الخميس، 10 ديسمبر 2015

من ادب السجون المغربية-الشاعر توفيقي بلعيد-

موضوع: الشاعر توفيقي بلعيد يطلق النار ويشعل حرائق السنوات المجيدة   السبت ديسمبر 05, 2009 5:25 am

حوار:الشاعر توفيقي بلعيد يطلق النار ويشعل حرائق السنوات المجيدة


حــــــــــــــــــــــوار(1)







االشاعر توفيقي بلعيد يطلق النار ويشعل حرائق السنوات المجيدة



الشاعر هو الكائن الذي يخرج من صلب ذاته ولا يدين لأحد بولاء الإلهام





لقد كان الشعر حلال السبعينيات سلوكا من أجل إرساءصروح العدل والخير والجمال....


الإنسان المعتقل والمحاصر قادرعلى الذهاب أكثرمن قيده بل ابعد من جسده






في هذا الحوار، الذي أجراه الصديق العزيز محمد مفيد مع الشاعر توفيقي بلعيد، مكاشفة واستبطان وحديث في أودية وشجون ومناخات تلتقي جميعها مع القصيدة باعتبارها انشغالا وَلُوعًا بالكلماتِ،وباعتبار كينونتها هي جزء من الحياة، أو هي الحياة كلها...

شاعر يكتب بمذاق خاص،يكتب من موقع الواجب والقصدية والوظيفة...لنلتئم معه في هذه الرفقة الطيبة،ولكم واسع الاكتشاف. ..(المحرر)



*********************************************************



حاوره مفيد محمد



س 1: ماذا يعني أن تقرأ الشعر أمام الجمهور في السبعينات و الآن؟



ج : إنك تعيدني إلى الزمن الملتهب،الرائع والأكثر نقاء من أكاذيب وانتهازية
الزمن الرديء...
الخمسينيات..الستينيات..السبعينيات:درب مشتعل بالحرب المقدسة ضد الاستعمار والإمبريالية والرجعية العربية..

حرب لا هوادة فيها ضد الانتهازية والخيانة والقهر...وكل أنواع المظالم التي
تمس الإنسان في كل مكان من هذا
الكوكب..حرب عادلة تلك التي انطلقت ضد الاستعمار وأذنابه،مرورا بالثورات للإطاحة بالديكتاتوريات...وصولا

إلى سنة 1968 ثورة الطلاب والشباب عامة بفرنسا والصين،ثورة سياسية
وثقافية ضد السكونية والزيف والاستغلال
المظاهرات التي اجتاحت بعض المدن العربية..انبثاق الثورة الفلسطينية من قلب
هزيمة الأنظمة العربية..الدار البيضاء سنة 1965 ..اليسار العربي وهو
يقتحم المواقع..ثورة عُمان..أحداث عَمان...اليسار المغربي يقيم المحاكمات
[ من قلب محاكم النظام] ويرفع من بين القيود علامات النصر وشعار
الاشتراكية والديمقراطية...الحرب الأهلية بلبنان..الشباب والمناضلون وهم
ينشدون: " هوشي يا بطل الثوار/ غدا سنلتقي في أنغولا/ في موزنبيق/ وفي فيتنام"..
أو وهم ينهون فصول محاكماتهم الجائرة بنشيدهم الرائع:

" لنا يا رفاق لقاء غدا / سنأتي ولن نخلف الموعدا / فهذه الجماهير في صفنا/
ودرب النضال يمدد اليدا / سنشعلها ثورة في الجبال/ سنشعلها ثورة في التلال /
وفي كل شبر سنبعثها / نشيدا يجدد روح النضال/ نشيدا يجدد روح النضال.../
فلا السجن يوقفنا والخطوب/ وليس يهدم عزم الشعوب/
طغاة النظام مضى عهدهم / وشمسهم أذنت للغروب/ وشمسهم أذنت للغروب..."
ما عسى الشعراء الأقزام،الذين يُقَعّدون للقعود،أن يفعلوا أمام هذا المد الملتهب؟
ما عساهم يقولون للجمهور الذي كان يتجاوز الآلاف أحيانا تهتز له مدرجات الكليات والشوارع..؟ماذا عسى أولائك الذين تسندهم المسابقات الشعرية لهذه الجهة أو تلك أن يفعلوا حينذاك..؟
أن تقرأ القصيدة وقتها أمام الجمهور معناه أن تكون قائد كتيبة من حلم ونبض
ومن المواقف الجليلة..وأن تكون قادرا على المجازفة وتحويل القوافي إلى فوهات مدافع تدك بها حصون الزيف وتعمل على إسقاط الأقنعة ،وأن تتهيأ لدفع
الثمن الغالي،ذلك الثمن الذي دفعه مجموعة من الشعراء سجنا ومصادرة أو تهميشا
من طرف السلاحف والأرانب المذعورة وقتها الصاعدة من خلفية
المشهد الخير،مدفوعة في خضم اختلاط الأوراق ،وفي خضم التنازلات مرتدية
لبوس الثعالب والحيات...
خلال السبعينات لم يكن هم القصيدة أن تتبرج لتنال إعجاب المارة،أو أن تتم
مغازلتها من طرف "ناقد" أخذ الثمن عدا ونقدا وجعة باردة..لقد كانت [القصيدة] سلاحا من أسلحتنا المتعددة،وكان المبدع صاحب قضية..كان عضويا بكل ما في الكلمة من معنى...
الآن،وهو ما تم التخطيط له من قبل،وبعد مجموعة من التنازلات والتواطؤات من طرف اتجاهات سياسية..وبعد أن فتحت الأحزاب التقدمية أبوابها لمجموعة من الانتهازيين الذين ينضحون بالفراغ على المستوى السياسي والأخلاقي،كان لابد،في لعبة الاستقطاب،أن تُفتح المباريات الإبداعية،المُقَنّنَة أهدافها سلفا،البابَ لمجموعة من الانتهازيين في ميادين الإبداع المختلفة..لقد تم تقزيم دور الشاعر حتى انحصرت الهموم في تجميل اللغة،بل في هموم تافهة أو الكتابة للجوائز... ومن هنا بدأ تهذيب
وقلم أظافر القصائد المتوحشة،وانطلقت سبة "عقلية السبعينات" من أفواه
تلاميذة ليوطي وكتاكيت دفء جلباب الآباء غير المبجلين...فبدأ التهميش يطال من
لم يرضخ..وتحالف المخزن الإداري والسياسي مع المخزن الثقافي الذي تمثله الوطاويط التي احتلت حبل الغسيل وتسللت إلى المواقع،متسلحة بشهادات التدجين وحسن السيرة والسلوك،حتى بلغ بها الأمر اليوم لفتح سجلات للحالة المدنية لمن تعتبرهم أبناء شرعيين،أي من تعتبرهم شعراء...حتى أكاد أتصورها تعطي شهادة "الخُلُوق"[أي شهادة الولادة] وشهادة الحياة والوفيات..ومن يدري قد تقوم بعملية الختان وعقد القران...


س 2: ماذا يعني أن يكون الشاعر بدون جواز سفر..؟



ج:الإنسان السوي ضد السكونية،فكيف بالشاعر..فحتى لو أغلقوا عليه كل المنافذ فإنه سيذهب أبعد من الجدران التي أحاطوه بها..سيذهب أبعد من قيوده..وسيذهب أبعد من الحدود،بل أبعد من جسده...

الإبداع صنو الحرية والمبدع هو الكائن العاشق للحرية بامتياز،وأي شعور بالنقص في هذا الجانب قد يؤديه في نفسه وإبداعه إيذاء بليغا،لذا محكوم عليه أن يبدع حريته من بين زرد السلاسل...

شعور فظيع ذلك الذي يشعر به الإنسان عندما يُجرّد من حقوقه،بحق أو بدون حق،والأفظع تجريده من حريته في التنقل،منعه من زيارة مدن أخرى ونساء أخريات والأصدقاء الذين توزعتهم الطرقات فوق هذا الكوكب...

الشعور بأنني محروم من توسيع دائرة ذكرياتي،ومساحة الأرض،وعدد الذبذبات والروائح والمشاهد وعدد أسماء النساء والرجال والدروب التي أرغب في السير فيها...من أجل كل هذا وغيره، من أجل أن أشعر بحرية أكبر خضت نضالا مريرا منذ صيف 1990 من أجل الحصول على جواز سفري،بمساندة مجموعة من الصحف الوطنية والمناضلين والمبدعين داخل وخارج الوطن،وقد نلت هذا الحق ربيع 1998 حتى ولو كان كما يُقال: "حدو طنجة..."...

إلا أن الحرمان من جواز السفر لا يعني أبدا تجريد المبدع / الإنسان من حرقة البحث عن الحرية،ومن مغادرة الحدود، لقد سلكت جميع السبل للقبض على حريتي من خلال الحلم والقراءات والمراسلات واستقبال أصدقاء من بلدان أخرى أو الهجرة كل ليلة عبر الفضائيات...لقد كنت في حاجة للتحايل،على نفسي وعلى الواقع،من أجل اقتفاء آثار القصيدة،وآثار الأشياء الفاتنة...فأصبح الإصرار على الحرية بحث عن الإبداع،والبحث عن الشعر بحث عن الحرية...

إلا أن الحرمان من جواز السفر له سلبياته على المستوى الواقعي،إنه يفتح المجال للكثير من الفارغين والأدعياء للسفر باسمك ومحاولة سرقة سر أسرارك
عندما يتحدثون باسم القصيدة هناك وأنت مقيدا هنا في إقامتك الإجبارية غير المعلنة...


س3: ودور اتحاد كتاب المغرب والجمعيات الثقافية في رفع المعاناة والمنع..؟



ج : لقد توصلت برسالة في شهر ماي 1997 تحمل قرار قبول عضويتي داخل اتحاد الكتاب فلم أشاء أن أبدأ بطرح مشاكلي كمدخل لهذا القبول الذي انتظرته منذ المؤتمر العاشر...أما بخصوص الجمعيات الثقافية،فقد راسلت فعاليات المهرجان الشعري السادس لمدينة سلا الذي أقامته جمعية الشعلة أيام 27-28-29 مارس 1998 دون أن تصدر عن كلمته الختامية التي تلاها قمري البشير أية إشارة... وفي هذا المضمار نفسه سبق وأن وضعت ملفا يضم النداء الأول في يد أعضاء جمعية بيت الشعر يوم 8 أبريل 97 وفي جلسة جمعتني يوم 16 أبريل 1998،بمناسبة الذكرى الأولى،بالشاعر الفرنسي برنار نويل وبالأستاذ محمد بنيس الذي سلمته ملفا ثانيا،تحدث هذا الأخير لبرنار نويل عن كون بيت الشعر طرح قضيتي على الوزيرة المكلفة بالشؤون الثقافية...وفي لقاء آخر بمناسبة معرض الكتاب بالبيضاء،بعد حصولي على جواز سفري،قال لي [أقصد الشاعر محمد بنيس] بأن البيت وضع ملفي بيد السيد محمد أوجار وزير حقوق الإنسان...؟؟؟؟؟؟؟؟

كأصدقاء داخل هذه الإطارات ساندني الكثيرون كمبدعين وكصحفيين...أوجه شكري مرة أخرى للجميع...



س4: كيف تتلقى أغنية "بدون جواز سفر"؟

ج : أعتبر نفسي،وبدون ادعاء،أحد الذين عملوا على نشر الأغاني الملتزمة
والتعريف بكل من "الشيخ إمام" و"مصطفى الكرد" و"قعبور"و"مارسيل خليفة"...وذلك عندما أسست سنة 197مجموعة "الطلقة الغنائية" صحبة الفنان المقتدر"كدّا محمد" [جمعية لم تطلب ترخيصا من السلطات أبدا] هذا التأسيس الذي تعزز سنة 1980 بالصوت الملتزم الرائع"امكيشري عزيز" وهي المجموعة التي ستتعزز فيما بعد بكل من سعيدة قاوتي وحليمة حامض والطفلتين ،آنذاك،لمروني جميلة وبشرى...وكان من ضمن الأغاني التي كنا نؤديها أغنية "بدون جواز سفر"...وقد شكلنا وقتها إلى جانب الثلاثي وليد ثريا دانيال،والثنائي إسماعيل ثريا الحضراوي (مغنية الملحون الحالية) وسعيد المراكشي...كتيبة تتصدى للأغنية الفارغة،لذا لم يكن من قبيل الصدف أن أبدأ ندائي الأول من أجل الحصول على جواز سفري بأبيات من هذه القصيدة/ الأغنية،هذا النداء الذي نشرته الصحافة الوطنية خلال سنة 1997...
أغنية جواز سفر رافقتني عبر كل جولاتنا التي قمنا بها للمدن المغربية في إطار التبشير بعالم تسوده العدالة والديمقراطية..

وهي واحدة من الأغاني التي كنا نتحلق حولها من أجل إحياء ذكرى من ذكرياتا المؤلمة المجيدة...وقد كانت تلامس أوتار الروح لبحر هائل من الناس،فكيف بالذين تنطبق على مسار حياتهم...

بدون جواز سفر

ولدت كبرت

رأيت بلادي تصير سجونا...

إنها من الأغاني الملتزمة التي تهزني،مثلها في ذلك مثل أغنية أناديكم،أو أغاني الشيخ إمام "تشي غيفارا" أو "قهوة ريش"...

إنها أغاني تعري أقنعة الزيف وتعيد إلى حدائق النفس الربيع وشموس التحدي من جديد وتحارب التسوس والتعفن الذي تزرعه أغاني الفراغ وأغاني:"خويا الجدارمي عش
غا انت أحنا أرجانا فالله..."..
أغنية بدون جواز سفر كانت تشعرني بوحدة مصيري ومصير الكثير من الشرفاء المحاصرين في فلسطين والشيلي وغيرهما،ومن داخل هذا الشعور كانت تكبر مساحة حريتي...

وأغتنم هذه الفرصة لأوجه نداء من أجل انطلاق حملة لإحياء أشرطة الأغاني الملتزمة بواسطة الجمعيات والمنظمات الشبابية،حتى لا يضيع هذا الإرث العظيم وتنتصر أشرطة المجون والهلوسة والدجل...



س5 : علاقة "السجن" بالقصيدة في تجربة توفيقي بلعيد؟



س : القصيدة عندي سابقة على السجن،ذلك أنني حاولتها منذ سنة 1965 وأنا بمدرسة"الأباة"الابتدائية [بحي سيدي البرنوصي ] ،وعندما تم اعتقالي يوم الجمعة 10مارس1972 كنت أبلغ من العمر تسعة عشر سنة،كانت التجربة الإبداعية مليئة بالثقوب وبالصراخ وبأخطاء البدايات،لكن وجودي بين خيرة المناضلين والمثقفين لعب دورا كبيرا في تطور تجربتي...

تجربة السجن مُرّة يخفف من مراراتها وهمجيتها،في تلك الظروف القاسية،إيمانك بقضيتك،ووجود رفاق مخلصون قادرون على حمايتك من التآكل،مستعدون على طول الخط التدخل من أجل إنقاذك من الانزلاق ومن اليأس،هنا تلعب الجماعة لعبتها في تحويل السجن إلى مدرسة تنتج الشعراء الحقيقيين والثوار الحقيقيين أو تعيد إنتاجهم وإنضاجهم...[عندما نسي المناضلون دروس تجربة السجن أصابهم التآكل والانحراف...]..فمن قلب السجون تظهر علامات الانحراف وعلامات العافية...

من قلب السجون ينبع الثوار

يا شعب الثوار هدم الأسوار

هدم الإقطاع معقل الاستعمار...

هذا واحد من الأناشيد التي كنا نرددها داخل السجن ،والحناجر التي كانت تصدح به متحدية الجلاد،هي التي عمل أصحابها،كل من موقعه ، على أن تندرج قصيدتي في صراعنا الطبقي ضد الناهبين والمستغِلين والمُغْتصِبين،وأن ترتفع فوق "الغزل" والأمراض الذاتية والتفاهة...لتعانق هموم الناس الطيبين،بدون وهم أو ادعاء...

لقد كنت محظوظا، إذ كنت ضمن مجموعة من خيرة الرفاق أولتني عناية خاصة لأن تقوية الرفيق وتحصينه وتقويمه [من خلال النقد والنقد الذاتي] كانت جزء من تقوية خط المواجهة وتوفير فرص اكبر للصمود والمقاومة...

لقد أثمر الإحتضان فنشرت أولى قصائدي أواخر سنة 1972 بالمنشورات السرية لليسار،ونشرت أولى قصائدي العلنية سنة 1975 بالملحق الثقافي لجريدة العلم(2)...

إنني أتساءل اليوم كيف كانت ستصبح تجربتي الإبداعية بدون محنة السجن؟



س 6 : ما هي العلاقة"الفكرية" التي يقيمها الشاعر توفيقي بلعيد بكل من الشاعر عبد اللطيف اللعبي..ناظم حكمت..محمود درويش..أدونيس؟



ج :هؤلاء كلهم عاشوا تجربة الإبداع والمواجهة من أجل إعلاء قيم الجمال والعدل والنبل، وإن بمستويات مختلفة،وذاقوا مرارة الحصار والقهر وكان سلاحهم في وجه الوضاعة إبداعاتهم الخالدة...إنها الخصائص التي جعلتني أنصت لأصواتهم باهتمام كبير،لما لهم من مصداقية ،وقد تجاوزت علاقتي بهم العلاقة الفكرية إذ أن بعضهم جمعتني وإياه الهموم المشتركة المباشرة مثل عبد اللطيف اللعبي ومحمود درويش...ذلك أنه منذ أبريل سنة 1972،يوم وقعت عيني على الرجل الملتحي الذي تغطي عينيه العصابة ونحن ننشد داخل سيارة البوليس التي تنطلق بنا، من مخفرنا السري،نحو السجن:"عم الضوي الشمس والجماهير في السجن..." وعلاقتي بعبد اللطيف اللعبي تداخلت فيها عناصر المحنة التي مررنا بها بعناصر الإبداع، خلال الخمس سنوات التي قضيناها معا استفدت منه كثيرا ومن الرفاق الآخرين، إنني عندما أعود اليوم لكتاباته،أو ما تبقى منها عندي،أحس وكأنني أدخل مدينة أحلامنا المجيدة،حيث يسمو الإنسان فوق جراحاته ويصغر الجلاد...لقد كنت في بداية الطريق وكان اللعبي اسما معروفا كمناضل وشاعر،ورغم فارق السن الذي كان بيننا لم أشعر منه بذلك التعالي الذي نجده عند الديوك الرومية اليوم..لذا استطاعت كلماته أن تنفذ إلى داخلي...وتطورت علاقتنا وهي لازالت ترفع من إيقاعها حتى هذه الساعة...

عبد اللطيف اللعبي من شعراء القضايا الكبرى ، قضايا الشعوب وقضايا الإبداع منذ مجلة "أنفاس" مرورا بديوانه الأول وبما قدمه لشعر المقاومة الفلسطينية حتى ديوانه الأخير"شجون الدار البيضاء"...وأستطيع أن أقول بأن من خلاله ومجموعة من الرفاق تعرفت على الشاعر العظيم ناظم حكمت الذي ترك لنا المثل الحي بين وحدة القول والفعل، وكيف يجب أن يكون الشاعر ملتزما إلى آخر شطآن الالتزام والعطاء للحد الذي قضى أكثر من نصف عمره بين السجون والمنافي..لقد شكل نبراسا في طريقي المليء بالمتاعب والأشباه...

لقد كان ضمن الدوافع التي دفعت بي للنضال،إلى جانب وضعي الاجتماعي، هو هزيمة الأنظمة سنة 1967، ولن يتضح لي البديل إلا بزيارة مكتب مساندة الثورة الفلسطينية [مقر فرع الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني المسلح] الذي كان بالدار البيضاء [حدث ذلك في بداية السبعينات]،من هنا فُتحت لي نافذة على عالم آخر وأسلوب آخر في النضال ومن هذه النافذة أطللت على شعر فتي الثورة:"عفوا فلست بسيدي / حتى تكون رسالتي عنوانها يا سيدي..." على سميح القاسم،أحمد دحبور..محمود درويش:"سجل أنا عربي/ورقم بطاقتي.../ وأطفالي ثمانية..."

وبلغنا درجة من التوحد عندما كنت بزنزانتي واكتشفت في لحظة ضيق قصيدة:"يا دامي العينين والكفين / إن الليل زائل / لا غرفة التوقيف باقية / ولا زرد السلاسل / نيرون مات ولم تمت روما / بعينيها تقاتل / وحبات سنبلة تجف / ستملأ الوادي سنابل.."...ومن يوم أن أعلن محامي الثورة الفلسطينية بمحاكمة الدار البيضاء صيف 1973 بأن :"أنيس بلا فريج ومحمود البوعبيدي وتوفيقي بلعيد هم طلائع الثورة الفلسطينية بالأحياء الشعبية.." وكل ما يأتي من أرض القديسين والشهداء يؤثر في مساري الشعري والوجداني...إلا أن اتفاقية أوسلو وما تلاها من رفع الأصابع لتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني الذي هو ميثاقنا كلنا[حز الأمر في نفسي كثير..]..أما أدونيس،

أقصد علي أحمد سعيد،فقد اكتشفته هو أيضا داخل السجن،من خلال ديوانه"المسرح والمرايا".. لم أفهمه في البداية [كان سني وقتها لا يتجاوز التاسعة عشر ربيعا..] لكنني همت بأسلوبه وبطريقته في مسرحة تجربته الشعرية،وبعدها توالت قراءاتي له لكنني تركت دائما مسافة بيني وبينه،إلا أنني لا أنكر بأنني استفدت من تجربته،وقد أحببته لحد أن أصغر أبنائي يحمل اسم"أدونيس"،ومكتبتي تعج بجل دواوينه...



س 7:كيف تقيم وضعية الشعر بالمغرب بعد نشر ديوانك "منعطفات سائبة"،إنتاجا وتلقيا؟



ج:في البدء يجب أن نؤمن بأن الشعر منبع سري،جدول يمتد في الخفاء،ينشده الثوار في مواقعهم وقبل بدء أي عمل بطولي،ينشده العشاق...ويحمله الشهداء معهم إلى مثواهم الأخير من ضمن أسرارهم العديدة،ويعبر دواخل الأبكم دون أن يجد الوسيلة للبوح فتنهمر العَبرات...الشعر يزهر أحيانا في ليل الخطيئة وفجر التوبة الصافي..نجمة السماء المقدسة...وما ينفلت من تحت يد الرقيب هو ما يصل إلينا على شكل قصائد نسميها تجاوزا شعرا،وما هي في الواقع سوى ثرثرة على ضفاف ذلك النهر أو حذلقة على شطآن اللغة..القليلون والقليل من القصائد هي التي تحمل رائحة المنبع الأول...لذا عندما أحاول تقييم وضعية الشعر بالمغرب،أجد نفسي أطر أسئلة من مثل:أي شعر يعنون عندما يصنفون؟ علما أن هناك مِنَ الأصوات مَنْ ضُرِبت عليها حصارات التعمية والصمت،وأخرى تسندها هذه المؤسسة أو تلك أو تدخل تحت حماية هذه"القبيلة الإبداعية" أو تلك...

الشعر بخير إذا ما رُفعت عنه يد الوصاية،وابتعد الشاعر عن الانحشار في هذا الدكان أو ذاك من تلك التي تدعي تمثيل الإبداع والشعر وهي لا تسعى سوى لخدمة هذا الاسم أو ذاك...

الشعر بخير نحس ذلك في ما نتبعه من ما ينفلت من التهميش والرقابة الملشاوية،ذلك الذي يطلع علينا في تجارب الشباب وفي المجامع الشعرية التي اقتطع أصحابها ثمنها من رغيفهم...

بالنسبة لي فقد يعود نجاح ديواني"منعطفات سائبة" إلى المسار الذي قطعته تجربتي المريرة مع المنابر والمؤسسات [ دفع الإبداعي ضريبة عن انتمائي السياسي لليسار الجذري] يعود أيضا إلى لغتي التي لم تهادن يوما..وأيضا،وبشكل عميق،لعشاق الكلمة الملتزمة وللأصدقاء ولمجموعة من المواطنين الذين اقتنوا نسخا منه حتى قبل أن يُسحب من المطبعة،حيث تم اقتناء النسخة منه أحيانا بين مئاتين وخمس مائة درهم..وقد لعبت المنابر الثقافية ،فيما بعد،والجمعيات دورا،جعلني أبيع ألف نسخة من أصل الألفين التي أصدرتها على نفقتي،في وقت وجيز،بل حتى قبل سحبها كلها من المطبعة...

إن الشعر بخير عندما نوظفه كسلاح في قضية من القضايا النبيلة،وعندما نؤمن به كقضية ضمن قضايانا الكثيرة...وأنا على يقين بأن الشاعر الذي يحفر على الجدار بأظافره لإثبات الذات هو الذي سيبقى في بال الناس والزمن بعد أن تنتهي مهرجانات الزيف والتزلف...

فأنا يمكن أن أفهم أن يكون لأحدهم أب يرعاه ويحميه في حقل السياسة والوظيفة،لكنني لا أقبل أن يكون للمبدع أب...فالشاعر هو الكائن الذي يخرج،بمساعدة الطبيعة،من صلب ذاته،ولا يدين بأي دين لأي أحد...اللهم فيما يتعلق بالاستفادة من تجارب الآخرين...والإنصات لكل الأصوات ليتبين ذلك النداء الذي خصته الحياة به دون سواه..نداء قادم منذ الأزل ذاهب نحو الأبد،لن يقدر على إيقافه أحد أو حتى تقليده..لأن كتابة المبدع كالبصمة قد تتشابه لكنها متميزة عن غيرها،لذا لا يجب الخوف من المزاحمة..اتركوا مليون زهرة تتفتح وألف مدرسة تتبارى...



س 8:ما معنى أن تكتب القصيدة في السبعينات بالمغرب؟



ج:أن تكتب القصيدة في السبعينات معناه أن تكون منخرطا في مشروع واحد من الأحلام المشرعة على التغيير،تغيير العقليات،تغيير الأسلوب،تغيير الواقع...لقد اخترتُ الكتابة من زاوية الالتزام فاصطففت إلى جانب المنخرطين في مشروع الحلم الكبير،وهو ما يستوجب طرح الأسئلة من مثل لمن نكتب؟ أي الإصرار على عملية التواصل..هذا الاختيار يفرض عليك تقطيع حروفك من غابة اللهب،وأن تكون قادرا على أن يكون الشعر ممارسة حياتية فوق أرض الواقع،ذلك أن الشعر سلوك أكثر منه تحبير للصفحات..وهو ما يستدعي الانخراط في صياغة نشيد التحدي الصارخ بدل نصوص المهادنة والنكوص..لقد كان للسبعينات مناخها الخاص بالنسبة للزاوية التي أنظر منها والتي لم أتخلَ عن النظر منها وإن كنت قد أنْضَجْت رؤيتي للأشياء انطلاقا من التحولات والتحويلات التي حدثت...

سيُطرح سؤال القصيدة المنشور والصراخ والمباشرة..سأرد بأن المعركة الشرسة كانت تتطلب حناجر تصدح بالنشيد والاحتجاج،كان المطلوب أن نرفع عاليا أصواتنا بأسماء الشهداء الذين سقطوا ة على أرض المعركة،حتى لا تضيع في ضجيج الأحذية ويراكم عليها الأشباه أكوام الصمت...إن الظروف فرضت أن تكون القصيدة ملتحمة بالشاعر المنخرط في زخم الجموع المتحركة نحو الخلاص..إن اتساع هامش الحرية الذي نعيشه اليوم هو نتاج لذلك الزخم بعطاءاته على المستوى الثقافي والإبداعي والسياسي...إن سخرية التاريخ أن يستفيد من المكتسبات أغلب الذين لم يضحوا من أجلها...





س 9 :بعد هذا التعب الجميل كيف تتلقى ومض القصيدة الفاتن؟



ج:يأتي ومض القصيدة من داخلنا،من طراوة الطفل المشاغب الكامن فينا...وعندما يصيب التعبُ ذلك الطفل،تبدأ نار "بريمثيوس" تخبو..ولأنني تلقيت عدة طعنات غادرة..وعاندت ما مرة ووقفت,,ولأنني خُدعت ما مرة ورفضت أن أفقد سذاجة الطفولة وصفاءها،فأعاد،الأشباه والفارغون ومن بقلوبهم مرض،عملية الخداع من جديد..لذا يشعر طفلي بنوع من التعب،وأشعر بغياب اليقين..لذا حولت الدفة نحو الرواية..إنني أستريح بالعودة إلى نصوص بدأتها منذ أكثر من عشرين سنة (1973) داخل السجن،أو منذ أكثر من عشر سنوات (1984)،وقد عملت على إصدار واحدة منها تحت عنوان :"أوراق رجل من زماننا" على صفحات جريدة المنظمة في حلقات خلال رمضان (يناير1997) تتطرق لتجربة الاعتقال السياسي...لدي مجموعات شعرية تنتظر،لكنني أحلم بالقصيدة الأجمل كما يحلم العاشق بالمرأة التي سيتحقق معها الحب في أسمى وأبهى صوره...وأنا على يقين أن لحظة انبجاس الينبوع الشعري ستحدث..إنها لحظة الحب العظيم القادر على إحداث المعجزة...

أما إذا كنت تقصد ومض قصائد الشعراء الآخرين..فأنا الآن مثل ربان باخرة ضائعة في اللجة أتلقى القصائد كإشارات على وجود اليابسة فأفهم بعضها وأنتشي لما ترمز إليه:استشراف المستقبل...وتضيع الومضات الأخرى في ضجيج الزحام...

وشكرا على أنك حركت الجمر الذي كان يكسوه الرماد...

أنجز هذا الحوار صيف 1998


......................................................

(1) نُشر هذا الحوار بجريدة"المنظمة" عدد 533 الأربعاء30 شوال1419الموافق17 فبراير1999

(2) المقصود قصيدة:"رحلة عبر خطوط النار الأمامية/الجمعة 25ماي1975بتوقيع التأباء السباعي.
...............................
 ولد سنة 1952، بمدينة الدار البيضاء.

حاصل على شهادتي الباكالوريا، والكفاءة التربوية، كما على شهادة الجامعية الربيعية لحقوق الإنسان (أكادير، 1999)، وشهادة تكوين المعهد الشبابي لحقوق الإنسان (1999).

يشتغل قيما لمكتبة مدرسية.

عضو منظمة العفو الدولية،.

عضو منتدى الحقيقة والإنصاف

عضو في مجموعة من الجمعيات الثقافية.

التحق باتحاد كتاب المغرب سنة 1998.

ينشر كتاباته، بصحف، العلم، المحرر، بيان اليوم، الاتحاد الاشتراكي، المستقل، أنوال، المنظمة، وبمجلة عالم الفكر الديموقراطي.

له:

- منعطفات سائبة: ديوان شعر، 1996.

- ذاكرة الجراح: رواية، 2001.

..............................
الأديب توفيقي بلعيد يصدر رواية جديدة بعنوان: مسارات حادة جدا

الأديب توفيقي بلعيد يصدر رواية جديدة بعنوان: مسارات حادة جدا

الرباط ـ من محمد كريم الإدريسي: عن كلمات للنشر والطباعة والتوزيع بالرباط، صدر للكاتب المغربي توفيقي بلعيد رواية جديدة تحمل عنوان: مسارات حادة جدا، (206 صفحة من القطع المتوسط) وهي روايته الثانية بعد 'ذاكرة الجراح' التي صدرت له عن مطابع فضالة سنة 2001.
تعالج روايته الجديدة مرحلة حاسمة من تاريخ كاتبها الذي أمضى سنوات الرصاص سجينا من أجل أفكاره... وإنتمائه السياسي، حيث فتح من خلالها نوافذ مشرعة على حياته وعلاقاته السياسية والإنسانية، منذ أن كان صبيا إلى أن أطل على فضاءات الكهولة.
'مسارات حادة جدا' بلغتها الطيعة، وأسلوبها الرشيق، تقود قارئها بسهولة ويسر إلى الدروب والمنعرجات التاريخية التي اختارها الشاعر والأديب توفيقي بلعيد لفصول ومشاهد روايته الجديدة التي أكد من خلالها قدرته اللغوية والإبداعية، وقدرته على احتراف العمل الروائي.

* القدس العربي
2012-11-30











مواضيع ذات صلة
حركة 20 فبراير تحتفي بذكرى بلهواري و الدريدي
القاعديون .. « ثورة » في فنجان الجامعة
شعارات سياسية كبيرة وصراعات مع جميع الأطراف وغياب في الشارع
بيان
الجلادون «بالعطف»
أحمد شهيد المفرج عنه من معتقلي ما يعرف بمجموعة 71:الدولة توظف من خلالها ظاهرة الاعتقال السياسي بما يخدم مصالحها

أصدقاءك يقترحون

مجموعة مراكش تجربة اعتقال قاسية : إيقاظ الذاكرة والنبش في الجمر
توفيقي بلعيد نشر في أخبار الجنوب يوم 05 - 03 - 2012

منذ كتابه الأول "مجموعة مراكش " بعنوانه الفرعي"انتفاضة يناير 1984" (الطبعة الأولى دجنبر2006) والمناضل الأستاذ حسن أحراث يحفر في تجربة قاسية كان هو أحد حطب محرقتها المهولة، إلى جانب رفاق منهم من قضى ومنهم من يحمل عاهات في النفس والجسد... حفر في جمر حتى لا يغطي الشعلة رماد النسيان، وهو بذلك يستمر على درب الوفاء لشباب قضى بعضهم تحت التعذيب وحمل الآخرون عاهات مستديمة عجلت برحيل زنابق كانت تحلم بغد جميل لهذا الوطن، ووشمت آخرين بعاهات جسدية ونفسية لازالت شاخصة شاهدة على الإجرام الذي مارسته خفافيش الظلام ضد مواطنين عزل إلا من مبادئ وأحلام...
في إصداره الجديد" مجموعة مراكش تجربة اعتقال قاسية" (الطبعة الأولى يناير2012)، يصر المناضل حسن أحراث على المضي في نفس الهدف، إشعال حرائق الذاكرة، استدعاء الشهداء من مقابرهم ليثبتوا حضورهم المزعج، فضح الجلادين بكل صفاتهم (من البوليس السري والسجان والطبيب...)، ويعلن أن معركة الحقيقة والإنصاف ما تزال مستمرة... وأنه لا مصالحة حقيقية بدون عدالة حقيقية، وديمقراطية حقيقية، ومحاكمة حقيقية لكل الجلادين...
يتوزع المُؤَلَّفُ الجديد إلى محطات قاسية نحاول أن نقدمها من خلال فهرسه:
تقديم (ص(5)- لماذا نكتب الآن؟ (ص7)- مجموعة مراكش 1984 (صCool- معركة الشهيدين الدريدي وبلهواري (ص16)- بلاغ وزارة الداخلية (28)- إضراب عن الطعام:ست سنوات (32)- أمي السعدية(ص 34)- شهيدان آخران بعد الشهيدين بلهواري والدريدي(ص37)- فاجعة فقدان محمد عباد(ص40)- عرس الشهداء(43)- عائلات مجموعة مراكش(ص45)- أوراق مبعثرة من ملف اعتقالي(ص48)- لقطات من تجربة الاعتقال:* الهراوي والبركاوي(ص66) / * الزنزانة رقم 10: لا للولاء(68) / * الشهيد بلهواري:"طوالة أ با حسن"(ص70) / *تشتيت مجموعة مراكش(ص72) / * الرحلة إلى السجن المدني بأسفي (ص73) / الشهيد بلهواري في مشهد تحد وشهامة (ص 76) / * وجبة سيئة تسيل اللعاب (ص 77) / * توحيد الإضرابين (ص 78) / * مستشفى محمد الخامس بأسفي، صيف 1984 (ص 79) / * أسوأ حكاية (ص 81) / الأستاذ الحسين بارو (ص 83) / * معركة ضارية من أجل انتزاع جهاز راديو صغير(ص 84) / * مستشفى الصوفي بالدار البيضاء(ص85) / * علاقة الإضراب بالبوليزاريو (ص 87) / * الطبيب الإقليمي داخل الكاشو (ص 96) / * الحارس الممرض (ص98) / * الجناح رقم 17،أو قسم الإنعاش الجراحي (ص 99) / * عندما تم اعتقال أختي السعدية وأخي الحسين (ص 100) / * عندما زارت نعيمة مراكش لأول مرة (ص102) / * رسالة معبرة من بين رسائل أخرى (ص 105) / * شهادة رفيق عزيز(ص 108) / *عندما كنت رئيسا لجمهورية المغربية (ص112) / * الضابط زوج أرملة علال بن عبد الله (ص 115) / * السرقة الموصوفة (ص 117) / * من دهاليز ابن رشد:"با محمد"(ص 119) / * عندما خدعت" با محمد" (121) / * سلاح الرياضيات (ص 122) / * كان حارسا طيبا (ص 124) / * حارس لم يصدق عينيه (ص125) / * "عفا عليكم سيدنا" (ص127) .
على مدى 127 صفحة من الحجم المتوسط يجعلك المؤلف / الشاهد تجري وراءه بدون توقف، تكتشف الفظاعة، التي في فترة من ذلك الزمن المقيت، سكت عن فضحها الإعلام الحزبي، حتى التقدمي منه- إلا فيما نذر- وصمت الفرقاء السياسيين، بكل ألوانهم، بل وتعامل البعض- القريب من تجربة اليسار الجذري والمحسوب عليها- باستخفاف غير مفهوم...
على مدى 127 صفحة تطالعك نذالة المرتزقة من كل الأنواع، وتصادف البشاعة التي يتم التعامل بها مع"ضيوف" المؤسسة القمعية (بالمخافر السرية والسجون)، وكيف يسئ الاستعمال المنحرف للسلطة إلى أنبل المهن، فتغذوا المستشفيات قلعا للتعذيب والقتل.. كما تطالعك بطولة مناضلين مؤمنين بالقيم التي يضحون من أجلها، وسمو الأخلاق لأناس يطمحون لبناء عالم جديد تنتصر فيه قيم العدل والجمال والحب... وإذا كنت ممن خبر تجربة الاعتقال في مغرب القرن العشرين- حيث غياب وسائل الفضح والإعلام المستقل- ستحبس دموعك أكثر من مرة، وستدرك جسامة التضحيات التي قدمها المناضلون لتجد الأجيال الحالية هذا الهامش من ديمقراطية الواجهة...
كتاب " مجموعة مراكش تجربة اعتقال قاسية"، ليس كتابة بالفحم، أو بمداد زاهي الألوان، إنه كتابة بالدم تغمس ريشتها في جرح لا زال نازفا، إنه كتاب ليس للقراءة فقط بقدر ما هو فضح مستمر حتى لا يفلت الجلاد من العقاب، عقاب الضمير، إذا ما أفلتته التواطؤات من عقاب محكمة عادلة... الكتاب أيضا وثيقة وشهادة، ستسعف الأجيال الحاضرة والقادمة...
هنيئا للمناضل حسن أحراث على هذا المنجز، هنيئا لرفاقه على انتصاراتهم، هنيئا للشرفاء المبثوثين بين مخالب اآلة القمعية، الذين أعاد لهم هذا الكتاب الاعتبار، وهنيئا لمرأة تحدث الخوف متسلحة بالوعي والمحبة (رفيقة حياة المؤلف)...هنيئا للقراء الذين سيطلعون على صفحة رمادية ومشرقة في الآن نفسه لما حدث، من أجل النضال الحازم والدؤوب ليتوقف نهائيا على أن يستمر فعل تكرار ما حدث وما لا يزال يحدث لحد الآن...



أنشودة وفاء لامرأة على صراط العطاء
بلعيد توفيقي نشر في مراكش بريس يوم 22 - 10 - 2011

أحيانا تكون الكلمات الدافقة من نبع الحنان، وعمق المحبة، كشلال منساب من الذكريات والإعترافات أثمن في وهجها من كل النفائس والدخئر، ذاك مافعله الشاعر بلعيد توفيقي في هذه الباقة المهداة إلى الأستاذة السعدية بلموذن إنسانةً سيدة ناضلت من أجل الحياة والمحبة على سبل يجللها الصدق والصفاء:
أنشودة وفاء لامرأة على صراط العطاء أحيانا تكون الكلمات الدافقة من نبع الحنان، وعمق المحبة، كشلال منساب من الذكريات والإعترافات أثمن في وهجها من كل النفائس والدخئر، ذاك مافعله الشاعر بلعيد توفيقي في هذه الباقة المهداة إلى الأستاذة السعدية بلموذن إنسانةً سيدة ناضلت من أجل الحياة والمحبة على سبل يجللها الصدق والصفاء : بلعيد توفيقي
سيدة من جنوب البلاد
من شروق الروح ونبض الفؤاد
حيث ينهض الطين شامخا وجع التمر والنخيل
والجبال رواسي لمنظومة اليقين
ربيبة الأعالي والسفحِ والخريرِ
عجنتْ قيم المروءة
وأقامت صرحها النبيل
بعرقٍ وجبينْ
وبكل ما تملك الحرائر من كبرياء
علمت أجيلا فلما عم من كفها الضياء
علمتنا كيف يكون الوفاء وفاء
وكيف يكون العطاء




موضوع

قائمة الصحف
Maghress

طنجة: الزاوية الصديقية تنظم حفل بمناسبة المولد النبوي الشريف أخيرا.. تثبيت محمد اليعقوبي في منصب والي جهة طنجة تطوان الجيش المغربي يوقع صفقة مع إسرائيل ويتسلم طائرات بدون طيار للتجسس ارتفاع قياسي في الصادرات باستثناء الفوسفاط سنة 2013 المصريون يصوتون ب98 في المائة لفائدة الدستور الجديد توقعات أحوال الطقس ليوم الثلاثاء 21 يناير 7 غرز تؤثث جبهة بنعبد الله، و طاقم طبي من أكادير يواكب حالته الصحية. الجزائر تتراجع عن مواقفها العدائية ضد المغرب وتقر بحل سياسي متفاوض عليه في قضية الصحراء المغربية أنا لست أبو زيد بدء محاكمة بنزيمة وريبري اعتبارا من اليوم في قضية الدعارة مع قاصر الدهاة الثلاثة يطبخون في موسكو سيناريو جديدا لتفتيت المعارضة السورية.. المحليون مطالبون بالفوز على أوغندا للتأهل للدور الثاني الدستور الليبرالي في تونس يشدد حيث فشلت مصر قراءة في «ناي الغريبة» لنجاة الزباير المغرب يتراجع إلى الرتبة 103 عالميا في مؤشر الحرية الاقتصادية شخص يختطف طليقته ويعتدي عليها جنسيا بإحدى الغابات بتيفلت العثور على جثتي مواطنتين يهوديتين متحللتين ببني ملال الدا البيضاء-انفا : افتتاح مركز للتربية والتعليم الأولي مجانا لأطفال الأسر المعوزة الدولة الجزائرية تفشل في إحتواء الأزمة بين الاباضيين و المالكيين (فيديو) نوبات الأطفال الصرعية المخيفة تجاوزات خطيرة بمقلع للرمال والحصى باشتوكة آيت باها ،فماذا بعد قرار إغلاقه؟ عشرون «جهاديا» من قرية أولاد سعيد ببني ملال قتلوا في الحرب بسوريا؟ دواء أمريكي جديد لعلاج التهاب الكبد يصل ثمنه إلى 70 مليونا!! مرضى "الروماتويد" يطالبون بالتغطية الصحية الشاملة الماساة المضحكة مكاسب الإصلاح بمنطق المصالحة شابة مغربية تتعرض للقتل والإحراق بسبب صراعات المافيا بايطاليا مُنافس بوتفليقة بن فليس يكشف تأييده للبوليساريو ويُهاجم المغرب الحكومة تستخلص 565 مليار من الضرائب منها 339 مليار لفائدة خزينة الدولة ريبيري عن الكرة الذهبية : لست حزينا لكني كنت استحقها ذهاب دور سدس عشر دوري شالنج مورينيو يخسر توريس لعدة اسابيع بسبب الاصابة خلال 6سنوات.. بنك المغرب يعالج 1790 شكاية ضد الأبناك يا راكب صهوة جواد الرشوة، ترجل ! الفنان اوتفنوت يكشف عن المستور ويصرح أن حديدان في الاصل كان عملاً درامياً امازيغيا في كلمة سامية في ختام أشغال الدورة 20 للجنة القدس خريطة «المخاطر».. المغرب ضمن الدول «المتوسطة» ورزازات: نظرة عن كثب صحيفة إسبانية تكشف بالوثائق وتعلن عن القيمة الحقيقية لصفقة نيمار 5 أسباب تبشر ريال مدريد بخطف الليغا من برشلونة واتلتيكو مدريد سقوط الكبار.. شارابوفا تودع البطولة بعد خسارة مفاجئة امام سيبولكوفا بلمختار يتعهد بالتحقيق في خروقات نيابة الراشيدية عبد الله ساعف وعبدو عشوبة يترأسان لجنتي تحكيم المهرجان الوطني للفيلم بطنجة الإعلان رسميا عن الترشيحات لنيل جوائز الأوسكار 2014 "رونق المغرب" في ضيافة ثانوية وادي المخازن بالعرائش نمو اقتصاد الصين %7.7 في 2013 العين تعشق الدكتور حفيض هاشري * .. .. نسبة وفيات الأمهات في الوسط القروي تفوق مرتين ما يسجله الوسط الحضري اجتماع طارئ للمكتب التنفيذي لنادي قضاة المغرب لتدارس مستجدات الساحة القضائية بالمغرب أبرز عناوين الصحف الصادرة اليوم الإثنين. المدير العام للإيسيسكو يشيد بالقرارات والتوصيات التي اتخذتها لجنة القدس برئاسة جلالة الملك تخوف من ارتفاع صاروخي لسعر البيع للعموم السلفيون يواصلون خرجاتهم المثيرة..هجوم جديد على بنكيران وعصيد وأحرار ولشكر إلهام شاهين تعتزم إطلاق قناة دينية لتعليم «الإسلام المعتدل» دواء أمريكي جديد لعلاج التهاب الكبد يصل ثمنه إلى 70 مليونا!! أين كان قائد بني بويفرور و"هشامه "وقت منع المصلين من حضور مجلس المديح والسماع ليلة المولد النبوي بمسجد" "أريمام ؟ 7 أشياء غير متوقعة تسهل إنقاص الوزن أحمد الهايج ل:"فبراير.كوم": ذكرني تكفير لشكر بقطع يد السارق و"المؤلفة قلوبهم"

..............................................











مشارف
الأربعاء 22 يناير 2014
ذاكرة الجراح

ما أهمية تحرير الذاكرة: ذاكرة سنوات الاحتقان التي عرفتها بلادنا في العقود الماضية؟ وما مدى مساهمة الأدب المغربي في تحرير هذه الذاكرة وتمكين عموم القراء من الاستماع إلى صراخ الصمت؟ ثم إلى أي حد يمكن للكتابة أن تساهم في تضميد الجراح: جراح ضحايا المرحلة؟
من جهة أخرى، هل فعلا كانت الفترة السبعينية فترة نقاء وصدق؟ وهل حقاً كانت قصيدة السبعينيين متوهجة وهي تعانق هموم الناس الطيبيين وتتعالى على "الغزل والتفاهة"؟ ما الذي تغير إذن من السبعينيات إلى الآن في القصيدة المغربية؟ هل فعلا تعرض الشاعر المغربي لنوع من التقزيم والتدجين بعدما تمّ تقليم أظافر قصيدته؟ وهل من هذا المنظور يمكن اعتبار الأفق الحداثي وكذا التجريب الشعري الذي انخرطت فيه قصيدة النثر المغربية اختيارا يعمق غربة الشاعر عن جمهوره وعن دوره القديم؟
هذه الأسئلة يطرحها ياسين عدنان في حلقة هذا الأسبوع من مشارف على صاحب (ذاكرة الجراح) الشاعر والروائي توفيقي بلعيد.
موعدكم مع هذه الحلقة من مشارف مساء الأربعاء 22 يناير على الساعة العاشرة وعشر دقائق ليلا على شاشة الأولى.
.......................
 
بعض صور معتقلي المجموعة 15 بعد تعديلها/ عن الرفيق شرادو

أعيد نشرها بعد أن تدخلتُ لتصويبها: تم اعتقال هذه المجموعة ابتداء من سبتمبر 1985 الصور مرفقة بالقصيدة التي كنتُ قد أهديتها لهم بعد مرور سنة على محاكمتهم

الثلاثاء:1986/11/04
عيد ميلاد جرح
مهداة إلى محمد وسرب الطيور(1 )
مر عام بلا اعتقال صريح
بيتي ضريح وأنا أحد الأولياء....
مر عام بلا تهمة على الأوراق
وإن كان، بالعيون يعج الزقاق...( 2)
مر عام... أيها الرفاق في الجريدة( 3)
عندي، للناس البسطاء، ألف قصيدة
تموت احتراقْ
تموت اشتياقْ
مر عام أيها الرفاق...
غصت بالأحلام الدفاتر
وصاحب الجرح، رغم العفن، يكابر...
تحجر التحجر في المحاجر
والدمع في الأحداق...
مر عام، على السفر الأليم، يارفاق...
ت.ب
1- المقصود وقتها المجموعة 15 التي كان من ضمنها الرفيق محمد شرادو... والمجموعة 25.شملتهم اعتقالات سبتمبر1985.
2 - الزقاق 28 من حي الأمل1 بحي سيدي البرنوصي.
3 - المقصود في الزنزانة... موهت لضرورة النشر وقتها في الجريدة...















صفحة توفيقي بلعيد على فايسبوك

https://www.facebook.com/belaid.taoufiki




مواضيع ذات صلة
"فران الحومة"مرفق في طريقه إلى الاندثار
في خبزه بركة ولذة بطعم الحطب وفي فضائه نسجت علاقات عاطفية توج بعضها بالزواج
جمعية الحضن تحتضن في أول ندوة علمية الكاتبة أسماء لمرابط..عائشة زوج الرسول أو الإسلام في المؤنث
النكبة الفلسطينية تنبش ذكريات أليمة وتنقش أحداثًا جسيمة
في أربعينية الراحلة «عائشة مناف»: تفاصيل صغرى عوض الفصول الكبرى
كاتبة ريفية تهز المجتمع الهولندي بتمردها الأدبي

..........................


قصة قصيرة: عائشة... العصفورة تغادر القفص
توفيقي بلعيد نشر في بيان اليوم يوم 31 - 10 - 2010


-إلى ذكرى الفقيدة عانف عائشة-
هي لا تعرف عادل، فهو ليس من تلك الوجوه التي كانت تتردد على دارهم، وما تلبث أن تنسيهم الوظائف أسمالهم وأفكارهم وتنسيهم الخبز والملح والعائلةَ التي أطعمتهم و آوتهم يوما. هي لم تره من قبل: فعائشة لا تخرج من الدار إلا لماما، وإذا فعلت فمجالها محدود جدا. الحمّام يوم الجمعة. النادي السينمائي صبيحة الأحد، وما تبقى يلتهمه، على حساب صحتها العليلة، العمل المنزلي الذي أصبح مملا حين يقوم به فرد واحد في العائلة.
اليوم، رغم أنها استيقظت باكرا كالعادة وجمعت الأغطية وكنست الغرف وهيأت الإفطار وغسلت الأواني المتبقية من البارحة. اليوم ليس كالأيام السابقة - صدقوني بأنه ليس كالأيام التي مرت عليها - رغم أنها هيأت الغذاء في الوقت. ففي هذا اليوم تتهيأ لِلِّقاء الذي انتظرته منذ أسبوعين، بل منذ أن أحست أن لنفسها عليها حق.
نظرت للعصفورة الموجودة في القفص: (مسكينة هذه العصفورة، وحيدة ولا أنيس. من يُحس أنها في حاجة لأكثر من الماء والطعام والريش الجميل) ووضعت الكحل في عينيها الحزينتين، متأملة صورته الموضوعة أمامها: (لا ينقصه أي شيء، ملامحه توحي بالصفاء، هناء قالت لي بأنه ابن حلال، واحترامه للمرأة كبير).
دارت أمام مرآة الصوان تسوي هندامها من الخلف. نفضت العصفورة ريشها الملون واستعدت للتغريد. ابتسمت عائشة لنفسها المنعكسة: (ماذا عساني أقول له؟ هل أنساب عليه شلالا أم سهام نور؟ هل أطوقه بالأريج وأغتاله بالزهور؟).
صديقتها هي التي حدثتها عنه منذ أسبوعين. زينت الضفيرة الأولى بشريط أحمر وأسود. أطلقت العصفورة تغريدة كالزغرودة. زينت الضفيرة الثانية بالأبيض والأخضر. قفزت العصفورة داخل القفص، تأرجحت في نشوة. أعجبه قوامها الجميل عندما رآها مارة مع خطيبة صديقه فتمنى أن يتعرف عليها. نظرت لصدرها الفتي، كان ممتلئا في حياء. أخرجت العصفورة، بمشقة، رأسها من بين القضبان وغردت للمرة الثانية. قال عنها لصديقه أنه ينوي بناء مدينة الأحلام وإياها. قلمت أظافرها العاجية: فهي لا تطيلها ولا تطليها فشغل الدار لا يسمح بذلك. وقال بأنه يتمنى أن تزهر فوق ذراعيه حقل أمان وحنان. غمست رجليها في ماء دافئ ودلكتهما. قال أنه سيغني لها حتى تنام في أحضانه وفي الصباح يقبل صرتها والجبين، وعلى المخدة يضع وردة حمراء، وفي كفها رغيف وبالقلب كل المحبة والصدق. مسحت رجليها بسرعة وعطرتهما. ضربت العصفورة بجناحيها «جدران» قفصها. قال بأنه سيكون أكثر سعادة عندما تزهر حياتهما ببنت وولد. أدخلت قدميها في حذائها الأبيض. وإذا ما تعذر الإنجاب نربي فكل الأطفال أبنائي. مسحت الحذاء بالمنديل. الأبناء سيكبرون ويذهبون إلى المدرسة. ألقت نظرة أخيرة على نفسها.. أطلقت العصفورة حنجرتها في هذه الظهيرة التي أخذ فيها السبات يراود الجميع.. قال بأن حبهما لن يهرم ولن يموت، وأنه سيسقيها من وريده ومن أنصاغ القصيد.. أخذت كتابا لتملأ به يدها أثناء السير وخلال اللقاء...
نظرت لنفسها نظرة أخيرة في المرآة الكبيرة، أبصرت القفص المنعكس مع صورتها وبداخله العصفورة المعتقلة منذ أمد طويل: (لا أحد يحس بمعاناتها، يقدمون لها الماء والطعام، اختزلوها لجهاز هَضْمٍ. مسكينة محرومة حتى ممن يشاركها التغريد داخل قفص، ومن تقتسم وإياه حبة قمح وقطرة غدير وبرودة الليل الموحش الطويل. ما أضيق الفضاء بلا شريك).
لا أحد ينتبه لهذه العصفور إلا هي.
انسحبت من أمام المرآة ووقفت وجها لوجه أمام القفص: (وأنا من انتبه لي كل هذه المدة؟ الكل يجري لتحقيق ذاته. الكل يتخطاني ويرحل. حياتي انحصرت في دور الخادمة: اغسل والآخرون يلوثون. أطبخ والآخرون يأكلون. يلدون وأنا أربي. هل يحس هؤلاء بعذاب من يعاني الوحدة؟ وحدة في الشارع، وحدة أمام كسرة الخبز، وحدة في الليل. هل يحسون الفراغ والرعب الكبيرين في عين امرأة يتسرب العمر من بين أصابعها ويجرها الزمن ،وحيدة، باتجاه سن اليأس؟).
مدت يدها للقفص تحاول فتحه، انتبهت للطرق السريع والعنيف على الباب. أناملها تصارع ضد قفل القفص وضد كل سنوات الكبح. الطرق يزداد سرعة وعنفا. كان الآخرون قد أحكموا إغلاق القفص على الطائر قبل أن يغرقوا في سباتهم في سباتهم العميق. الطرقات تزداد وتعلو. أدخلت أصابعها ووسعت ما بين قضيبين. الطرق يزداد. على الأقل يجب إحداث خلل ما في القفص، هذا ما تسمح به الإمكانية الآن.تسلل للطرق الوهن. لا وقت لديها تضيعه، يجب أن تُفرج عن العصفورة وتنطلق هي إلى الموعد. العصفورة تنسل من قفصها إلى الفضاء الرحب، إلى حيث أسراب الطيور الأخرى، إلى حيث أعراس الربيع.
عائشة تتجه أخير إلى الباب. تفتحه. وجها لوجه أمام صديقتها الممتقعة اللون. الصديقة تحملق في عائشة بغرابة. بحزن. بإشفاق، بكل المشاعر التي تنتابك لنا تنظر لمريض أخبرك الطبيب بأن السرطان سيقتله قريبا. الصديقة تحاول العودة من حيث أتت. الهرب من أن تزف لها خبر الفاجعة. عائشة تشدها من كتفها:
- إلى أين؟ ما بك يا هناء؟
ارتبكت هناء. ماذا تقول؟ إن الموقف أصعب من إبلاغ أم بغرق طفلها. كل شيء حدث بعنف وسرعة أذهلت الجميع. وما وقع لم يتوقعه أحد -حتى أنتم أيها القراء- وحتى نتائجه، نتائجه كانت فوق كل تصور.
قاطعت عائشة أفكار صديقتها متسائلة:
- تكلمي ياهناء.. ما الذي حدث؟
ما الذي يمكن أن يحدث لعائشة إذا ما عرفت الحقيقة؟ هل يتحمل قلبها الصدمة؟ أين الحكمة فيما وقع والذي سيقع؟ ولماذا تكون هناك حكمة مضمخة بالدم والألم من أساسه؟
- هناء أرجوك جاوبيني.. هناء أين سرحت؟
- نعم يا عزيزتي.. نعم.. أنا معك...
- تكلمي بالله.. تكلمي ولا تخافي...
استجمعت هناء شجاعتها وتكلمت:
- عادل يا عزيزتي.. ملعون هذا الزمان ..لا أحد كان يتصور..
- ماذا وقع يا صديقتي.. أرجوك.. تكلمي ولا تخفي شيئا..
امتقع لون عائشة وهي تنتظر ما ستنطق به صديقتها. هناء كانت في حالة يرثى لها.
- عادل يا عائشة...
- اعرف... ما حصل؟ أرجوك ما الذي وقع؟
أدخلت هناء عائشةَ للداخل، أجلستها، نظرت للخوف في عينيها، للحزن الذي كبرت دوائره، كما يقع عندما نرمي بحجر في ماء بحيرة هادئة مساء. عانقتها وانخرطتا في بكاء مر. ومن خلال النحيب والدموع قالت هناء:
- وهو قادم عندي لتذكيري بموعدك معه اليوم...
سكتت، فقد أحست أن القلب الصغير، الذي انتظر طويلا، يدق بعنف. كل طبول الخوف تدق بهذا الصدر.
- أكملي يا هناء...
- البارحة على الساعة الثامنة مساء داسته سيارة مجهولة...
- أين هو الآن؟ (قالتها وانتفضت واقفة).
- اجلسي يا عزيزتي.. فهو الآن في مستودع الأموات...
أغمي على عائشة، وعندما استفاقت انخرطتا في بكاء طويل.



وطن وسجائر..بالتقسيط: مجموعة قصصية تنحاز إلى قضايا الناس
توفيقي بلعيد نشر في بيان اليوم يوم 16 - 06 - 2010

«وطن وسجائر.. بالتقسيط»، هو باكورة الأستاذ أحمد السقال، وهي مجموعة قصصية قصيرة تقع في أربعة وخمسين صفحة من الحجم المتوسط (تقنية الكتابة على صفحة واحدة)... يتألف هذا العمل السردي من ثلاثة وعشرين نصا: قراءة /نتوء /شعيب /سبحاني من إله /زمن من..هنا /خواء /خدوش في الذاكرة /حقيقة ما /حديث عن المسؤولية /نشاز طفولة /مفرد جمع /سؤال /حالة عادية.. جدا /تيهان /جولة /حبو /انهزام /وكن وسجائر.. بالتقسيط /آخر شهر /واقع /ليلة /ومضة شبه قصصية /حديث عيون.
تغرف هذه النصوص من الواقع المعاش، سواء ذلك اللصيق بالذات المبدعة وبخصوصياتها أو المتعلق بالذات الجماعية حيث المشترك بالمتوافق حوله أو ذاك الذي حوله خلاف ونقاش... وكل نصوص المجموعة، وبدون استثناء، تنحاز إلى هموم الإنسان، بمعنى أنها تطرح قضاياه أو قلقه منحازة إلى حقه في العيش الكريم، بحيث لم يفوت الكاتب أية فرصة لتسليط الضوء على مواطن الاختلال التي يعرفها الواقع، مما يؤكد إيمانه بكون الأدب أذاة في عملية التغيير الواسعة أكثر منه مجرد وسيلة للإمتاع وباحة لتجزية الوقت... فمنذ نص «قراءة»(ص5) يضعك الكاتب في مواجهة الاختلال الحاصل بين الواقع المادي (حيث تُنتج الخيرات من عرق الكادحين لتتسلط عليها أقلية من اللصوص المحترفين في نهب البلد) والواقع المعنوي (واقع إنتاج القيم) والذي يعاني من التهميش وفي أحسن الأحوال للاستعمال من أجل تزيين الواجهة، حيث يسأل صاحب السيجار الكوبي جاره،بعد انتهائه»من قراءة الصفحة الاقتصادية»(ص5): «-ماذا يقولون لكم في تلك الصفحة الثقافية؟»(ص5) وفي صيغة طرح السؤال ما فيها من تهكم مرير أستطاع النص أن يبرزه في وضوح وقوة...
في نص «نتوء»(ص7) يشتغل على الاختلال الحاصل في الذات، باعتبارالذات الفردية نموذج لذوات أخرى عديدة،ليكشف لنا التشوه الحاصل في حياة الأفراد داخل المجتمع، لصالح تضخم الحيواني فينا،الحيواني الذي يقضم كل يوم مِنْ ما يميزنا كبشر (العقل) « النتوء على رأسه يكبر، يأخذ كل مرة شكلا غريبا..» مستوليا في كل لحظة، وكلما سنحت الفرصة، على مساحات من الإنساني فينا...
في نفس المنحى يصب نص»شعيب»(ص9) حيث الانسحاق والموت بالتقسيط حيث يُطرح سؤال حاد جدا «هل توصل شعيب بآخر أقساط موته، وقد مات بالتقسيط لستين عاما أو يزيد « (ص9)، والأكيد فالأمر لا يتعلق بفرد بقدر ما يتعلق بشعب تنهشه كل الأمراض الاجتماعية، إن الملحوظة التي وضعها الكاتب في نهاية الأقصوصة: «المرجو عدم قراءة اسم شعيب كصيغة تصغير شعب إلا للضرورة الثانية..» تدفعنا لتلك القراءة وذاك التأويل ولتعميم حالة «شعيب» على شعب يموت بالتقسيط منذ ستين عاما أو يزيد...
كما تتسع آفاق هذه التجربة بنصوص ذات بعد وجودي، يحرض على التأويل واستنطاق الصوت الثاوي ، بحيث يترك لنا الكاتب هامشا كبيرا للمساهمة في كتابة النص، ويدفعنا للقراءة وإعادة القراءة لنكتشف الوجوه المتعددة للمعنى...وتدخل في هذه الخانة نصوص مثل: «سبحاني من إله» (ص11) «كهذا البحر أمامي، كنت أفرض اللون الواحد، أستلقي على المكان ببراءة الجاهل بحدود الأشياء..»(11)، نفس الشيء توفره لنا أقصوصة «زمن من..هنا» (ص13) حيث تقول الشخصية: «أنظر إلى قدميَّ.../ لا شيء يغريني بالتأمل أكثر من النظر إليهما، ومن غيرهما أوصلني ألى «هنا»؟! غيري وصلها محمولا، وغيري وصلها زاحفا، وقلة مثلي وصلها ماشيا...»(13) ونفس المنحى تتخذه أقصوصة «حقيقة ما»(ص19) إضافة لنص «تيهان»(ص3)»... ولما أتعب من البحث، أعود إليها، أتوسلها، فتشير عليَّ...
- هل بلغ المراد أولئك الذين يملكون البوصلة؟!» (ص31)
لا تخلو هذه التجربة الإبداعية من الالتفات إلى الذات، ليس إي ذات ، إنها ذات المبدع ، سواء وهو في حالته الفريدة المفردة، أو في صيغته الجماعية «كعادتي أو كعادة الكتاب الكبار» أقصوصة «خواء»(ص 15)، أو أقصوصة «مفرد جمع» «شمس دجنبر وهاجة على غير عادتها هذا اليوم، وشاعرنا يصد أشعتها عن وجهه بملف أنيق يحمل وثائق الفيزا.. نعم شاعرنا يقف بصف طويل أمام باب القنصلية الأوربية في انتظار دوره.»... «- هل تحتاج أوروبا إلى شعري أم إلى عضلاتي؟»(ص25)، وأقصوصة «سؤال» «لما اقتربت المضيفة مني، كان طلبي جاهز:
- نعم آنستي، أريد ماء معدنيا
كنت أنظر إلى عربتها المجرورة، عين على المشروبات الكحولية، ولسان على الماء المعدني.. إبتسمتْ وقالت:
- مسلم؟
ابتسمت وقلتُ:
- بل مسافر!(ص27)
هناك نصوص أخرى مسكونة بهم التربية وبأعطاب الطفولة، فاضحا ما قد تسببه «خطايا»، إذ شئنا، أو أخطاء الكبار من خدوش في ورد الطفولة تتسع مع التقدم في الحياة لتصبح شروخا نفسية واجتماعية تؤدي هذا الكائن الجديد على العالم في روحه أكثر من جسده فتعيقه عن ان يستفيد من كل إمكانياته الذاتية والفرص التي تقدمها الحياة، فيستمر تبادل التأثير السلبي بين أعطاب النفس وأعطاب الجسد... وهو ما تتناوله نصوص مثل: «خدوش في الذاكرة» التي تتناول آثار العنف الغير تربوي على الناشئة حيث تمتد شروخها إلى مرحلة الرجولة..» الصباح رمادي، وبدون سابق رغبة، نظر مليا إلى كفه اليمنى، تأمل الوشم الماثل على صفحتها، تذكر ذلك الصباح اللعين من نيسان، حين قطب المدرس مستشيطا من تكرار في غير محله لمقطع من النشيد الوطني.. كانت الساعة تشير إلى العاشرة من عمره..(ص17)، كما تعالج أقصوصة «نشاز طفولة» موضوع خدوش الطفولة التي تصيب النفس والوجدان « مفلح طارق في دراسته، يسابق خلانه في القسم كما يسابقهم في الدرب، والمرتبة الأولى إسمها طارق».. «لا تتأخرأم طارق في تلبية طلباته» «وطارق بشوش لايحزن» لكن عودته المفاجئة ووجود أمه مع رجل غريب تجعله «يحزن، يخرج إلى الدرب يلح في مسابقة الخلان، لكنه في هذه المرة لا يكون في المرتبة الأولى، لأنه لا يتوقف عن الجري...»(ص23)، أما أقصوصة «حالة عادية جدا» فتعالج قضية مجهولي النسب، فعمر الذي تسنح له فرصة الإتجاه إلى أوروبا، بعد تعرفه على أحد السياح الأجانب، يجد نفسه بدون أوراق تبوتية، فيصاب بالجنون...(ص29)
أقف عند هذا الحد متمنيا لكم متعة القراءة في مجموعة الصديق الأستاذ أحمد السقال...



http://poetemarocain.arabblogs.com/

فضاء الكلمة..يديرها توفيقي بلعيد
الصفحة الاساسية > في الصحافة > آراء و نقاشات > الذاكرة الجماعية للأفراد.. الذاكرة المتعددة للوطن، بقلم توفيقي بلعيد
الذاكرة الجماعية للأفراد.. الذاكرة المتعددة للوطن، بقلم توفيقي بلعيد

المغرب الذي كانت تهددته السكتة القلبية، منذ سنوات القريبة هذا التهديد الذي سرع بعملية إعادة الحسابات على المستوى السياسي الذي لم يجن من أساليبه القديمة إلا العياء والشلل على أكثر من صعيد، مما ضيع على الوطن فرصا كثيرة عملية إعادة الحساب هذه، لدى الطرفين نتج عنها تنصيب حكومة لتناوب توافقي ( طبعا ليس خطر السكتة وحده من دفع إلى ذلك )... كان مهددا أيضا بالسكة الدماغية، مما كان سيؤدي إلى تشويه جزء من ذاكراته الجماعية، وشل أطرافه، لولا دخول المغرب في عهد من التوافق ( الذي يبدو اليوم للبعض بأنه كان توافقا هشا وللبعض الآخر بأنه كان، رغم المأخذ، ضروريا) لتجنب سكتة من نوع آخر، قد تعصف بالأخضر واليابس،. نتائج هذا التوافق ( الذي لانزال نعيش على إيجابياته وسلبياته) سمحت بنوع من الانفراج، حينها مما سمح باندفاع دفقات من الدم والأوكسجين في الشريين ( في الاتجاهين) مما خلق لحظة إنعاش لمسها الجميع، وهذا ما مكن المغرب ( بانخراط جميع الأطراف)، وحتى هذه الساعة، من مقاومة الخطر الذي كان محذقا بالجميع، ومحاولة التصدي، بالرغم من المقاومة الجدية التي تبديها بعض الأطراف من هنا ومن هناك، للإصرار على أخطاء الماضي والحاضر، سواء تلك التي في سدة الحكم أو في صفوف الأحزاب، هذا الخطر الناتج عن آفة فقدان الذاكرة، المرتبط بها فقدان حقوق وافلات الكثيرين من المساءلة والمحاسبة ... وهكذا رأينا انطلاق عملية فتح ملفات الفساد التي شملت أساليب التصريف السياسي للسياسيين وما يتعلق بالتدبير الاقتصادي للاقتصاديين والفعل الهدام لمهربي الأموال والمختلسين ... ولقد مكنت تلك الدفقة من أكسجين الديموقراطية من انتعاش مساحات كبرى من الذاكرة بفعل إزالة الجلطة من شعيرات الدماغ الجماعي، وهو ما ساعد على تنشيط ذاكرات وفك عقدة مجموعة من الألسن، التي شكلت جلسات الاستماع إحدى مراحلها المتقدمة والمهمة والقوية... ذاكرة الضحايا الذين تعرضوا، على يد أجهزة وأشخاص استعملوا شرعية الدولة ووسائلها، للاعتقال والاختطاف والتصفيات الجسدية، من أجل السلب والنهب... سواء في عهد حكومات الخمسينات (حيث كان للصراع نكهة الحزبية) وتصفية الحسابات باتهام الخصم بالخيانة والعمالة..) أو الذين تعرضوا لذلك خلال الستينات والسبعينات، من القرن العشرين، ( حيث لبس الصراع لبوس الثورة والمؤامرة)... الذاكرة التي انطلقت ( بعضها حتى قبل التوافق) كانت لمدنيين تعرضوا للاختطاف والاعتقال التعسفي، ولأن من بينهم من مارس الإبداع، قبل وأثناء وبعد الاعتقال، كنوع من المقاومة وشكل من أشكال الإفصاح في مجتمع تم تكميم أفواه الكثيرين فيه، فقد كانت أكثر خصبا وجمالية وزاخرة بصور عن المحنة وفي نفس الوقت بذلك النبل الذي يطفح بالتسامح، بعيدا عن التنكر للتجربة ... لم يكن المدنيون وحدهم من اشتغلوا على ذاكرة جراحاتهم، كانت ذاكرة العسكريين الذين قضوا أجمل فترات العمر في قبر رهيب اسمه تازمامارت، حيث الصور القصوى للجحيم .. ذاكرة أهالي ضحايا الحركة التي جرفت هؤلاء العسكريين ( مادام أغلبهم قد أعلن تبرأه من معرفة مقاصد وأهداف قيادته الانقلابية) ومع استفاقة هذه الذاكرة الجماعية للضحايا، استفاق الضمير، ضمير أحد قدماء الجلادين الذي قدم الاعتذار للضحايا وعائلات الضحايا ووضع نفسه رهن تصرف المنظمات الحقوقية من أجل محاكمة عادلة ..استفاقت ذاكرة، أكثر خصبا، لرجل مخابرات آخر ليسرد على الملأ خفايا أكبر الجرائم وأفظعها، ولازال لحد الآن يطلع علينا بما جادت به ذاكرته من ملفات جديدة...

الإفراج عن الذاكرة لم يأت من فراغ على مستوى التدوين سبقته كتابات وإن كانت قليلة وعلى مستوى الفعل سبقته نضالات وتوافقات، لن يكون آخرها هو تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة»، التي جاء جل، إذ لم نقل كل المشرفين عليها من منظمات حقوقية، كانت ومازالت تطالب بوضع حد لكل ممارسة ماسة بحقوق الإنسان. ولقد شكلت جلسات الاستماع التي انطلقت بجلساتي الرباط يومي الثلاثاء 21 والأربعاء 22 من شهر دجنبر 2004، أشد اللحظات قوة في مسار الإفراج عن الذاكر ة الجماعية، التي تعززت جلسات التي عقدتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ... هذا العمل الضخم كان مسبوقا ومسنودا بإنجازات على المستوى المدني والرسمي، سواء تعلق الأمر بإحداث المؤسسات مثل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والهيئة المستقلة للتحكيم، وصولا لهيئة الإنصاف والمصالحة، ويدخل في هذا الاتجاه إنشاء المرصد الوطني لحقوق الطفل والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ... أو القيام بإجراءات عملية كالكشف عن جزء من المختفين قسرا كما حدث سنة 1991 مع معتقلي تازمامار ت والحالات المشابهة في كل من المراكز السرية السابقة بقلعة مكونة وأكدز ودرب مولاي الشريف، أو بالعفو الملكي الشامل على 352 معتقلا سياسيا سنة 1994 أو بالالتزام باحترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا بتسطيرها في الدستور أو من خلال توقيع الاتفاقيات الأممية والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان، مرورا باصطلاح مدونة الأسرة... وهي حركية ساهمت فيها ، من جهة أخرى، الإطارات الحقوقية العامة والمتخصصة في قضايا الطفل والمرآة وغيراهما، والتي ساهمت بدورها في تأسيس إطارات مستقلة من فاعلي المجتمع المدني مثل المرصد المغربي للسجون والجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء والائتلاف المغربي من أجل المحكمة الجنائية الدولية وغيرها كثير. وقد شملت عملية الإفصاح عن الذاكرة، ولو من وراء الحجاب، فتح بعض صفحات الجرائد لضحايا الاغتصاب وزنى المحارم و الخيانة الزوجية، وبذلك اتسع الأمر ليتعدى المجال السياسي...

الذاكرة ليس إحداثا من خيال انه بشر يسير فوق الأرض أو مدفوعا فيها أو مغيب عن الأنظار، وأعتقد أن هدف الذاكرة، التي نحن بصدد الحديث عنها، ليس التذكر من أجل استعادة ذكريات أليمة، انه تذكر من أجل استعادة الذات، من أجل استعادة الأخر المغيب، من أجل استعادة الاعتبار والكرامة، التي كان الجلاد قد أهدرها، ومن أجل استعادة الحق الذي كان مستهدفا بعملية الطمس والتنكيل والإبادة ...

لكل شعب من الشعوب ذاكرته المشتركة، تلك الذاكرة التي تختزن اللحظات المضيئة في تاريخه واللحظات القاتمة من هذا التاريخ، ولا يمكن أن يكون سلوك شعب منن الشعوب سويا إذ كان جزء من ذاكرته محجوز عليه.لفائدة طمس الجوانب السيئة التي قد لاتعجب المستفيدين من سيادة جو التخويف والتكبيل. إن عملية الكبت هذه مؤشر على انعدام الحرية، مهما كانت المبررات، وبالتالي انعدام الديموقراطية، لما بينهما من علاقة متبادلة بحكم ضرورة كل منهما للأخرى، ولا يمكن لشعب من الشعوب أن يكون مبدعا وخلاقا، في المجالات المادية والروحية الفنية والفكرية، إذا ما كانت ذاكرته أو جزء منها مفقودا أو محجوز عليه. من هنا تأتي أهمية تحرير الذاكرة وقراءة صفحات الماضي بدون خجل أو تهيب، إذا كنا نروم فعلا أن يتعافى المستقبل من أخطاء الماضي، تلك الأخطاء والخطايا التي يجب أن نعترف، إذا كنا نؤمن بمصالحة حقيقية، تقاسم المسؤولية، باختلاف حجم هذه المسؤولية، حول حدوثها... وهي الضمانة ( القراءة والمعالجة الصحيحة الشجاعة) لكي لا نعاود الوقوع في نفس الأخطاء، وهي الضمانة أيضا لتحصين الذات وعلاجها من الكراهية وترسب الأحقاد، شريطة أن توضع الآليات لتحصين الحياة العامة والمؤسسات من العوامل المسبب لما حدث في الماضي...

إن انخراط الجميع في هذا الورش الكبير، لاستعادة الذاكرة ( باعتبارها حافظة لنتائج الذات في تفاعلها مع العالم الخارجي) سواء من خلال جلسات الاستماع العمومية، أو مساهمة التي تقدم بها الباحثون والكتاب والمبدعون بتناولهم لخلفيات الأحداث ومنزلقات ما يطلق عليه سنوات الرصاص، أو متناولته الصحف... وضع بين أيدينا مخزونان ذاكرة الضحايا ( مدنيين وعسكريين ) وجزء يسير من ذاكرة الجلادين تنضاف إليه ذاكرة المغيبين من خلال صراخ الصمت... فهل ستكون لدينا القدرة على لملمة أطرافها وإعادة قراءتها قراءة تمسح عن أجساد الضحايا ندوب الجراح الغائرة حتى أعماق الروح... بهدف إنصاف وطن بأكمله...؟

مقال نشر بجريدة الصحراء المغربية بتاريخ 14 أبريل 2005








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق