دركي من حراس معتقل تزمامارت يحكي فظاعة ما عاشه وشاهده
معتقل الرعب في تازمامارت
دركي من حراس الـمعتقل يحكي فظاعة ما عاشه وشاهده في تزمامارت
عادل تشيكيطو
تزمامارت الجرح الغائر في الزمن المغربي... الجرج الذي تراكمت فيه كل تجليات القسوة والألم والموت الفظيع.. إنه الجحيم.. الموت المؤلم.. الحقيقة الأبشع من أي وصف أو تسمية. تزمامارت المأساة الجارحة التي عاش أطراف حقيقتها رجال فقدت ملامح رجولتهم ... أضاعوا كل مايمت لهم بصلة البشر... تزمامارت الإسم المشؤوم والشبح الذي أرعَب السادة وضم في عمقه أسرار انقلابات كان فيها المهاجمون ضحايا مؤامرة دنيئة.. هذا المسمى تزمامارت الذي أسقط مملكة الكلام وأجمع سيرتها في صور.. عبرات المعذبين فيه أبيضت في المدى ولونت بتعب القهر.. تزمامرت.. الصرخة الجائعة التي طاردت ذاكرة مغاربة القرن العشرين.. كانت قلوبهم في يديه ولا طريق تحملهم إليه.. يرعبهم ويفجر رؤوس القابعين في زنازن الشؤم والخوف. وجوههم أصبحت بلا ملامح وحواسهم أتعبها انتظار الموت الذي يأتي ببطء بعدما يفسح المجال للسنوات من العذاب والمرارة والألم .إنهم المدمرون عنوة تحت ركام الخزي والعار ... معتقلو تازمامارت .
في سنة 1981 التحق بالمعتقل الرهيب تازمامارت بعدما كان نزلاؤه جلهم عسكريون ثلاثة من المدنيين يتعلق الأمر بالأخوة بوريكات اختطفوا في بداية السبعينيات واحتجزوا بدون محاكمة في معتقل درب مولاي الشريف في الدار البيضاء لسنوات ثم معتقل الكومبليكس ليتم ترحيلهم في بداية الثمانينيات إلى تزمامارت لينالوا حظهم من جحيمه وبقي سبب اختطافهم سرا ملتبسا وكل ما يعرف عنهم أنهم كانوا مقربين من الراحل الحسن الثاني .الذي قيل إن أباهم كان هو المسؤول عن الاستعلامات بالقصر الملكي وأن هناك خطأ فادحاً ورطه في أحد الإنقلابات وهو ما عرضه إلى القتل ودفع بأبنائه إلى الزج بهم في جحيم تازمامارت . وقبل ذلك بسنتين جيء بمجموعة من الجنود الأفارقة تضاربت الأخبار بشأنهم أنهم من متمردي الكونغو. كان اسم تزمامارت بالنسبة للمغاربة في عقدي السبعينيات والثمانينيات شبحا مخيفا يوجد في مكان ما لا يعرفه أحد فيه تختبر أقصى درجات القسوة والحقد والألم كان الإسم كافيا لنشر الرعب والترهيب. فقد فرضت على سجنائه الحراسة المشددة وتم عزلهم عن العالم الخارجي , و البعض منهم استسلم لبؤسه والبعض الآخر ظل يقاوم. ومن حسن حظهم أن بعضهم نجح في كسب تعاطف بعض الحراس الذين أصبحوا ينقلون بسرية تامة رسائلهم إلى عائلاتهم وإدخال الأدوية وبعض المواد المقوية للمعتقلين الذين كانوا يقاسون الموت الحتمي , فسمح ذلك بالإبقاء على مجموعة قليلة منهم على قيد الحياة , وكانت فرصة أيضا لخروج أخبار عن معتقل تزمامارت والظروف اللاإنسانية التي وضع فيها السجناء كما كان من حسن حظ المعتقلين أيضا أن أحد رفاقهم القبطان الطويل ربان الطائرة الذي تحدث عن دوره محمد الرايس كان متزوجا بسيدة تحمل جنسية أمريكية , عندما توصلت برسائل زوجها التي تتحدث عن ظروف اعتقاله وفظاعاتها توجهت إلى الكونجرس الأمريكي وطلبت من لجنة حقوق الإنسان به التدخل العاجل لدى السلطات المغربية للإفراج عن زوجها وباقي المعتقلين بتزمامارت وكانت النتيجة من ذلك أن حظي القبطان الطويل بمعاملة جيدة دون إطلاق سراحه فتحسنت تغذيته وأصبح يغتسل يوميا ويخرج إلى ساحة المعتقل بفضل تدخل زوجته الأمريكية ومع ذلك ظل ينتظر قرار الإفراج لسنوات طويلة لكن دون جدوى وكان الطويل أول من اكتشف بأن المكان الذي يوجد فيه المعتقل قرب منطقة الريش والراشيدية بعدما عدّ الوقت الذي طارت فيه الطائرة من مطار القاعدة الجوية بالقنيطرة وتأكد له ذلك خصوصا عندا مرت الشاحنات بأحد الأنفاق الجبلية الوحيد التي وجدت بالمغرب . وفي نهاية الثمانينيات وجدت الرسائل التي يبعثها المعتقلون سرا إلى عائلاتهم طريقها إلى الصحافة الدولية حين نشرت في عدة جرائد ذات الصيت العالمي , وبث مضمونها على أمواج إذاعات في فرنسا وإنجلترا وهولندا وبلجيكا واسبانيا , ولم يعد تزمامارت سرا تحتكره أجهزة تابعة للدولة وإنما فضيحة دولية مست بسمعة المغرب وأصبح على الدولة معالجتها في بداية 1989انتقلت الجرافات إلى ساحة المعتقل وأخذت في حفر مستطيل كبير وأيقن المعتقلون أن الأمر يتعلق بإعدام معالم هذه الفضيحة , في هذه الأثناء عاودت السيدة نانسي زوجة المعتقل الطويل مساعيها لدى الكونجرس الأمريكي وطالبت بلجنة تحقيق في الظروف اللاإنسانية لمعتقلي تزمامارت , فتوقف الحفر في ساحة السجن. بعد ذلك تقدمت منظمة العفو الدولية بتقرير حول هذا المعتقل السري هز المجتمع الدولي وقادت زوجة المعارض المغربي أبراهام السرفاتي السيدة كريستين السرفاتي حملة دولية في بلدان أوروبا لفائدة هؤلاء المعتقلين وصعدت الحركات الحقوقية في المغرب مطالبتها بالإفراج الفوري عن كل المعتقلين والمختطفين وضمنهم ضحايا تزمامارت وكذلك بالنسبة للقوى السياسية الديمقراطية . وكان أن أجاب وزير الداخلية أنذاك إدريس البصري سنة 1990 عن سؤال في البرلمان أن تازمامارت لاتوجد إلا في مخيلة البعض. و بعد 18 سنة من الصمت الرهيب إلى الفضح الدولي لم يعد أمام النظام المغربي سوى الرضوخ لمطالب هذه الحركة وحل هذا المشكل بأكثر السبل فعالية وفي 15 سبتمبر 1991 فتحت أبواب الزنان المظلمة و لم يكن عدد الناجين من الموت يتعدى 28 معتقلا نزعت منهم ملابسهم الرثة وكل الأشياء التي تدل على هذه التراجيديا وأحرقت أمامهم ومنحوا بدلا عسكرية نظيفة وأحذية رياضية وعصبت أعينهم مرة أخرى بالعصابات الحمراء كان أغلبهم في وضعية متدهورة حملوا على شاحنات عسكرية ونقلوا إلى المستشفى لتلقي العلاجات والخضوع إلى العناية المركزة لمحو آثار 18 سنة من الموت البطيء بتزمامارت. وعندما تحسنت حالتهم أعلن رسميا عن الإفراج عنهم .
عبد
الرحمان دركي متقاعد سابق التقيناه صدفة وأبدى اهتمامه بالموضوع وأبحر معي
في رحلة ممتطيا صهوة الذكريات المؤلمة . كان عبد الرحمن واحداً من أولئك
السجانين الذين أمضوا فترة قليلة جداً بهذا المعتقل الرهيب وبعد إلحاح منا
وتعهدنا بعدم ذكر إسمه أو شيء من هويته حكى لنا بعض من تفاصيل القهر التي
وقف عليها لمدة لم تتعد 24 ساعة. ..في أحد أيام ربيع 1977 كلفنا بمهمة كنا
نجهلها من الدار البيضاء إلى الراشيدية وبعد وصولنا إلى هذه المدينة وجدنا
في استقبالنا أحد المسؤولين الجهويين بالدرك سبقنا في سيارة جيب حيث توجهنا
إلى مدينة الريش التي تبعد عن الراشيدية تقريبا ب 80 كلم وعند خروجنا منها
ووصولنا إلى منعرج الطريق المؤدية إلى كرامة مررنا بجبل عيون مولاي هاشم
ثم حامات مولاي علي الشريف وغار زعبل ثم قرية قصر أيت عثمان الواقعة عند
منحدر جبل الزفت الذي يوجد في قمته رادار الأجواء المغربية الذي كان يشرف
عليه الكولونيل رحوم . والذي يقرب من عين الشعير البعيدة عن الحدود
الجزائرية بما يقارب 200 كلم وفي هذه المنطقة ثبتت قواعد ثكنة تازمامارت
القريبة من قرية قصر تازمامارت.. ولجنا الثكنة التي سبقنا إليها القائد
الجهوي عبر بابين كبيرين وجدنا في استقبالنا مدير الثكنةمعتقل تازمامارت
وكانت تبدو على وجهه الشاحب علامات الإرهاق.. على عجل قال لنا إننا هنا من
أجل حراسة مجموعة من أعداء الوطن الذين أرادوا أن يغرقوا البلاد في الفوضى
وعلينا أن لانرحمهم.. إلى حدود ذلك الوقت لم نكن نعرف مهمتنا بالضبط. وجهنا
نحن ثمانية دركيين نحو مراكز مختلفة.. حاولت في الوهلة الأولى أن أكتشف
المكان لكن تسلسل الأحداث وازدحامها والوقت المسائي الذي وصلنا فيه لم يدع
لي فرصة التعرف على المكان. أمضينا الليلة ننفض عن جسدنا التعب. وكان ذلك
الليل فرصة لأجالس دركي وعسكري وأسألهما عن المكان ومايوجد فيه من أجل أن
أشبع فضولي.. كان أول ما أخبروني به هو صرامة مدير السجن صهر الجنرال
الدليمي كان قبطانا شارك في حرب الصين والجولان وتجند في صفوف الجيش
الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية ثم قالوا لي إن المجموعة المكفول لها
حراسة هذا المعتقل هي المجموعة الثانية للمدرعات... بدأ الرعب يدبُّ في
شراييني بعدما سمعته من جلسائي من وقائع مرعبة في تلك الليلة التي لن
أنساها أبداً.. ولكي يقتلوا في الشجاعة التي مافتئت أن تظاهرت بها أمامهم
أخبروني عن الجن والحمق والموت والعقارب والأفاعي التي تقتل هؤلاء
المعتقلين في كل حين.. وفي الغد في الساعة السادسة صباحاً كانت أول مهمة
وآخرها تم تكليفي بها إلى جانب مجموعة من السجانين هي دفن جثة أكل الدود
نصفها وشوه القيح والقرف وجهها.. دخلنا إلى زنزانة .. أصبت بالدوارٍ والقيء
لما شممت الرائحة المنبعثة منها سخر مني السجانون الآخرون من بينهم دركي
قال لي بالحرف كلنا كنّا هكذا اليوم الأول.. طلبوا مني أن أبقى خارج
الزنزانة حتى أخرجوا الجثة المتلاشية وأخذوها في غطاء كله ثقب وحالته يندى
لها الجبين.. تساءلت مع نفسي هل سأعيش هذا السيناريو يوميا.. وعند وقوفي
أمام الحفرة التي ستطمر فيها الجثة طلب مني المدير أن أساعد الآخرين في
حملها اقتربت لأنفذ الأوامر ولم أتمالك نفسي وأنا أبصر الدود يأكل من لحم
الجثة دون أن يكثرت لما نفعله بها فانهرت مغمى عليّ.. وحملت إلى مصحة صغيرة
مجانبة لمكتب المدير بعدما رش الماء على وجهي أفقت وقد بصرت عيناي وجها
مشحونا بالغضب كان لمدير المعتقل الذي انهال علي بالسب وقال لي إن مكاني
ليس في الدرك أو مع العسكر وإنما في المطبخ مع النساء.. وزاد وفي نبرته
شحنة الوعيد والتهديد وقال لو لم تكن من عائلة القبطان فلان لدفنتك في مكان
تلك الجثة وطلب مني أن أجمع أغراضي.. وفي الثانية زوالا حضر أحد المسؤولين
بسرية الراشيدية وأرسلني معه بعدما هددني أنه إذا ما أخبرت أحداً بما رأيت
فإنني لامحالة سأتعرض لما شاهدته وسمعت عنه من جحيم تازمامارت.. وطلب مني
أن أبلغ سلامي إلى زوج عمتي القبطان... كانت هذه هي قصتي مع تازمامارت..
استمعنا باهتمام إلى قصة هذا الدركي ولأننا لانملك الدليل على صحة ما
أخبرنا به فإنه يكفينا التعليق على أن هذه الوقائع تنسجم مع بعض من فظاعة
تزمامارت القاتلة
......................
حينما قادت مراحيض تازمامارت إلى الجنون والـموت
معتقل الرعب في تازمامارت
محمد الرايس يتحدث عن الـمأساة
حينما قادت مراحيض تازمامارت إلى الجنون والـموت
محمد الرايس يتحدث عن الـمأساة
حينما قادت مراحيض تازمامارت إلى الجنون والـموت
عادل تشيكيطو
تزمامارت
الجرح الغائر في الزمن المغربي... الجرج الذي تراكمت فيه كل تجليات القسوة
والألم والموت الفظيع.. إنه الجحيم.. الموت المؤلم.. الحقيقة الأبشع من أي
وصف أو تسمية. تزمامارت المأساة الجارحة التي عاش أطراف حقيقتها رجال فقدت
ملامح رجولتهم ... أضاعوا كل مايمت لهم بصلة البشر... تزمامارت الإسم
المشؤوم والشبح الذي أرعَب السادة وضم في عمقه أسرار انقلابات كان فيها
المهاجمون ضحايا مؤامرة دنيئة.. هذا المسمى تزمامارت الذي أسقط مملكة
الكلام وأجمع سيرتها في صور.. عبرات المعذبين فيه أبيضت في المدى ولونت
بتعب القهر.. تزمامرت.. الصرخة الجائعة التي طاردت ذاكرة مغاربة القرن
العشرين.. كانت قلوبهم في يديه ولا طريق تحملهم إليه.. يرعبهم ويفجر رؤوس
القابعين في زنازن الشؤم والخوف. كانت الأحداث التي طبعت أجندة الصراع على
السلطة بالمغرب من بين ما تسبب في جعل النظام المغربي يعيش حالة من التوتر.
وهو كذلك ما دفع مجموعة من حاملي السلاح إلى الطمع في اعتلاء كرسي السلطة
ليحاولوا من خلال عملياتهم الإنقلابية زعزعة النظام العام المغربي .ففي
فترة وجيزة لم تتجاوز السنتين قام العسكر المغربي بعمليتين انقلابيتين
أرادوا من خلالها أن يدخلوا المغرب ضمن قائمة الدول التي أحكمت قبضة الجيش
عنقها وتحكم في مصيرها .وقد كانت العملية الأولى يوم 10 يوليوز1971 التي
حاول القيام بها كل من الجنرال المدبوح والكولونيل اعبابو عن طريق
الإستعانة بطلبة المدرسة العسكرية هرمومو والمدرسين الضباط وضباط الصف
بعدما أقنعهم الكولونيل اعبابو أن العملية العسكرية التي سيقومون بها هي من
أجل إنقاذ الملك، وقد فشلت العملية وتم إعدام قوادها والحكم على المشاركين
فيها بسنوات معدودة من السجن لتليها بعد ذلك العملية الإنقلابية التي
نفذها الجنرال أوفقير الساعد الأيمن للملك حينها في 16 غشت1972 ، بمعية
الجنرال أمقران واتمويرة الذين قادوا هجوما على الطائرة التي كانت تقل
الراحل الحسن الثاني، قصد الإطاحة به، وفشلت المحاولة الانقلابية الثانية
وقتل أوفقير في ظروف ملتبسة وأعدم باقي الجنرالات الذين قادوا هذه العملية،
وفي مقدمتهم أوفقير وأمقران، وحوكم باقي الضباط وضباط الصف والجنود
العاديين الذين شاركوا فيها وألحقوا بمعتقلي انقلاب الصخيرات بالسجن
المركزي بالقنيطرة .عندما وقعت المحاولة الانقلابية الثانية التي استهدفت
الطائرة الملكية 1972 راجت أخبار بسجن القنيطرة أن معتقلي انقلاب الصخيرات
سينقلون إلى فيلا صغيرة تسمي تازمامارت، ولم يكن أحدا منهم يتخيل أن يكون
هذا المكان المشؤوم بدرجة القسوة التي تنتظرهم نسي المعتقلون هذه الشائعة
وعاشوا حياتهم العادية في السجن المركزي طيلة سنة1972 ، ونصف1973 ، في تلك
الأثناء وقعت أحداث أخرى في المغرب في جنوبه وشماله من حالات التمرد
والثورات . مما جعل أجهزة القمع في المغرب تبادر إلى اختطاف كل المعتقلين
والهروب بهم نحو جحيم تازمامارت . فقد تم اقتيادهم ليلا نحو القاعدة الجوية
العسكرية بالقنيطرة والتحليق بهم إلى مطار مدينة الراشيدية شرق المغرب.
واقتيد المختطفون 58شخصا عبر الشاحنات إلى معتقل تزمامارت القريب من الحدود
المغربية الجزائرية . كان الاستقبال الأول قاسيا , حيث خضع كل المعتقلين
لتفتيش دقيق وجردوا من أبسط الأشياء التي كانت بحوزتهم كالنظارات والسبحة
والقرآن , ثم وزعوا على إقاماتهم الجديدة التي كانت زنازن جد ضيقة لا
يتجاوز طولها مترين وعرضها متر ونصف المتر بلا نوافذ ولا ضوء ولا هواء نقي ,
كانت شديدة الظلمة إلى الحد الذي لزمهم فيه وقت طويل لتلمس زواياها التي
ظلت شيئا مجهولا بالنسبة لهم لمدة طويلة . كانت الشمس شيئا يسمع عنه ولا
يرى , والضوء ذكرى زمن جميل ولى، لم يكن أمامهم سوى الاستسلام لعتمة أبدية
مات فيها الكثيرون وجن الآخرون واهترأت عظام الباقي , لحسن حظهم أن أصواتهم
لم تجف فكانت وسيلتهم الوحيدة في التواصل بينهم . لم تكن الظلمة الدائمة
هي المؤشر الوحيد على فظاعة هذا المعتقل السري، فالزنازن كانت إضافة إلى
كونها أقرب إلى قبور مظلمة لدفن هؤلاء الأحياء، أشبه بحظائر الحيوانات،
روائح نتنة تفوح منها امتزجت بروائح المراحيض التي لا تنظف بسبب قلة المياه
وروائح أجساد حرمت لسنوات طويلة 18سنة، من النظافة والاغتسال والعلاج ,
فتقرحت جراحها وتقيحت وتعفنت أطرافها، وأصبحت عبارة عن مركب من العاهات
والأمراض التي لم تكن تجد أبسط دواء لعلاجها . كما سدت ميازيب المراحيض
بسبب ندرة المياه , فنجم عن ذلك فيضان المياه القذرة، وغرقت فيه الزنازن،
وفاحت الرائحة النتنة في أنحاء السجن كله , وانتشر الذباب والناموس
والحشرات من كل لون , وأصيب العديد من المعتقلين بالسجن بالسل . محنة
المراحيض كان لها طعم مأساوي قاد إلى جنون بعض السجناء وأودى بحياة البعض
الآخر . لقد كان الموت حقيقة جارية محتومة لكل النزلاء في تزمامارت ،حيث
أقبرت فيه أرواح مجموعة من الشبان لمدة تزيد على 18 سنة كانت كلها عذابات
مؤرقة . وتمثل حالة لاجودان العيدي الذي وافته المنية في عشرين فبراير
1978، والتي ذكرها الكاتب المغربي عبد الصمد الكباص ضمن مقال له نشر بإحدى
الصحف العربية بعنوان سنوات العــذاب في جحيم تزمامارت، واحدة من هذه
المآسي فقد حكم عليه بثلاث سنوات سجنا في قضية الطائرة الملكية , وكان من
المفروض أن يغادر السجن بعد إنهائه العقوبة سنة 1975، ولكن أبقي عليه
محتجزا بتزمامارت و بدأت مأساته حسب ما يحكيه رفاقه الناجون من هذا الجحيم ,
عندما سدت مواسير المرحاض، و حدّث العيدي حارس السجن , ففزعه هذا الأخير
قبل أن يمنحه إبريق ماء إضافي لكن ذلك لم ينفع في شيء . وطلب منهم سلكا
حديديا لانتشال ما علق بالمواسير وظل يحاول أزيد من أسبوع بدون نتيجة ,
كانت الروائح الكريهة تملأ الزنزانة وتثير غثيان الحراس يضيف عبد الصمد
الكباص كلما فتحوا بابها , وفاض الماء الوسخ وعام في أرضية الزنزانة التي
تحولت إلى حوض ماء يسبح فيه الغائط , وامتد إلى الممر .. وكلما كان يقضي
حاجته كان مستوى الماء والبراز يزداد ، إلى أن تعذر عليه العيش في الزنزانة
التي التصق الغائط بجنباتها . وضع العيدي ثوبا على أنفه حتى لا تزكمه
الروائح القاتلة , لكن العفن مس كل شيء , يديه وأدواته والبلاط .. توسل
للحراس باستبدال زنزانته .. لكنهم رفضوا في لا مبالاة , فحرم نفسه من الأكل
حتى لا يرتاد المرحاض , ولم يكف عن الاحتجاج إلى أن بدأ يسعل وأصابه المرض
. لم يسعفه أحد كما جرت العادة الرهيبة بتزمامارت . بقي يسعل ويبصق الدم
دون اكتراث الحراس , وتيقن العيدي بإصابته بداء السل فتسلل إليه الجنون
شيئا فشيئا وأخذ يصيح ويصرخ ويبكي إلى أن انهار نهائيا ودمره المرض وتلاشى
ومات . ويؤكد الكباص أن وفاة العيادي لم تكن الحالة الوحيدة التي عرفها
معتقل تزمامارت. فقد هلك فيه وفي ظل نفس الشروط ثلاثون من العسكريين ، منهم
من قضى بسبب الجنون أو الهزال والأمراض المختلفة التي كانت تصيبهم، إضافة
إلى حالات أخرى في صفوف مختطفين آخرين كالجنود الأفارقة الذين رحلوا إليه
سنة 1978،وحالة الرجل الذي كان يشتغل ككهربائي بالقصر فاختطف وأودع
بتزمامارت بدون محاكمة ولأسباب غير معروفة وبقي فيه إلى أن هلك متعفنا في
أمراضه , وكان كل من يموت يدفن في ساحة المعتقل ملفوفا في غطائه القذر . مع
مرور السنين أصبح قلة من نزلاء تزمامارت هم الذين يستطيعون المشي على
أقدامهم , أما أغلبهم فقد صاروا يزحفون على بطونهم بعد ما شلت أطرافهم أو
يسيرون كحيوانات على أربعة قوائم بسبب سوء أحوالهم .. وكثير من المعتقلين
بلغ بهم الضعف إلى الحد الذي لم يعودوا قادرين على الوقوف لقضاء حاجتهم
فأصبحوا يتبولون ويتغوطون في أماكنهم . جحيم تزمامارت حول نزلائه إلى هياكل
عظمية بأعين غائرة وشعر كثيف كإنسان الكهف . إذ ليس لهم الحق في الاغتسال .
وجوههم أصبحت بلا ملامح وحواسهم أتعبها انتظار الموت الذي يأتي ببطء بعدما
يفسح المجال لسنوات من العذاب والمرارة والألم
عن
هذا الوضع المحرج اللإنساني لهؤلاء المعتقلين يحكي محمد الرايس في مذكراته
التي كتبها ولقيت اقبالا مشهودا واعتمدت كوثيقة شخصت بتفصيل خلفيات
العتقال بتازمامارت وما تلاه من معاناة العذاب الأليم من خلال كتابه من
الصخيرات إلى تزمامارت تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم . تفاصيل تلك الليالي
الرهيبة يحكيها محمد الرايس قائلا عن ليلة اختطافه من السجن المركزي
بالقنيطرة أيقظني أحد الحراس وأمرني بجفاء أن أستعد لرحلتي الطارئة نحو
وجهة مجهولة . اعتقدت بأنه مجرد كابوس , فوقفت فاغرا فمي لا أعي كلماته
ومداها زادت حيرتي لما كرر أوامره نفسها على مسامع المعتقلين الآخرين .
..كنا في عز الصيف والحرارة خانقة , رغم طراوة الليل التي تخفف الأجواء
وتسهل علينا التنفس , فجأة فتح الباب ودخل كبير الحراس الذي أمرنا بلهجة
صارمة بمغادرة الزنزانة والسير خلفه , ذهلت عندما رأيت هذا الإنسان الكئيب
الذي لا يفتر ثغرة عن ابتسامة , نفذت بدون نقاش , لأنني كنت أعرف أنني لن
أتلقى جوابا من هذا الشخص المحنط والمنفر . سرت على خطواته بشكل أكبر مثلما
هو حال المعتقلين الآخرين , سرنا ونحن صامتون بمحاذاة الجدار المتسخ للبهو
الكبير المعتم والكئيب إلى أن وصلنا المكتب وجدنا به الكومندان لـ بمعية
دركيين بملامح متجهمة مسلحين بالرشاشات والمسدسات وبأيديهم أيضا الأصفاد
والعصابات الحمراء . عصبوا عيوننا ثم وضعوا الأصفاد في أيدينا , ثم أركبونا
شاحنات عسكرية غطيت بعناية , لم يكن الطريق طويلا , لأننا وصلنا بعد ربع
ساعة إلى القاعدة الجوية الثالثة , لم تكن تبعد كثيرا عن السجن المركزي
بالقنيطرة , أركبونا طائرتين عسكريتين 130 و 119, أمر الكومندان التلسماني
الطيار وقائد المهمة بأن توثق أيادينا خلفنا وليس أمامنا , مزيدا من
الحراسة والأمن . كان النهار قد طلع ولم أكن أحس بدورة الزمن لأنني كنت
طوال الرحلة مشغولا بهذا الترحيل الطارئ الذي أيقنت أنه يهيئ لي مفاجآت غير
سارة , فلم يخامرني شك في أن القادم من الأحداث سيتخذ مجرى آخر... . وعن
وصلات التعذيب يحكي الرايس واصفا بمرارة همجية الجلاد الذي جعلني تحت رحمة
سوطه إذ لم يخل التحقيق من وجبات التعذيب التي وصف إحداها الأشبرال الرايس
في مذكراته قائلا بدأ بتقييد معصمي بواسطة حزام جلدي ثم ربط رجلي بحزام ثان
, ثم ضغط على ظهري إلى أن أجبرني على الانحناء إلى أن مس رأسي قدمي ودخل
صدري بين فخذي , ثم أدخل قضيبا حديديا تحت ركبتي اليمنى ثم مرره تحت ذراعي
وصدري وكنت أشبه بخروف مهيأ للشواء . رفعني دركيان لأجد نفسي معلقا في
الهواء، صدري إلى الأسفل، ورأسي إلى الخلف، جاء سجان بدلو مليء بالماء،
وبال فيه،وقبل أن يضع إسفنجة متسخة على منخاري وفمي،قال لي سأشربك بولي وهو
لذيذ، لأنني شربت الجعة كثيرا، ثم ملأ القرافة بالماء المخلوط بالبول، وصب
الحمولة في منخاري، أحسست باختناق في صدري،وصعب تنفسي،وكلما زاد من
الخليط، زادت آلامي، ظننت أن رئتي ستنفجر . ما كان بإمكاني أن أصرخ أو
أتحدث، كان السجان يدرك اللحظة التي يجب أن يتوقف فيها، ولسوء حظي كان هذا
الأسلوب أول القطر فقط .... ويضيف الرايس في الصفحة 110 من كتابه ...
ما استنتجته من الأحداث التي تقع لنا بتزمامارت هو الإرادة الثابتة في
دفننا بدون وجه حق وإعطائنا القليل من الطعام حتى نموت موتا بطيئا ويطول
عذابنا النفسي والجسدي... تازمامارت إنه الموت المحقق لكل الذين أركنوا في
زوايا العتمة التي أنستهم انتماءهم إلى الأرض والوطن
.........................
معتقل الرعب في تازمامارت لعنة طاردت الزمن الانساني الـمغربي 1/1
عبد الله أعكاو يروي الـمعاناة
كان الاستسلام للموت خيارنا الوحيد بتازمامارتإعداد : عادل تشيكيطو
تزمامارت الجرح الغائر في الزمن المغربي... الجرج الذي تراكمت فيه كل تجليات القسوة والألم والموت الفظيع.. إنه الجحيم.. الموت المؤلم.. الحقيقة الأبشع من أي وصف أو تسمية. تزمامارت المأساة الجارحة التي عاش أطراف حقيقتها رجال فقدت ملامح رجولتهم ... أضاعوا كل مايمت لهم بصلة البشر... تزمامارت الإسم المشؤوم والشبح الذي أرعَب السادة وضم في عمقه أسرار انقلابات كان فيها المهاجمون ضحايا مؤامرة دنيئة.. هذا المسمى تزمامارت الذي أسقط مملكة الكلام وأجمع سيرتها في صور.. عبرات المعذبين فيه أبيضت في المدى ولونت بتعب القهر.. تزمامرت.. الصرخة الجائعة التي طاردت ذاكرة مغاربة القرن العشرين.. كانت قلوبهم في يديه ولا طريق تحملهم إليه.. يرعبهم ويفجر رؤوس القابعين في زنازن الشؤم والخوف. قرب قرية قصر )تازمامارت ارتكنت قواعد أسوار معتقل تازمامرت المرعبة. والقرية تقع على بعد 20 كيلمترا من مدينة الريش قرب الراشيدية في اتجاه )كرامة . يقع هذا المركز داخل ثكنة عسكرية كان قد شيدها الجيش الفرنسي بذلك الموقع نظراً لأهميته الإستراتيجية. وشيدت به في وقت لاحق بنايات ذات معايير مرعبة خصصت لاحتواء مجموعة من العسكريين المحاكمين في إطار المحاولتين الانقلابيتين الصخيرات 10 يوليوز 1971 والطائرة 16 غشت 1972 ويبلغ عددهم 58 محتجزاً. وقد استعمل هذا المعتقل الذي تحدى كل أسماء البشاعة مابين 8 غشت 1973 و15 شتنبر 1991 بعد تاريخ العفو الملكي على كل المعتقلين السياسيين. فمباشرة بعد الحكم عن المشاركين في انقلاب الصخيرات بسنتين حبسا. والذين تم إيداعهم بالسجن المركزي بالقنيطرة. قامت بعض المصالح السرية باختطافهم من هناك إلى معتقل تزمامارت ليلة 8/7 غشت 1973 . وكانت المصلحة التي قامت باختطافهم تابعة للدرك الملكي.. وبعد مرور أكثر من 18 سنة تم الإفراج عن كل معتقلي تازمامارت وقد بقي منهم 26 عوض 58 معتقلا حيث لقي إثنان وثلاثون معتقلا حتفهم. عرف على تزمامارت تميزه بطابع مناخي قاسي وسوء التغذية وانعدام العناية الطبية والحرمان من الحركة والضوء والهواء النقي مما تسبب في وفاة 32 معتقلا وإصابة آخرين بأمراض جسدية أو عقلية. ارتبط جحيم تازمامارت تاريخيا بالفوضى القاتمة التي طبعت مغرب نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. حيث أنه بعد اختطاف المهدي بنبركة من أحد شوارع باريس وتصفيته سنة 1965 وإعلان حالة الطوارئ وتعليق عمل المؤسسات كحل البرلمان والحكومة. وفي سياق هذا الجو السياسي المحتقن بالصراع نحو السلطة وتجاذب أطراف القوة بين المعارضة والنظام ومحاولة تحكمهما في الوضع بمغرب ما بعد الإستقلال. انفلتت من بين هذا الزخم المؤرق من الأحداث السياسية، محاولة انقلابية كان قد قادها الجنرال المدبوح والكولونيل أعبابو. وتعود أطوار هذه العملية إلى 10 يوليوز 1971 بمناسبة عيد الشباب الذي هو عيد ميلاد الراحل الحسن الثاني. حيث قام الكولونيل اعبابو مدير المدرسة العسكرية هرمومو بإخبار الضباط وضباط الصف المسؤولين عن التكوين أن ثمة عملية عسكرية تنتظرهم وأنهم سيقومون بمناورة عسكرية في اليوم الموالي وأمرهم بإعداد الطلبة لذلك. وبالفعل أقلّت الحافلات الجنود نحو الصخيرات وقد اعترض طريقهم الكولونيل اعبابو ليعلمهم أن العملية هي اقتحام إحدى البنايات التي تحتمي بها عناصر انقلابية مدعيا أن هذه العناصر تشكل خطراً على الملك الذي يجب إنقاذه. وبالفعل استأنف الموكب رحلته نحو القصر وقاموا بمهاجمته وأمطروا من كانوا به بوابل من الرصاص ولم يكن واحد من هؤلاء الطلبة العسكريين يعلم بأن البناية التي يهاجمونها في عبارة عن قصر ملكي وأن الأشخاص الذين يوجدون به، هم شخصيات مدعوة لحضور حفل عيد ميلاد الملك. وبعد 24 ساعة من الهجوم أحبطت العملية الإنقلابية وقتل قائدها الجنرال المدبوح والكولونيل اعبابو مدير مدرسة ارهمومو العسكرية. واعتقل باقي المتورطين من ضباط وضباط صف وطلبة وأشرف الجنرال أوفقير على إعدام الجنرالات والضباط المشتبه في تخطيطهم لهذه العملية. كانت هذه المرحلة فرصة ليبدع فيها أوفقير ومن معه قدرته على خنق الجسد البشري بألوان التعذيب وأشكاله. سواء أثناء التحقيق أو بمعتقل تزمامارت حيث تقول شهادات إن المعتقلين لاقوا من أنواع التعذيب ما تجسد في تقييد معصمهم وحزمه بواسطة حزام جلدي وربط الرجل بحزام ثاني وضغط الظهر حتى يمس الرأس القدمين وإدخاله بين الفخدين. ثم يقوم أحد السجانين بالبول في دلو من الماء ووضع إسفنجة مملوءة بالقرافة والماء المتسخ بالبول على أنف المعتقل إلى أن يختنق المعذب، وهذا ما كانوا يسمونه )بالترحيب فقط لتأتي بعد ذلك الويلات من العذاب الأليم. لقد أجمع الكل على أن المعتقل السري تزمامارت القابع في عمق الصحراء الشرقية قد أقبر أحلام ثلة من الشباب المغربي الذي أكره فيه على تقاسم العزلة والموت والألم ومواجهة القدر الذي تكلمت فيه خيوط الانقلابيين بعدما ورطت معها مجموعة من الشباب الذين أخلصوا لوطنهم الى درجة أن تنفيذهم للأوامر الصادرة عن رؤسائهم أعتمت فطرة التمييز لديهم ليجدوا أنفسهم واقفين أمام الموت وجها لوجه. ويزج بهم في قبر نبضت فيه القلوب إلى أن أنطفأ ضوءها واستحالت الأبدان إلى ركام من الهياكل المدفونة بساحة تزمامارت أو في أحضان الويل.
عن تجربة هذا الدَّرك الأسفل من النار يحكي عبد الله أعكاو ضابط صف سابق بالقوات الجوية في إحدى جلسات الإنصاف والمصالحة بالرباط ويقول أنا عبد الله أعكاو كنت ضابط صف بالقوات الجوية حينما اعتقلت سنة 1972 إثر الانقلاب الذي قاده الجنرال أفقير وأمقران صدر في حقي حكم بثلاث سنوات سجنا وكان من المفروض أن أغادر السجن سنة 1975 لكني اختطفت ذات ليلة من سنة 1973 من السجن المركزي بمدينة القنيطرة بمعية مجموعة من رفاقي إلى وجه مجهولة. وكان ذنبنا الوحيد أننا انضبطنا ونفذنا الأوامر كما تقضي بذلك قوانين الجيش وضعونا في قبور مظلمة دفنونا فيها بلا شمس ولا هواء نقي لمدة تزيد على 18 سنة. الأسرّة كانت عبارة عن بلاطة أسمنتية والغطاء أسمال بالية بروائح نتنة لا تحتمل. كانت لنا عيون لكن لم نكن نرى بها سوى الظلمة والعتمة والأشباح التي طالما تخيلها بعضنا في عزلته القاتلة لأن كل واحد منا كان محتجزا بشكل منفر في قبره ليس هناك وسائل للنظافة أو للاغتسال أو لحلاقة الشعر التغذية كانت مما لا يمكن لعقل بشري أن يتصوره كان رفاقي يتساقطون يوما بعد يوم بسبب الهزال الذي أصابنا والأمراض التي لم يكن لنا من سبيل لعلاجها سوى الاستسلام لآلامها لأننا كنا محرومين من العلاج والأدوية ومن يمرض يبقي هكذا إلى أن يموت أذكر أحد رفاقي الذي مات بعد أن ترك طريحا على البلاطة الأسمنتية لمدة ست سنوات حتى تآكلت أطرافه وتعفن جسمه والتصق بالأسمنت. أغلبنا أصيب بالشلل والعجز التام عن الحركة وبعضنا أصبح يمشي على أربعة قوائم كالحيوانات والبعض الآخر صار يزحف علي بطنه من فرط عجزه كل واحد منا كان ينتظر دوره ليموت كباقي رفاقه الذين قضوا. ومن بين المظاهر اللإإنسانية التي طبعت حياتنا بتازمامارت. فقد كنا نطلب من الحارس أن يوافينا بالماء وكان يتماطل معتبرا أن ذلك هو محاولة من استنشاق هواء آخر غير الذي نستنشقه من الزنزانة التي نحن بها. وكنا كلما طلبنا منه ذلك إلا وينهال علينا بالضرب والسب والإهانة حتى لا نقوم بطلبه مرة أخرى. فبدأت صحتنا تتدهور شيئا فشيئا إلا أن سقط فينا ضحايا المرض، وتعفنت جثتهم وصارت رميماً دون أن يتدخل السجانون لإنقاذهم قبل الموت أو لإكرامهم كموتى وكنا نتعرض للإهانة أحياءً وأمواتاً، ومن أشكال الموت التي لاقاها ضحايا تزمامرت أن أحدنا نام ست سنوات على الأرض الإسمنتية دون أن يتدخل أحد لإنقاذه حتى بدأ لحمه يتفتت وصار الرجل جثة هامدة تحولت فيما بعد إلى رميم، وهناك حالات أخرى كان موتها أفظع، حيث انتحر صديق لي في زنزانة مجاورة بعدما وصل إلى حالة نفسية وعقلية جعلته يعتقد أن السبيل الأوحد للتخلص من جحيم تزمامارت هو الموت. وقد قام بذلك بعد أن سمع بموت ستة من أصدقائه في العنبر الثاني. وبعد الضغوطات التي مورست على المغرب من أجل الإفراج عن معتقلي تزمامارت حاول اللإنسانيون أن يحفروا لنا خنادق من أجل دفننا جماعة إلا أن الأمر اكتشف وردموا تلك الخنادق. بعدما خرجت رسالة من المعتقل. ثم نقلونا الى هرمومو من أجل ترميم مابقي من أجسادنا في مدة شهر وأوصلونا إلى أهلنا. ورغم أننا سنعانق الحرية أخيراً فقد رافقتنا العصابة في أعيننا وكذلك الأصفاد والإهانة والتهديد. رموني بسيدي بطاش عند عائلتي .آنذاك قام والدي وأسرتي بالتفرغ من أجل تعليمي المشي والكلام. قاسينا وعانينا التشرد وواعدتنا الدولة بتعويض من خلال اجتماع مع وزارة حقوق الإنسان إلا أن ذلك لم يكن سوى وعود لدر الرماد على الأعين. وقد قمنا نحن بإدماج أنفسنا. حيث ترشحت للانتخابات وقمت بأعمال أعادت إلي الثقة بنفسي
.................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق