المثقف المغربي بين الصمت القاتل والثرثرة المثيرة للسخرية
— 12 يونيو, 2016من بين كل مضامين تقرير الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان في المغرب عام 2016 التي أثارت نقعا بين الوزارتين الأمريكية والداخلية المغربية استرعت انتباهي هذه الجملة التي يبدو أنها لم تحظ باهتمام يُذكر من طرف بلاغ الداخلية الذي وصف التقرير المذكور ب”الكاذب”.. الجملة هي “ثمة صمت قاتل للمثقفين في المغرب”..
استرعت هذه العبارة انتباهي لأنها حقيقية، أي تصف بإيجاز قاتل على طريقة الأمريكيين في التعبير عن أفكارهم بإيجاز ووضوح، واقعا ماثلا أمام الأفئدة والعيان ببلدنا.. لنحلل الفكرة من وجهة نظرنا وللقارىء واسع النظر..
لنطرح في البداية هذا السؤال: هل المثقف المغربي صامت فعلا؟
جوابي: نعم ولا! ولنشرح..
إذا أخذنا الشق الإيجابي من الجواب عن السؤال، فسنجد له ما يعززه ويعضده ويدعمه، من قبيل أن المثقف المغربي “يؤثر” الصمت حينما يتعلق الأمر بقضايا “حساسة” و”يسهب” في الحديث حينما تُطرح مواضيع عادية أي “غير حساسة”..
لنأخذ مثلا قضية تهريب الأموال إلى الجِنان الضريبية التي اشتهرت قبل أسابيع فيما بات يعرف ب”أوراق بنما” فبالرغم من أن المسألة اعتُبرت فضيحة كبيرة على المستوى العالمي، وأحدثت زلزالا سياسيا وإعلاميا ما زالت هزاته الارتدادية القوية مستمرة، إلاَّ أن المثقف المغربي مرَّ مرور الكرام على ورود اسم الملك محمد السادس من خلال معاملات مالية غير قانونية ولا أخلاقية (خلق شركات وهمية وتهريب الأموال إلى الخارج) لكاتبه الخاص محمد منير الماجيدي (الشهير بلقب M3) في نفس الفضيحة.
لم ير المثقف المغربي “نفعا” من الخوض في هذه القضية كما قضايا أخرى متعددة تعدد أوراش الشأن العام التي يتصرف فيها الملك وأصدقاؤه المقربون ضمن “مفسدة الجمع بين التجارة والإمارة” كما وصف هذا الوضع النشاز منذ ما يقرب من سبعة قرون مثقف عربي كبير هو عبد الرحمان بن خلدون.
بالمقابل تجد نفس المثقف المغربي “ثرثارا” حد وضع نفسه في مواقف تجعله عُرضة لسخرية الساخرين وتعريض المعرضين.. كلما تعلق الأمر بمواضيع “خفيفة” من قبيل لوك الكلام أمام كاميرات التلفزات أو على صفحات الجرائد الورقية والالكترونية..
من النماذج التي تحضرني في هذا الصدد أن “محللا” كثير الحضور في بلاتوهات قنوات القطب العمومي لم يتورع يوما عن القول في برنامج حواري “تحليلي” بالقناة الأولى: “إن حضور جنرالين جزائريين إلى المغرب للتداوي على يد مكي الصخيرات يُعتبر إنجازا له دلالات استراتيجية وجيوسياسية بعيدة المدى”! هكذا دون أن يتصبب “المحل” عرقا من شدة الخجل ثم يعتذر لمشاهديه الذين غرق بعضهم في موجة ضحك هستيري.
أما مثقف متحزب آخر من ذات العيار فقد كتب يوما مقالا “جادا” في موضوع غريب على مجال العلوم السياسية التي يدرسها لطلبته في جامعة الرباط وهو “الملكية الاستراتيجية” كما عنون مقالته ونشرتها إحدى الجرائد اليومية دون أن تطرح السؤال على كاتبها: من أي فرع في العلوم السياسية استقيت هذه “الاستراتيجية الجديدة” ومن أي عصر؟ وما هي المراجع العلمية التي اعتمدت عليها في سك مصطلحك هذا..؟ وغيرها من الأسئلة المنطقية.. كما لم ينبرِ مثقفون غيورون على مجال عملهم للتصدي ل””شطحة” مثقفنا الحزبي “النشيط” في الجرائد والمواقع الالكترونية.. لا شىء من ذلك حدث، لأنه لا أحد يهتم، والجميع يعرفون أن الأمر يتعلق بتزلف “فكري” مُبتذل كما ألوان رداء بغي رثة مبتدئة.
إذن إن مثقفنا المغربي، عموما “صامت” صمتا قاتلا حينما يتعلق الأمر بمواضيع جادة حقيقية، و”ثرثار” على نحو مثير للسخرية الممزوجة بالرثاء كلما تعلق الأمر بمواضيع “خفيفة ظريفة”.
قد يفهم أحد ما من كلامنا أعلاه أننا نُطالب مثقفنا المغربي الصامت/الثرثار أن يكون ثوريا أحمر، وأن يبرح دوره كمنتج للفكر العقلاني المتنور والتنويري، ويستعيض عنه بلغة التحريض الفجة التي تدغدغ مشاعر العوام المحدودي التفكيير والأفق، ويغرق في إنتاج خطابات شعبوية مقيتة ومُبتذلة..
كلا ثم كلا.
نريد مثقفنا المغربي أن يكون هو ولا شىء غير ذلك، أي إطارا نوعيا في المجتمع يحترم نفسه ومهنته فلا يقبل أن يتحول إلى مهرج في خدمة صاحب السلطة والمال، فيضع نفسه في مواقف تحط منه ومن مهنته بين مُتلقيه أي المجتمع.
نريد مثقفا مُحترفا لا يصمت حين يكون عليه أن يتكلم، وأن يفعل ذلك متلفعا برصانة ودقة حجِّية مجال الفكر والعلم، فيستفيد منه الناس ويدفع بعجلة التقدم الفكري والمجتمعي إلى الأمام، على أساس متين.
طبعا نحن ندرك أن هذا ليس بالأمر الهين بالنظر إلى طبيعة البنية السياسية والمجتمعية التي “تؤطر” البلاد، وقوامها نظام سياسي أوثوقراطي (يجمع بين السلطتين السياسية والدينية وفي ركابهما الثروة) ومجتمع أعزل إلاّ من السلبيات التي يتلقاها فتفعل فيه الأفاعيل التي لا يمكن التكهن بعواقبها السلبية على البلاد والعباد.
في هكذا واقع سلبي غير مشجع يختار مثقفنا الحل “الأسلم”: الصمت القاتل أو الثرثرة المثيرة للسخرية.
يؤكد المؤرخ الإنجليزي “كرين برينتون” في كتابه القيم “تشكيل العقل الحديث” أن مفكري تيار العقلانية في عصر الأنوار والتنوير بأوروبا نظير “ديديرو” و”مونتيسكيو” و”أوغست كونت” في فرنسا “وفرانسيس بيكون” و”جون لوك” في بريطانيا، على سبيل المثال لم يكونوا ثوريين أو فوضويين مع أنهم عاشوا و”عايشوا” نظامين ملكيين شموليين، لكنهم استطاعوا تقديم إنتاج فكري محترف شرَح وشرَّح أوضاع المجتمع والدولة بدون مساحيق.. ولا حاجة إلى أن نُعدد الدور المحوري الذي أداه هؤلاء المفكرون في نهضة مجتماعاتهم وتقدم بلدانهم فهو ملء السمع والبصر.
لا ننتظر من مثقفينا المغاربة أن يُضحوا برواتبهم التي يتقاضونها من وزارات ومختلف مرافق الدولة عن مهامهم المعروفة و”غير المعروفة” ليتمترسوا خلف الاستقلالية الفكرية على غرار مفكرين كبار مثل الفيلسوف الهولندي “باروخ إسبينوزا” الذي رفض كل إغراءات الملكية وغيرها من أوساط الثراء في بلاده وفي سائر أوروبا، وأصر أن يكسب قوته من صنع العدسات المكبرة، وينتج فكرا مستقلا ساهم بالدور الكبير في إثراء الفكر الأوروبي والعالمي في أواخر القرن السابع عشر، وما زالت إنتاجاته تعتبر محورية في المجالات الفكرية والفلسفية التي اشتغل عليها حتى الآن..
لا نريد أن “يَقُجَّ” مثقفونا المغاربة أنفسهم على غرار المفكر والفيلسوف “إسبينوزا” فهذا مما لا يستطيعون تحمُّله وهم الذين درسوا “باش يشدُّو المانضة” قبل أي شىء آخر، أو أن يَسْتَعْدُوا أصحاب النفوذ ضدهم فيكيدون لهم كيدا.. كلا، ووقى الله مثقفينا من شر عبوس السلطة القمطرير..
نريدهم فقط أن لا يكونوا صامتين على نحو قاتل أو شرذمة ثرثارين مثيرين للسخرية والشفقة.
فهل هذا كثير؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق