الخميس، 10 ديسمبر 2015

ادب السجون بالمغرب-عبدالله زريقة-

عبد الله زريقة.. شاعر مغربي استثنائي ينأى عن الزعيق العام

عبد الله زريقة.. شاعر مغربي استثنائي ينأى عن الزعيق العام
إدريس علوش
الخميس 29 غشت 2013 - 11:00

"ولدت في غرفة بها صراخ كيف لا أصرخ ؟" هذا ما صرح به ذات يوم الشاعر المغربي عبد الله زريقة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لأحد الملاحق الثقافية المغربية، وكان القصد أن ما كتبه من نصوص شعرية صارخة، هي استجابة موضوعية لحجم الصراخ المستلهم والمستمد من سنوات مغرب الجمر والقمع والرصاص، عبد الله زريقة الشاعر والإنسان والمناضل الذي انخرط عضويا في نضالات الحركة الطلابية المغربية في عصرها الذهبي، في إطار نقابة الطلاب المغاربة العتيدة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. والذي كان يستمد قوة نصوصه من متخيل الهامش في حي ابن مسيك بالدار البضاء، الذي كان يعتبره "علبة سردين" تحشر المجتمع وتحد من حقه في العيش الكريم، وحصيلة هذا "الصراخ" أو الالتزام و النضال كان أن اعتقل في سنة 1978 وحكم عليه بسنتين، إذ ستتوثق الصلة الثقافية والنقدية برفيق دربه الشاعر عبد اللطيف اللعبي، الذي اعتقل قبله بسنوات هو الآخر، وبنفس التهمة الجاهزة الإخلال بالأمن العام للنظام، وهو ما يؤكد قوة الشعر آنذاك على فعل التحريض وإسهامه في عملية التغيير، ومواصلة النضال من أجل غد أجمل وأفضل.

أصدر عبد الله زريقة مجموعة من الدواوين الشعرية هي كالتالي:

رقصة الرأس والوردة- ضحكات شجرات الكلام- زهور حجرية- تفاحة المثلث- فراشات سوداء- فراغات مرقعة بخيط الشمس- سلالم الميتافيزيقا- إبرة الوجود.

ومازال ينحث نصوصه الشعرية في صخرة الإبداع المغربي والعربي والكوني بصبر وثبات.

كتب في السرد نصا روائيا حمل عنوان"المرأة ذات الحصانين"، وكتب أيضا في قضايا أخرى مرتبطة بفعل الإبداع والكتابة.

اختار العزلة منفى إبداعيا وأفقا وسعة للكتابة، متوار برغبته، وهو الزاهد الناسك المتعبد في محراب النص والقصيدة عن الأنظار، وهو لا يظهر-عادة- في الحياة العامة المغربية، ومنها الحياة الأدبية إلا لماما، لا تجد أثرا له إلا في الحالات القصوى التي يصدر عملا أدبيا جديدا، أو حضورا أو تجليا في هذا الملتقى أو ذاك المهرجان الشعري في أوربا فرنسا، ألمانيا وهولندا...، أو في بعض دول إفريقا رفقة ثريا الحضراوي-رفيقة دربه وتوأم روحه- الفنانة التي استمدت قدرتها الفنية العالية من الأغنية الملتزمة لتواصل مسارها الفني في تربة إبداعبة مختلفة، وهي فن الملحون وقصائده، الذي أبدعت فيه وجددت، والحصيلة أنها أصدرت ألبومات متعددة، نالت استحسان وإعجاب العارفين بهذا الفن الرفيع، نقادا وجمهورا واسعا وعريضاً.

عبد الله زريقة حالة شعرية مغربية استثنائية، واستثنائيتها تكمن في اختيار الشاعر لأفق آخر، مختلف عن نصه المنتمي عضويا لبلاغة الهامش، والانتصار لقضاياه على غرار ما فعله في السابق، من مجموعته الأولى رقصة الرأس والوردة وبنسبية أقل في مجموعته" ضحكات شجرة الكلام" و"زهور حجرية"، لتقليب أتربة نصية جديدة بوصلتها التجريب الإبداعي، وبأشكال متعددة بدأت مع "تفاحة المثلث" إلى ماتلى ذلك من مجاميع، استنادا إلى استعارات الحياة المتناقضة، والانتباه لتمظهراتها بدقة العارف المبدع والكاشف عن مستور المعاني، إنه –أي الشاعر- صانع لنص سحري يتجاوز المألوف والعادي، مخترقا ومُغيراً على تقاليد النص الشعري المتداول في التجربة الشعرية المغربية والرقي به-أي النص- لأقصى ملكوت الذات، وهو الإقامة في أعالي "الأنا" والانتساب لسر الفرادة مبنى وعنىً.

في "تفاحة المثلث" نقتطف:

"وفزعت حين رأيت
رجلي فوق عقارب
وحين بلغت الماء
بحثت عن فم الأرض
فلم أجد غير أرض
تشبه ظهر السلحفاة".

يقول الناقد اللبناني جهاد الترك عن الشاعر عبد الله زريقة:

"هل هذا نهاية الشعر-يتحدث الناقد عن مجموعة الشاعر إبرة الوجود-لدى عبد الله زريقة؟ هل من شأن الشعر وهو يشق طريقه إلى الغياب الذي لا عودة منه، أن يحكم على نفسه بهذه العزلة الأبدية وراء جدران يتعذر تسلقها من الداخل والخارج؟ قد يخيل إلينا، للوهلة الأولى، أن الشاعر يسرع الخطى إلى مصير كهذا لا نجاة منه. أو أنه يوحي بأن الرؤية الشعرية لا بد وأن تصطدم بحتفها في نهاية المطاف.الأرجح أن لا شيئ من هذا القبيل وإن بدا أن الشاعر يضعنا في هذه الأجواء القاتمة. إنه أحد المشاهد التي يشيعها في هذه النصوص تعبيرا عن التحولات الذاتية العميقة التي تداهمه، وهو ينظر إلى العالم من موقع الغياب، الذي بلغه بعد نزاع عنيف مع اللغة وتداعياتها وانكساراتها"

بهذا الوصف يكون الناقد جهاد الترك قد اخترق حاجزاً ظل الشاعر عبد الله زريقة يضربه حول نصوصه، لتظل مسيجة كحديقة خاصة يمتلك الشاعر ذاته مفاتيحها ناصية اللغة الغرائبية، والمتخيل المسترسل الذي يوفره الهامش بما فيه هامش الحرية الشائك، والاستعارات المتجددة في الحياة والتي يغذيها الأفق اللامتناهي لتأملات الشاعر المستمدة من مرجعيات الفكر بما فيها الفكر النقدي.

وعن اللغة وعن القرابة برصيفها، حيث خطوات الشاعر تحث المشي عن منتهى غرابة القصيدة والحياة يضيف الناقد اللبناني جهاد الترك:

"إن الشاعر يقترب من اللغة على نحو افتراضي. لا يزعم غير ذلك بدليل أن الإحساس بالغربة لا يفارقه وهو في قلب معركته المحتدمة مع اللغة. مرد ذلك، على الأغلب إلى إحساس مسبق بأن إقامته في اللغة مؤقتة، عرضية، كالضيف الخفيف الذي ما أن يجيء حتى يهم بالمغادرة. ولكن إلى أين يغادر؟ إلى اللغة نفسها بعد أن تتشكل من جديد لتصبح لغة أخرى، وكأنها لم تكن من قبل"..

في شهادته عن الشاعر عبد الله زريقة وعن المكانة المتقدمة التي يحتلها هذا الآخيريقول الشاعر والروائي حسن نجمي:

"عبد الله زريقة شاعر مغربي كبير فرض على المشهد الشعري المغربي قيمته الشعرية والإنسانية في صمت وتواضع كبير.لا يدعي عبد الله أي ادعاء شعري أو جمالي إنه يكتب فحسب، يحفر في أعماق تجربته الشخصية، باحثا عما تبقى من ذاكرة الطفل الذي كانه، مستعيدا مختلف اللحظات والأمكنة في أحياء القصدير الهامشية التي ولد وكبر فيها، متمثلا الحيوات، المتجاورة للناس البسطاء هناك عبر مختلف أشكال حضورهم وغيابهم، ومختلف نظراتهم وإيماءاتهم الجسدية الثرية بالصور والإرهاصات الشعرية. شخصيا، لا أستطيع مطلقا أن أتخيل أية خريطة للشعر المغربي الحديث والمعاصر بدون الشاعر عبد الله زريقة، أو في غيبة لمسته الشعرية الناعمة والخاصة".

وفي المزيد من الكشف عن شخصية عبد الله زريقة الشاعرية، وعن ابتعاده عن الضوضاء يضيف حسن نجمي:

"لقد شيد عبد الله زريقة مكانة استثنائية له ولقصيدته في المغرب الشعري، بفضل صبره وطاقة تحمله وقدرته على التقشف في حياته وفي شعره. ولم تكن لعبد الله زريقة متطلبات كبيرة كي يكون شاعرا كبيرا وحقيقيا –لأنه فعلا هو كذلك-بل كان مطلبه الصغير ومازال حتى الآن أن ينأى بنفسه عن الزعيق العام الذي – نحن زملاءه الشعراء المغاربة الآخرين-استسلمنا أغلبنا له، وأن ينأى عنه كل نص عمومي، وكل فعل ثقافي أو اجتماعي أوسياسي قد يؤثر على صمته، وعلى المسافة النبيلة التي اختطها لنفسه اتجاه الدولة والمجتمع واللغة المتورمة بأنفاس المؤسسات العمومية".

ومما يذكره الشاعر والروائي حسن نجمي عن شخصية الشاعر عبد الله زريقة، الذي كانت تجمعه وإياه مجالسات ومسامرات في مقهى ابن بطوطة في حي "بلفدير" بالدار البيضاء مع ثلة من المبدعين والشعراء والكتاب المغاربة يقول:

"أذكر دائما عبد الله زريقة في مقهى ابن بطوطة بالدار البيضاء، حيث كنا نجلس قبالة محطة القطار"الدار البيضاء المسافرون"، عبد الله راجع، وعبد اللة زريقة، ومحمد عنيبة الحمري، ويوسف فاضل والمرحوم الشاعر أحمد بركات...وآخرون، وزريقة أمام كأس قهوته السوداء، وبلباس متقشف ويد ساهية لا تنفك تلامس لحيته السوداء، قوي الحضور بيننا وفي الآن نفسه يعطي الانطباع بأنه يجلس وحده نائيا بنفسه ونظرته. كان عبد الله زريقة قد خرج من تجربة مرة مع النظام السياسي في بلاده في تلك السنوات التي وصفت بسنوات الرصاص، حيث اضطهد في مساره الجامعي كطالب تقدمي من نشطاء اليسار الجديد، بل وكان الشاعر المغربي الوحيد الذي اعتقل وحوكم وصدر في حقه حكم بالسجن لمدة سنتين قضاهما في سجن مكناس من أجل قصيدة، في الوقت الذي حوكم شعراء وكتاب آخرون من أجل التزامهم السياسي بتهمة الإخلال بالأمن العام للنظام..في تلك السنوات التي وصفها الشاعر الفلسطيني والصديق عز الدين المناصرة في مقالة له بـ"عباد الله في سجون الملك"، وكان يتحدث وقتئذ عن عبد اللطيف اللعبي، وعبد القادر الشاوي، وعبد الله زريقة الذين جمعهم السجن في لحظة عسيرة واحدة".

ستظل مكانة الشاعر عبد الله زريقة محفوظة، ومحفورة، وموشومة في سجل الشعر والأدب المغربيين نظرا لما راكمه من مثن شعري حداثي في المضامين وأشكال الكتابة، وهو يعد وعن جدارة واستحقاق إضافة نوعية في المشهدين الإبداعي والثقافي في المغرب، نظرا لقوة نصوصه وفرادتها وبحثه الدائم عن أرخبيلات جديدة لمتخيل واستعارات وصور قصائده ومعانيها، الضاربة في جذور الغرائبية السحرية، ولهذه الاعتبارات ولسواها ترجم لعدة لغات نذكر منها الفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والألمانية، كما أن له حضور قوي في المحافل الشعرية العربية والعالمية.




عبدالله زريقة

عبد الله زريقة كاتب وشاعر مغربي ، ولد بمدينة الدار البيضاء يوم 16 - 12 1953. حصل على الإجازة في علم الإجتماع من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1978. وفي نفس السنة تعرض للاعتقال وحكم عليه بسنتين سجناً. وهو يمثل في مدونة الشعر المغربي مكانة مخصوصة، لم تتوافر لشاعر مغربي غيره، فهو مثلا بالقياس إلى الشاعر عبداللطيف اللعبي ورفيقه في السجن حالة على ديمومة شعرية احتفظت بكل طاقتها على مدار سنوات السجن وسنوات الحرية، وهو بالمقارنة على الشاعر المغربي صلاح الوديع، السجين الآخر، أقل تورطا في الشأن العام، محتفظا بالعزلة اللازمة وبالغموض الذي يضفيه على قصيدته وعلى حياته معا، وهو إذا وضعناه جنب النيسابوري يزداد الفرق، لكن في الآن نفسه تتوطد الصداقة الشعرية. هو في الحقيقة عالم مائج من الإدهاش، يقيم في معترك وعي الأنتليجانسيا المغربية، يعبر في قصيدته عن الهامش المتاح من الحرية، ويكتب لغة المتروك ويوسع من الدوائر الضيقة.من أعماله الشعرية: ــــ
رقصة الرأس والوردة - الدار البيضاء، مطبعة الأندلس 1977
ضحكات شجرة الكلام - الدار البيضاء، منشورات المقدمة 1982
زهور حجرية - الدار البيضاء، منشورات البديل 1983
تفاحة المثلث، عمل مشترك مع الفنان عباس صلادي، الدار البيضاء، مؤسسة بنشرة 1985
فراشات سوداء - الدار البيضاء، دار توبقال للنشر 1988
فراغات مرقعة بخيط الشمس - الدار البيضاء، منشورات الفينك 1995
سلالم الميتافيزيقيا: دار الفينيك ــ الدارالبيضاء
إبرة الوجود: دار النهضة ـ بيروت 2008

ـــــــــــــــــــــــــ

قـطـرات شـموع سـوداء
...........

وهكذا أطفأت الشمعة
لأشعل الظلمة
فرأيت الشمس
منعزلة عن الضوء
ورأيت أبوابا
ولم أر
ديارا
والفراشات
تخرج من ديدان الموتى
وخفت أن يكون
وجهي وجها آخرا
ملتصقا بوجهي
وفزعت حين رأيت
رجلي فوق عقارب
وحين بلغت الماء
بحثت عن فم الأرض
فلم أجد غير أرض
تشبه ظهر السلحفاة
:وصحت
الجحيم كل ما يبقى
من الجنة
وتفنى الجنة
وتبقى النار
وغبت
بقيت يدي
وحدها حاضرة
وحين عدت
وجدت أصابعي
ألسنة نيران
:قلت

آه لو تعرف

أن الليل أحن

علي من النهار

وأنقضي أنا

ولا تنقضي الكأس
:وغنيت

رجلي يا رجلي

يا قدم اللذة

وحين حضرت المرأة

أطفأت الشمعة

:وصحت

انس لغتك

واترك لسانك

وحده يلوك

لغة أخرى

وفكرت في الشمس

التي لم ترني عاريا

وفي الغابة

رأيت الريح

ولم أر الناي

:فكتبت في الهواء

لا تغن مع الريح

( وفي الليل

رأيت عصفورا

تنقر حلمات النهد فقط )

وصحت في نملة

لا تعودي الى بيتك

فهناك سجان

يلعب بمفاتيحه

في انتظارك

وفي الماء

رأيت ثعبانا يخرج من فمي

وفي النوم

رأيت صمتا

أسود

!أسود

ــــــــــــــ

تفاحة المثلث
........


انحدرت من اللذة
و سارجع الى اللذة
الكامنة في بطن الارض
ولان طفولتي كلها شجرة
حملت اغصاني
بعيدا
حتى يبقى العري
وعاء الحكمة
آه الحكمة مرة الآن
وحلوة
فيما بعد
اذهب
اذهب
ولا تلتفت وراءك
فستحرقك
المعادن
التي تركتها
خلفك
و اي حيوناات اللذة
تريد؟
الحلزون
السلحفاة
الوردة
الارنب
أو أنت فقط؟؟
انا الذي انظر بعيدا ما وراء
الغيوم
وما وراء البحر
مااذا أرى؟؟
لا تتأخر
لا تتأخر
أسرع
أسرع
ولا تلتفت وراءك
إذا استطعت
كن عطرا
في عرق جسدك
أسرع
أسرع
ولا تتوقف
لتشعل شمعة
ايها القراء
ايتها اللاحجار
لا توقفوا
هذا النهر
العطشان
ايها القارىء
اكتب
ولا تقرأ
ايها القارىء
لا ترفع يدك
في وجه وجهي
ايها القارىء
عش حيث اموت
فحين يفنى الكون
ستبقى الحكمة وحدها..وحدها
أه الحكمة صمتها
بعض الاحيان
بعض الاحيان
وحجر على حجر
أدق اللذة
قالوا لي
من اين
تخرج الورقة اذن
قلت
ثعبان
من حلاوة تفاحة
وكتبت لايزين الورقة البيضاء
سوى الكأس الابيض
قالو وحينما يتحرك القلم؟
قلت يتحرك الثعبان
ـــــــــــ



عبد الله زريقة
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
التعديلات المعلقة معروضة في هذه الصفحة غير مفحوصة

عبد الله زريقة كاتب وشاعر مغربي ، ولد بمدينة الدار البيضاء يوم 16 - 12 1953. حصل على الإجازة في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1978. وفي نفس السنة تعرض للاعتقال وحكم عليه بسنتين سجناً.
من أعماله الشعرية

   رقصة الرأس والوردة - الدار البيضاء، مطبعة الأندلس 1977.
   ضحكات شجرة الكلام - الدار البيضاء، منشورات المقدمة 1982.
   زهور حجرية - الدار البيضاء، منشورات البديل 1983.
   تفاحة المثلث، عمل مشترك مع الفنان عباس صلادي، الدار البيضاء، مؤسسة بنشرة 1985.
   فراشات سوداء - الدار البيضاء، دار توبقال للنشر 1988.
   فراغات مرقعة بخيط الشمس - الدار البيضاء، منشورات الفينك 1995
   سلالم الميتافيزيقيا: دار الفينيك سنة .

عن الكتابة عند عبد الله زريقة



   عبد الواحد مفتاح
   الحوار المتمدن-العدد: 4252 - 2013 / 10 / 21 - 01:55
   المحور: الادب والفن
     


   هل صحيح أن نهاية جنازة شاعر هي بداية عرس قارئ .. لا مجاز ولا مناص من الانفلات .. الوضع هنا أن القارئ العربي كيفما كان يبقى المتن الشعري أبعد النصوص التي يتناولها الشعر بعيد.. قليل . ونادر هم الشعراء الذين سوو تجربتهم الشعرية ببحت واجتهاد واستطاعوا ترسيخ قدمهم على خارطة الشعر المغربي .. عبد الله زريقة واحد منهم زريقة الذي أثث لتجربته الشعرية بعيدا عن الزعيق العام في استثنائية وتواضع لا افتعال فيه، ابتداءا من ديوانه: رقصة الودة والمرأة، مرورا بزهور حجرية –تفاحة المثلث – فراشات سوداء-سلالم الميتافيزقا- إبرة الوجود –حشرة اللامنتهى، وكل الأعمال الشعرية والنثرية التي نحتها في صخرة الإبداع الكوني والمغربي ،رسخ رؤيته للشعر كوسيلة للتفكير والوصول إلى المطلق فهو شاعر يكتب بالمعنى ليصل إلى الكلمة .
   الكلمة هنا سؤال عال لتيمات : الكتابة /الموت/الجمال/السؤال
   تيمات ترافقها طفولة الانتباه، أما الجوهر فسطر شعري مقتنص ومُشتغل بإمعان حر وتأمل يفيض .
   تَحضر السريالية، كأسلوب ومدرسة يمكن تجاوزها بسهولة، فما يقترفه زريقة ..هو كتابة لا شيء أخر ..كتابة رقيقة يمكن أن تحبط خطة أي سؤال مبني للمجهول .
   وتعتقل قارئها، داخل إيقاع يتأسس على التفاعل والمجاورة ،بفعل شرنقة القراءة التي هي هنا كتابة ثانية بالضرورة ،أمام قصيدة تربك الصمت ولا ترخي ضفيرتها أمام قراءة لمجرد العادة
   بنغمة خاصة يكتب عبد الله زريقة المنتمي عضويا لبلاغة الهامش قصيدته غير حافل بالشكلانية في السطر ولا تُلهيه غنائية الكلمة عن جوهرها في صقل عميق للفكرة الشعرية بعيدا عن أي إيقاعية تقليدية. يؤثث لدفئه الشعري الخاص، دفئ لا يتزيا بمساحيق الكتابة العمومية، وإنما يقشر فعلها مثل برتقالة ثرثارة المعنى
   وجهها للشمس وقلبها حرقة السؤال وحبه.
   خمرة القراءة هي ما يطالعك أمام هذا المتن /البئر حيت الورقة تراب والكتابة زهور لا تفرج عن زينتها إلا أمام قارئ متمرس يسبر أغوار ما يتدلى من فتنة فادحة
   فتنة القراءة حين تجد ما تقرأ
   والكتابة حين يختفي المارة .. ينتفي المهرجون
   وتجد وحدك
   أمام نص .. مسيج بضراوة القمح
   سلالم سلالم
   نحو الكوني في الشعر .. اللامرئي في السؤال
   الهامشي واليومي احتفالا وارتفاعا نحو ما يليق من حياة
   الكلمات كمثرى .. وزن على إيقاع الخفيف من أيامنا / العميق من أسئلتنا
   حروف تتقلب في لزوجة معنى بياض كالشمع ، لكن لمادا الشمع وحده بياض لا رماد بعده .
   تيمات وإشكالات عديدة في قصيدة الشاعر عبد الله زريقة اللغة التي تشبه تلعثم اللون في لوحة تجريدية ..غرابة تبلل الرموز العليا للإنسانية ..تدفق في غير اضطراب
   سنفونية تحاصر سماء ..أغنية كونية تتزين بشهوة الكلمات ، ماء وفقط يموج أحصنة الإيقاع والإيقاع شعر يمحو البيضا بالسؤال
   هل صحيح أن حاجتك إلى مرآة يقود إلى العمى؟
   الشعر عكس ذلك
   لا مجال لعري ما ،الجمل الشعرية هنا امتلاء المعنى وفيضه
   غير هذا أن الشعر والسؤال، يحضران وجها واحدا لا يكتفي بمداعبة أخيلة الماوراء، بقدر ما ينخرطان كأحد أشكال الإنتاج الفلسفي في تعدد تقنياته وآلياته، فعبد الله زريقة القادم من الدرس الفلسفي الصارم، إلى أتون الشعر لا يعرف الشعر إلا شكلا للمعرفة، فليس الشاعر فيلسوفا أخطأ الطريق كما قيل، خاصة ونحن أمام شاعر يدفع بالكتابة إلى منحدر سؤال يطرزه بهندسة البياض
   لوحة تجريدية ليست غير باب لكلمة لم تستحم بعد محمومة بأنفاس اللامكتوب تأتي .. مضواعة ومطواعة تستأسد فوق نهدي ورقة فالكتابة عند عبد الله زريقة كما لم يكتب من قبل ..حرف يتمنع في وضوحه ..الإدهاش أوله وليس الشعر غير ما يسيل من طراوة قصيدة لا تلوي إلا على لا نهائية السؤال والمآل
   النص هنا مفتوح ومغلق والمابين فخمرة تهب القراءة اشتعالها ..هنا معنى يتسلى بنظافة حروفه ..كلمة تستل خنجرا من غمض ورقة تغتال بياضها لا لشيء الا لتلتهم عين قارئ
   المجاز يشمر عن بياض يديه على مرأى من السابلة ..النص يصير مشهدا عاما ..كبسيط يفتح أول صباحه بسؤال وأغنية
   لن أتكلم عن عبد الله زريقة المتحصن داخل أصالة بحته ونصه في عزلته الإختيارية بعدما داق عدابات السجن والمنافي القهرية كأول شاعر مغربي يسجن من أجل قصيدة
   لن أتكلم عن رجل لا يتسلق صورة ليقول كنت هنا ..بعيد عن جعجعات اللقاءا الثقافية المغربية الفارغة بإجماع تعددت أسبابه واتسخت
   عبد الله زريقة البعيد قليلا .. والقريب جدا نص يصير الى أحد أناشيدنا الشعرية العالية الذي يتسع فينا كمنجز يعبئ روافده بأسباب التراء والمغايرة بعدما بدأ حياته كمناضل سياسي تسكن قصائده أصوات الكادحين وأمالهم في مغرب أفضل
   هو المنحدر من جيل السبعينات وأحيائه الهامشية وما اصطلت به الحقبة من رصاص وسجت لم يسلم منه الشاعر والتهمة كتابة الشعر
   الشعر هنا كان حقيقيا ويحاكم الناس من أجله ..كصوت حاد وحقيقي عرفت قصائده ونضاله الطبقي والسياسي كان بارزا وعلامة فارقة تؤرخ لمرحلة مهمة من نضال اليسار المغبي لا يتسع المقام هنا لبسطها وتفصيلها
   أقول بعد هذه الفترة يتحول النص عند عبد الله زريقة إلى الإشتغال على داخله كمتن خاص فريد له ما يميزه ويتمنه داخل خريطة قصيدة النتر العربية التي طالما أتهم النقاد المشتغلين عليها بالتكرار والمشابهة
   عبد الله زريقة الذي لا أستطيع أ أصفه إلا بالوحيد الدي يربي الجبال العالية للمعنى
   المشتغل على هواجسه الميتافيزقية ، وقصيدته بعيد عن كل ما سواها

أدب السجون.. عبد الله زريقة السجين الأبدي
المساء نشر في المساء يوم 19 - 03 - 2008

في العمل الشعري الجديد الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت، والمعنون ب«إبرة الوجود» يواصل عبد الله زريقة كتابته الشذرية القائمة على تفكيك أوصال المعنى وعلى الصقل العميق للفكرة الشعرية غير مأخوذ بأي غنائية مهما كان إغراؤها
يمثل الشاعر المغربي عبد الله زريقة في مدونة الشعر المغربي مكانة مخصوصة، لم تتوفر لشاعر مغربي غيره، فهو مثلا بالقياس إلى الشاعر عبد اللطيف اللعبي ورفيقه في السجن حالة ديمومة شعرية احتفظت بكل طاقتها على مدار سنوات السجن وسنوات الحرية، وهو بالمقارنة مع الشاعر المغربي صلاح الوديع، السجين الآخر، أقل تورطا في الشأن العام، محتفظا بالعزلة اللازمة وبالغموض الذي يضفيه على قصيدته وعلى حياته معا، وهو إذا وضعناه بجنب النيسابوري يزداد الفرق، لكن في نفس الآن تتوطد الصداقة الشعرية.
هو في الحقيقة عالم مائج من الإدهاش، يقيم في معترك وعي الأنتليجانسيا المغربية، يعبر في قصيدته عن الهامش المتاح من الحرية، ويكتب لغة المتروك ويوسع الدوائر الضيقة.
قلما نعثر على عبد الله زريقة في المكان العام، أو في «النشاط» الثقافي، لكنه مع ذلك واضح في المكان الذي يحتله في الشعر المغربي، وربما لا يجد الناقد مشقة كبيرة في تحييزه في الحيز الذي يشغله، وهو منذ «تفاحة المثلث» و«فراغات مرقعة بخيط شمس»، وقبلهما «رقصة الرأس والوردة» و«ضحكات شجرة الكلام» و«زهور حجرية» وما تلا ذلك من بحث شعري وبالأخص في ديوان «حشرة المنتهى» والذي ركز فيه الشاعر الكثير من «عوائد» الكتابة لديه، يواصل مغامرة خطرة في قطع دابر الإيحاء الذي يثقل ذاكرة اللغة.
في العمل الشعري الجديد الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت، والمعنون ب«إبرة الوجود» يواصل عبد الله زريقة كتابته الشذرية القائمة على تفكيك أوصال المعنى وعلى الصقل العميق للفكرة الشعرية غير مأخوذ بأي غنائية مهما كان إغراؤها.. إنه، بجملة واحدة، من الشعراء الذين لا تلهيهم موسيقى الكلمات عن جوهر الكلمات، ولذلك فإنه يؤلف بالمعنى، ويشيد الدلالة جنب الدلالة، عمل الشاعر هو أن يجوهر فكرته لا أن يمنحها طبولا جوفاء تغني مع كل ريح. وكلما «كبرت» قصيدة عبد الله زريقة كلما غاص صاحبها في طفولة الأشياء، تلك الطفولة التي توقفت في الحبس، ومن السجن بنت كل وجودها، وكأن المعنى الجوهري الذي تقوم عليه الحرية هو طاقة تعطيل الحرية، حيث تصبح هذه «العطالة» فرصة للتأمل لا يمنحها العالم الخارجي، لأن كل تهديد يكمن هناك، في الحبال غير المرئية للحرية، التي تلتف على العنق وتذهب بالعقل وتكسر المسام وتعبث بجسد الرؤيا. يشبه شعرعبد الله زريقة، الذي ينظرمن ناظور عملاق إلى الكون، كل جزيئة هي عالم سيد كامل الذات، متشابك ومتداخل مع الجزيئات الأخرى التي تجاوره، وبقدر هذا التشابك يحتفظ هذا العالم الماكروسكوبي بهويته التي تحدده، وبكينونته التي تميزه، فيا لهول ما نرى، ويا لروعة ما يرى الشاعر المجنون برؤاه في هذا العالم المزدحم بالأفكار، وبالإنتهاك المموه تحت ألف يافطة وألف شعار. يفضح الشاعر عبد الله زريقة أحبولة الوجود، بل إنه وفي سياق العناية بهذا الاحتفال بشعرية الصغر، يمضي في طريق البحث عن «إبرة الوجود» كي يخيط الكساء أو يلائم الرقع، وكي يكسر هذا الطوق المضروب على العالم وعلى الأشياء.
يقول عبد الله زريقة بصريح العبارة إن «الحرية لا تستريح إلا فوق سطح سجن»، وإمعانا في الاشتغال على موضوعة الشجن ترد مقاطع أخرى أكثر شفافية تعكس عمق تجربة الشاعر السجنية أو الشعرية سيان.
يكتب عن الزمن الوجودي للشاعر السجين، وعن معنى تعاقب الليل والنهار «أما النهار فبقايا ضوء يقود إلى غمل سجن». وفي التفاتة بديعة من الشاعر تأخذ الأشياء الأخرى شكل زنزانة مغلقة، فهناك قشرة الحلزون المسدودة، وهناك الباب الذي يتحول إلى جسد حارس بدون رأس، وهناك الشاعر نفسه «الشاعر الأعمى في أرض مبلطة بالنسيان»، وأيضا هناك الحرية التي تقصر أو تطول حسب قميص الهواء الذي يرتديه كل واحد، وحين تضيق قمصان الهواء يضيق مقاس الحرية أيضا.
السقف الواطئ للحرية يستدعي السخرية المبقعة من الوقت ومن كل رسل الحرية الجدد اللاهجين بأن الوقت وقت آخر وأن الزمن قد انزاح قليلا عن ثقله، فكل شيء في غياب الحق في الحرية يتحول إلى موت، حتى إن اللون الأزرق في لون لحم الموتى هو نفسه الأزرق الموجود في زرقة البحر.
لذلك يجهر عبد الله زريقة بأنك لن تصبح حداثيا إلا حين تكسر رأسك الخزفي المشرئب من حافة قبر.

عبدالله زريقة في سلالم الميتافيزيقا

في مجموعته الشعرية السابعة »سلالم الميتافيزيقيا«  (دار الفنك- الدار البيضاء) يواصل الشاعر المغربي عبدلله زريقة انسحابه من المناخات والأسلوبيات التعبيرية التي طبعت مجموعاته الشعرية الثلاث الأولى, باتجاه كتابة قصيدة تتحرر من المعطيات الخارجية والمعاش واليومي, منسحبة من القاموس اللفظي الذي كانت ترتكز عليه, فاسحة المجال لإحلال قاموس لفظي آخر.

تنفتح قصائد سلالم الميتافيزيقا على مناخات النسيان, الغياب,الموت لتؤسس عبر فضاءاتها شبكة من الصور, تتخصص حولها هذه الأقانيم الثلاث, التي تشكل مرتكزات أساسية تنهض عليها طبقات المعنى.

يبدو الكائن في القصائد وحيدا لا حول له ولا قوة, تطبق عليه الوحشة, ويضيق الأفق أمامه, ولا خلاص له سوى الغوص أعمق فأعمق في وحول النسيان. والشاعر الذي يكتب:

»لم أفهم هذه الميتافيزيقا

إلا حين سال مني دم كثير«  (ص24)

لا يتخصص المعنى الذي يتوسله من خلال الكلي, والفوق واقعي المصوغ في فضاءات القصائد فحسب, بل يتكثف أيضا عبر قاموس لفظي يكاد يكون النقيض التام لقاموسه الذي طبع مرحلته الشعرية الأولى, وهو يتمدد على رقعة مساحتها الموت, الخوف, الرعب, الأبيض, النمل, الحلزون,الفأر, الذباب, الدم, الوقت, الشمس, الضوء, القناع, الأفق, السماء,... الخ.

يكتب الشاعر قصيدته دون أدنى اهتمام بما هو شكلاني. كما أنه لا يبدو باحثا عن انتصارات على جبهات التجريب. فالتعبيري هو ما يشغل قصيدته, ويقودها إلى فضاء النسيان الذي يتوخاه:

»واه أواه. عد

فالوجه الذي تخرج به في الصباح

لا تعود به في المساء

وغطاء السرير الذي تركت

سيصبح كفنا بعد قليل

والوقت يسيل من أنبوب ماء صدئ

ووحيد وليس لك إلا ان تكتب مغمض العينين

حتى يمتص الحبر الذي فيك

كل هذه الظلمة«

(ص80)

يتمثل الشاعر في قصيدته جماليات النص الصوفي, من دون أن تشكل استفادته في هذا الجانب سياقا عاما تنطبع به لغته هذه الاستفادة تتجلى من خلال تمثله لتقنيات النص الصوفي خصوصا تجريد الكلام, والانفصال عن عالم الحواس. والحال, إن استبطان تحتانيات قوله الشعري, يحيلنا إلى هم التمثل أكثر من التنويع الشكلاني اللفظي واللغوي على تعريفات النص الصوفي. لذا فهو يدفع لغته بقوة نحو الرمز, ويجردها لكيلا يتبقى منها سوى الاشارات, من دون أن يتطرف في ذلك, فتبدو لغته نتاج الأعمال القصدي والعقلاني والذهنية الجافة. فالمكابدات والمعاناة اللتان يتوسل كتابتهما تسطعان خلال التوتر الشعوري والوجداني الحادين متمظهرين في عمق القول الشعري, وليس على سطحه:

»لا يزيل خوف الكلمات

سوى التأويل

ولا رعب النقطة

سوى الحذف

ولا رهبة الحواشي

سوى النسيان«

(ص20-21)

تلعب الأسئلة دورا مهما في عملية بناء النص وحياكته, والامساك بعصبه, وتوتير شعريته, أسئلة تتبعها أسئلة, لا تنتسج في الفضاء الدلالي فحسب, بل وفي طبيعة القماشة الشعرية الحزينة والمكسورة والتي تعكس جغرافيا الأعماق, ومراياها المتشظية, تلك القماشة التي تتشكل منها مادة القصائد, وتنطبع بطابعها الرمادي.تنتج الأسئلة مفارقات حادة, ومقابلات لا تقل حدة عنها, وهي تتوزع على التنكير والتهويل والتعجب, والشجن... إلخ وهي عموما لا تنتظر جوابا شافيا ولا تسعى, إليه, فمسعاها تعميق الغوص أعمق في النسيان والغياب, كما أنها تبدو أهم من الجواب الذي لا يمكنه أن يملأ حيزه, والشاعر يوجهها إلى فنانين تشكيليين كجياكوميتي, ودولاكروا, وإيغون شيل, وفيرمير... إلخ عامدا الى اقامة مقابلات وتداخلات, عبر الأسئلة, ما بين أعمالهم الشهيرة.

يولف الشاعر جملته وعبارته أكثر من مرة,في شكل دوراني والتفافي, لكنه كل مرة يتحاشى الوقوع في التكرار والسقوط في مطب, إعادة إنتاج القول مرة أخرى, كأنما يرغب في تقليب اللغة على وجوهها المختلفة بنى وأساليب وتراكيب, بغية كتابة الداخل حتى لو ذهب بعيدا, وحاذى تخوم المجازفة, فما يهمه أولا وأخيرا هو الانهمام في قول ذاته, أكثر من الصنع والتركيب مجردين,مدفوعا إلى إخراج زمن النسيان الذي يقبع فيه, فيما قوله الشعري يحفر مجراه وحيدا, بنفسه.

إذا كانت ترد في أشعار زريقة السابقة سمات المكان المغربي أشخاصا وأمكنة, ففي قصائد المجموعة تطل بعض هذه السمات الخاصة بالزمن المغربي وحده دون غيره, فالشاعر يحافظ- في افتتاحيات قصائده خصوصا- على النبرات التي تطبع اللهجة المغربية اليومية ويتداولها الناس في عيشهم, وهي تظهر في تراكيب مثل ؛ياه ياه, واه أواه, ياهيا, ياكا, ياهاناه ... الخ) هذه المفردات المحكية الشفوية لا تبدو مقحمة إقحاما على السياق اللغوي الفصيح, إذ لا نشعر بأي نشاز ينتج عنها, بل تعطي للقصائد حرارة المفتتح, وتهيئ القارئ للدخول في عالم القصيدة. أيضا يرد في قصيدة: ؛لقاءات بيضاء وصفراء.. اسما مدينتي: فاس ومراكش. كما يمكن الوقوع داخل القصائد على تراكيب لغوية لا تنتسب إلى قواعد اللغة العربية مثل »يا ماذا« (ص87) وغير ذلك من التراكيب المشابهة يشيع الشاعر في قصيدته الفانتازيا, لكن الصور الفانتازية المشاعة لا تفرق في فانتازيتها, فهي أقرب إلى الغرابة منها إلى الفانتازيا الكاملة العناصر. أيضا يلعب القص والخطاب دورا غير قليل في إنشاء قوله الشعري,من دون أن ينزلق في النثر العاري أو السيولة اللفظية قصيدة: »ضياع إبرة الوقت« أيضا يستفيد قليلا من البنى التعبيرية للأسطورة مستخدما شخوصها أقنعة في قصيدة واحدة هي: »أقنعة تؤدي إلى وجه أوليس«.

قصائد »سلالم الميتافيزيقا« تنهض على جماليات بدأها الشاعر بعد ديوانه »زهور حجرية« المكتوب في السجن, يحفر فيها تحت الموت والغياب, في محاولة لاضاءة الأسئلة الأنطولوجية الكبرى التي تلتف على وجود الكائن, وتمر بكتاب, فنانين, متصوفين, شخوص أساطير, ...الخ معمقة« الفضاء المتوسل أسلوبيا يؤسس القول الشعري نفسه لحظة الكتابة, وتلعب شعرية السؤال دورا مهما في بنيته, مضافا إليها القص والخطاب وتعبيرية الأسطورة وتقنيات النص الصوفي وغير ذلك من التقنيات الشعرية الممرة ضمن مشغل شعري, لا يلقى الحت والنحت والحفر اللغوي, والتوازنات اللفظية اهتماما بالغا, مقدار الانهمام بقول الداخل وقراءة صوره.
.....................
 التجارب الإبداعية الآن مثل العمليات الانتحارية

عبدالله زريقة

الشاعر الحديث ؟ كيف أتصوره ؟ هو مجرد احتمال وافتراض في ذهني. فمرة هو الذي لا يقاس زمنه بزمن ما، ومرة هو الذي أخطأ زمنه فجاء في زمن ليس بزمنه، ومرة هو الذي لا يكون شاعراً حديثاً إلا بتجاوز حداثة زمنه وهكذا كل مرة أعثر على صورة له. مخيلته، نظرته، موضوعاته ؟ هذه أشياء لا نكاد نلمسها حتى تهرب منا، أشياء مرعبة وجميلة في آن واحد، لكنها زائلة وعابرة لا تمسك، ولا يمكن القبض عليها. بل يبقى في الأخير هذا الغبار نلون به حيطان أوراقنا، أي كيف تروح الأشياء بهذا الشكل، كيف تدمر الأشياء بعضها البعض، ولا نملك لها شيئا.
الآثار الشعرية التي ظهرت في العقد الثمانيني ليست متجانسة، ولا تشكل كلاً واحداً، بل هي في نظري، إما أنها تعيد ما سبق من تجارب، وإما أنها تبحث عن فضاءات شعرية لم تتحدد بعد، وإما أنها تجاوزت السابقة بكثير وتقاطعت معها وكلنها في العتمة يلزمها ضوء كثير. المسألة تتطلب إبداء شجاعة نقدية كبيرة.
النقد؟ نادر جداً، لزن لا وجود لدعامة فلسفية بالضرورة، فليس هناك فلاسفة يستفزون هذا الرماد المعشوشب فين والإبداع لا يستقيم هو الآخر دون نقد. وهكذا، فالآلة الرهيبة فلسفة، نقد وإبداع معطوبة في العالم العربي، ولذلك فالتجارب الإبداعية الآن هي مثل عمليات الانتحارية.
ليست مجموعات شعرية بالضرورة، وإنما في غالب الأحيان كتابات تفرقع رأسك وتزلزل كيانك، مثل كتابات آرتو، موريس بلانشو، جورج باطاي، سيلين، نيتشه، شوبنهاور.. الخ وكلما قرأت مثل هؤلاء تتساءل : ماذا قرأت وماذا كتبت، بل لماذا تقرأ، ولماذا تكتب، وإلى أين تمضي بكيانك المختل في هذا الوجود المختل ؟
لا أستطيع العيش في ضوضاء جماعة، فنفسي هي الأخرى لا أطيقها، لكن يمكن أن تكون هناك جماعة مفتوحة ومتفتحة جداً من مختلف البلدان العربية تتبادل الآراء على أساس أن تقيم علاقات مع شعراء آخرين من بلدان أخرى، ومفتوحة على فعاليات فنية أخرى تشكيل، سينما، تصوير ومسرح.. الخ أي جماعة لا تشعر فيها بثقل أو سلطة أو أجوبة ثابتة ودائمة.
الشعر شكل من أشكال الإقامة في هذه الأرض.
الجيل، الرواد، الآباء.. أشباح ترعبني، بل أكره حتى هذه التسميات وأحاول أن أكنسها من أرض ذاكرتي.
صداقتي الشعري لا تدوم لشاعر معين، وإنما انتقل من واحد إلى آخر، وأحس بأن كل واحد يجرني إليه بطريقته الخاصة.

نصوص

1

لا تدع الرجل المقطوع أصابعه
يعدّ الأيام التي بقيت
وأبعد هذا الكرسي الأعرض عنك
لئلا يأخذ إحدى رجليك
آه لم أجد حياً واحداً في مقبرة
رأسي

2

لا تغسلوني
سأذهب من المرحاض
إلى القبر
لا تقرأوا عليّ شيئاً
فأذني أكلها الدود
لا تغطوني
فرأسي
شاهد
قبر جسدي.


عبد الله زريقة
ولد بمدينة الدار البيضاء.

حصل على الإجازة في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط سنة 1978. وفي نفس السنة تعرض للاعتقال وحكم عليه بسنتين سجناً.

من أعماله الشعرية:

1- رقصة الرأس والوردة - الدار البيضاء، مطبعة الأندلس 1977.

2- ضحكات شجرة الكلام - الدار البيضاء، منشورات المقدمة 1982.

3- زهور حجرية - الدار البيضاء، منشورات البديل 1983.

4- تفاحة المثلث، عمل مشترك مع الفنان عباس صلادي، الدار البيضاء، مؤسسة بنشرة 1985.

5- فراشات سوداء - الدار البيضاء، دار توبقال للنشر 1988.

6- فراغات مرقعة بخيط الشمس - الدار البيضاء، منشورات الفينك 1995






مقطع من قصيدة طويلة للشاعر المغربي عبد الله زريقة
استعرض الموضوع السابق استعرض الموضوع التالي اذهب الى الأسفل
كاتب الموضوع رسالة
مصطفى بلعوني
مشرف
مشرف




مُساهمةموضوع: مقطع من قصيدة طويلة للشاعر المغربي عبد الله زريقة 14/7/2007, 15:02

انه مقطع من قصيدة للشاعر المغربي عبد الله زريقة ، القصيدة بعنوان "العراء الذي تستريح فيه نملة الكون" وتوجد ضمن مجموعة شعرية بعنوان" حشرة اللامنتهى" الصادر عن مطبعة النجاح الجديدة ، لحساب نشر الفنك /دجنبر 2004/ الايداع القانوني رقم0649/2004.
*وسوف اقوم بتنزيل الجزء الاخير منها في محطة اخرى...

*******************
العراء الذي تستريح فيه نملة الكون

شعر: عبد الله زريقة


العري قطعة سماء

فوق سرير


تفاحة تتقاذف بها

ريح على صدر صحراء


قميص يلتصق بعود

كي يقترب من كتف

امرأة


وظل يقسمه ضوء

آت من ذراع

وما بين الفخذين

هو وسط الغرفة تقريبا


حتى أنني لا أعرف

أن كان الضوء آتيا

من المصباح

أم من الوجه


ولا أعرف إن كان

الدولاب ثقيلا جدا

أم الزمن الذي تحت السرير


لكن لا عري

بدون يد قطة

قرب حبل السرة


وقدم كلوح يهدهده

بياض اللحاف


فالكون كله في هذا العراء

وما حوله فقط

خواء فائض


كل الأثواب تتراجع

إلى الوراء

أمام جسد عار


والمكان نفسه

يصبح سريرا فقط


والكلام معلقا

كذباب على خيط مصباح


والصمت كلسا ابيض

على صدر حائط


والعين وحدها لا تستطيع

أن تلم بكل ما فيه


والعري ماء لا أحد

يستطيع إيقافه حول

العنق


وكل ثوب هو فقط

منشفة عرق


الزهر نفسه ينزوي

في لوعة ركن


وربما الدراجة وحدها

التي يمكن أن تفكر

في الاقتراب منه

أو نقطة حمرا

تسقط على خده

الأيمن


فلا أعرف هل هو صفحة بيضاء

يستريح فيها اسود العين


أم جسد ممزق انسرب

في جسد آخر


العري حين نراه

لا نريد أن نلمسه

إلا في خيال عزلة


أو لا نريد أن نلمسه

لأنه نافذتنا

المطلة على النفس


أو لا نريد أن نقربه

حتى لا يتطاير غبار خطوطه

الموسومة بأصابع ريح


ماء

وما حوله عطش


أو كأس لا أقربها

حتى لا تتدفق

من فمي


أو خواء فقط

تستريح فيه نملة الكون


والمرأة لا تضع

يدها على فخدها وإنما

تخاف أن ينقض حيوان

العائلة فيلتهم فار بؤبؤ

عين الرائي


والرائي لا يرى شيئا حقا

لان ضوء الوجه يعميه


وخلف العري سجن

لا يحرسه إلا الذي رآه


أو مقبرة

تضم رفات الذين

رأوها من قبل


والسرير لا ينام إلا

تحت جسد امرأة عارية


والدولاب لا يرتاح

إلا إذا رمت المرأة

الثياب من النافذة


والغطاء نفسه

لا يرتخي إلا برائحة

صابون عري امرأة


العري لا يخاف إلا من

الكلمات التي تخرج

من الفم بالرغم عنها

وتلبسه


أو يريد أن يبقى مرسوما

على ورقة قبل أن تنكمش

في عنق جيب السروال


أو ما تبقى من ماء

صابون تسلل من

تحت باب غرفة

غسل الميت


أو لاشيء

لا شيء

حين تكون العين

مثقلة بغبار

الضوء


أو مرآة لا ترى فيها

حتى وجهك

المنكمش بالظلمة


أو جسد إمرة

تاهت فيه نملة

تبحث عن غار إبطها


أو كرسي فقط

لا وجود لشخص

قربه سوى كومة

غبار تخيف قطة


أو فقط بياض

مكسر بوردي مجروح

الأسفل


والعين لا ترى كل شيء

حين تكون أمام حجاب بحر


اليد وحدها التي تريد

أن تمسك بما تدلى

فندخلها في الجيب


والغرفة حين لا تريدنا

أن نكون تطفئ المصباح

خلسة


رغم أن الظلمة نفسها

جسد عار لم يكشفه

ضوء بعد


أو سلم يتوسطه ثوب

قرمزي ونصف شمعة

تحترق في التحت


ظل في الباب لا يريد

دخول الحمام حتى

لا ينمحي


دراجة لا تركبها

إلا قطرة مطر

سقطت من خيط

مصباح الشارع


قطة وزار ابيض

وحذاء ينتظر قرب الباب

موضوع: إبرة الوجود/ عبد الله زريقة الثلاثاء فبراير 26, 2008 6:55 pm
ـ ـ
عبد الله زريقة

ولد بمدينة الدار البيضاء. حصل على الإجازة في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط سنة 1978. وفي نفس السنة تعرض للاعتقال وحكم عليه بسنتين سجناً. من أعماله الشعرية: 1- رقصة الرأس والوردة - الدار البيضاء، مطبعة الأندلس 1977. 2- ضحكات شجرة الكلام - الدار البيضاء، منشورات المقدمة 1982. 3- زهور حجرية - الدار البيضاء، منشورات البديل 1983. 4- تفاحة المثلث، عمل مشترك مع الفنان عباس صلادي، الدار البيضاء، مؤسسة بنشرة 1985. 5- فراشات سوداء - الدار البيضاء، دار توبقال للنشر 1988. 6- فراغات مرقعة بخيط الشمس - الدار البيضاء، منشورات الفينك 1995

1


قمح محتبس في رأس نملة
النملة لا تقف لحظة قرب نملة أخرى ميتة
الوقت حشرة حامدة قرب ساعة حائط مغبر
الأطفال لا يصلحون عموما الا لقتل العصافير
الهواء يتغذى من الغبار العالق برئتيه
لا اكتب لأني مكبل بكلمتين في قبو اللغة
الشعر محاولة الخروج من سجن لغة الى سجن
لغة اوسع منه
الأمل نفسه لا يدخل الى قلب تفاحة
اذا رأى دودة واحدة
ـ 2 ـ
أحاول تعريف كلمة "كفن" بخيط وابرة
الوردة لا تعرف انها وسط قمامة
الوردة لا تعرف وردة أخرى
الوردة لا تعرفني بالمرة
الوردة غارقة في لذة جهلها
بأي شيء آخر
ـ 3 ـ
بل الوردة لا تفهم الوردة الأخرى
وإنما نفسها
واسمي لا يفهمني
وإنما نفسه
حين أكون بعيداً
عن قبر فم

خشخشة حلزون الممحاة
ـ 1 ـ
يا هايا
لا اعثر على الكون
الا في تربة حلزون

ولا على الريح
الا في ململة رمل

ولا علي
الا في ظل ممحاة

ـ 2 ـ
يا هايا
هل هناك نار
انتظرها حتى تنطفئ
لأندفن في دفء الرماد

ـ 3 ـ
يا هايا يا هايا
الشرق ماء
والغرب ماء
وبينهما غرقى

غربة مسالخ البياض
ـ 1 ـ
ومتى أخرج من مدينة لغة
الى صمم خلاء لا أرى فيه الا
افق نفسي يرعى عشب نفسي

ـ 2 ـ
اللغة دمي قبل ان أذبح
في مسلخ ناصع البياض
وأرقد في رأس ذبابة

ـ 3 ـ
فلن تصبح حداثياً الا حين تكسر رأسك
الخزفي المشرئب من حافة قبر

ـ 4 ـ
لا أريد ان أرى دمعة
منزلقة على خد ماء

بل قطرة ماء لا تريد
أن تكون تكرارا
لقطرة ماء أخرى
ـ 5 ـ
الريح وحدها التي تستطيع
أن تحدث خواء في الماء

ـ 6 ـ
ذرات الغبار هي التي
تعرف ما في هذا القمطر

ـ 7 ـ
الموت كقطرة مطر
تطفئ شمعة الروح

_________________

18-Jul-2008
[أرسل إلى صديق]

المغربي عبدالله زريقة في ديوان جديد ... شاعر يرتق هواجسه بـ«أبرة الوجود»

الدار البيضاء - الحياة:

لطالما منحني الشاعر المغربي عبدالله زريقة، في ما يكتب من نصوص شعرية، على الأقل منذ ديوانه «فراشات سوداء» ( توبقال 1988)، إحساساً بفاعلية الرتق، التي ترتفع إلى مقام الخلفية المؤسسة لمفهوم الشاعر ووظيفته في تجربة شعرية خلاقة، اختارت القطيعة مع صوتها النضالي العالي الذي لازمها، في مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لتستبدله بصوت شعري داخلي، موغل في ميتافيزيقا شخصية، تستمد عناصرها من رياح العبث وروح الدعابة والكتابة البيضاء، التي طبعت قطاعاً من الأدب العالمي الطلائعي بعد الحرب العالمية الأولى. عناصر ترتق اليد الشاعرة من خيوطها المرهفة جمالية خاصة، تنطوي على إحساس صامت بالخطيئة، وباللاجدوى التي تجعل الكلمات تتراصف، في حياد، من دون أن تكف، مع ذلك، عن أن تشكل بؤرة مشعة من الهواجس الذاتية الغريبة، التي تكشف البعد المَتاهي والغسقي للانسان.

في ديوانه الجديد «إبرة الوجود» (دار النهضة العربية - بيروت 2008)، يستأنف عبد الله زريقة بناء صورة الشاعر الراتق لانشغالات ميتافيزيقية خاصة.

ولعل كلمة «إبرة» البانية للعنوان، ضمن مركب إضافي يستدعي أيضا كلمة «الوجود»، تكشف عن هذه الصورة التي كانت تشتغل، باعتبارها أداة بناء، على نحو خفي، في دواوين سابقة للشاعر، نذكر منها «فراغات مرقعة بخيط شمس» (الفينيك- 1995)، «سلالم الميتافيزيقا»، (الفينيك - 2000) و «حشرة اللامنتهى» (الفينيك - 2005). بعد كل هذه الأعمال، أصبح الشاعر الراتق يكشف عن نفسه، على نحو أكثر وضوحاً وإلحاحية، بل وحتى مهارة، وهي لعبة تستند، في شكل جزئي، على لعبة الكتابة الآلية، التي تجعل الكلمات والعبارات الشعرية تتناسل تلقائياً، ولكن دونما غياب تام للوعي، الحريص على تركيب الصور الغريبة والصادمة في حياة الفكر واللاشعور.

يتكون ديوان «إبرة الوجود» من عشر قصائد، لا تفرق بينها إلا العناوين، نظراً إلى اشتراكها في طرق الصوغ وهواجس التخيل الشعري الملحة، التي تجعل الكتابة تمد خيوطاً مرهفة لترتق أمشاجاً من القلق والاستيهامات، على نحو شذري، لا يولي لانطلاق القصيدة ولا لخاتمتها أهمية خاصة في البناء، ليتشكل، من ثمة، نوع من السدى الميتافيزيقي الداخلي، الذي يشكل مشترك تجربة شعرية تمتد بين حدود اللغة والموت، لتستدعي عبرهما الذات الكاتبة كل حكم الحياة وجراحها، المتحصلة بالتجربة والتأمل المغذي لأنساغ اليأس وروح العبث.

تنبثق الشذرة، في قصائد الديوان، من شعرية التحديدات والتعاريف التي تعول على الخيال و الحدس الذاتي في رتق الصور الغريبة. ولا تواجهنا في القصيدة الأولى «قمح مُحتَبَس في رأس نملة» عبارة» أحاول تعريفَ كلمة «كفن» بخيط وإبرة» (ص10)، إلا لتؤكد هاجساً شعرياً ملحاً، يطابق بين الكتابة وفعل الرتق، المشدود إلى ضوء الداخل وعماه، في نسج علاقة الكلمات بالأشياء، لبناء رؤية أخرى للوجود الإنساني.

لا تنفصل لغة الكتابة، في «إبرة الوجود» عن استعارة الدم، كاستعارة نووية، تحتفظ لنفسها بتحققات مختلفة في تجربة الشعر المعاصر. غير أن عبدالله زريقة يدمج هذه الاستعارة في استيهامات سريالية، تحررها من رجاحة الوعي المسؤول والملتزم: «اللغة دمي قبل أن أُذبَحَ/ في مسلخ ناصع البياض/ وأَرقُد في رأس ذبابة» (ص37). وهنا، يتخفف الأثر التراجيدي والقرباني لفعل «الذبح»، في الوقت الذي ترتق له الذات الكاتبة علاقة تفاعل وتجاور مع عبارة «رأس ذبابة». بل إن هذه «الذبابة»، تصبح، في سياق شعري آخر، كياناً رمزياً، من جوفه ينبثق الشعر، وتتأسس علاقة الذات بالأشياء في ظلمات الوجود: «وظلمات تفصلني عن الكتابة/ لا أبصر فيها ضوءاً إلا حين أعثُر/ على ذبابة كلمة» (ص38).

إن «تذويت» استعارة الدم باستيهامات سريالية، يتكامل، في عمل عبدالله زريقة، مع الرؤية للغة كمكان للاقامة. وهنا أيضاً، يذهب عبدالله زريقة نحو الخصوصي باستبدال دال البيت، الذي هيمن على منظور الشعر المعاصر للغة، بدال المدينة كفضاء أوسع، لا تأمن الذات فيه من التيه والضياع: «واللغة مدينة/ لا يسكنها إلا غريب./ والشاعر نفسُه ليس / إلا معطفا يلبسه هيكل غريب/ وإذا قصدتُ المِرآة/ فكي أرى آخر غيري/ وإذا قلتُ بضع كلمات/ فكي أستمعَ إلى آخر/ يقول تلك الكلمات»(ص39/ 40).

ولعل الـتأكيد على دلالة الغربة، في هذا المقطع، يرجح هذه الرؤية، التي تُغرِّب مفهوم المرآة ذاته عن نفسه، لتجعله منصهراً في فاعلية شعرية، تضع مسافة كافية تجاه شعرية الانعكاس فيما هي تنظر للذات كآخر. ولدال الغربة تواشجات أخرى، ترتقُها له الذات الكاتبة، في علاقة بالعناصر الأولى أو بأمشاج من الحياة، التي تنسج الخلفية الوجودية للديوان، فـ «الكأس تشرب / مرارة غربتها/ والحمق غربة لغة/ في مدينة لغة/ بل الغربة تراب يتأفف منه حتى الموتى» (ص57). وبذلك يتسع فضاء الغربة، ويصبح غير قابل للقياس، مادام مندمجا في صميمية الأشياء والأحاسيس الموغلة في قعر الذات «آه/ أقيس الغربة بصمت الأشياء/ وبالتواء الأفق على القلب/ أو حين أسمع / وشوشة عصفور/ وأنا في قاع قبر جسدي» (ص64).

لعل أعمق ما في هذه الغربة، هو أن ترى الذات إلى جسدها كقبر تُوارى فيه الحياة ربما منذ الولادة، فالإنسان يولد في قبر جسده، وهناك تتسرب إليه دودة الزمن، الزمن الذي «يقضم تفاحة سوداء كل صباح»، ويسرق من الشاعر «بضع كلمات» قالها في نفسه، بل إن «الدود حين يراه / يهرب من لحم الموتى»(ص73). إنه أصل الفساد الذي يُبلي كل شيء: «الزمن كالماء إذا تسرب/ إلى ساعة أفسدها»(ص14).

على هذا النحو، يرتق عبدالله زريقة هواجسه الميتافيزيقية، بعد أن تحرر من الرغبة في تغيير العالم، وهبط إلى مهاويه السحيقة التي لا تحدها إيديولوجيا، مستضيئاً، في طريقه، بلغة شعرية متوترة معجونة بوحل الداخل. وليست «إبرة الوجود»، في النهاية، إلا تلك الأداة الحادة الدقيقة، التي تسمح للشاعر بنسج رؤيته الخاصة للحياة، انطلاقاً من أمشاج الغربة والقلق والموت والعزلة والظلمة التي تؤثث وجود الانسان من كل الجهات، وتجعله مشدوداً إلى لغته الشعرية، ليس كخلاص، وإنما كفضاء تشرف منه الذات على تراجيديتها الشخصية.

اخواني .. اخوتي

تتكون المكتبة الادبية المغربية الحديثة مما تداول المغاربة انتاجه في مجالات الشعر والرواية والقصة والمسرح والنقد والمتتبع للانتاج الادبي المنشور ابتداء من العقد الثاني من القرن العشرين يجد هذا الحضور.

أولا : الإنتاج الشعري :

ويتميز ببصمة مهيمنة بالنسبة لباقي الاجناس الأدبية واستمراريته وقدرته على مواكبة الحياة، وقد بلغ عدد المجاميع الشعرية الصادرة خلال الفترة الممتدة بين 29 و 99 –حسب تقدير حسن الوزاني في كتابه الأدب المغربي الحديث- 555 مجموعة شعرية.
ويتوزع صدور هذه الأعمال حسب المراحل التالية:

فترة ما قبل الاستقلال، من 29 إلى 55.

وقد صدر خلالها خمس مجموعات شعرية هي :
أحلام الفجر، لعبد القادر حسن، 1936
ديوان محمد مكوار، 1937
باقة شعر، لعبد الواحد البلغيثي، 1947
لمحات الأمل، لعبد القادر المقدم، 1948
ثم، شجرة النار، لمحمد الصباغ، 1955
إلى جانب كتاب محمد بن عباس القباج، الأدب العربي في المغرب الأقصى، 1929، الذي يضم مختارات شعرية لشعراء مغاربة.
ويرجع انحصار الاصدارات الشعرية هنا الى عوامل متعددة منها غياب حركة نقدية موازية، واستمرار سلطة المؤسسة الشعرية القديمة في تكريس تقليدية الشعر المغربي.
ومن الشعراء الذين عرفتهم هذه المرحلة: محمد الصبيحي، احمد بن شقرون، ابراهيم الإلغي، الطيب بن خضرا، عمر البارودي، محمد البكاري، عبد السلام الخضري، ادريس العلمي، محمد المختار السوسي، محمد بن علي السلاوي، المدني الصفار، محمد العثماني، ادريس العلمي، ادريس الجاي، عبد الله ابراهيم، الطيب عواد، عبد الله الفاسي، محمد الحلوي، عبد المجيد بن جلون، عبد الله كنون، محمد الجزولي، محمد الوديع الأسفي، محمد حبيب الفرقاني وغيرهم.
وتميز الشعر في هذه المرحلة بمواكبة التحولات التي مست الواقع المغربي والإنخراط في مواجهة المد الاستعماري مع استلهام جميع التيارات الشعرية الجديدة التي كانت تهب من المشرق من خلال اتجاه شعراء مدرسة الإحياء والديوان وابوللو والمهاجر، دون ابتعاد هؤلاء عن التقاليد الشعرية الأصيلة التي كانت تمثل عندهم جزءا من المقدس التي انبروا للدفاع عنه ضد الاستعمار التي يستهدف الهوية.

من الاستقلال الى نهاية الستينيات، من 56 إلى 69

عرفت هذه المرحلة صدور 20 مجموعة شعرية إضافة الى مجموعات لشعراء ينتمون للمرحلة السابقة، مثل أنغام وأصداء لمحمد الحلوي ونجوم في يدي لمحمد الحبيب الفرقاني وديوان الحرية لعبد الكريم بن تابث ولوحات شعرية لعبد الله كنون وسمير الشباب لمحمد الادريسي وحور ونور لعبد الكبير العلمي وما قبل الكلام لمحمد بنيس وأشعار للناس الطيبين لادريس الملياني واحمد الهناوي، والحب مهزلة القرون لمحمد الحمري، ودوائر الأصفار لمحمد الشعرة، وأعطاني خوخة ومات لأحمد صبري، وأشواك بلا ورود لمحمد بن دفعة وحب لإبراهيم السولامي...
وقد ساهمت عوامل كثيرة في خصوبة الإنتاج الشعري في هذه المرحلة وفتح آفاق جديدة للتجربة الشعرية المغربية كظهور قنوات تواصلية جديدة، ممثلة في صدور مجلة دعوة الحق، وأقلام، وآفاق، وأنفاس، وجريدة الأهداف، والمحرر، وملحق العلم الثقافي، ثم مهرجان الشعر السنوي المنظم من طرف جمعية أصدقاء المعتمد، إضافة إلى تطور الوعي النقدي من خلال أعمال متعددة منها ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب، لمحمد بنيس، وشعرية الخطاب في القصيدة المغربية 1936-َ1964 لمصطفى الشليح، والإتجاه الوجداني في الشعر المغربي الحديث بين 1930-1965 لأحمد الدويري، والشعر المغربي الحديث بين الأيديولوجيا ومفهوم الحداثة 1960-1980 لأحمد العجاج.

سنوات السبعين، من 1970 إلى 1979

شهدت هذه المرحلة ارتفاعا كميا على مستوى الإنتاج الشعري حيث بلغ عدد المجموعات الشعرية الصادرة خلالها 71 مجموعة وارتفع عدد شعرائها إلى 75 شاعرا، ومن الذين أصدروا دواوين جديدة نذكر عبد الله راجح ومحمد بنيس وأحمد بلبداوي، ومحمد الأشعري وعلال الحجام ورشيد المومني وأحمد بن ميمون ومحمد الحمري وأحمد هناوي وحسن الأمراني ومحمد الرباوي والحسين القمري وعبد الرحمان بوعلي ومحمد بن عمارة وبنسالم حميش وعبد اللطيف بنيحيى وغيرهم..
وتميزت هذه المرحلة خاصة بتطور الوعي النقدي وتمثل دقيق لتحولات واحتدامات المجال الثقافي والسياسي، ومن مظاهره اعتقال الشاعر عبد اللطيف اللعبي سنة 1972 ومنع مجلة أنفاس، واعتقال الشاعر عبد القادر الشاوي سنة 1974 واعتقال الشاعر عبد الله زريقة سنة 1978 ومصادرة مجموعته الشعرية 'رقصة الرأس والوردة" الصادرة سنة 1977.
وقد ساهم في تحول المسار الشعري في هذه المرحلة عوامل كثيرة منها مساهمة الجامعة في تجاوز النقد الصحافي الانطباعي والانفتاح على ثقافات أخرى وتمثل المناهج النقدية الحديثة إضافة الى الحضور المتميز لجمعية رواد القلم وقنوات الاتصال المكتوبة آنذاك.

سنوات الثمانين، من 1980 إلى 1989

بلغ عدد العناوين الصادرة خلالها 141 عنوانا، شارك في إغنائها شعراء مثل حسن نجمي وعبد السلام بوحجر وصلاح الوديع وعبد السلام المساوي ومصطفى فهمي ومحمد الشبيهي ومحمد عرش وعبد الناصر لقاح ومحمد الصادر ومحمد بوجبيري ومبارك وساط وعيسى ادريس ووفاء العمراني وثريا ماجدولين وصلاح بوسريف وفريد الأنصاري وعزيز الحاكم وغيرهم.
ومثلت هذه المرحلة امتدادا للمرحلة السابقة مع بعض المتغيرات كظهور التيار الاسلامي القائم على الدعوة الى اعادة الملمح الروحي الصوفي للشعر وربطه برسالة الاسلام، ثم انخراط الجامعة والمؤسسات الثقافية والصحافية والجمعيات ومنظمي المهرجانات ودور الكتاب في ميدان النشر وتبني الاعمال والبحوث الخاصة بالشعر.
ومن الكتب الصادرة نذكر القصيدة المغربية المعاصرة/بنية الشهادة والاستشهاد، لعبد الله راجح، وشعر الطليعة في المغرب، لعزيز الحسين، والشعر العربي المعاصر في المغرب الشرقي، لمحمد الرباوي، والاشتغال الفضائي في النص الشعري، لمحمد الأكري، ثم مهرجانات جمعيات مثل جمعتي قدماء الإمام الأصيلي، والشعلة.

مرحلة التسعينات، من 1990 إلى 1999

شهدت هذه المرحلة طفرة كبرى في مجال الإنتاج الشعري، حيث بلغ عدد المجموعات الشعرية 313 وصار عدد الشعراء 232 حيث اضاف جيل جديد بصمة أعماله، وفي سنة 99 وحدها صدرت عدة أعمال جديدة مثل، من غير أن يمسه الماء، لمحمد العرابي، وولث من النداء الحافي لتوفيق الغربي، وأول الصراخ لمحمد زرهوني، وقبضة الريح لحميد علام، وفاكهة الغرباء ليحيى عمارة، ومدينة في القلب لحميد يوسف وغيرهم.
ومن شعراء هذه المرحلة عبد الرحيم حزل وادريس علوش وعز الدين حمروش ومحمد حجي وجلال الحكماوي وعبد العزيز أزغاي ورشيد نيني وحسن الوزاني ومحمود عبد الغني وأحمد الريسوني وبوجمعة أشفري ومحمد بشكار ومبارك الراجي وجمال أماش ومحمد الصالحي وزهرة المنصوري وياسين عدنان ومحمد شيكي ووداد بنموسى وجمال الموساوي وسعيد أنوس وعبد الحق بن رحمون وغيرهم.
وبرزت خلال هذه المرحلة مؤسسات جديدة تعنى بالشعر مثل جمعية البحث التاريخي والاجتماعي، ومؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء الثرات والتبادل الثقافي، كذلك تأسيس جمعية "بيت الشعر بالمغرب" سنة 1996 التي نظمت عدة مهرجانات للشعر.

ثانيا : الإنتاج القصصي.

القصة من الفنون المستحدثة في المغرب، حيث تأخر ظهور أول مجموعة قصصية إلى سنة 1947، وهي وادي الدماء لعبد المجيد بنجلون، وكان بعضها اشبه بالمقالة القصصية ومن بين نصوصها الأولى "ضحايا الحب" للحسن الصبيحي، و"قلبي لكل تمثال"، للحسن الشرقاوي.
وقد اتخد بعضها بعدا اجتماعيا مثل "فاس في سبع قصص" لأحمد بناني، ثم تطورت في العقد الخامس إلى ما يشبه الصور القصصية ذات الصبغة التاريخية، مثل عذراء سبتة، لعبد الرحمان الفاسي، وغادة أصيلة لعبد العزيز بن عبد الله، ثم لم تلبث أن تطورت في صور نضالية مثل، وادي الدماء لعبد المجيد بن جلون، وقدر العدس لمحمد شماعو، وصور اجتماعية تمثلت عند عبد السلام البقالي في "قصص من المغرب" وهي كلها محاولات أفضت الى ظهور القصة القصيرة التي تعددت مضامينها مابين اجتماعية مثل "رجل ذو قيمة" و "عائلة شريفة" لعبد الجبار السحيمي وكفاحية متمثلة في بعض مجموعات عبد الكريم غلاب وخاصة "مات قرير العين". ثم شهدت هذه المضامين بعض التطور في الخط الواقعي النقدي عند محمد بوعلو في "سيدنا قدر" وزينب فهمي في "رجل وامرأة" ومحمد زفزاف في حوار في ليل متأخر، وخناتة بنونة في "ليسقط الصمت".
ورغم التحولات التي عرفها هذا الفن المستحدث فان منسوب الخطاب المباشر والتبشيري يضل عاليا في مضامين وأحجام الكتابة القصصية القصيرة بالمغرب وهي سمة مرتبطة بوثيرة الوضعية الاجتماعية والسياسية بالمغرب ولعلاقات الإنتاج والظروف السوسيوثقافية التي أطرت الممارسة الإبداعية في أومنتها المختلفة. ويقدر مجموع الأعمال القصصية الصادرة خلال الفترة الممتدة بين سنة 1947 وسنة 1999 في 268 مجموعة قصصية تتوزع حسب عدة مراحل.

مرحلة الحماية، من 1947 إلى 1955

تميزت هذه المرحلة بمحدودية الانتاج القصصي حيث لم تتجاوز إصداراته ثلاث مجموعات هي وادي الدماء لمحمد بنجلون 1947، وأفراح ودموع لمحمد الخضر الريسوني 1951، واللهاث الجريح لمحمد الصباغ 1955.
وترتبط محدودية الإنتاج بشروط تكون هذا الجنس الأدبي الجديد وسيادة التمثل الثقافي المحافظ وتشتت البنية الاجتماعية المغربية وعدم تجانس مكوناتها وبداية انبثاق البرجوازية الصغيرة التي ارتبط بها هذا الجنس الأدبي أكثر.
وقد حكمت هذه الظروف على القصة بأن تكون متصنتة لنص الواقع ومرتهنة لاستعجالية الرصد والاستجابة المباشرتين أكثر من خضوعها أو استجابتها لجماليات الإبداع ومتطلبات المهارة الفنية فغرقت القصة في التبشيرية على حساب أدوات هذا الجنس الأدبي من بنية حكائي ورسم للشخصيات.

مرحلة الستينيات، من 56 إلى 1969.

عرف الإنتاج القصصي خلال هذه الفترة تطورا مهما حيث بلغ عدد الأعمال القصصية الصادرة خلالها 15 مجموعة قصصية وهي أعمال القصاصين محمد عزيز الحبابي (جيل الظمأ) ومحمد شماعو ومحمد التازي وعبد الجبار السحيمي (الممكن من المستحيل) وعبد الكريم غلاب (سبعة أبواب) (دفنا الماضي) وأحمد عبد السلام البقالي وخناثة بنونة وأحمد بناني وعبد السلام العزيز ومبارك ربيع وزينب فهمي وحيمد البلغيتي ومحمد الريسوني.
وقد تميز الإنتاج المرحلي هنا بتطوره على مستوى الرؤية والأدوات، فظهرت نماذح قصصية مكتملة فنيا تتبلور فيها الرؤى المتناسبة والادوات المطلوبة للعمل الفني الصحيح، وتراجعت الواقعية المبتذلة لتحل معها واقعية النص الفني الذي لا يصرخ هاتفا للمحرومين والمعوقين ولكن يحمل في ذاته بذرته الخاصة المعبرة عن الحرمان النفسي العام على نحو ما نجد في قصص إدريس الخوري ومبارك ربيع وعبد الجبار السحيمي ومحمد زفزاف وعبد الكريم غلاب وغيرهم من القصاصين الذين استوحوا القصة القصيرة العربية الواقعية.

مرحلة السبعينيات والثمانينيات.

عرفت هذه المرحلة بعض الانحسار ارتبط بعدة عوامل منها تحول الكثير من قصاصي جيل الستينيات إلى حقول وأجناس أدبية أخرى، كما صدرت أعمال لزينب فهمي (ريح السموم) وعبد الجبار السحيمي (الممكن من المستحيل) وإدريس التازي (أصدقاء المرحوم) ومحمد التازي (المتمردة) ومحمد عبد العزيز الحبابي (العض على الحديد) وعبد العزيز بن عبد الله (شقراء الريف) وأحمد شماعو (حسان من الأندلس) ومصطفى المسناوي (طارق الذي لم يفتح الأندلس) ومحمد الهرادي (ذيل القط).
وقد احتفظت الكتابة القصصية في هذه الفترة خارج كل الاكراهات ببحثها عن أفق ينصت لنبض المرحلة ويتوق لأفق مغاير.

مرحلة التسعينيات.

شكلت هذه المرحلة انعطافا كميا حقيقيا داخل مسار تطور الإنتاج القصصي المغربي، حيث عرفت صدور 148 مجموعة قصصية ساهم في انتاجها 113 قاص ينتمون لمختلف الأجيال.
ويرجع هذا التطور الى تغير بنية النشر وتشجيع المؤسسات الثقافية حيث اصدر اتحاد كتاب المغرب 7 مجموعات قصصية هي : سبعة أجراس لحسن البقالي، ما الذي تفعله لخالد أقلعي، دبدبات الصوت الأزرق لعبد المجيد شكير، مدائن الشمس لعبد السلام الطويل، والليالي البيضاء لعبد المجيد الهواس، الى جانب التحول الذي لحق بنية المنتجين، حيث تحول بعضهم من مجالات أخرى إلى مجال القصة القصيرة مثل محمد الأشعري (يوم صعب) ومحمد الدغمومي (مقام العري والسياسة) والروائي الحبيب الدايم ربي (حروب صغيرة). وكذلم مساهمة بعض المجلات الثقافية حيث اصدرت مجلة "نجمة" و "علامات" و"فضاءات مستقبلية" و"عيون المقالات" والمشكاة" وجريدة الحوار الأكاديمي وجريدة شؤون جامعية، بعض الاعمال القصصية. إلى جانب تأسيس "رابطة القصة القصيرة المغربية الجديدة" وعقدها لمجموعة من الدورات. فدورة أكتوبر 89 كانت حول (إشكالية التأهيل والتجنيس وفرادة الخطاب القصصي في الكتابة القصصية بالمغرب) ودورة أكتوبر 90 حول (تحولات الوعي القصصي بالكتابة القصصية بالمغرب) وسنة 93 حول (التجنيس والمرجعية في الكتابة القصصية بالمغرب) ودورة 94 حول (أسئلة الإبداع، أسئلة النقد).
كما عرفت هذه المرحلة إنجاز أبحاث جامعية حول هذا الجنس الأدبي مثل (الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث) لأحمد المديني، و (أنماط السرد الأدبي في القصة القصيرة المغربية، أحمد بوزفور نموذجا) لمحمد المصباحي، و(مقاربة سوسيونصية للقصة القصيرة بالمغرب) لخديجة مرواني.

ثالثا: الإنتاج الروائي.

إذا كانت القصة القصيرة في المغرب قد مرت بمراحل شبه منتظمة مابين النشوء والتطور وتوفرت لها تقاليدها الرؤيوية والكتابية شبه الكاملة، فإن الرواية على العكس من ذلك تظل جنسا أدبيا طري العود محدود المراس، غير خاضع لوثيرة منتظمة في تطوره ولا لسمات شكلانية في تجلياته، ويبدو من الأعمال الروائية الأولى أنها تفرعت عن الكتابة القصصية القصيرة وتولدت عنها لأننا نجد أن كثيرا من القصاصين المغاربة الأوائل هم أنفسهم من تلمس طريق الرواية على خطى السرد التاريخي مثل عبد العزبز بن عبد الله في (شقراء الريف)، وأحمد عبد السلام البقالي (رواد المجهول)، وتمثل فترة الستينيات بجاية ظهور الأعمال الروائية الأولى ممثلة في (الطفولة) لعبد المجيد بن جلون).
ولعل تأخر ظهور هذا الجنس الأدبي إلى هذا التاريخ يعود إلى التركيبة الإجتماعية التقليدية السائدة إضافة الى حاجته الى وقت طويل حتى تنفسح فيه رؤية الواقع وتتهيأ فيه أمكانيات احتذاء النماذج الروائية الأولى في الغرب والمشرق، إلى جانب سيطرة الشعر واستمرار حضور بعض الأنواع الأدبية النثرية التقليدية كأدب الرحلة مثل (الرحلة المراكشية) لأبن الموقت1932، و(الرحلة الثانية) للصبيحي1934، و(دليل الحاج والسياحة) لأحمد الهواري1935، وغيرها.
وقد سارت في اتجاهات كثيرة بعضها ذاتي مثل (الزاوية للتهامي الخياري) و(الغربة لعبد الله العروي) و(في الطفولة لعبد الكريم غلاب) التي يقدم فيها حصيلة ذكريات السجن والاعتقالات في فترة المقاومة الوطنية، و(جيل الظمأ لمحمد عزيز الحبابي) التي يمكن أن نستبدل فيها اسم البطل بالكاتب نفسه، و(الخبز الحافي لمحمد شكري) التي ترسم مرثية الجوع والصعلكة التي عاشها شكري بين تطوان وطنجة. وبعضها تاريخي مثل (وزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب) وبعضها توثيقي مثل (دفنا الماضي) التي قدم فيها عبد الكريم غلاب صورة كاملة للحقبة الاستعمارية من خلال الاوضاع المختلفة التي عاشتها أسرة والتطورات التي اعترتها. وبعضها قومي مثل (رفقة السلاح والقمر لمبارك ربيع) وبعضها واقعي مثل (الريح الشتوية) لنفس الكاتب والتي يخلط فيها العنف الاستعماري والترحيل القسري نحو المدن بتفاصيل البؤس والحرمان والنضال الوطني، وغيرها من الاتجاهات التي واصلت تطورها بشكل عشوائي غير خاضع لمنطق عضوي في جنس الكتابة الروائية.
ويقدر عدد الاعمال الروائية التي صدرت مابين 1947 و 1999 بحوالي 298 عمل روائي توزع صدورها حسب المراحل التالية.

مرحلة ماقبل الاستقلال. 1942-1955

وقد انحصر عدد الروايات الصادرة خلالها في 4 أعمال هي : الزاوية 1942 وسليل الثقلين 1950 للتهامي الوزاني، ورواية وزير غرناطة 1950 لعبد الهادي بوطالب 1955، ورواد المجهول لأحمد عبد السلام البقالي.

مرحلة الستينيات 1956-1969

صدر خلال هذه المرحلة 12 عملا روائيا وتمثل عتبة الانتقال الى الكتابة الروائية بمفهومها الاوربي ومن أبرز أعمال هذه المرحلة نجد (دفنا الماضي)، (جيل الضمأ)، (سبعة أبواب)، (في الطفولة)، و(إنها الحياة لاسماعيل البوعناني 1963) و(أمطار الرحمة لعبد الرحمان المريني1965) و(بوثقة الحياة لأحمد السباعي 1966).
ويرتبط التحول الكمي والكيفي الذي عرفه هذا الإنتاج الأدبي في هذه المرحلة بعدة شروط منها لقاء المغاربة المباشر بالنماذج الروائية المشرقية والغربية إلى جانب اسهام دور النشر والاسهامات النقدية الأولى على مستوى الجامعة أو الصحف أو المجلات.

مرحلة السبعينيات 1970-1979

بلغ عدد الأعمال الروائية الصادرة خلال هذه المرحلة 24 عملا روائيا ساهم فيها جيل الخمسينيات والستينيات الى جانب الجيل السبعيني مثل محمد زياد بروايته (بامو1974) وأحمد عبد السلام البقالي (الطوفان الأزرق 1976) و(أماندا وبعدها الموت 1978) ومحمد عزيز الحبابي وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع وأحمد البكري السباعي ومحمد زفزاف، روايات المرأة والوردة 72، وأرصفة الجدران 74، وقبور في الماء 78 والأفعى والبحر 79، وأحمد المديني في رواية زمن بين الولادة والحلم 76، وعبد الله العروي في الغربة 71 واليتيم 79، ورواية أبراج المدينة 78لمحمد عز الدين التازي وغيرهم.
وتتميز الكتابة الروائية في هذه المرحلة باختيارها مسلك التجريب كأفق للبحث عن هامش اختلافها وبالتحول النسبي الكمي وتحول شروط انتاجها ونشره وتلقيه.

مرحلة التمانينيات

بلغ عدد الاصدارات الروائية خلالها 73 عنوانا وهو تحول كمي بالمقارنة مع المراحل السابقة وقد ساهمت في هذا الانتاج كل الاجيال وخاصة جيل الفترة مثل، ياسين بوهوش (أيام من عدس 83) ومحمد الشركي (العشاء السفلي 85)، والحبيب الدائم ربي (المنعطف1987)، وعبد الله الحمدوشي (الحالم 87) (بيت الريح 88)، ومحمد شيكر (التجال 86) وعبد الفتاح الفاكهاني (البئر 84) ومحمد بوفتاس (الانهيار 86) وفنطازيا الحليم 89) وسعيد علوش (أملشيل 80)، ويوسف فاضل (الخنازير 83) وإدريس بلمليح (الوردة والبحر 85) و(القصبة 87)، وعبد القادر الشاوي (كان وأخواتها 86) و(دليل العنفوان 89)، وبعض القصاصين الذين انتقلوا من القصة الى الكتابة الروائية مثل خناثة بنونة (الغد والغضب 81) والميلودي شغموم (الضلع والجزيرة 80) و(الأبله والمنسية وياسمين 82) و(عين الفرس 88)، ومحمد الهرادي في روايته (أحلام بقرة 88)، وإدريس الصغير (الزمن المقيت 83) ومبارك الدريبي (طيور المساء 84) وغيرهم.
ويرتبط هذا التحول بالتطور الذي لحق بنية نشر الإنتاج الروائي، حيث وصل عدد مؤسسات النشر 27 مؤسسة أخرجت 40 عنوانا وكذا توسع هامش الممارسة النقدية الروائية سواء في إطار الجامعة أو خارجها حيث نوقشت في هذه الفترة مجموعة من الأطروحات الجامعية مثل، (الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي لحميد الحميداني)88، و(نص الرواية المغربية، مدخل الى سوسيولوجيا النص الأدبي لسعيد يقطين 88)، و(الفضاء الروائي في الرواية المغربية الحديثة لمحمد منيب البوريمي 87) وغيرها.

مرحلة التسعينات. 90-99

شكلت هذه المرحلة لحظة انعطاف على مستوى حجم وحضور الانتاج الروائي المغربي، حيث شهدت صدور 185 عمل روائي، وبرتبط هذا التميز بارتفاع عدد المنتجين الروائيين إلى 120، وذلك بفعل انتقال مجموعة من الشعراء والقصاصين والنقاد والباحثين إلى الكتابة الروائية مثل محمد السرغيني (وجدتك في هذا الأرخبيل 92)، ومحمد الأشعري (جنوب الروح 96) وعبد الله زريقة (المرأة ذات الحصانين 91) و(مقبرة السعادة 98)، وحسن نجمي (الحجاب 96) ومحمد البريني (المحاكمة)، وصلاح الوديع (العريس 98)، والعربي باطما مؤسس فرقة ناس الغيوان (الرحيل 95) و(الألم 98)، وفريد الأنصاري (كشف المحجوب 99)، ورشيد نيني (يوميات مهاجر سري 99)، ومحمد الدغمومي (بحر الظلمات 93)، وبشير القمري (سر البهلوان 97)، وزهور كرم (جسد ومدينة 96)، ورشيد اليحياوي (القاهرة الأخرى 99)، وبنسالم حميش (مجنون الحكم 90) و(محن الفتى زين شامة 93) و(سماسرة السراب 95) و(العلامة 97) و(بروطابوراس ياناس 98)، وأحمد التوفيق (جارات أبي موسى 97) و(شجيرة حناء وقمر 98) و(السل 99) ومحمد عابد الجابري (حفريات في الذاكرة 97)، وعبد الغني أبو العزم (الضريح الآخر 96)، ومولين العروسي (مدارج الليلة الموعودة 93) و(مدارج الليلة البيضاء 94)، وعبد الحي المودن (فراق في طنجة 96) وميلود حمدوشي (مجتمع الصدفة 91)، و(خفاش النهار 94)
و(دموع من ندم 99)، والمترجم محمد أسليم (بالعنف تتجدد الدماء 99)، ومحمد العروي (أوراق)، وغيرهم.
وإلى جانب هذا المتغير شهدت هذه المرحلة مزيدا من اشتغال الباحثين بالنقد الروائي سواء على مستوى الجامعة أو نشر الأدبيات النقدية، مثل (استراتيجيات التجريب في الرواية المغربية المعاصرة، لمحمد أمنصور 81) و(الخطاب الروائي المغربي، لعبد الرحمان غانمي 92)، و (الخطاب الروائي بالمغرب العربي لعبد الحميد عقار 96) و(بنية الشكل الروائي لحسن البحراوي 90) و(دينامية النص الروائي لأحمد اليابوري 93)، و(الرواية المغربية وأسئلة الحداثة لعبد القادر الشاوي) وغيرها.
فهذه الشروط بالاضافة إلى أخرى، فتحت بالتساوق مع اختبار الرواية المغربية لمستويات جديدة لمشروعها التجريبي والحداثي هوامش مغايرة لانشغالاتها الجمالية والتيماتية.

التأليف المسرحي.

المسرح من الفنون المستحدثة في المغرب مثل القصة والرواية، وإن كان الأستاذ حسن المنيعي صاحب أول بحث رائد حول المسرح المغربي يرى في بعض الممارسات التمثيلية التي كانت معروفة عند المغاربة قديما أشكالا مسرحية تنطوي على ارهاصات درامية مثل "الحلقة" و"البساط" و"عبيدات الرمى" و"تغنجة" ثم "سلطان الطلبة"، وإن كانت هذه الأشكال التمثيلية التقليدية لا تحترم قواعد المسرح.
ويرتبط ظهوره في المغرب ببداية القرن العشرين بحكم تأثر المغاربة ببعض المسرحيات الوافدة من المشرق وأوربا، إلى جانب تاسيس بعض المسارح مثل مسرح سرفانتيس والكازارا بطنجة سنة 1913 والمسرح البلدي بالدار البيضاء سنة 1920 فتكونت على امتداد سنوات العشرين والثلاثين عدة فرق مسرحية منها "جوق التمثيل الفاسي" سنة 1923 والذي كانت تشرف عليه جمعية قدماء ثانوية المولى ادريس بفاس، و"فرقة التمثيل العربي" بالرباط و"جوق السعي والفضيلة بالرباط، وجوق التمثيل في سلا سنة 1927، وجمعية الهلال في طنجة سنة 1925 وغيرها، ومن الأعمال التي قدمت في هذه المرحلة (الرشد بعد الغي) لمحمد بن الشيخ التي قدمها جوق التمثيل الفاسي، و(اليتيم المهمل) لمحمد القري، و(المكر والخداع) لعبد الواحد الشاوي، و(الفضيلة) لعبد الله الجراري التي قدمها جوق السعي بالرباط، وغيرها من الأعمال المسرحية التي طغت عليها الصبغة التاريخية والاجتماعية والتوجيهية التربوية. ثم عرف المسرح ركودا أيام الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يلبث أن تحرك أواخر سنوات الاربعين وبداية الخمسين، فعاد الى نشاطه وتكونت فرق كثيرة في الرباط وفاس والدار البيضاء ثم بعد الاستقلال ظهر مسرح الهواة والمسرح الاحترافي لكنه ظل خلال تاريخه الطويل يشكو أكثر من النص ويدور في فلك الترجمة والاقتباس. وقد تم حصر عدد الأعمال المسرحية إلى حدود سنوات التسعين في 89 مسرحية. وفي السنوات الاخيرة ساهم المجال التداولي في تحقيق التحول الكمي والكيفي الذي عرفه هذا الفن في هذه المرحلة حيث انتقل الوعي المسرحي من الخطاب التنظيري القائم على البيانات إلى طرح الاسئلة النقدية العميقة

"حشرة اللامنتهى" قصائد عن الموت والفراغ . عبد الله زريقة منتقلاً من الهم الطبقي إلى القسوة
تفاصيل النشر:

المصدر: الحياة

الكاتب: نبيل منصر

تاريخ النشر(م): 2/12/2006

تاريخ النشر (هـ): 11/11/1427

منشأ: الرباط

رقم العدد: 15947

الباب/ الصفحة: 16 - آداب وفنون

عبدالله زريقة صوت غريب في الشعر المغربي المعاصر. انحداره من جيل السبعينات ومن الحي الهامشي في مدينة الدار البيضاء حي بنمسيك حمَّله هماً طبقياً مبكراً وجعل شعره يسكن، في البداية، تلك المنطقة الساخنة الآهلة بأصوات المكدودين وأحلام الثورة الموعودة. ولعل النبرة الحادة التي وسمت أعماله الأولى، بدءاً من"رقصة الرأس والوردة"1977 هي التي دفعت الشاعر عبد اللطيف اللعبي إلى ترجمة نصوصه إلى الفرنسية، لتنعقد بذلك بين الشاعرين صداقة لم تزدها سنوات الاعتقال السياسي، ثم الرياح الثقافية التي هبت على مغرب الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي إلا رسوخاً. وشيئاً فشيئاً عثرت أعمال الشاعر في واقع"انجلاء الأوهام"على ما يحول مصدر التجربة ومسارها في اتجاه الداخل، الذي يفرغ الشعر من وظيفته البرانية، ويصله بأفق ميتافيزيقي بلا قرار. وهو الأفق الذي لامسه الشاعر في"تفاحة المثلث"، 1988 العمل الذي دشن مغربياً المزاوجة بين الشعر والتشكيل، من خلال التفاعل مع التجربة التصويرية للفنان المغربي عباس صلادي 1950-1992، وهي التجربة التي يجمعها بعبدالله زريقة ذلك الانحدار في مهاوي الرعب والسقوط والتآكل.

ومع صدور أعمال أخرى للشاعر مثل"فراشات سوداء"1988 وپ"فراغات مرقَّعة بخيط شمس"1995 توسعت أكثر المهاوي الميتافيزيقية في الشعر المغربي المعاصر، وكان عبدالله زريقة صاحب نغمة خاصة هي أقرب ما تكون الى نغمة الاشمئزاز الدادائية أو السريالية مع ظلال من العبث وهبات من رياح الموت. وجاء الإصدار الجديد للشاعر"حشرة اللامنتهى"ليكرس تجربة وجدت في قصيدة النثر ذلك الشكل الخاص القادر على صوغ التوتر، في الوعي والحساسية، ضمن جمالية شعرية مضادة للغنائية التقليدية.

في"حشرة اللامنتهى"يُضاف إذاً درج آخر الى"سلالم الميتافيزيقا"الديوان ما قبل الأخير التي صار الشاعر ينظر عبرها الى الواقع. وفي التناقض بين احتمال دلالة"الحشرة"على كائن متناهي الصغر ودلالة"اللامنتهى"على قيمة معنوية مطلقة، ترتسم في ذهن المتلقي ملامح المتخيل الشعري في هذا العمل الذي يقيم في منطقة التوتر بين الأشياء الصغيرة والنافلة والأشياء اللامتناهية الامتداد. ومن داخل هذه المنطقة تطارد الذات الشاعرة"خضرة ذهب الظلمة"وپ"جنازة رمان الثلج"باحثة عن ذلك"العراء الذي تستريح فيه نملة الكون". وهذه الاستعارات هي عناوين دالة لثلاث قصائد تكشف عن مزاج النصوص الاحدى عشرة المشكلة متن المجموعة، وتكشف أيضاً عن ولع خاص باقتناص الصور الشعرية الغريبة والصادمة. ولا تفوتنا الظلال العبثية المنبعثة من صورة العنوان، فكلمة"الحشرة"تذكرنا بحشرة كافكا، وعندما تسند هذه الكلمة الى دال"اللامنتهى"يأخذ العبث أبعاد طاقة رحمية تولّد مجازات التجربة ومتخيلها الشعري.

بدايات نصوص عبد الله زريقة توحي غالباً بأنها استئناف لكلام سابق، كما أن نهاياتها تمنحنا الانطباع بتوقف موقت يخلو من صرامة النهاية أو الكلمة الأخيرة في معجم القصيدة. وهذه المفارقة في البناء تكشف عن لا جدوى الكلام الشعري وعن حيويته في آن واحد. وبين الحاجة الى الكلام والضجر منه تمتد يد راتقة خفية لتبني مجازات القصيدة بكثير من العفوية والمكر. فالبحث المهووس الذي تكشف عنه الذات الشاعرة في مجال تشكيل الصورة، يقابله إهمال ماكر على مستوى البناء. لذلك لا تحتاج اليد الراتقة إلا لحرف الواو الذي يربط بين الجمل في شكل يبعث على الرتابة ويُشعر باللاجدوى والعبث. وهذا البناء المفارق يجعل بنية التجاور أداة البناء المهيمنة، التي تجعل فعل الرتق مفجراً لشعرية تراهن على جماليات المجاورة والتراكم، أكثر من رهانها على جماليات العضوية، التي دافعت عنها القصيدة العربية المعاصرة.

تتناول قصائد"حشرة اللامنتهى"موضوعات الكتابة والموت والفراغ. وهي موضوعات شكلت هاجساً رافق دائماً الشعر والشعراء، لكنها تتجه، في تجربة عبد الله زريقة، نحو أن تكون موصولة بحساسية شعرية خاصة، تجمع بين تلوينات العبث والقسوة والاشمئزاز واللاجدوى، كأفعال سلبية تسم فاعلية الذات في هذه اللحظة من تجربتها في العالم. لذلك فهي تجد العالم شبيهاً بـپ"الثلاجة"، عندما تفتحه لا تجد"سوى رائحة البياض المتعفن بالثلج"ص 11، كما تجده رديفاً للتيه والسقوط والعماء، لذلك تتساءل"وأين أروح/ والمرآة تقود إلى العمى/ والظل إلى الشيطان/ والصحراء إلى الكتابة"، وتضيف"وكل ما في الورقة كلمة بدون لحم/ دمعة بدون ملح/ وبياض يهرب منه حتى الموتى"ص 16/17. ويلاحظ أن البياض يأتي دائماً عند زريقة مقروناً بإيحاءات جنائزية، ونادراً ما يأخذ الموت عنده ألواناً أخرى، إذا استثنينا هذه الصورة المشعة بغرابتها"فالموت ليس إلا زمردة خضراء في ظلمة قبر أزرق"ص37. إن هذه الصور وسواها، التي تتناسل أمام أعيننا بغزارة، مشكلة،

.......................



ثريا الحضرواي : فيلسوفة في قفطان الملحون

من يشاهد الفنانة المتألقة في غناء طرب الملحون، السيدة ثريا الحضرواي، بعد عشرات السنين، وهي تغني أو تجري حوارا مباشرا بإحدى الفضائيات المغربية، يلاحظ على ملامح وجهها نوعا من التغييرات، حكم الزمان على المرأة، ولكنه لا يملك إلا أن ينبهر أمام صوتها الجميل، متأملا أفكارها العميقة، وروحها المرحة التي تنتزع البسمة في أقصى حالات التركيز.

فعندما يسألها محاورها على الهواء مباشرة: هل ستغني لنا الشمعة؟ تجيبه بكل تلقائية، أو بحنكة صحفية متمرسة، والبسمة تعلو محياها:"الشمعة لا تحب أضواء الأستوديو". فيبتسم بدوره وينطلق لسؤال آخر. تلك هي الثريا، وما أدراك ما الثريا، مند أن كانتكوكبا يسطع بين دفتي دواوين الزوج الشاعر عبد الله زريقة. لقد خرجت ثريا إلى الوجود سنة 1957 بمدينة الدار البيضاء، داخل أسرة يسيل في عروقها دم سماعلة وادي زم، المعطر بالنضال والكفاح ضد الاستبداد. وعلى الرغم من أنها تغنت بصوتها الجميل لكوكب الشرق أم كلثوم، وهي في سن الثامنة من عمرها، فما زالت لا تصدق بأن العالم العربي أنجب موهبة اسمها سيدة الطرب العربي.

بعد سنوات، سيصدح صوت ثريا الطالبة الملتزمة بقصائد الشيخ إمام في رحاب الجامعة. وخلال تلك المرحلة، كانت شخصيتها المتمردة قد استعصت على التدجين، ورسمت الحد الفاصل مع منافذ التلفزة المغربية المؤدية إلى الشهرة. وعلى حين غرة، سيتعطل الصوت عن شذى الألحان وتنشغل الفنانة عن الغناء بتدريس الفلسفة بالدارالبيضاء، لمدة سنتين، وبعدها ستلمع الثريا من جديد في عالم الصحافة من خلال الإشراف على مجلة "كلمة"، غير تابعة كانت، فخنقتها يد إدريس البصري سنة 1988.

كانت ثريا الحضراوي على الدوام مغرمة بمدينة الدار البيضاء، وذات يوم أغرمت بالكسكس، المسكى بالحليب، كما تطبخه والدتي في البادية، ولم يكن لدي علم وقتها بأنها غير واحدة من الوجبات التي تعلمتها الوالدة عن لالة خدوج بنت الحاج حمو، قائد أولاد حريز الذي أشعل انتفاضة الدار البيضاء سنة 1908... وها هي ثريا الحضراوي صاحبة الدوق الرفيع، تعود للغناء والأصالة، لتبدع في فن الملحون، فتغني وتتفلسف، وتتفلسف وتغني. ولم لا وفي عقلها يتجول ابن رشد، وبداخل قلبها يرقص الجفن، و لآلة غيثه، والشمعة، وزين الصورة....
وإلى الأزل سيبقى نور هدا الكوكب العجيب يضيء "مقبرة السعادة"، حيث شموع سوداء، والشاعر
عبد الله زريقة، يقول عن وجعه الجميل، في صمته الناطق:
"وكدبابة شمعة، أطفئ صوتي في. وكممحاة أمحو وجهي، بوجهي".

برشيد في 23 ماي 2011
طهير الجيلالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق