلمه لنا عمر، لكن بدون جدوى، وبعد محاولة رابعة ـ على ما أذكر ـ سمعنا صوتا يطلب منا صاحبه أن نتجه فورا لعنوان أملاه علينا بالحي اللاتيني.
خرجنا لنستقل سيارة الأجرة التي توقفت بنا أمام العنوان المطلوب».
وبعدها انتقل المسافرون الى فندق سيباستوول حيث قضوا ستة أيام، وصباح اليوم الأخير شدوا الرحال الى دمشق، ووصلوها في الساعة الثامنة مساء.
أقاموا في أحد المنازل ويواصل أوراضي الوصف بدقة كبيرة!! ما جرى بعدها. أخذ عددنا في المنزل يزداد يوما عن يوم، وفي اليوم الخامس من وصولنا عرفنا طريقنا الى الزبداني، الى منطقة بضاحية دمشق، تلك المنطقة المقابلة لجبل الشيخ ومرتفعات الجولان، تلك المنطقة التي كادت المدافع تغطيها، إنها منطقة عسكرية تجمع بين مختلف فئات الجيش، فهناك وجدنا الخيام مضروبة، وهناك تلقينا تداريبنا على مختلف الأسلحة، على يد الضباط السوريين، وعلى يد بعض المغاربة الذين أذكر من بينهم محمود بنونة الذي لقي مصرعه في حوادث مارس 1973 بكولميمة.
انتهينا من التدريب على استخدام مختلف أنواع الأسلحة مثل: ماص 36 وكلاشنكوف، ور ب ج، والمسدس الحربي الصيني، ومدافع الهاون، كما انتهينا من التدريب على طريقة القتال في مختلف الميادين. لقد تعلمنا مثلا قتال الشوارع، وتدربنا على اجتياز الأنهار والحواجز الصعبة كما تعلمنا قتال الجبال واحتلال المواقع، وتدربنا على نصب الكمائن والقيام بالدوريات».
النهاية وبداية الخلود

لعل أهم مرحلة في التنظيم السرى، كانت هي محطة 73.
بدأت الأحداث يوم 3 مارس 1973، وكان الغرض منها الهجوم على قيادة مولاي بوعزة ليلة 3 مارس، بهدف الاستيلاء على دخيرة رجال الدرك، ونفس الشئ كان مخطط له، وسيقع في كثير من المدن والقرى المغربية. وبعد تنفيد الهجوم من طرف مجموعة من المقاومين المسلحين حوالي 20 شخص، وقع خطئ في قتل أحد رجال القوات المسلحة (حارس التُكنة)، وبعد مقتل هذا الأخير، لم يتمكنوا المهاجمون من معرفة مخزن الذخيرة، وفشلت الخطة لكونهم لم يستطيعوا الحصول على السلاح ولا على مواصلة العمليات فقرروا العودة أدراجهم..
لكن حضور قواة الجيش كانت لهم بالمرصا، حيث وقعت المواجهة العنيفة، انتهت بسقوط العديد من القتلى والجرحى بين الطرفين. وفيما بعد تم إجبار أبناء المنطقة من طرف اليلطات ليقوموا بالبحث رفقة الجيش عن الفارين من المقاومين، وتم الهجوم على السكان والإعتداء عليهم، واعتقال العديد من أبناء المنطقة، وكان من بين الذين عانوا في تلك الأحداث مناطق أيت حديدو وأيت عبدي وتغاط وبويحمان، وأبناء قبيلة أيت خويا بسبب انتمائهم لحزب القوات الشعبية. بعد الأحداث بدأت موجة قمع واسعة وحملات تمشيط واختطافات واعتقالات تعسفية ومحاكمات غير عادلة وإعدامات خارج نطاق القضاء. بل وصل إلى العقاب الجماعي الذي مورس على كل تلك المنطق. قتل أثناء المواجهة المسلحة كلا من الشهيد محمد بنونة المعروف بمحمود كان قائد ثورة الأطلس، ورفيقه الشهيد مولاي سليمان العلوي المعروف بمولاي عمر و بمنصور وذلك يوم 5 مارس 1973، بالرصاص بعد مواجهات مسلحة في ساحة المعركة بأملاغو بمنطقة كولميمة. واعتقل موحى أو موح نايت باري المدعو الجزار، رفقة دحمان سعيد قرب تاغلافت يوم 20 أبريل 1973. وفي 6 ماي 1973 قتل الشهيد أسكور محمد المعروف بكاسترو. وقتل في ساحة المعركة بميسور يوم 8 ماي 1973 الشهيد ابراهيم التيزنيتي المعروف بعبد الله النمري، الذي كان قد عاد سرا من الجزائر إلى المغرب سنة 1971، ونزل في منطقة بين الأشجار رفقة محمد أومدة وأحمد بويقبة وظلوا مختبئين مدة سنتين قبل اندلاع الانتفاضة المسلحة، أو ما يعرف إعلاميا ب أحداث مولاي بوعزة، وهو قائد كومندو المجموعة التي قتلت عون السلطة (الشيخ) بمنطقة مولاي بوعزة، وذلك لأنه تصرف تصرفا غير لائق تجاه نساء المنطقة. للتذكير أن الشهيد عبد الله النمري كان من أهم وجوه جيش التحرير الوطني في منطقة الجنوب، وأصبح خلال سنوات المنفى في سوريا والجزائر عضوا نشيطا في القيادة العليا لجيش التحرير في المنفى. 
كما استشهد العديد من الأبرياء أثناء المعركة وبعدها، كما استشهد مناضلون آخرون في معتقلات سرية تحت التعديب وصل عددهم أزيد من 30 شهيدا. وهناك من هرب إلى الغابة خوفا من الاعتقال والقتل، وهناك من بقي فيها لمدة سنتين إلى حدود ماي 1975 وغادر إلى الجزائر. مثل حمو نايت عبد العليم، الذي بقي يتجول في الأقاليم إلى غاية صيف 1973 ثم غادر المغرب، وبعدها سيحكم عليه غيابيا في المحكمة العسكرية بالقنيطرة في نفس السنة بالإعدام. واضطر أن يعيش بالغربة بين الجزائر وفرنسا وبلجيكا لمدة 21 سنة، وبمجرد عودته إلى المغرب تم اعتقاله واستطاع من جديد أن يهرب من قوات الأمن، واضطر للبقاء في وهران إلى أن عاد نهائيا إلى أرض الوطن سنة 1994 بعد إعلان العفو الشامل. وتوفى بعد سنتين بتينغير في 3 شتنبر 1996. ومحمد أومدة أشهر أبناء منطقة مولاي بوعزة، الذي ساهم في تنظيم التمرد، وكان أحد قادة في الأطلس، استطاع مع مجموعة من رفاقه سنة 1975 مغادرة التراب الوطني في اتجاه الجزائر، من بينهم العجيني مولود ولعجيني محمد وعلي نكتو وعلي أمزيان وآخرون.. وعاش في المنفى 18 سنة متنقلا بين الجزائر وليبيا إلى أن وافته المنية بالجزائر. ثم محمد بن عبدالحق معروف بإسم ساعة، كان قائد لخلايا التنظيم السري بفكيك، حكم عليه غيابيا بالإعدام رفقة العديد من المناضلين، نجى من الموت لكونه بقي خارج المغرب متنقلا بين العديد من الدول العربية والأوربية، إلى أن صدر العفو سنة 1980.
يتذكر بعض المعتقلين الذين مروا من تلك المحن، أن (القمل سار فوق عيونهم وهم مكبلون الأيدي بمعتقل الكوربيس و درب مولاي الشريف)، وهناك من أرغم على (الجلوس على القرعة)، وهناك أيضا من (شرب البول وأكل أعقاب السجائر). ويحكي لحسن مسعود أنه لازال يبحث عن أخيه موحى وعقا المختطف منذ سنة 1973. ...
وحدو اللوزي الذي كان قائدا على خلايا سرية للتنظيم في كلميمة، اختاره الشهيد المهدي بنبركة في تجمع تاريخي بمدينة كولميمة مرشحا للاتحاد في الانتخابات البرلمانية لسنة 1963. أحد أطره الديناميكية الذين أدوا ضريبة ثقيلة على مواقفهم والثابت على مبادئهم. كان قد غادر البلاد إلى الجزائر سنة 1973، قبل أن يتم الحكم عليه غيابيا من قبل المحكمة العسكرية بالقنيطرة، غداة أحداث مارس 1973. تعرضت أمه وزوجته وطفليه لاعتقال، قبل اختطاف أخيه باسو اللوزي في نفس السنة من مقر عمله بمركز الاستثمار الفلاحي بورزازات، والذي لم يظهر له أثر منذ ذلك الحين حيث بقي مصيره مجهولا منذ سنة 1973. بعد اعتقال وتعذيب أفراد أسرته، أقدمت السلطات المغربية على احتجاز ممتلكاتهم. اضطر العيش في المنفى لمدة سبع سنوات. بعد سنوات الغربة عاد حدو اللوزي إلى أرض الوطن يوم 2 أكتوبر 1980، بعد العفو الملكي. أسلم الروح يوم 30 غشت 1997.
الحكاية لم تكتب بعد كلها.. ولكن التاريخ كتب الشهادة كاملة في حق الذين سقطذوا في ساحات الشرف.
عبد الحميد جماهري/10/29/2013

و بعد مرور أكثر من اربعين سنة على غتيال  الشهيد عمر دهكون و من معه، اعتبر الكولونيل عبد الله القادري ذلك اليوم اسوأ يوم في حياته عندما شارك في تنفيذ حكم إعدام "الأبرياء" بحضور الحسن الثاني حيث تم تكليفه بقيادة فريق تنفيذ الإعدام بالرصاص "le pelotonf d’exécution"، والقانون الذي يسري هنا، وهو قانون الجيش والذي ليس سوى تطبيق أوامر من هم أعلى منك مرتبة، هذا بالإضافة إلى أنني كنت في وضع ةلا يسمح لي بمناقشة الأوامر وما إذا كانت مطابقة أو مخالفة للقانون"أنا كان خصني نفك غير راسي" يقول عبد الله القادري، في حواره مع يومية المساء في عدد الغد الجمعة 2" غشت. 
ويتابع، عندما وصلوا إلى حقل الرماية، كانت هناك أحزمة مشكلة من القوات المساعدة وأخرى من الجيش وثالثة من الدرك الملكي، بالإضافة إلى فريق تنفيذ الإعدام بالرصاص، ولحظتها جاء الحسن الثاني مرفوقا بالملك حسين، العاهل الأردني. 

وقال في نفس الحوار أن هؤلاء لم يكونوا يستحقون الإعدام لأنهم جميعا لم يكونوا داخل اللعبة ولم تكن هناك حجة دامغة على تورطهم، قبل أن يضيف حول إحساسه من قتل رفاقه:" لقد كان ذلك أسوأ يوم عشته في حياتي، ولا أتمنى أن يتكرر يوم مثله في المغرب".

الناشر: http://yahayamin.blogspot.com/2014/10/blog-post_5.html#ixzz3u6OyDEDs

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق