بول باسكون (6): ما الغاية من علم الاجتماع القروي وما المقصود منه؟ (الجزء الثاني)
بول باسكون (6): ما الغاية من علم الاجتماع القروي وما المقصود منه؟ (الجزء الثاني)
محمد المساوي
في الجزء
الثاني من المقال، الذي كُتب اصلا ليكون مقدمة لكتاب “وسيط علم الاجتماع
القروي”، يواصل باسكون تحديد ماهية هذا العلم الجديد الذي يُعتبر هو أهم
رواده بالمغرب، ويسهب باسكون في تناول جل جوانبه بالحديث عن وظائفه
وادواره، ويتحدث عما اسماه “التبادل اللامتكافئ للتواصل” في علم الاجتماع
القروي، ويقصد به ان هذا المجال البحثي يعمل على نقل المعلومة من القرية
الى المدينة، مقابل شح المعلومة التي تُنقل من المدينة الى القرية.
ويتناول
بشيء من التفصيل مجالات بحث هذا العلم، كما يتطرّق الى حساسيته بالنظر الى
حساسية الموضوعات التي يبحث فيها، خاصة في بلد تعتبر فيه السلطةُ الباديةَ
فضاءً محجوزا لها، هي من تتحكم فيه وهي من تسيّره وهي من تعيد توزيع
ادوارها الاجتماعية والسياسية، وعلم الاجتماع القروي هنا قد يهدد سيطرة
الدولة من خلال البحث والكشف عن البنيات المُشكّلة والمتحكمة في هذا
الفضاء.
الجزء الثاني:
4- وظائف علم الاجتماع القروي وأدواره:
سواء أكانت الدراسات حول المجتمع القروي
أساسية أم تطبيقه. ترجع إلى التبحر المحض أم تملك مستتبعات مباشرة على
الناس، فإنها تؤدي جميعها وظائف وأدوارا ينبغي الكشف عنها ضمن الأفق
الواجباتي.
وأول شيء ينبغي تسجيله هو أن هذه الدراسات
تساهم في بناء متن، في بناء جملة من المعارف المجمَّعة في مقالات وكتب
يحال عليها. وتعرف إمكانية الوصول إلى هذه الوثائق صعوبات كبيرة لحظة كتابة
هذا العمل. ورغم الجهود الهامة التي يبذلها المركز الوطني للتوثيق، فإنه
لم توجد بعد إمكانية للإحاطة، على نحو شامل، بالأعمال الجارية أو التي
أنجزت منذ أمد قريب في ميدان علم الاجتماع المغربي.
أشير خاصة إلى الأبحاث العديدة غير
المنشورة التي قُدِّمت في جامعات فرنسية أو جرمانية أو غيرها، والتي تظل
غير معروفة لزمن طويل من قبل باحثي المغرب. بل إن الرسائل والأطروحات التي
تنجز في البلد نفسه، والتي تنشر عناوينها، أحيانا، في المجلات المتخصصة، هي
في الغالب الأعم منيعة المنال. وماذا نقول، في النهاية، عن العدد الضئيل
جدا من المكتبات العامة، وعن الصعوبات التي يصادفها المرء في الحصول على
أعمال بها قصد الاطلاع، وعن انعدامها، وبكل بساطة، في معظم مدن المغرب
الكبرى؟
إن أولى وظائف علم الاجتماع القروي، وهي
وضع نتائج أبحاثه في متناول جمهور واسع، تُؤَدَّى، في نهاية المطاف، على
نحو سيء جدا، وذلك بسبب قصور السلطات العمومية والجمعيات المهنية وعدم
تنظيمها في هذا الميدان، وبسبب عدم تنظيم علم الاجتماع نفسه.
ثم إن علم الاجتماع القروي يهدف إلى معرفة
المجتمع القروي وجعله مفهوما. لكن ما معنى ذلك؟ هل هو مختلف عن ادوار علم
الاجتماع الحضري أو علم اجتماع الأسرة؟ وبالتأكيد! فهذان الأخيران يتوفران
على نصيب كبير من الأبحاث الاستنباطية لطبقة حول نفسها، ولجماعة حول نفسها.
وحين يتساءل الحضريون عن مصير المدينة، وعن أصل الأضرار وتطوّرها، ومصدر
العدوانية، والمستتبعات الثقافية لاختفاء حياة الحي، فإنهم يقومون بدورهم،
دون شك، بعلم اجتماع طبقي، إلا أنهم ينغمسون كذلك في فهم عالمهم المجتمعي
الخاص بهم. وكذلك حين يتفحص باحثون تقلّص الأسر الزوجية، وتغلغل الطرق
الجديدة في العيش والسكن، ونتائج الاختيارات المتعلقة بالإنجاب، فإنهم
يكونون ملاحِظين وملاحَظين في الوقت نفسه.
وليس الأمر على نفس الشاكلة بالنسبة لعلم
اجتماع الطبقات «الخطيرة»، علم اجتماع الطبقات المستغَلَّة، والجماعات
الأضعف ثقافيا أو التي لا تملك وسائل تعبير مهيمنة. إن علم اجتماع هذه
العوالم هو علم اجتماع ينجز تنقيلا للمعلومات. وإن علم الاجتماع القروي
يستخلص ويبلور ويصدِّر، من القروي باتجاه الحضري، معرفة عن الغرابة القروية
تطمح إلى أن تكون مفهومة. وبالتالي فإن عالم الاجتماع القروي هو ناقل أكثر
منه محلِّل.
وغالبا يُفترض في علم الاجتماع القروي أن
يمضي إلى ما هو أبعد. إذ يطلب منه توفير الأسلحة الفعَّالة للهيمنة
الثقافية، أي للهيمنة التقنية أيضا، والهيمنة المالية والاقتصادية
والاجتماعية والسياسية. وما دام من المفروغ منه، منذ زمن طويل، أن الثقافة
القروية ثقافة فظة، عاجزة عن التقدم، قليلة الإنتاج، تربكها الأعراف
البالية، فإن القضية التي ينبغي الدفاع عنها لم تعد هي المناداة بتحويلها
تحويلا سريعا . إن علم الاجتماع القروي مُكَلَّف بتفحّص طرق ووسائل تغلغل
الثقافة الحضرية، الصناعية، والغربية هنا، وسط طبقة الفلاحين. ويظن
السائدون، بسذاجة، أن هناك وصفات، أو «طرقا» فعالة تمكن من الالتفاف بمهارة
على استحكامات المجتمع القروي. ثم تمكّن من فتح ثغرات فيها يمكن أن تسلل
عبرها أنماط تفكير جديدة، وأعراف أخرى، وبائعو خردوات بطبيعة الحال. أكيد
أن ثمة دائما إمكانية تنظيم مقالب وخدع، وأن بإمكاننا دائما أن نعثر على
علماء اجتماع، قابلين لأن يباعوا ويشتروا، من أجل المساعدة على ذلك. إلا أن
القضية هي معرفة من نحن بصدد خداعه. وما إذا كان المجتمع المسمى حضريا
«ومحتضرا» لا يخدع نفسه بنفسه، في نهاية المطاف، باستثماره للغُنم التاريخي
الضئيل الذي يملكه حاليا كي ينغلق في عالم مسطَّح، متجانس، مساوم و«مجثت
الثقافة». وليس التعميم الفلاحي –لأنه ينبغي تسميته باسمه- سوى مشروع محتدّ
يهدف إلى إرغام مجتمع على القبول بطرق مجتمع آخر ووسائله.
ولعلم الاجتماع القروي، أيضا، وظائف أنبل،
هي دراسة أنماط وجود المجتمعات المختلفة. ويغني تنوع الأنماط المجتمعية،
اللافت للنظر بالمغرب، معرفة الإنساني بوجه عام. وثمة، داخل عالِم الاجتماع
القروي بالمغرب، عالِمُ سلالات تعروه الدهشة باستمرار. فهذه العادة، وهذا
اللباس، وذاك السلوك هي من الغرابة بحيث تفاجئ وتتطلب التفسير. وإن التافه
المبتذَل، وحياتنا اليومية، يباغتان بدورهما ويتطلبان التفسير إلا أن الـ…
آخرين هم الذين يستطيعون الاندهاش منهما بسهولة أكبر، والشروع في فهم شيء
ما عنهما. والعالم القروي مصدر تساؤلات دائم بالنسبة للمغربي، لا بالنسبة
لساكن المدينة وحده فقط. ولا زالت النزاعات الإقليمية تمارس فعلها إلى حدِّ
أن الريفي يعلن سخطه عن العلاقات بين الرجل والمرأة في الأطلس المتوسط،
والسوسي يستغرب من نظام التعليم الذي يخضع له ساكن الشاوية، وإلى حد أن
راعيا من شرق المغرب يقف مشدوها أمام بيع الحليب بتادلة… ولعلم الاجتماع
القروي هنا دور مهم ينبغي له أن يلعبه. لا لكي يصف، ويثبت ويفسِّر أعراف…
الآخرين وأنساقهم الثقافية فحسب، بل ولكي يجعلنا نفهم مصدر التنوّع وقيمته
وإسهامه في ثقافة وطنية أوسع وأغنى بفضل هذه الاختلافات بالذات. ومن أجل
الدفع بالقرويين أنفسهم، ومقاومة الحركة الكونية التي يقوم بها المجتمع
الصناعي والغربي، والتي تسوِّي انطلاقا من الأسفل. إلا من أجل تقليص
الخصوصية إلى الفولكور، كما نَحِسُّ بذلك في بلدان شرق أوروبا،، ولا من أجل
دفاع خاسر مسبقا عن التقليد، بل من أجل خرق هذا التقليد بالحداثات
الخصوصيَّة. ينبغي إثبات كرامة الأثنوغرافيا والأثنولوجيا!
لكننا بعيدون عن الحساب. فالابتذال
والمحاباة لا زالا متغلبين كثيرا في علم الاجتماع القروي، الذي يتبع في ذلك
الرأي السائد، مصماً آذانه عن وجود ثقافة قروية أصيلة.
لقد أدان الاشتراكيون الصارمون وأنصارهم
علم الاجتماع دائما قائلين إن ديموقراطية كاملة ستمكن الشعوب من التصريح
على نحو كاف، برغباتها، كما لن يبقى علم الاجتماع بعدها نافعا لغير تحرير
دفاتر المطالب أو لقياس حرارة الحميات الاجتماعية. وهي آراء تطرح، كذلك،
تساؤلات خطيرة حول المجتمعات المسماة اشتراكية، والتي انفتحت على علم
الاجتماع منذ عهدٍ قريب. فهل ستعترف هذه المجتمعات بنهاية الديموقراطية
داخلها؟ لكن]يبقى صحيحا، مع ذلك، أن السائدين في كل البلدان وكل الأنظمة
الاجتماعية يهدفون إلى أن يجعلوا من علم الاجتماع شرطة أرقى بعض الشيء.
وحين يقع تجاوز الاستعلامات العامة أو تنظيمات الحزب بفهم الأوضاع الصعبة،
أو حين تتحجر سبل الدولة الطبيعية في الإعلام، هذه، داخل الصراعات
الداخلية، الشخصية والعشائرية، يكون لعلم الاجتماع –المتعهِّر دور يلعبه.
هل من الضروري أن نقول بأنه لا زال ممكنا وجود علم اجتماع يرفض هذا الدور
ويلعب أدورا أخرى؟
5-التبادل اللامتكافئ للتواصل في علم الاجتماع القروي:
في الوقت الراهن، ينقل عالِم الاجتماع
القروي بالمغرب المعلومات من القرى باتجاه المدنية، من المسودين إلى
السائدين، وهو يلعب دورا أكثر من غامض هو دور: قائم مقام الديموقراطية.
ويشبه تداول المعلومات، وعلى نحو غريب،
تداول السلع. فالعالم والمعرفة بالوقائع، يتم استخلاصهما من مواقف مشتتة،
وقائعية، أو مثارة، يجمِّعها عالم الاجتماع، ويحللها، ويبلورها، ويحدِّدها
ضمن قضايا قابلة لأن تُفهم، ثم يقدِّمها في سوق ثقافية بعيدة عن مصادرها.
وما يتساقط من ذلك على أماكنه الأصلية جد متواضع في أشكاله القابلة لأن
تستوعب. على عكس ذلك يمكن لمشاريع تحرّك الدولة، أو لأشكال مهيمنة أخرى،
تقام انطلاقا من هذه المعطيات البدائية، يمكنها أن تعود مثل «البومرينغ»
(السلاح الخشبي الاسترالي المرتد)، وتحوِّل السكان-المَصَادِر، إلى
سكان-أهداف. لا يجدون ما يلوذون به غير مقاومة صامتة، أو انفجار أرعن.
ويؤدي جمع الوقائع من قبل علماء الاجتماع
إلى أبنية ذهنية تتخطَّى اعتبارات جزئية وتتجاوز الإطار الذي اغتُرفت منه
هذه المعلومات. وهي أبنية تخلق حقائق جديدة، وكيانات جديدة يفترض أنها
عقلانية، بمعنى أنها تلجأ إلى عقلانية أخرى، وبالتالي فهي منفصلة، في
الغالب الأعم، عن العقلانية الأصلية. هذه خيانة أولى!
من هنا يظهر تصدير المعلومات وتحويلها،
أصلا، في هذا الطور الأولي وكأنه تصدير للمواد الأولية، بل وكأنه مصادرة
كذلك، ذلك أن هذه المادة الخام أو المصنَّعة على نحو خفيف لا تعود إلى
السوق القروي: إنها ستظل سرية حتى الطور النهائي من بلورتها.
وتمثل مقولة السرِّي حصنا آخر ينبغي دكّه.
إن السّر، وهو من بقايا النظام القديم، يحتفظ لبعض الناس، في الواقع،
بمعلومة من المعلومات لا ينبغي أن تُقدَّم إلى الآخرين. فالمنع، وهذا معروف
جيدا، يعني الاحتفاظ. والتبرير الأكثر ذيوعا له هو الدفاع [عن البلاد]
تجاه القوى الأجنبية. بحيث أن الحيلولة دون سريان معلومة من المعلومات تهدف
إلى إبعاد هذه عن الخارج. وهو أمر يبعث على الابتسام: إذ أن كل الدراسات
هي في المغرب بين أيدي أجانب! وليس سرا على أحد أن عددا مهما من البعثات
الدولية، وأن بعض السفارات تعرف الملفات أحسن مما تعرفها الوزارات المعنية.
وللأجانب بالمغرب تسهيلات في إعداد الدراسات أكبر بكثير من تلك التي
يصادفها سكان البلاد. وإن نظام الترتيب، والإحالة، والرصانة المهنية فحسب،
لتجعل تبرير السرِّي الأول هذا باعثا على السخرية. فتأشيرا «سري» و«خصوصي»
بالنسبة لأولئك الذين يملكون سلطة الوصول إلى الملفات يُمَكِّنان فقط من
تمييز ما تهم قراءته عما ليس كذلك.
وينجم التبرير الثاني لـ«السري» عن ضرورة
الاحتفاظ بالقرار للدولة. هل ستكون الدولة ضد الأمة؟ كلا قطعا، يجري
التأكيد! وإنما هو ضروري لاستباق المضاربة، والاضطرابات، وما لا يمكن
إصلاحه! إلا أن التجربة تثبت أن المضاربين هم أول من يعلم.
والحقيقة أن السرِّي ضد المسودين ولصالح
السائدين. والسرّي، بكل بساطة، مجرد وسيلة للسيطرة. يضاف إلى ذلك غُنْمُ
آخر هو أن السرّي يحوِّل اتجاه الصراع بين القوى الاجتماعية، ويعتِّم
المعرفة، ويمكِّن من تقسيم وتأجيل قرار باتت المعرفة العامة تفرضه. وإن
تصفية الطابع السري للدراسات والأبحاث والإحصاءات الديموغرافية التفصيلية،
الخ، تمثل هدفا أوليا لتنمية علم اجتماع في خدمة المجتمع.
وبديهي أن إدانة السري لا تهمّ ضمان
الكتمان. فالشيء الذي لا يُعرف إلا عن طريق العلاقات الخاصة بين شخصين،
ينبغي أن يظل في مأمن من الإفشاء، إذا كانت تلك هي رغبة مُبلغه، حتى عن
أصحاب البحث.
وهناك أشكال أكثر براعة تمر دون أن يلحظها
أحد في التبادل اللامتكافئ للمعلومات: وهي شكل إقامة الدراسات، واللغة ثم
الشكلية النهائية التي يتم عن طريقها نقل نتائج الأبحاث. فإذا كان التحقيق
يتم بالعربية الدارجة الشفوية، فإن الدراسة تحرَّر بالفرنسية أو بالعربية
الفصحى المطبوعة. بهذا يُغادر الإعلام محيط الشفوية الأمية، ويدخل الدائرة
الضيقة للمثقفين ذوي الشواهد، ولا يعود بمقدوره الخروج منها. فلكي يتمكن
أولئك الذين زوّدونا بالمعلومات الأولية من الاطلاع على النتائج التي
بُلورت انطلاقا من إسهاماتهم، ينبغي أن تحوّل هذه النتائج إلى العربية
الدارجة الشفوية (الإذاعة) أو السمعية-البصرية (التلفزيون)، أو ينبغي شرحها
في أعين المكان. وان يُقدِّم المرء مثل هذه الاقتراحات، اليوم، معناه أنه
يختار أن يبدو في أعين الناس حالما وديعا. لكن التفكير بكيفية أخرى، أو عدم
محاولة القيام بفتح ثغرة في هذا الاتجاه، يعني القبول، لمرة واحدة
ونهائية، بوجود أغلبية عظمى من الناس مكلّفة بتوفير الوقائع، وأقلية ضيقة
تحتفظ لنفسها بمعرفة هذه الوقائع. ومن هنا يبدأ الاستبداد!
6-لا نفعل أي شيء؟ لا نقل أي شيء؟
ألا يدين التشاؤم الوارد في هذه الملاحظة
الأخيرة علم الاجتماع إدانة واحدة ونهائية؟ ألا ينبغي طرح علم الاجتماع
القروي، باعتباره مقاربة علمية طبقية، كلية ما دام وسيلة للسيطرة؟ وهل
تفترض سوسيولوجيا السوسيولوجيا في عالم الاجتماع أن يقذف بالإشكاليات
والنظريات والمناهج بعيدا عنه لكي يضع نفسه، وعلى نحو أكثر مباشرة، في خضم
النضال بجوار أشباهه من الناس؟ وهل علم المجتمع عديم الاستقامة ومُنحرف
وداعرُ إلى حد أنه ينبغي وضع حدٍّ له مع الإعلان عن خروجه على الأخلاق؟
لكن، من هم، إذن، نظرائي من الناس؟ من أين
جاؤوا؟ إلى أين يجرون؟ لماذا أحذو حذوهم في الخضوع للفكرة القاصرة بعض
الشيء التي تقول إن التأرجح يعني الخيانة؟ وهل يعني وضع نفسي في خدمتهم أن
عليَّ الغوص في كينوناتهم، في أخطائهم وفي حقائقهم، في جهلهم ومعرفتهم، في
تحيزاتهم وفي شمولياتهم؟
هل هم متفقون، أولا، نظرائي أولئك؟ هل
يملكون سلوكا، وأخلاقا منسجمة، باعتبارهم مسلمين، باعتبارهم مغاربة،
باعتبارهم قرويين؟ وإذا كان المجتمع القروي يمثل خصوصية لا تقبل النقاش،
ألا يعرف النزعة الإقليمية، وصراع الطبقات، وصراع العشائر، والانتماء إلى
طوائف، وأحزاب؟ إن أيّا من هذه التقسيمات، أو الكسور، أو الطبقات، لا تحمل
المستقبل لوحدها. وأن يشرع المرء في إقامة توازن أفضل أو أن يختار معسكرا
[من المعسكرات]، لا ينبغي أن يعني أنه يهتم بالدفاع عن نفسه وحده فحسب،
وانه يصمُّ أذنيه بخطابه الواحد، ويعمي عينيه ببديهياته وحدها.
ألا يمكن لعلم الاجتماع، أو للإنتاج
العلمي بكل بساطة، أن يكون وسيلة لنزعة إنسانية ما؟ وسبيلا من أجل التعريف
بالذات، وفهمها، وإغناء بعضنا لبعض، وهي الأجزاء الضرورية لكل شيء؟
ألا ينبغي لعلم الاجتماع القروي بالمغرب،
وعلى عكس ذلك، أن يقوم بكل شيء ويقول كل شيء، وأن يعطي صوته للصامت ويتكلم
في مواجهة الزاعقين؟
7-سبل علم الاجتماع القروي الضيقة:
إن وجود علم اجتماع جدير بهذا الاسم
سيكون، بحد ذاته، مفارقة في أي مجتمع يمضي إلى نهاية منطقه. فعالم الاجتماع
هو، وينبغي أن يكون، ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه، إذا أردنا أن ننصت
إليه ونسمعه حقا. وإذا كان يتمتع بالوجود، إذا تُرك له أن يتنفس فحسب، فذاك
لأن ثمة سوءَ تفاهم في مكان ما، لأن ثمة خيانة، واستراتيجيات متبادَلة،
مراوغةً، تتفق كل الأطراف، ضمنا، بواسطتها. صحيح كذلك أن علم الاجتماع لا
يستحق هذا الاسم حتى النهاية، وأن قادة المجتمعات الحقيقية ليسوا منطقيين
كلية (لا يتبعون منطقا وحديا). وبدون سوء تفاهمات، لن تكون هناك اتفاقات.
ويسمح القادة بعلم اجتماع لا يكون في
خدمتهم بشكل مباشر (الاستعلامات العامة)، وذلك لأنهم يأخذون عن طريقه
معلومات أدق عن المجتمعات والجماعات التي يحكمونها. والفكر الحرّ نسبيا هو،
عموما، من عينة ممتازة، فهو يبلور تفكيرا يعجز بنو نَعَم عن الإحاطة به،
وعن قوله بوجه خاص. وعندما يكشف عالِم الاجتماع خبايا المجتمع، فإنه يتوجه،
على الخصوص إلى نظرائه، الذين يمثلون شريحة رقيقة جدا، سطحية وهامشية،
شبعانة في الغالب وراضية بوجه عام، لا تمثل أي خطر وهي تبادل الطُرَف في
الصالونات. أما الأحزاب السياسية التي بإمكانها استعمال هذا الزاد، فإنها،
وبكل بساطة، لا تملك من وسائل الوجود بالبادية ما يجعلها تستفيد منها.
وأخيرا، فإن من باب الكياسة على المسرح لدولي، ألاّ يُضطهد علماء الاجتماع،
والمثقفون، من أجل أفكارهم فحسب، ويوجد هنا ما يكفي من الحجج لكي يكون علم
الاجتماع موجودا في وضح النهار. وحتى إذا أغلقنا معهدا لعلم الاجتماع بحجة
أنه مكلِّف ولا جدوى منه، فإننا كون بذلك قد أعطينا لأنفسنا تعليلات أفضل
مما لم أغلقنا المعهد لاحقا بسبب جدواه.
أما علم الاجتماع المنسجم مع نفسه، فيشتغل
من جهته على المدى البعيد. فهو يعرف بأنه لا يملك أي تأثير مباشر على
المجتمع، وبأن النفوذ الذي يملكه نفوذ غير مباشر، نفوذ على العقول.
وبتنظيمه لمصطلحاته، للغته الخاصة، فإنه يوسع تأثريه أو يقلصه. ولا يحسّ
بنفسه عالة على الثورة . وهو يدرك أن تغيير نظام المظاهر يمكن أن يخفي
دواما راسخا للنظام الأساسي، أو انبعاثا متهوِّرا له بعد بضع سنوات من
الأوهام المؤثرة. إنه يؤمن بالتغيير، لمكنه يحسّ بأنه سيكون بطيئا، حتى
داخل مجموع المظاهر البركانية، وهو يريده أسرع مما تريده وزارة الداخلية.
وحول السُّرع التفاضلية إنما يوجد سوء تفاهم…، أو اتفاق مُضْمَر، في نوع من
التبادل الضمني لطول الأمد بقصره، وللواقع بالعلامة.
لعل هناك، أيضا، سردابا تواطئيا بين علم
الاجتماع والدولة حول المسألة المؤلمة، مسألة القروية. فبعد قرون من الحذر
تجاه القرويين ، اكتشف فيهم القادة الحضريون الذين غزتهم الحضارة الصناعية،
الجذور الباقية والمهَدَّدة للثقافة الوطنية. ويحسُّ أحذق هؤلاء القادة
بأن هذا الكنز يمكن إنقاذه، لا عن طريق الفولكلور، بل بواسطة تجديد القرى
باعتبارها مراكز حضارية. ومثلما أخلى الطاعون الدُبيلي المدن في القرن
السادس عشر وجعل سكانها يتشتتون في الغابات، ألا ينبغي أن نفرّ، في يوم من
الأيام، من همجية وعدوانية المدن المتجاورة –التي بدأت الدار البيضاء، ومن
زمن، تقدِّم لنا نموذجا بارزا عنها-، وفي البوادي نعيد خلق فضاءات أكثر
إنسانية؟ ذلك الانقلاب لن يتخلف المهتمون بالقرية والمدافعون عنها عن أن
يُدْعَوا إليه.
لكن المرء لا يبني على أنقاض، واعتمادا
على الذاكرات وحدها. والقرويون، بعد قرنين من الصقل والسَّحق، لم يعودوا
يتوفرون على هيئات عفوية. وحق الاجتماع والتجمع مراقَب عندهم، بحيث إن أدنى
تنظيم مشكوك فيه، وكأنه لا يملك إلا أن يعمل في السرِّ ضد السلطة. لقد
فرَّت المبادرة من البوادي، وإذا حصل أن عاودت الظهور اتفاقا، وإن على
السجل الاقتصادي الضيق وحده، فإن عليها أن تعلن ولاءها للقائد والشيخ وأن
تحترم الإزعاج البيروقراطي. وإن عالم الاجتماع الذي يتسكع في هذه الفضاءات
ليُنظر إليه، بالتعاقب، على انه من مثيري الفتن، ثم على أنه عميل للسلطة
المحلية. وحين ينتهي إلى حمل الصفتين في نفس الوقت، فمن المحتمل ألا يكون
بعيدا عن الحقيقة.
أكيد أنه موقف مكابدة صحي بالوقت ذاته، إلا أنه موقف يقول فيه الغيابُ الكلي للوضوح الشيءَ الكثير عن الطريق التي ينبغي السير فيها.
8-حلول للتجريب، قصد الخروج من هذه الوضعية:
لقد كانت «القروية» إلى يومنا هذا –وخلال
القرون الأخيرة على الأقل- قاصرة دائما، تمثل موضعا للمعرفة العلمية لا
ذاتا لها. ويهيمن هذا الوضع على أدبيات علم الاجتماع القروي بحيث لا نرى قط
تجاوزات ممكنة له في المدى القريب. وينبغي، لتغيير نظام الأشياء هذا، أن
يطفو القرويون إلى صف التعبير السياسي. وإن علم اجتماع قروي حرٍّ يستلزم
وجود قرويين راشدين من الناحية السياسية. فعلم الاجتماع لا يمكنه أن
يحرِّر، وإنما بمقدوره أن يساعد على التحرّر، عن طريق تحرير نفسه هو بالذات
من الخطاطات والعقائد المضمرة أو الصريحة التي تبقيه سجينا. والتعمق
الايبستيمولوجي ضروري من أجل وضع علامات استراتيجيات الاستثمار العلمي.
والحرية تؤخذ بالسير لا بانتظار الليلة
الكبرى، أو بانتظار تفويض على بياض تقدمه لإيديولوجية أو لمعتقد أو لتنظيم
مهما بلغ سخاؤه. فلكل مهنته!
وأول شيء ينبغي القيام به هو قطع الصلة
بتعليمات الصمت، والتحفظ، والسرِّي. يجب جعل معرفة المجتمع لنفسه بنفسه
شاملة عامة، ونشر الدراسات، بحيثياتها ومجرياتها وصعوباتها وإخفاقاتها. وإن
إذاعة نتيجة الأبحاث يعني تعميميها في لغة مفهومة أكثر فأكثر. وهو الأمن
الذي لا يمكن أن يتم من أول يوم. فأنا أكتب ما اكتبه هنا بالفرنسية، بأصوب
ما يمكن، وأنشره في مطبوع غالي الثمن جدا بالنسبة للقرويين. وأخيرا، فإن
هذه الرسالة لا يمكنها أن تصلهم على نحو مباشر، بل ينبغي إعادة تناولها،
وتعميمها، وترجمتها، بل وقد تتطلب أن تصير شفوية، أو مصوَّرة. إن طريق
بثِّها طويل ومتعرِّج: وكم من الوقت والمراحل والترجمات والتنكّرات
والتفسيرات المعكوسة ستعرفها مثل هذه الرسالة كي تصل إلى آذان ووعي هذا
القروي؟ لا أحد يعلم! ولعلها أول شيء ينبغي معرفته.
إن لكل دراسة قصديةً معينة غير ترقية
الباحث. والمعرفة في حد ذاتها «تغير العالم» أيضا، تغييرا ربما تم بجلبة
أقل من تلك التي يحدثها البحث المجنَّد أو المسمى تطبيقيا: فمُظْلِمَةُ هي
سبل تقدّم الفكر الحر. وتتطلب هذه القصدية أن تناقَش مع أصحابها. فإذا
أشركناهم في البحث، مهما كانت هشاشة الوسائل المستعملة، كان ذلك، أصلا،
وقاية من بعض الأمور المخالفة للعقل. الشيء الذي يستلزم وجود مخاطَبين،
وجود ذوات راشدة لا موضوعات للتقصِّي. وثمة في كل مكان أشخاص لهم من الحذق
ما يكفي للإحاطة بعمق بما نقوم به، بل وبما وراءه. وينبغي في بداية كل بحث،
القيام بتحديد لعدد معين من الأفراد من مختلف الأعمار والفئات والطبقات،
التي سندخل معها في علاقة حميمية تمكننا من الذهاب إلى نهاية أفكارنا
ذاتها، ونستطيع، بالاستناد إليها، تجريب هذه الأفكار. ذلك حاجزٌ واق يفرضه
المنطق السليم. وإذا كان أمهر مخاطبينا لا يفهموننا، أو لا يؤيدوننا فيما
نذهب إليه، جزئيا على الأقل، فماذا ترانا نصنع؟
إن الأفراد يشكلون معالم، لا قوى. وربما كان علينا أن نذهب أبعد.
وإن تاريخ المجتمع القروي هو تاريخ تصفية
التنظيمات العفوية من قبل الدولة وإقامة تراتبيات إدارية مرتبطة وثيق
الارتباط بالسلطة المركزية. ولم نر، بعد، السلطة العمومية تجشع المبادرة
الجماعية، بل رأيناها، بالأحرى، تبدِّد كل وسائلها في جعل هذه تحت وصايتها
إذا صادف أن ظهرت من تلقاء ذاتها.
ويعرف عالِم الاجتماع جيدا أن سلطة [ما]
تنشأ دائما في كل مجموعة، وبالتالي تنشأ سلطات-مضادة. وإذا كان المواطن
مدعوا، بداهة، إلى الانتماء إلى معسكر من المعسكرات، فإن علم الاجتماع، في
ممارسته المفهومة لعمله، سيتجنب أن ينتسب إلى جهة من الجهات. لكن علينا أن
نتساءل هل بإمكان عالم الاجتماع أن يمنع نفسه –عن طريق تساؤله هو بالذات-
من العمل على انبثاق تضامنات جديدة. وإن مجرد حضوره في الميدان يغيِّر
الوضع الراهن، ويُقلق شيوخ القبيلة، ويداعب آذان المسودين. وإذا أراد،
فحسب، أن يفهم عمل القوى الاجتماعية، فإن عليه أن يساعد، بالضبط، على ولادة
تعبير أولئك الذين يرغمهم ميزان القوى المحلي، عادة، على الهمس، إن لم يكن
على الصمت.
هكذا يطوِّر، وإن قليلا، الاستقلال الذاتي
للسلطات المضادة الأكثر احتشاما ومقدرتها في منافساتها مع الأعيان
الوافدين، وكذا مع التنظيمات الرأسمالية الخاصة، التابعة للدولة أو
الموالية لها.
أليس هذا هو أقل ما يجب عليه القيام به؟
انتهى
ترجم
المقال الراحل مصطفى المسناوي، «المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع»
(B.E.S.M)، العدد المزدوج: 155-156 (خاص بـ: بول باسكون )، ص ص: 59-70.
وأعاد نشره الكترونيا موقع المناضل-ة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق