الاثنين، 20 يونيو 2016

بول باسكون (5): ما الغاية من علم الاجتماع القروي وما المقصود منه؟ (الجزءالاول)

بول باسكون (5): ما الغاية من علم الاجتماع القروي وما المقصود منه؟ (الجزءالاول)
بول باسكون (5): ما الغاية من علم الاجتماع القروي وما المقصود منه؟ (الجزءالاول)

بول باسكون (5): ما الغاية من علم الاجتماع القروي وما المقصود منه؟ (الجزءالاول)

محمد المساوي
بعد نشرنا للحوار الذي اجرته زكية داوود مع بول باسكون، ننشر فيما يأتي مقالا مهما لباسكون يتحدث فيه عن علم الاجتماع القروي بشكل مستفيض، ننشر المقال مقسما الى اجزاء، في الجزء الأول يتطرق باسكون الى الحديث عن الغاية من هذا العلم حيث يقدم بطريقة متينة بعض الحيثيات التي تحكم المشتغل في هذا المجال العلمي، ليخلص الى تمهيد الطريق للحديث عن المقصود بعلم الاجتماعي القروي.
ثم بعد ذلك ينتقل بنا شيئا فشيئا ليغوص في الاشكالات التي قد يطرحها علم الاجتماع القروي وكذا الاشكالات التي قد تُطرح على المشتغلين في هذا المجال العلمي، ليحاول مَوْقَعة هذا العلم في سياق الصراع الاجتماعي والسياسي الذي يخترق كل المجتمعات، ويتساءل ما حدود العلم والسياسة في هذا العلم، وما معنى الموضوعية العلمية فيه.
 كُتب المقال في الأصل ليكون تقديما لكتاب “وسيط في علم الاجتماع القروي”، لذلك يطغى عليه النّفَس الاكاديمي، لكنه ليس ذاك النّفس الممل، بل كُتب بسلاسة في التعبير، ومبني بطريقة منهجية تجعل الافكار تتواتر وتتعاقب بتناغم معرفي، فباسكون كان بارعا في عرض افكاره ايضا ولم يكن باحثا مجتهدا لا يستكين الى الجاهز فقط.
ترجم المقال الراحل مصطفى المسناوي، «المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع» (B.E.S.M)، العدد المزدوج: 155-156 (خاص بـ: بول باسكون )، ص ص: 59-70. وأعاد نشره الكترونيا موقع المناضل-ة.
الجزء الأول:
1-ما الغاية من علم الاجتماع القروي؟
لعل المعرفة جُعلت من أجل تغيير العالم، بالتأكيد، لكن من طرف من؟ ولفائدة من؟ النقاش عريض في المسألة. وانطلاقا من هذا المبدأ وحده يمكننا أن نتوقع الأفضل والأسوأ، الإناء العَفِن الذي تتمازج فيه إرادات ومصالح على نحو حميمي.
وما من شك في أن بإمكان قصديات اجتماعية، محسوسة بهذا القدر من الغموض أو ذاك ضمن مسار حياة شخصية، أن تتحكم في اختيار مهنة أو اختيار قطاعٍ للبحث. إلا أن الظروف تفتح عند الحاجة، وعلى نحو أوسع، آفاقا لا تتضِّح إلا شيئا بعد شيء. بحيث يمكن ان يجد المرء نفسه باحثا في العلوم الاجتماعية ضمن ميدان معين، وقطاع معين، وعمل معين، قبل أن يتشاور مع نفسه حول إستراتيجية عامة، وفي أغلب الأحيان، بجوار أو خارج إستراتيجية عامة تستلزم معرفة واسعة بالعالم غير المعرفة الدوغمائية. وبعبارات أخرى أكثر ابتذالا، فإن المرء يجد نفسه في موقع عمله قبل أن يكون بإمكانه التفكير مليا فيه، وهي أكثر الحالات ثباتا في نهاية المطاف… وعلينا أن نتصرف في ظلها، أي علينا أن نحاول تصويب رمايتنا على أفضل وجه في حقل يوجد قبلنا.
حقل! إذا كانت العصافير تغرِّد فليس من أجل متعة آذاننا يعلِّمنا علماء الطير، ولكن من أجل إثبات ذواتها في منطقة نفوذ معينة، وهي ترفع عقيرتها بالصراخ دفعا لصرخات عصافير أخرى. كما أن كبار جوارح الحيوان تبول على تخوم أراضي صيدها. أما الجامعيون والباحثون ورجال القلم فيفيضون في الخطاب وينشرون ويطبعون من أجل نصب المعالم المحدِّدة لحقلهم، وضمان موقعهم فيه، والترقي ضمن تراتبية هرمية، ومضاعفة رأسمالهم الرمزي والعيش على الريع المباشر وغير المباشر لهذا الرأسمال. ريع مباشر بئيس هو ريع حقوق المؤلف، ومتواضع هو ريع محاضرتهم الجامعية، وريع غير مباشر هو ريع الحظوة ضمن هيئتهم وحزبهم ومجتمعهم، وريع الكوكبة الدولية (من ندوات ومحاضرات ودعوات وبعثات).
وعلم الاجتماع القروي، أو علم الاجتماع فحسب، مثله في ذلك مثل أي مشروع، علمي أو غيره، لا يفلت من تلك القاعدة السوسيولوجية التي تقول بأن النشاط يخدم القائم به أولا. وإذا كان هذا الأخير لا يختفي خلف أخلاقية مزيفة أو خلف متعة قوله لنفسه بأنه يخدم الآخرين، فإنه، هو بالذات أول من يستفيد من ذلك النشاط، وبإمكان هذا الأمر أن يفسر لنا، في غالب الأحوال، كثيرا من الأشياء في مسيرته العلمية، أكثر من صرامته، في الغالب، ومن ذكائه أو غزارة معارفه. أكيد أن هناك استراتيجيات أقصر من أخرى، وأكثر سفورا منها، وأقل حذقا وأنفذ صبرا، إلا أننا نتحرك جميعا من أجل الحصول على مكان لنا تحت الشمس، حتى وإن كنا مهدَّدين، أحيانا، بالانزواء في الظل.
بناء على ذلك فإن علينا أن نسلِّم سلعة معينة، هي هنا، والحالة هذه، علم الاجتماع القروي. وقد حانت لحظة التساؤل عن المقصود به.
2 -علم للواجبات :
تؤدي الممارسة المتكرِّرة لنشاط علمي في حقل محدّد، مع مرّ السنين، إلى الحصول على نوع من الغُنم المهني في معرفة هذا الميدان، وفي القدرة على معالجة معلوماته. وتقيم ضرورة تقسيم العمل العلمي، تخصّصات. تخصّصات تمنح ألقابا، وتقتطع مناطق نفوذ، وتفتح الأبواب على سُلَطٍ.
ومنَ المعترف به لكل مواطن حقه في أن يتكلم عن مجتمعه هو بالذات، إلا أن من المرفوض له، في الغالب الأعم، أن يمتلك أكثر من رأي، وأن يقدِّم أكثر من شهادة، وسط شهادات أخرى. أما عالم الاجتماع فيُفْترض فيه أن يكون مسلحا بمنهج يجمِّع ركام المعلومات بواسطته، ثم يتجاوزها، يطلّ عليها من عَلٍ ويتعالى عليها.
ينبغي للباحث، إذن، أن يعرف أكثر، أن يعرف أحسن. وإن ما يقوله، لا باعتباره مواطنا بل باعتباره عالم الاجتماع، يعطيه سلطات على الرأي، وكذا على تراكم العلم. وفعلا، فالمادة المطبوعة تملك سلطتها الخاصة، التي ربما غُوليَ في تقدريها. إن المكتوب الدائم، القابل للانتشار في قارات أخرى، تتم استعادته على شكل إحالات ضمن تصوّرات أوسع، ومن طرف باحثين قصيِّين، لا يملكون من متسع الوقت قط ما يمكنهم من تعميق مصادره.
لكن لا ينبغي، مع ذلك، أن نبالغ في تقدير الوزن الحالي لعلماء الاجتماع داخل المجتمع المدني. فالناس، بوجه الإجمال، يفكرون ويتكلمون ويفعلون دون أن يبالغوا في الانشغال بهم. وهو أمر حسن بالنسبة للديموقراطية! إذ لا شيء سيكون أخطر من الاعتراف بأدنى نفوذ على الآخر، لأولئك الذين سجنوا أنفسهم في زاوية تخصصهم الضيِّقة. كما لا ينبغي، في الوقت نفسه، أن ننتقص من شأن أخطار التسلل المخاتل والماكر للمنتوجات الفكرية المدموغة بخاتم العلم، فبإمكان العلم أن يكون بدوره حصان طروادة للنزعات الكليانية. وإن التتبع المفرط لمنهج من المناهج إلى حدّ إعلانه متفوقا على الصعيد الكوني، ليؤدي إلى المانوية والهمجية. ويزوّد المقال والكتاب المنشور رجال السياسة وأولي الأمر بأعتدة، كما يغذي مجادلاتهم: وهم يغترفون منه –إن لم يكن أفكارهم- فعلى الأقل وقائع من شأنها أن تعبئ الناس لنجدة عقائدهم. من هنا فإن عالم الاجتماع هو، دائما، في خدمة السلطة، أو السلط، كيفما كان معسكره.
إن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع الإفلات من السؤال عن موقعه في المجتمع. ويهدف التعميق الواجباتي (نسبة إلى علم الواجبات) إلى التعرّف على قدراته الممكنة، وموازنة صعود المعارف الكامن بواجبات الحذر والنزاهة، كما يهدف إلى التشهير المسبق بالمخاطر التي يثقل العلم بها كاهل المجتمع. والتقشف الواجباتي ضروري بالنسبة لجودة البحث ضرورة التمّرس بالمنهج.
وإن كل عالم اجتماع مطالبُ بأن يكشف عن السلطات التي يمسك بها في المجتمع الذي يدرسه، وأن يفحص إواليات إقامة هذه السلط، ويكتشف الوسائل التي تكبحها لكي يَحول دون التعسف في استعمالها، وكذا بأن يثمِّن موقعه الحقيقي ويسنّ لنفسه نوعا من القانون الأخلاقي يلتزم به أثناء ممارساته العلمية.
3-سوسيولوجيا علم الاجتماع القروي المغربي:
يهدف علم الاجتماع القروي إلى معرفة المجتمع القروي. وهو ليس من عمل القرويين أنفسهم، على الأقل في اللحظة الراهنة، وربما لفترة طويلة أخرى فيما يبدو. أكيد أن هناك، كما سيكون هناك في المستقبل، علماء اجتماع مغاربة ذوي أصل قروي يدرسون، (وسيدرسون) المجتمع القروي، إلا أن مسألة أصلهم ليست امتحانا لانتمائهم إلى المجتمع القروي. ذلك أن وضعيتهم الحاضرة، وتجذرهم الحالي، وآفاقهم الشخصية، هي التي تحدّد اندماجهم في المجتمع خير تحديد.
إن علماء الاجتماع القروي هم اليوم كلهم من الحضريين، أو ممن صاروا حضريين. وهذا لا يقيِّد حقوقهم في شيء، كما لا يقلِّص مواهبهم، في دراسة المجتمع القروي . وإنما هم يملكون فحسب، وبفعل ذلك، وجهة نظر خصوصية جديرة بموقعهم النوعي. ومن الجدير بنا أن نحلِّل هذا الموقع ونأخذه بعين الاعتبار.
إن علم الاجتماع، من حيث هو تفكير في المجتمع، يستلزم التباعد، أي يستلزم تحقيق ذلك الحدّ الأدنى من القطيعة تجاه الذات وتجاه الجماعة التي تنتمي إليها، وهو أمر ضروري للتوصل إلى الموضوعية. لكن، ربما كان الخطر في مكان آخر: فعالم الاجتماع يُهمِّش ويتهمش، وسرعان ما يجد نفسه مهدَّدا بإفراطين، هما أن يتخذ موقفا محايدا، أو أن يُتلاعب به.
أما التحييد فملجأ مريح. وهذه وجهة نظر سيريوس (Sirius) التي يفحص عالم الاجتماع انطلاقا منها، ناظرا بعيني عالم حشرات، المجتمع والناس وهم يتخبطون في كبرى مشاكلهم وصغراها على صعيد التاريخ وصعيد الكوكب الأرضي. وليس خطاب علم الاجتماع المحايد غير ذي أهمية بالنسبة للمجتمع: فهم يعطي مسافة تجاه هذا الأخير، كما يعطي معنى النِسَب والنسبية. إلا أنه لا تأثير له في معظم الحالات، يبعث الضجر في المواطن التوّاق للفعل، ويترك الأسئلة المباشرة الحارقة بدون جواب.
وأما علم الاجتماع المتلاعِب فهو ذاك الذي اتخذ موقفه في ميدان القوى الاجتماعية الحاضرة. لنترك اللحظة، جانبا، شوائبه المناهجية الأصلية: أي اتخاذ موقف مسبق لا يساعد على التوصل إلى الموضوعية. ولنظل، بالأحرى، في ميدان الفعل الاجتماعي الذي يريد التموضع فيه. إن الجدال هنا هو بين العلم والسياسة . في هذا السياق يكون المطلوب من عالم الاجتماع هو توفير الوسائل والوصفات لتحويل المجتمع نحو غاية يجري الإعلان عن أنها حسنة. من طرف من؟ من طرف السلطة؟ من طرف السلطة المضادة؟ من طرف الوزارة؟من طرف الحزب؟ أي حزب؟ وهنا أيضا، ينبغي الإتيان بالدليل على جودة الغايات. وليس هناك برهان على مثالية الغايات. فنحن نسير وراء اليوتوبيات إلى ما لا نهاية له، دون أن ننجزها قط! وما تاريخ الإسلام، وتاريخ المسيحية أو تاريخ الاشتراكيات الفعلية سوى دليل يُظهر أن الناس يطمحون إلى المثال الأعلى ويسلكون، في فعلهم، مسلكا براغماتيا.
إلا أنه من اللائق أن نعمل بحيث يستطيع المواطنون معرفة المجتمع الذي يعيشون فيه، والذي يرغبون، ضمنه، في متابعة غاياتهم، وتحقيق مصالحهم.
ويعرف عالم الاجتماع أنه، وهو يخدم قضايا ما، يضع نفسه، على الخصوص، في خدمة القادة الذين يستندون إليها. ويمكننا ألا نشك في كرمهم الحالي. لكن ما أوفر الأدلة التي تدفعنا إلى الشك حتما في كرمهم الذي لا حدّ له.
وفي جعل علم الاجتماع أداة لممثلي طبقة اجتماعية معينة –مهما كانت هذه الطبقة- من الأخطار ما يعادل إعطاء هذه احتكار البث الإذاعي.
ويطرح علم الاجتماع القروي صعوبات إضافية. فالقرويون مقهورون ومبتورو الأطراف في المجتمع الحاضر. والثقافة المهيمنة هي، في الوقت الحالي، ثقافة المجتمع الصناعي والمديني، الرأسمالييْن عندنا. ويحسّ سكان البادية، وفي كل سجلاّت وجودهم، بواقع استغلالهم من طرف عوالم مجتمعية أخرى. كما أن أكثر رجال السياسة تقدما لا يهدفون سوى إلى جعل هؤلاء يلعبون أدوارا محددة بشكل مسبق، خارجهم، ضمن سيناريو عام ليسوا فيه سوى قوة مكمِّلة وسلبية ينبغي الإطاحة بها.
هل ينبغي على المرء أن ينحاز في ذلك؟ إن علم الاجتماع القروي، الآن ولزمن طويل في المستقبل، هو علم اجتماع طبقي في خدمة السائدين. والمناضل السياسي نفسه، حين يسهب في الحديث عن الوضع القروي على أعمدة جريدة معارضة، فإنه يزوّد السائدين بالذخائر أكثر مما يصل الرأي العام المساند للطبقة الفلاحية. إن النظرة التي يلقيها على الوضع القروي مثقفون مندمجون في المجتمع الصناعي وفي العالم المديني لنظرة «استعمارية».
وليس هناك من الحجج ما يبطل واقع الحال هذا. وإن عارضناه بالعواطف الحسنة أو افترضنا أننا نخدم الثورة وقَلبَ واقع الحال هذا فنحن إنما نلقي على العيون أو نبعد عنا المشكل إلى المستقبل: أي ما يشبه استعمار مسبقا بمعنى من المعاني. وإن التفحّص الجذري –بمعنى أن على النقد أن يذهب حتى الجذور- ضروري لكيلا نكون، على الأقل، مغفَّلين، ولعلنا نجد طريقا للخروج من الفخ طالما أن تنظيمات قروية مستقلة ذاتيا لم تعرف النور بعد ولم تأخذ على عاتقها مصير طبقتها، ذلك الأمر الذي لن يتم ما لم يقم تصنيع وتعمير ما للبوادي بتحطيم الأطر التقليدية.
يتبع..
الحلقات السابقة: الحلقة1  الحلقة2   الحلقة3   الحلقة4

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق