بول باسكون (4): إننا لا نريد الخروج من بطن التاريخ ولا من بيت الأب لأن المغامرة هي ما يوجد خلفهما
بول باسكون (4): إننا لا نريد الخروج من بطن التاريخ ولا من بيت الأب لأن المغامرة هي ما يوجد خلفهما
محمد المساوي
في هذا
الجزء الاخير من حوار بول باسكون مع زكية داوود، يتحدث عن الاصلاح الزراعي
المغربي وكيف تم توزيع الاراضي المسترجعة من المعمرين، كما يتحدث عن
البادية المغربية ودورها في اللعبة السياسة، وعن امكانات التأطير السياسي
للفلاحين، وهل يمكن لهم أن يعملوا على تشكيل حزب يدافع عن مصالحهم في وضع
يتسم بتشتتهم وتبعيتهم لكبار الملاكين وهيمنة علاقات الابوة والقرابة على
تشكيل نسيجهم.
ثم ينتقل
باسكون في للحوار للحديث عن مفهوم “المجتمع المزيج” الذي نحته لوصف
التشكيلة الاجتماعية في المغرب، وتحدث عن لماذا هذا المفهوم وهذا التوصيف،
كما يسخر من أولئك الذين اعتبروا المجتمع المغربي مجتمع رأسمالي واعتبر ذلك
مجرّد تعسف لغوي لا علاقة له بالواقع، مضيفا أنه في غياب المشروع المجتمعي
الحائز على المصداقية “فإننا نرقع ونستعير ونقيم إنشاءات ملفقة بنتف من
حلول منتقاة من كل مكان، من الغرب والشرق ومن المشرق والشمال. إن هذا هو
المجتمع المزيج”.
كما يعرج
اخيرا للحديث عن ادوار المثقفين المفترضة مقارنة مع ما يكرسه هؤلاء في
الواقع، تلك الممارسات التي تجعل الصراع الطبقي اصما، بسبب غياب جرأة او
ارادة حقيقية لدى جل الاطراف للدفاع عن مشروع مجتمعي بديل ذو مصداقية،
ويعتبر أن الدولة هي الامرة والناهية وهي من تمسك بزمام الامور وتلعب على
ضمان التوازن بين مختلف القوى.
بعد إصدارك
لهذه الأطروحة شرعت في انجاز دراسات بـ«الشاوية» وفي الشمال. فما هي
الفرضية التي تنطلق منها وما هو الهدف الذي يسعى بحثك إليه؟
إنني أحاول في الشاوية معرفة ما يعوق
الإنتاجية في منطقة يمكن لها أن تنتج قدرا وفيرا من الحبوب، إلا أن الحد
الأقصى لإنتاجها لا يتعدى اليوم 12 قنطارا للهكتار الواحد. والحال أن ذلك
يعود، فيما يبدو، إلى أسباب اجتماعية-سياسية واجتماعية-تاريخية. أما في
الشمال، فأحاول معرفة عواقب الهجرة الخارجية وفهم الصدمة التي تخلقها
العودة إلى الوطن في المُهاجر، والتي لا يمكن اختزالها إلى منزل أو سيارة
أو تجارة صغيرة. كما أحاول إيجاد حل يُمكِّن –بمساعدة الدولة- من إعادة دمج
المهاجر ضمن إطار منتج، ليس فلاحيا بالضرورة. أن ظاهرة الهجرة الخارجية
مهيمنة حاليا، بحيث أن المطروح الآن ليس هو التفكير في آفاق عودة العديد من
المهاجرين فحسب، بل والتفكير في التقليص من الهجرات الحالية.
إلا أنك، وأنت تقوم بكل هذه الأعمال وكل هذه البحوث وكل هذه الأنشطة، لاحظت المجتمع القروي وهو يتغير. فكيف تصف لنا هذا التطور؟
إنه تطور ضخم، على مستوى الاستهلاك أولا،
وطرق العيش والعالم. إن التطور هنا لا يمكن إنكاره، إلا أننا نلاحظ في نفس
الوقت تصاعد حدة التباينات في بعض المناطق، وثمة قطيعة كبرى مع المدينة ومع
الدولة. لعل ذلك يعود إلى أن التطور أهم في المدينة حاليا منه في البادية،
وأن الحياة السياسية أوسع في تلك، إلا أن الهوة قد اتسعت. وتبدو حلول
[قضايا] البادية محاصرة، باستثناء حلول المناطق ذات الهجرة الخارجية
الواسعة، وعلى مستوى الإعلام فحسب، لأن هذه الهجرة لم تؤد بعد إلى تأثيرات
اجتماعية، وهي تظل مجرد خيال علمي. أن الهجرة الخارجية تغذّي حياة ما هو
اجتماعي، وقليلا ما تلمس الحياة الاقتصادية، وذلك لأن المسألة أصعب بكثير.
قلت إن الهوة قد اتسعت بين الفلاح والدولة، ومع ذلك فإن الفلاح ينظَرُ إليه باعتباره يلعب دورا سياسيا مهما في الحفاظ على الوضع؟
إن لفظة «فلاح» عامة جدا. وهناك بالفعل
عدة فئات اجتماعية مثل الوجهاء الذين يُعدُّون دعائم للدولة، وهناك فعلا
مجموع الفلاحين المرتبطين عاطفيا ودينيا بالدولة، إلا أن هناك بموازاة ذلك
صغار الفلاحين الفقراء الذين يتحملون مجموع القمع والاستغلال في البلاد.
لكنها ظاهرة موغلة في القدم ومُدمَجَة إلى حد أن أولئك الذين ينتفضون في
صمت لا ينتفضون كطبقة، بل يفعلون ذلك على مستوى التكافلات التقليدية:
تكافلات القرابة والنسب. إن الأعيان ممسكون بالفلاحين.
لكن كيف تقول إن الفلاحين مستغَلّون وليست هناك ضريبة زراعية؟
إن قضايا الضرائب بالمغرب مرتبطة ارتباطا
وثيقا بالأسعار، وهي تغدو لا شعبية إن مست فئات عريضة من الناس، مما يحولها
إلى عامل سياسي بالغ الخطورة، إلا أن الضرائب ثقيلة، مع ذلك، على الفلاح
الفقير الذي لا يدفع ضرائب مباشرة، وذلك عن طريق نظام الأسعار ونظام
الضرائب غير المباشرة. ولو تصدينا لعلاقة الأسعار بالضرائب لرأينا بشكل
واضح أن الفلاح هو الذي يدفع ثمن التنمية (ويُظهر السكر والبنزين ذلك)، وهو
أمر يصح في جميع البلدان.
هل تعتقد أنه كان بإمكان الفلاحين أن يعبِّروا عن أنفسهم سياسيا في الانتخابات الأخيرة؟
أنا متفق تمام الاتفاق مع جون واتر بوري:
فنظام التمثيلية في البوادي يهيمن عليه الأعيان. وكيفما كانت الظروف أو
الضغوطات، ومهما كان الغياب، فإن الفلاحين يصوتون لصالح الأعيان. يضاف إلى
ذلك غياب جميع الأحزاب السياسية عن البادية باستثناء أحزاب الأعيان. إن
الفلاحين يعتقدون بأن لا أحد غير الأعيان يستحق بشكل مقبول. فالأعيان
يعرفون الخبايا، يقدمون القروض ويحلون المشاكل، إنهم يَسْتغِلُّون إلا أنهم
يَحْمُون. وهم ممثلون منتَخَبون لأنه لا أحد سواهم يستطيع ترشيح نفسه
لانتخابات، ولا يتصور رؤية فلاح مالك لخمسة هكتارات يلتمس أصوات الناخبين،
إلا أن هؤلاء مرتبطون بالسلطة عن طريق القرض الفلاحي ومعروفون من قبل
القائد.
مع ذلك فإنه لا ينبغي لهم أن يكونوا من
المتغيبين عن البادية، أي من أولئك الذين يعيشون بالمدينة ويملكون قطعا
أرضية يسيرونها من طرف آخرين، أي من طرف أولئك الذين لهم نمط حياة جديد
ويعتمدون أساسا على مداخيل غير زراعية.
هو الاختلاف منظورا إليه من زاوية ثقافية إذن؟
إن الاعتبار يُعطى للمساهمة في الحياة
المحلية. والصراع الطبقي الحقيقي في البادية لا يجري بين كبار الملاكين
وغيرهم، بل يجري بين المقيمين والمتغيبين.
إنه إبدال للاختلاف مع سكان المدينة إذن؟
لقد سرع النزوح والهجرة القروية في تعويضه بفعل التزايد الديموغرافي.
إلا أنه سبق لك القول بأن الهجرة الخارجية ليس لها، بَعْدُ، غير أثر محدود…
إن ثمة عائلات لا تعيش على غير الهجرة،
وحين يعود المهاجرون يحترمون الهياكل [الموجودة]، لأنهم مرغمون على ذلك إذا
هم رغبوا في الترقية الاجتماعية وفي قلب الأدوار التقليدية التي لا زالت
مهيمنة. وحين يرفضون تلك الهياكل يجدون أنفسهم مضطرين للذهاب باتجاه
المراكز الحضرية الصغرى، لا باتجاه المدن. إن سبق المدن سياسي أكثر منه
اجتماعي.
والمراكز الصغرى هي العناصر المهيمنة،
ففيها خاصة إنما تخلق أساليب أهلية جديدة، ومنشآت صغيرة وأنماط حياة جديدة.
إن ما يحصل في المراكز الصغرى عنيف ومع ذلك فلا أحد ينظر إليه بما يستحقه
من الاهتمام. وإذا كانت هجرات الشباب الداخلية، وتزايد البطالة قد بلغا
حدهما الأقصى في المدن، فإنهما صارا يتوجهان من الآن فصاعدا نحو المراكز
الصغرى، حيث تنتشر عصابات اللصوص الصغيرة ويتطور نظام هامشي للنهب
والاغتصاب وتصريف المخدرات والفساد بوجه العموم، كما أن الفلاحين يتوجهون
نحو هذه المراكز الصغرى من أجل كل ما يتعلق بالتسيير أو بالمسائل الإدارية.
إن أكبر تخمر اجتماعي إنما يجري في هذه المراكز لتي يتراوح عدد سكانها بين
10 و30 ألف نسمة، فهنا مركز المستقبل. إلا أن علم اجتماع المراكز الصغرى
متخلف عن هذا الوضع.
ما هي عوامل التغيرات في البادية: هل تكمن في الشبان أم في النخب أم الأعيان؟
إن الشبان والمواهب والنقود تغادر
البادية. وأقطاب النمو حاليا هي الضواحي المباشرة للمراكز الحضرية الصغرى،
حيث بدأ في الظهور إنتاج صناعي عصري يقوم على الحليب والدواجن والأوراش
الميكانيكية والحرف الصغرى، زبناؤه والمستثمرون فيه هم سكان المدن. أما
القرى فتفرغ شيئا فشيئا من سكانها. إن التطور يتم عن طريق دوائر متراكزة،
بل إن ثمة نموا للرأسمالية المتوحشة مضاربي جدا. وطبيعي أن هذا الأمر لا
يحصل في الجبال وفيما وراء حاجز جبال الأطلس، باستثناء سوس. إلا أننا حيثما
توجهنا نجد مقاومات عائلية تواجه السوق، وذلك في مواجهة الهياكل القبلية
المتساقطة. إلا أن كل ذلك محكوم عليه مسبقا بهيمنة السوق.
هل تعتقد أن على التنمية الاقتصادية للمغرب أن تعتمد على الصناعة أم على الزراعة؟ وما هو المَخرج؟
إن المَخرج يقوم على الطرفين معا. فالمغرب
يملك قَدَرَاً جيو-سياسيا وموقعا خارقا للعادة في البحر الأبيض المتوسط:
فهو أكثر بلدان هذا البحر ريّاً ومطرا وأكثرها أراضي صالحة للزراعة، مع
غياب فترات البرد الكبرى. كما أن موقعه أفضل من موقع اسبانيا. وأكيد أن له
إمكانيات زراعية وفيرة، إلا أن مرونة الإنتاج الزراعي محصورة، بفعل ما يمكن
قول إنه صيغ الاستغلال الاجتماعية-الاقتصادية التي لازالت أقل إنتاجية مما
يمكن أن تكون عليه. لهذا لن تكون الزراعة كافية قط. ولهذا فإن مستقبل
المغرب يقوم على الكيمياء والصيد البحري وبعض الصناعات المعدنية والشمس
وأشكال جديدة من الطاقة، الخ.
كيف يمكن لنا تقوم توزيع الأراضي؟ وما هو دوره؟ هل هو سياسي أم اقتصادي؟ وما هي آثاره؟
إن دوره سياسي، من أجل تسكين المصاعب
المؤقتة، إلا أن ضعف مساحة الأراضي، قياسا إلى عدد الأفراد، لا يضفي عليه
أثرا اقتصاديا مهما. وإذا كان قد مكّن من تخفيف التكاليف الراتبية للدولة
في شركات تابعة لها مثل شركة التنمية الفلاحية (SODEA) والشركة المغربية
لإدارة الأراضي الفلاحية (SOGETA) اللتين كانتا تعانيان من مشاكل بخصوص
الأداءات. فإنه أبعد ما يكون عن تغطية قسم محسوس من عدد المزارعين الذين
يبلغون سنويا سن العمل.
قلت في مطبوع «المسألة الزراعية-2» إن ما يراد توزيعه ينبغي، من الآن فصاعدا، انتزاعه من أحد ما؟
لأن الدولة لم تعد تملك أراضي. لذلك ينبغي
تحديد الملكية، وهو في حقيقته اختيار طبقي، مادام الملاكون دعائم للسلطات
المحلية، أو استعمال الدولة لحق الأسبقية وإعادة شراء الأراضي، أو تعزيز
الطبقات المتوسطة، ضدا على الطبقات المهيمنة. إن القيام بهذا الاختيار أمر
لم يتم حتى الآن، ولم تحصل هناك أية مشاكل ولا أية مخاطر اجتماعية.
ألا زالت البنية العقارية على ما هي عليه منذ الاستقلال؟
لقد تمت مغربة مليون هكتار، غذّى ثلثها
النخب القروية الجديدة، ووزع الثلث الثاني، أما الثلث الثالث فظل في وضعية
مؤقتة، تسيره شركات تابعة للدولة أو خاضعا لنزاع. إلا أن التمركز العقاري
تصاعد منذ الاستقلال في الستة ملايين هكتار المتبقية، وإذا كان ذلك التصاعد
لا يتم بشكل متسارع فالأمر يعود إلى ظاهرة التملك الجماعي للأرض. إن
القانون والأعراف تجعل من الصعب تركيز الأراضي في يد وريث واحد. وإذا ما
حاولنا تحديد الملكية فسرعان ما سنكتشف أن الأرض أقل تمركزا مما نعتقده. إن
بإمكان شخص يسيّر إنتاج ثمانمائة هكتار، مثلا، أن يقدم 9 أسماء أخرى غيره
تملك بدورها الحق في الأرض، أي نصبح أمام أشخاص يملك كل منهم أقل من 80
هكتار. وما لم يكن تحديد الملكية جذريا، فإن تأثيراته ستكون جد محدودة.
ما هو الأثر الاقتصادي الذي يمكن أن ينجم عن إصلاح زراعي ما؟
ليس هذا الأثر اقتصاديا، وإنما هو اجتماعي
وسياسي. فالإنتاج لن يتضاعف في أمد قريب إلا أن الناس سيأكلون أفضل. وبدون
إعادة تنظيم مجموع دورة المنتوجات، فسيكون ثمة، وعلى العكس من ذلك، إضعاف
للإنتاج. لقد جوّع الإصلاح الزراعي السوفييتي المدن، وهو أمر يمكن أن يحصل
في أي مكان. ينبغي تنظيم مجمل الدورة وإلا فإن الأمر لا يعدو كونه عملية
ضمن مجموعة منن العمليات.
ماذا تعني بكلمة تنظيم؟
أعني نظام الأسعار، وذلك من أجل حث
المزارع وتمكينه من الحصول على المنتوجات العصرية للحضارة، مثل مجموعة
الأدوات والمنتوجات المصنعة. إن الوضع الحالي للأسعار الزراعية يدفع
بالفلاح إلى ألا يبيع غير الحد الأدنى. ينبغي مفصلة الزراعة على الإنتاج
الصناعي الداخلي لكي تكون للإصلاح الزراعي آثار ايجابية.
لكنك قلت إن ثمة تطورا حصل في مجال الاستهلاك؟
إن الفلاحين يأكلون اليوم من الخضر واللحم
أكثر مما كانوا يأكلونه لعشرين سنة خلت، وهو أمر يعود إلى التنمية الحاصلة
وإلى الاستقلال، ما دام الوقف قد سقط بين الانتاجات الوطنية والأجنبية.
كما أنه كان ثمة تنقل أوسع للناس، وتواصل أفضل وتمازج وإعلام وتطور
للحاجيات مع النتائج المترتبة عن الهجرة والنزوح القروي، ومع المداخيل
القروية الجديدة والمصادر الجديدة التي حصّل عليها الإنسان. غير أن التفاوت
لا يفتأ يتصاعد.
ما هو دور البادية في اللعبة السياسية الحالية؟
إنه دور جد محافظ، عمليا، الأمر الذي يعود
في قسم كبير منه إلى عدم تغلغل الأحزاب السياسية في البداية. فحتى حزب
الحركة الشعبية أو حزب الاستقلال لا يملكان تأثيرا على غير الوجهاء. ورغم
الرغبات النبيلة التي تبديها تنظيمات سياسية مثل الاتحاد الاشتراكي لقوات
الشعبية أو حزب التقدم والاشتراكية في تمثيل الفئات الوسطى أو الفقيرة من
الفلاحين، فإن نفوذها لا يزال ضعيفا في هذا المجال.
لماذا؟
إنها قضية تضامنات. فالفلاحون متضامنون مع
الملاكين العقاريين ومع الشبكات التقليدية، وهم قليلو الاستعداد لتشكيل
أنفسهم في طبقة اجتماعية. إننا لم نشهد قط تحالفات بين مزارعي أراضي الغير
أو بين “الخمَّاسة” أو العمال الزراعيين، كما لم نشهد إضرابات ضد المالكين،
غير أننا، بالمقابل، شاهدنا تحركات تقوم بها مجموعات بأكملها، مثلما حصل
في أولاد خليفة، ضد عدد من سكان المدينة، أو، مثلما حصل في أمزميز من أجل
مشكلة تزويد مركز صغير بالماء حيث أريد تحويل مجرى عين ماء، ضد السلطة
المحلية، أو، مثلما جرى في تاسلطانت، ضد الاحتكارات المدينية. إننا لم نشهد
البلد قط ينشق إلى طبقات، وكل ما هناك، بالأحرى، هو تضامنات عمودية بين
مجموعات أو أقسام من المجتمع.
لماذا هذا المستوى؟
على عكس ما يحصل في الصناعة نجد الفلاحين
مشتتين وخاضعين لسيطرة الملاكين الذين لا يحصى عددهم، كما أن العلاقات
الشخصية أو علاقات الأبوة أو القرابة أو العلاقات العرقية قوية، في حين أن
ثمة في الصناعة اتصالات متبادلة بين الناس واجتثاث لهؤلاء من جذورهم
القروية، وكل تعارض بين الأشخاص يتم استنادا إلى القانون. وإننا نجد في
البادية، بالمقابل، تضامنا مع رب العمل ضد باقي المجموعات المتنافسة فيما
بينها. يضاف إلى ذلك رغبة الفرد في ضمان حياته، والكل يعلم بأن هناك
احتياطا من العاطلين، وأن المستوى التقني ضعيف، أي عام ومنشر، وأنه لا
يُوجد تقسيم تقني للعمل، وأن الأحزاب السياسية لا تمارس، في النهاية، أي
تأثير. ليس ثمة مناضلون عديدون مستعدون للذهاب بهذا الاتجاه، وإن أمر
المساعدين التقنيين أو المدرسين العاملين بالبادية أمر مختلف تمام
الاختلاف، وحتى الأحزاب السياسية المتقدمة لم تبعث قط بمناضلين إلى البادية
من أجل الاندماج بها، علاوة على أنه لا تأثير لها على الظاهرة. إلا أن
التعارض مع المدن هو قيد التطور. إن المدينة من حيث هي حضارة مختلفة، ومن
حيث هي نمط للاستهلاك ومصدر للقرار في الحياة السياسية، صارت مجهولة بشكل
أقل، إلا أنها تبقى بالنسبة للبادية قطبا للتفكير لا يمكن بلوغه. وهذا
ينطبق على المراكز الصغرى أيضا، ونلاحظ خاصة، أن الساسة شرعوا في إدراك
الدور الاستراتيجي الذي تلعبه هذه المراكز.
غير أنك قلت بأن الهوة تتسع، لماذا؟
إن نفقات الدولة في المدينة أكثر منها في
البادية، فهناك مخزونات من المياه والكهرباء تفوق خمس إلى ست مرات مخزونات
البادية، في حين أن ينبغي في بعض المناطق القروية عبور كيلومترات بأكملها
بحثا عن الماء أو الخشب. إن الدولة هي المسؤولة، بالنسبة للفلاحين، يضاف
إلى ذلك أن هذه تراكم اختصاصاتها أكثر فأكثر إلى حد أنها كسرت كل
المبادرات، حتى وإن كانت محدودة كحفر بئر مثلا. إن هذه القدرة أو الكفاءة
الكلية المعلن عنها تنتهي إلى نوع من العجز. وبحيث تصير العلاقات بين
الفلاحين والدولة جد مبهمة: إن الدولة قدمت الكثير إلى الفلاحين، وهي مصدر
كل أعطية، إلا أنهم يعيشون دوما على خشيتها وأمام القرار الفالت من أيديهم.
إنها إله رهيب ومصدر لِنِعَم غير منتظرة.
كيف يمكن تحويل ذلك؟
إن أول مشكلة هي أن طبقة الفلاحين تمتلك
استقلالا ذاتيا فيما يتعلق بالتمثيل. وإذا كان الفلاحون يعبدون الدولة
ويخشونها، فإن الحكام بدورهم يخشون الطبقة الفلاحية على نحو مبهم، وفي هذه
الخشية يجهدون لتصفية كل تنظيمات الفلاحين العفوية. لقد حطموا نظام القبيلة
بإحلالهم قوادا مخزنيين محل القواد التقليديين. وكانت الحماية الفرنسية قد
ذهبت بعيدا في المسألة، ومع الاستقلال صرنا أمام يعقوبية تامة [إشارة إلى
النظرية الديموقراطية المتطورة التي نادى بها اليعاقبة في الثورة
الفرنسية]. لقد صارت الدولة ذات سلطة مطلقة إلى حد أنه صار يُلجأ إليها من
الآن فصاعدا باعتبارها حَكَما في أدنى نزاع يحصل. وجرى تحويل الفلاحين إلى
مجرد زبناء، عاجزين عن تنظيم أنفسهم. وإن الجماعات القروية لا تحل شيئا
لأنها هياكل جد عالية. وأكبر خطر حاليا هو أن تمارس هذه الجموع الصامتة
ضغوطا اجتماعية لا إطار لها قصد الوصول إلى ما تريده، دون وجود هيئات تحمل
ذلك على محمل الجد. وحتى برامج الأحزاب السياسية تتكلم عن الفلاحين لكنها
لا تنطقهم قط، وهذا أمر خطير بالنسبة للمستقبل، وإن على مستوى اليوتوبيات
التي ينبغي تطويرها أو المثل العليا. إن ثمة دائما خطابا يهمل التنظيم
الفلاحي بحصر المعنى.
لكن، أليس هذا ما يحصل في كل مكان؟
نعم، لكن هل ينبغي اجتناب التميّز؟ إن
النمو الديموغرافي قوي رغم كل شيء وطبقة جماهير الفلاحين مهمة. وإذا كان
ثمة مجهود ينبغي القيام به في هذا البلد، فهو مجهود التجديد الاجتماعي.
ينبغي الذهاب إذن في الاتجاه المعاكس والإلحاح على تمثيلية الطبقة
الفلاحية. لقد نجح بلد مثل بلغاريا، قبل الثورة، في تطوير تمثيلية من هذا
النوع، وذلك لأسباب تاريخية معينة، إلى حد أن ذلك كان قوي التأثير على
التنمية، وبحيث أن بلغاريا هي من البلدان الاشتراكية النادرة التي نجحت في
إصلاحها الزراعي، كل ذلك بفعل تمثيلية الفلاحين في جهاز الدولة. أما في
الصين فلسنا نعرف النتائج. إنني لا أدعو إلى نزعة فلاحية، وإنمنا تثيرني
هذه الظاهرة المهمة وهي أن هذه الجماهير ذات الأغلبية العددية تُمثَّل
تمثيلا ثانويا، هي أن هذه الطبقات الاجتماعية يُحْتَفَظ بها بعيدا عن كل
اختيار سياسي. إن هذا التحرّف يمثل خطرا على المجتمع برمته.
في عام 1967 بلورتَ مفهوم «المجتمع المزيج» وعارضته بمفهوم «المجتمع الانتقالي». هل يمكن لك أن تقدّم لنا شروحا بهذا الصدد؟
إنني أظن فعلا أن مصطلحات مثل «المجتمع
النامي» و«المجتمع التابع» تظل تعبيرات جد غامضة، مثلها في ذلك مثل مفهوم
الاستقلال الاقتصادي. كما أن القول بأن المجتمع المغربي مجتمع رأسمالي هو
مجرد تعسف لغوي، وبأنه فيودالي (أو قائدي في المصطلحات الخاصة بي) أمر جد
مبالغ فيه. لقد كنت أريد تدقيق طبيعة التشكيلية الاجتماعية المغربية، وظهر
لي في البداية أن نمط الإنتاج الرأسمالي كان هو المهيمن عليها، في القطاع
البنكي، والمالي، وفي القطاع التجاري –أو على الأقل يهيمن أكثر فأكثر- وهي
قطاعات في خضم التطور على المستوى التكنولوجي وفي علاقة مع الهيمنة
الأجنبية والتجارية. بمقابل ذلك، وإذا نحن نظرنا إلى العلاقات الاجتماعية
والحقوقية والسياسية والإيديولوجية فسنلاحظ أن الرأسمالية ليست غير مهيمنة
حاليا وحسب وإنما هي تعرف في بعض القطاعات تراجعات، عابرة حقا، إلا أنها
حقيقية. إن هيمنة الرأسمالية ليست ناقصة فحسب وإنما هي غير متجانسة. وأنماط
الإنتاج الأخرى تدافع عن نفسها وتقاوم بل وتنتصر في بعض الميادين: خاصة في
المجال البيروقراطي وفي العلاقات الاجتماعية وعلى مستوى الهيئات السياسية.
لقد تساءلت لماذا. وبدا لي أن المجتمعات المماثلة المجتمع المغربي لم تكن
مهيمنا عليها مجتمعيا من طرف الرأسمالية العالمية فقط، وهو نصيب معظم
البلدان التي سبق استعمارها، وإنما ثمة، علاوة على ذلك، شيء آخر: هو أن هذه
المجتمعات لم يكن لديها مشروع مجتمعي خاص بها، يقيم تراضيا عاما ويشير إلى
سبل الخروج من هذه التبعية. إننا نشعر كما لو أن النمو الاقتصادي ببلادنا
يتم دفعة دفعة، دون إطار عام ودون إستراتيجية. من هنا خلصت إلى أنه ينبغي
أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار وإيلاؤها ما تستحقه من أهمية، مع التمييز
–بشكل أكثر قوة مما يصنعه علماء اجتماع هذه المناطق عامة- بين وضعية
انتقالية ووضعية التمازج. إن المشروع في المجتمع الانتقالي هو تحقيق شكل
مجتمعي نعتبره، عن حق أو عن باطل، مثاليا. هكذا ندين أنماط الإنتاج السابقة
ونعطي لأنفسنا وسائل تصفية هذا الماضي في نفس الوقت الذي نبدأ فيه عملية
تحرر ممن الرأسمالية العالمية. أما في المجتمع المزيج، وعلى العكس من ذلك،
فإننا نتجنب تحديد المشروع المجتمعي، ويمكن أن نتحالف مع التقاليد (التي لا
أعني بها الفولكلور)، ونحافظ على، أو ندعم، أو نسمح بعلاقات الإنتاج
وبالعلاقات الاجتماعية التي تنتمي إلى عصر آخر، وذلك لأننا لا نريد تمكين
أنفسنا من وسائل تحويلها. أكيد أن السبب الأساسي يأتي من أن الهيمنة
مُتحَمَّلة، إن لم تكن مقبولة، من قبل تلك الطبقة الاجتماعية التي تستفيد
منها. إلا أن الهيمنة تؤدي إلى تصريف فائض القيمة الاقتصادي، أي تصريف كتلة
القيم الضرورية بالضبط لتأدية ثمن التحوُّل. إن التصفية الارادوية لنمط
إنتاج ما لا بد لها من تكاليف اقتصادية وتقنية واجتماعية جد هائلة. وليس
تعويض مَعَاصر الزيت التقليدية بمصنع ما مجرد تحويل تكنولوجي، بل إنه
يستلزم إنشاء بيئة الإطار الصناعي برمتها بالإضافة إلى إطار مؤسسي: الإجارة
والتنظيم النقابي والتأمينات الاجتماعية والصحة والتقاعد وضمانات العجزة،
الخ، التي كان المجتمع السابق يؤمنها بطريقة أخرى. وإذا كانت أرباح المصنع
تُصَدَّر إلى الخارج من أجل تسديد القروض وأداء الفوائد فإن وسائل تحويل
الإطار المؤسسي هي ما يتم مصادرته. ولا يبقى حينها إلا أن نطلب من الإطار
التقليدي الاستمرار في تأمين الوسط المؤسسي، لكن ضمن وضعية مختلفة تماما،
أي دون التوفر على الوسائل المادية التي تمكنه من انجاز العبء الذي أنيط
به. من هنا يأتي المزج الذي تكلمت عنه، أعني هذه الوضعية الخصوصية جدا،
المتميزة بتوسع العلاقات الاجتماعية بالغة التعقيد، والمتحركة باستمرار
حركة غير محسوسة ولا آفاق لها. يضاف إلى ذلك أن الحماية الفرنسية لم تصقل
النظام القائدي على نحو ما صنعت بالجزائر. كما أنه تتوفر كل أنواع الرفض
والنفور التي يمكن أن تقود إلى خط جذري جديد. إن ما يتم أمامنا هو محاولة
للاستمرار باللعب على كل الجداول التي تتيحها المنافسات الضمنية بين أنماط
الإنتاج الماضية والحاضرة. والمجتمع المزيج الذي تتبارى وتتصارع ضمنه
التشكيلات الاجتماعية في مختلف مراحلها بل والمتعارضة كليا في بعض الأحيان،
وربما يصبح يوما ما مرغما على أن يتغير عن طريق هيمنة لا تقهر لتشكيلة
اجتماعية جديدة، لكن، مع ما يصاحب ذلك من تأخرات وتكاليف وتقلبات. وأعتقد
حاليا، بالفعل، أنه لو تمت موازنة [بين مختلف أنماط الإنتاج السائدة
بالمغرب] لكانت الغلبة للنمط الرأسمالي على الدوام، ما دام مهيمنا الآن على
النشاط المالي وفي التجارة والتكنولوجيا، رغم أنه لا يمارس حاليا غير
تأثير خفيف على العلاقات الاجتماعية.
لعل هذه المقاومة نابعة من التقاليد الجماعية…
إن ذلك يبدو متجاوَزاً، وأعتقد أن
المقاومة أبيسية [بطريركية] بالأساس، من قبيل تربية الأطفال وتخلف النساء
وعلاقات مجتمع عنيف في قراباته الأبوية وتكييف الطفل مع الحياة الجماعية
فيما بين فترة مولده وبلوغه الساعة من عمره، كل ذلك يحافظ على علاقات
اجتماعية من ذلك النوع. هذا علاوة على الحفاظ على التفاوتات الاجتماعية
وتناميها.
ألا ترى إمكانية حصول تغير ما؟
في الفئات الميسورة جدا، حيث يدخل الشبان
الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و20 سنة في قطيعة كلية مع المجتمع الذين
ينظرون إليه باعتباره صورة للأب. ومع ذلك فبمجرد ما يشكل هؤلاء الشبان
كينونتهم الاجتماعية يواصلون نفس الدائرة.
ما هو، إذن، دور التمدرس هنا؟
إنه مستورد، في شكله، وغير مكيف مع
المغرب. ولا يساعد التعليم على ولوج الحياة، بل يساعد على ولوج الإدارة.
ونحن في أحسن الحالات أمام مدرسة نتعلم ونادرا ما نتكون فيها: هنا يكمن
الحصار الحقيقي، والمدرسة من العوامل الأولية للإطاحة به. إلا أنه ليس
الحاجز الوحيد، فتوزيع الخيرات له أهميته أيضا، وليس ثمة قط عامل واحد هو
وحده الجدير بأن يُؤخذ بعين الاعتبار.
هل بالإمكان فرض مدرسة جديدة عن طريق سياسة إرادوية؟
ينبغي توفر مشروع تاريخي، توفر مذهب. إن
الأفكار المستوردة جاهزة من الخارج تشكل خطرا. وإن المرض الأكبر لهذا البلد
هو زرع النماذج مع غياب التجديد. ويوم يجدِّد المغرب، فإنه لن يظل في
المؤخرة.
لقد سبق أن قلت إن مهمة المثقفين الرئيسية هي صنع الأفكار. هل تعتقد أنهم عجزوا عن الوفاء بهذه المهمة؟
إننا في البداية. وهذا بلد حديث عهد
بالاستقلال، ليست هيئته الثقافية متعددة كما أنها تتجنب النقد. والمثقفون
يتعاملون بلطف سطحي في الصالونات. ولو عقدنا مقارنة مع الصراعات العدوانية
التي خاضها المثقفون الروس فيما بين 1905 و1920، مع كل الهيجان الذي كان
سائدا… للاحظنا أننا هنا بين أناس طيبي المعاشرة لا يهاجمون إلا عن طريق
وسائل جد متمدّنة، كأننا في بيزنطة، الأشياء المهمة لا نتكلم عنها.
والحقيقة أنه لا يمكن أن يتم تطور في هذه الشروط. ولعله سيكون ممكنا حين
يحس المثقفون بأن كلامهم ذو مفعول… وبانتظار ذلك نحن نتحدث. إننا نقف على
نهاية عصر، دون أن ندخل، بعد، عصرا آخر.
ما هو الحصار، إذن، كما يبدو لك على مستوى الأفكار؟
إن التراضي الوحيد الموجود بالبلاد الآن
هو تراض وطني محض. بحيث يظل الصراع الاجتماعي أصم. ولا أحد من أطرافه يذهب
به بعيدا إلى الحد الذي يوحي فيه بمشروع مجتمعي ذي مصداقية. إن كل لعبة
الدولة حاليا تكمن في الحفاظ على هذا التوازن بين مختلف القوى، بحيث لا
تتمكن أيها من بزّ الأخرى ودفع المجتمع إلى سبيل وحيد الاتجاه. إن الدولة
وأغلب القوى السياسية –رغم كل ما تقوله- تخشى أكثر ما تخشى الاتجاه الوحيد.
إننا لا نريد الخروج من بطن التاريخ ولا من بيت الأب، وذلك لأن المغامرة
هي ما يوجد خلفهما. وإن قواعد اللعب التي نعرفها أحسن، في العمق، من أن
نخترع ونجدّد. وما دام المشروع المجتمعي الحائز على المصداقية غير متوفر
فإننا نرقع ونستعير ونقيم إنشاءات ملفقة بنتف من حلول منتقاة من كل مكان،
من الغرب والشرق ومن المشرق والشمال. إن هذا هو المجتمع المزيج.
*أجرت
الحوار زكية داوود سنة 1978 لحساب مجلة “لاماليف”، وترجمه الراحل مصطفى
المسناوي وأعاد نشره في مجلة “بيت الحكمة” التي كان يديرها، العدد الثالث
أكتوبر 1986.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق