طي صفحة الماضي بعد عودة محمد الخامس من المنفى
كأن التاريخ يعيد نفسه
منذ 16 نوفمبر1955، ساد المغرب جو من الغبطة والفرح برجوع الملك محمد الخامس من منفاه بعد أن روى أبناء المغرب المخلصين أرضه بدمائهم الـزكـيـة.
وفي هذا الجو العام حاول العديد من الخونة وعملاء الاستعمار تغيير المعطف على حين غرة وتظاهروا بالمشاركة الجادة في الفرحة والاحتفالات كما حاولوا المساهمة بسخاء لم يسبقه له مثيل من طرفهم في تنظيم الولائم للفقراء، كما سعوا إلى تقديم المبالغ الباهضة لشراء صفة الوطني المخلص للوطن وللملك من قادة وممثلي حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال ومن أعضاء المقاومة وجيش التـحـريـر.
لكن الذاكرة الجماعية، ذاكرة الجماهير لا تنسى،وبذلك حدثت وقائع على امتداد التراب الوطني .إذ كلما تعرفت الجماهير على خائن من الخونة أو عميل من عملاء الاستعمار كانوا يهجمون عليه للنيل منه، وقد عرفت البلاد أمثلة كثيرة يمكن رصد بعضها لتوضيح جوانب من الواقع السائد آنذاك.
في 19 نوفمبر1955 قصد ابن البغدادي خليفة الباشا بفاس القصر الملكي بالرباط قصد طلب العفو من الملك على غرار ما فعله خونة وعملاء قبله. آنذاك تعرفت عليه جماهير فاس بمشور القصر الملكي فهم البعض للهجوم عليه وعندما أخرج سلاحه لحماية نفسه انقض عليه أحد الحاضرين وطعنه بحنجره ولقي نفس المصير بـعـض حـراسـه.
ولقي نفس المصير بن العربي الفشتالي وهو قائد عميل الاستعمار وعبد الله بن عبد الهادي زنيبر والقائد اليموري من عرباوة و الشاوني مدافع بمحكمة فاس. كما هجمت الجماهير في عدة مدن على الخونة والعملاء ومقراتهم، وكذلك بعض السجون لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمقاومين.
وفي الدار البيضاء كان العربي المسكيني أول عميل وجاسوس بعد رجوع الملك لقي حتفه على يد مقاوم وفي مراكش لقي نفس المصير بونبوله الذي تسبب في اعتقال جماعة الفـطـواكـي.
ومع تناسل الأحداث الدموية والانتقالية أعلن ولي العهد للمغاربة " قائلا: إن محمد الخامس يطلب منكم أن تغفروا لأولئك الذين أساءوا إليـكم".
وكأن التاريخ يعيد نفسه؟ مثل ما هو واقع حاليا بالنسبة لطي صفحة الماضي، كان هناك خلاف واضحا آنذاك بين موقف الحكم الداعي إلى نسيان الماضي وإصرار المقاومة على معاقبة العملاء على الجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب.
وهكذا استمرت ملاحقة الخونة وعملاء الاستعمار في مختلف المدن المغربية، وقد بلغ عدد الخونة الذين لقوا حتفهم يوم2 مايو1956 بمراكش مثلا 40 قتيلا.
وعموما، بمجرد إعلان الاستقلال طالب المقاومون والنشطاء في المقاومة بالتطهير كما رفضوا الشعار الرسمي القائل" عفا الله عما سلف والماضي لا يعاد" وبذلك وجدوا أنفسهم في صراع مكشوف مع الدولة آنـذاك.
فعلى الصعيد التاريخي تجسد الخلفية التاريخية للخوفقراطية في خضوع أجيال متتابعة لضراوة القمع السلطوي والمجتمعي والعائلي.
إن الملكية نشأت في المغرب مع مجيء إدريس الأول من المشرق سنة 788م واستمرت السلالات السبعة المتعاقبة على الحكم بالمغرب طيلة اثني عشر قرنا في تكريس ممارسة حكم مطلق في مجتمع هيمن عليه اقتصاد طبقي وتميز بتجزئة قبيلة وعشائرية في بعض أجزاء البلاد وبالتمزق في البعض الآخر.
وظلت على امتداد التاريخ علاقات الحكام بالمحكومين مبنية بالأساس على القمع والخوف والترهيب والعنف المتبادل. وكانت لغة الأمر والطاعة هي السائدة مما نتج عنه تراكم تاريخي وفكري كرس الخوف والخنوع وبالتالي الخوفقراطية.
وجاء الاستعمار الغاشم وكرس بأسلوبه وبطرقه نفس المسار وعمل على سحق المقاومة الشعبية لا سيما في البوادي ونشر الرعب وسط السكان ، وهكذا ساهم هو كذلك في تكريس الاعتقاد الشعبي القائل أن المخزن لا يغلب بمعنى أن الاستسلام لإدارة السلطة قدر محتوم ولا مندوحة عنه مهما كانت الظروف.
أما على الصعيد الثقافي فقد عملت البرجوازية الوطنية منذ البداية على ترويج وتكريس فكر الاستسلام، لا سيما ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، وبذلك روجت الكتلة الوطنية ثقافة العمل السلمي وكان المثقفون المتنورون آنذاك يروجون للمقاومة السلمية. وهذا ما دعا إليه علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزواني. كما أن عبد القادر بنجلون زار في غشت 1953 رئيس ناحية الدار البيضاء بونيفاس ليجدد ويؤكد له موقف حزب الشورى والاستقلال المناهض للعنف وأنه سيعمل على مناهضة أي نوع من أنواع العنف. ولم يتم الاكتفاء بهذا، وإنما عندما اعترف بعض المقاومين المعتلقين بانتمائهم إلى هذا الحزب، أصدر حزب الشورى والاستقلال على التو تكذيبا صريحا وتنكر لوجود أي علاقة بأعمال العنف. كما رفض أحمد بلا فريج أي علاقة بالمقاومة بعد نفي الملك محمد الخامس وهذا بشهادة كل من عبد الكبير بن المهدي الفاسي وعبد الكبير بن عبد الحفيظ الفاسي علما أن أحمد بلا فريج كان أمينا عاما لحزب الاستقلال آنذاك. وهذا ما أكده كذلك الغالي العراقي سنة 1990.
وهذا الواقع جعل القادة السياسيين المغاربة يكرسون الخنوع الشيء الذي ترك آثارا عميقة في النفوس وساهم في سيادة الإنتظارية والحيرة وعدم الانخراط الواسع المدى في الفعل الثوري كما هو الحال بالنسبة لمختلف الشعوب عبر العالم. ولهذا كان لزاما على المقاومين أداء الثمن غاليا لايقاظ الضمائر وإخراج الشعب من الإنتظارية التي طوقته بها الأحزاب السياسية و الحركة الوطنية آنذاك.
وهكذا تمكن عدد قليل من المقاومين الذين تحدوا كل الصعوبات لدفع الشعب المغربي إلى اعتماد رد فعل طال انتظاره.
إن مختلف كتب التاريخ المغرب تطرقت بشكل أو بآخر إلى جانب من جوانب البغاء.
فهناك جملة من الكتاب تطرقوا إلى ظاهرة البغاء بالمغرب عبر التاريخ ومنهم محمد المختار السوسي والحسن بن محمد الوزان الفاسي ومحمد غريط و " روجي لوتورنو" وعبد الرحمان بن زيدان ومحمد البوزيدي الشيخي وأحمد بن خالد الناصري و " ايدموند دوتي" والقبطان كورني" و " كريستيان هوويل" و" جورج" مانو" و" هانري دوكار" وعلال الفاسي، ومحمد حسن الوزاني و " ألبير عياش".
في كتابات ابن الوزان المؤرخة في السادس عشر يمكن للقارئ العثور على جملة من المعلومات تخص البغاء والبغايا. فقد جاء في إحدى كتاباته أنه شاهد بمدينة فاس منازل ودورا وكانت تلك الدور محمية من طرف رئيس الشرطة وحاكم المدينة. وسجل محمد غريط في كتاباته المنجزة في عشرينات القرن الماضي ظواهر البغاء والتعاطي للخمر. كما سجل " روجي لوتورنو" في كتاباته قبل الاحتلال الفرنسي جملة من الملاحظات المرتبطة بالبغاء بمدينة فاس التي عاش فيها قبل دخول الفرنسيين إلى المغرب وقد كتب قائلا أن جل بيوت قصبة تامريرت وقصبة بوجلود وباب فتوح كانت تعج بالنساء البدويات، وأن الفاسيات كن يقطن في منازل تحت امرأة قوادات ، كما أشار إلى أن ممثل السلطة كان يتقاضى منهن مبالغ مالية محدد، مؤكدا أن حي مولاي عبد الله احماد ( باشا المدينة) اشتهر بالبغاء آنذاك.
وجاء في كتابات عبد الرحمان بن زيدان أن السلطان مولاي عبد الرحمان ( 1822-1859) أورد في إحدى رسائله الحديث عن الفساد حيث قال "…. تسلط الشيوخ في نساء رعاياهم بالاحتلال والقبض على من كانت عنده زوجة حسناء حتى يتوصلوا للإفساد فيها". وجاء في كتاب الاستقصا لأحمد بن خالد الناصري أنه في أيام السلطان مولاي سليمان( 1792- 1822)انفجرت فتنة بمدينة فاس ووقع فيها قتل وسرقة ونهب وكان السبب الرئيسي في ذلك أن عامل المدينة محمد الصفار استباح نساء المدينة هو وأصحابه ولم يتورع في مد يده إلى الحريم. وأكد العربي الورياشي في كتاباته أن رجال السلطة بمكناس كانوا يستفيدون من الاتجار في الأعراض، وقد اشتهر ماخور سيدي بوجدار ببيع الصبايا المهربات من جبال الأطلس وكن بيضات البشرة وزرقة العيون. كما أنه بسوس كان الوسطاء يختارون البنات الجميلات لبيعهن إلى القياد الكبار في الحوز وإلى أغنياء المدن.
وكان باشا مراكش التهامي الكلاوي من أكبر التجار في النساء، وحسب " كي دولانويي" كان عدد المنازل التي راقبها تضم ما يناهز ستة آلاف امرأة وكل واحدة منهن تدفع له مائة فرنك يوميا.
وبزاوية سيدي رحال كان قائد الزاوية يراقب عدة أوكار للدعارة ويتقاضى نسبة من المداخل ومثلت الدعارة أحد مصادر الدخل الأساسية للسكان والزوار. وفي أبي الجعد كانت تنتشر دور البغاء.
وبعد أن تمكن الاستعمار من البلاد برزت ممارسة جديدة، أخذ بعض الحكام المغاربة يكثرون من تنظيم حفلات رقص أحواش ويأتون بالنساء تقربا للمستعمرين. وقد أشار عبد الوهاب بنمنصور في كتاباته أن اليهود المغاربة الراغبون في الاستفادة من حماية القنصليات الأجنبية يقدمون إلى القناصل هدايا ومن ضمنها أحيانا عفاف أزواجهم وفتيانهم.
ومع دخول القوات الاستعمارية المغرب ظهر نوع جديد من البغاء بغاء المراقص والنوادي الليلية. كما تم تشييد عدة ملاهي ليلية أغلبها مازالت مشتغلة الآن.
و قد رأى أن هذا المنحى يدل على أن النظام بالمغرب يعتمد على استراتيجية فردية وليست مؤسساتية في التعاطي مع الملفات الساخنة وهذا يجعل من الصعب التمييز بين الفضاءات السياسية والاستبدادية والدولتية، ويفسر استمرار الثقافة السلطوية في معالجة الملفات الساخنة التي تهم جميع المغاربة وترتبط بانتظاراتهم على امتداد أكثر من 5 عقود خلت بعد الإحباط تلو الإحباط، وهذا في وقت لا يجرؤ فيه البرلمان على اتخاذ قرارات تدخل في مجال اختصاصه بامتياز، وبجانب أحزاب كاد يقتلها الشرود وبرجوازية مغربية لا تتوفر على المؤهلات الضرورية لتكون رائدة في المجالين الاقتصادي والمالي، وكل هذا ضمن فراغ سياسي بارز المعالم، وهذا وضع يفرض على الملك احتكار القرار.
وبذلك يعتبر جملة من المحللين السياسيين أن مطلب فصل السلط بالمغرب مازال بعيد المنال، مادام النظام مازال يتعامل مع الأشخاص بدل المؤسسات، لذلك مازالوا ينتظرون جملة من الإصلاحات لتطوير المسلسل الديموقراطي والإقرار فعلا بدولة الحق والقانون.
و قد اقتصرت هذه الوظائف من القرن التاسع عشر إلى حدود سنة 1912 على انتزاع الضرائب مع اللجوء أحيانا كثيرة إلى القوة التي كانت بيده، و هذا ما يفسر التمييز بين بلاد المخزن و بلاد السيبة آنذاك. فالسلطان مولاي الحسن كان عرشه على صهوة جواده، باعتبار كان كثير الترحال بقصد "الحركة" (أي الحملات التأديبية) لإخماد ثورات القبائل التي رفضت أداء الضرائب المخزنية، و قد وافته المنية على صهوة جواده.
و قد كانت هذه السياسة وخيمة على المخزن إذ لم يقو على فرز و إفراز بديل لسياسته المبنية على انتزاع الضرائب من القبائل. و هكذا تعمقت أزمته التي أدت إلى اتفاقية فاس سنة 1912 التي كانت بداية استعمار البلاد و احتلالها.
و مع حلول الاستقلال احتكر المخزن مختلف المبادرات السياسية و الاقتصادية و وزع حسب احتياجاته مجالات الأنشطة الاقتصادية بالبلاد و وهب أصول الثروات إلى فئات إلى كمشة من المحظوظين و انفرد ببلورة و طرح الأهداف و تحديد وسائل و آليات تحقيقها.
لقد كان هاجسه هو الضبط و استبعاد أي وضع يتعذر عليه ضبطه. و ذلك سعيا إلى التحكم في أي تغيير لاستبعاد – و لو بالقوة و القمع – كل ما من شأنه تهديد قوامه السياسي. إلا أنه مع فعل جملة من الظروف الضاغطة طرحت بعض الإصلاحات على الصعيد الاقتصادي و كانت رغم محدوديتها تنم عن بروز بوادر عقلية ليبرالية لا سيما في التسيير الحكومي المخزني, إلا أن بروز هذه البوادر الأولى سرعان ما فقدت مدلولها بفعل اقتصاد الريع و الاكرامات و الانعامات و الامتيازات التي يمنحها المخزن عبر شبكة من الزبونية تخلق علاقات ولاء إلزامية لفرض الهيمنة.
و قد تمكن المخزن من تقوية هذا النمط في التدبير لأنه عمل على المراقبة و التحكم عن قرب في العالم القروي بالمغرب كوسيلة ناجعة لضمان الاستمرارية السياسية للمجتمع المغربي. و من الأساليب المتبعة لتحقيق هذا المبتغى، اعتماد سياسة دعم و تدعيم فئة من الملاكين العقاريين الكبار لجعلهم كحصن حصين و عتيد لسياسة المخزن بالبادية. و قد استفاد هؤلاء من جملة من سياسات الدولة نذكر منها المغربة و السياسة السقوية و سياسة القروض و سياسة تقليص دورصندوق المقاصة سنة 1980 و سياسة إلغاء الضرائب. و كانت نتيجة هذا التوجه هو تمركز الرأسمال الفلاحي و توسيع نشاطاته الشيء الذي أدى إلى عدم بروز برجوازية رأسمالية مقاولتية مستقلة بالمغرب و هذا بدوره يفسر إلى حد كبير ضعف القطاع الخاص المغربي.
و الآن و بعد مرور ما يناهز 5 عقود على استقلال المغرب نجد أنفسنا في حيص بيص عندما نريد تحديد طبيعة الاقتصاد المغربي، فهو ليس يإقتصاد الدولة و لا بإقتصاد ليبرالي محض و لا بإقتصاد إجتماعي تتحكم الدولة في دواليبه الأساسية و لا باقتصاد السوق بالمفهوم الليبرالي. و منذ سنوات كان المغاربة ينتظرون حدوث انفتاح على السوق و اعتماد الليبرالية كما تم الترويج لذلك كثيرا و بكثرة، إلا أن حكومة التناوب جاءت و روجت لفكرة إعادة النظر في تدخل الدولة و خلق اقتصاد اجتماعي. أما اليوم أضحينا نعاين و بقوة تواجد سلطة المخزن، ليس كإطار أمني و تسييري فقط، و لكن كإطار اقتصادي في إطار تكريش ليبرالية متوحشة لا تنسجم مع الطبيعة الحالية للبنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المغربي. فإلى نحن سائرون؟
كأن التاريخ يعيد نفسه
منذ 16 نوفمبر1955، ساد المغرب جو من الغبطة والفرح برجوع الملك محمد الخامس من منفاه بعد أن روى أبناء المغرب المخلصين أرضه بدمائهم الـزكـيـة.
وفي هذا الجو العام حاول العديد من الخونة وعملاء الاستعمار تغيير المعطف على حين غرة وتظاهروا بالمشاركة الجادة في الفرحة والاحتفالات كما حاولوا المساهمة بسخاء لم يسبقه له مثيل من طرفهم في تنظيم الولائم للفقراء، كما سعوا إلى تقديم المبالغ الباهضة لشراء صفة الوطني المخلص للوطن وللملك من قادة وممثلي حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال ومن أعضاء المقاومة وجيش التـحـريـر.
لكن الذاكرة الجماعية، ذاكرة الجماهير لا تنسى،وبذلك حدثت وقائع على امتداد التراب الوطني .إذ كلما تعرفت الجماهير على خائن من الخونة أو عميل من عملاء الاستعمار كانوا يهجمون عليه للنيل منه، وقد عرفت البلاد أمثلة كثيرة يمكن رصد بعضها لتوضيح جوانب من الواقع السائد آنذاك.
في 19 نوفمبر1955 قصد ابن البغدادي خليفة الباشا بفاس القصر الملكي بالرباط قصد طلب العفو من الملك على غرار ما فعله خونة وعملاء قبله. آنذاك تعرفت عليه جماهير فاس بمشور القصر الملكي فهم البعض للهجوم عليه وعندما أخرج سلاحه لحماية نفسه انقض عليه أحد الحاضرين وطعنه بحنجره ولقي نفس المصير بـعـض حـراسـه.
ولقي نفس المصير بن العربي الفشتالي وهو قائد عميل الاستعمار وعبد الله بن عبد الهادي زنيبر والقائد اليموري من عرباوة و الشاوني مدافع بمحكمة فاس. كما هجمت الجماهير في عدة مدن على الخونة والعملاء ومقراتهم، وكذلك بعض السجون لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمقاومين.
وفي الدار البيضاء كان العربي المسكيني أول عميل وجاسوس بعد رجوع الملك لقي حتفه على يد مقاوم وفي مراكش لقي نفس المصير بونبوله الذي تسبب في اعتقال جماعة الفـطـواكـي.
ومع تناسل الأحداث الدموية والانتقالية أعلن ولي العهد للمغاربة " قائلا: إن محمد الخامس يطلب منكم أن تغفروا لأولئك الذين أساءوا إليـكم".
وكأن التاريخ يعيد نفسه؟ مثل ما هو واقع حاليا بالنسبة لطي صفحة الماضي، كان هناك خلاف واضحا آنذاك بين موقف الحكم الداعي إلى نسيان الماضي وإصرار المقاومة على معاقبة العملاء على الجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب.
وهكذا استمرت ملاحقة الخونة وعملاء الاستعمار في مختلف المدن المغربية، وقد بلغ عدد الخونة الذين لقوا حتفهم يوم2 مايو1956 بمراكش مثلا 40 قتيلا.
وعموما، بمجرد إعلان الاستقلال طالب المقاومون والنشطاء في المقاومة بالتطهير كما رفضوا الشعار الرسمي القائل" عفا الله عما سلف والماضي لا يعاد" وبذلك وجدوا أنفسهم في صراع مكشوف مع الدولة آنـذاك.
الخلفية التاريخية والثقافية للخوفقراطية بالمغرب
إن الخوفقراطية ليس مجرد خوف وخنوع وإنما هي منظومة وآليات جعلت الشعب بفئاته الواسعة تنغرس فيه سلوكيات الخوف والخنوع و الانسياق.فعلى الصعيد التاريخي تجسد الخلفية التاريخية للخوفقراطية في خضوع أجيال متتابعة لضراوة القمع السلطوي والمجتمعي والعائلي.
إن الملكية نشأت في المغرب مع مجيء إدريس الأول من المشرق سنة 788م واستمرت السلالات السبعة المتعاقبة على الحكم بالمغرب طيلة اثني عشر قرنا في تكريس ممارسة حكم مطلق في مجتمع هيمن عليه اقتصاد طبقي وتميز بتجزئة قبيلة وعشائرية في بعض أجزاء البلاد وبالتمزق في البعض الآخر.
وظلت على امتداد التاريخ علاقات الحكام بالمحكومين مبنية بالأساس على القمع والخوف والترهيب والعنف المتبادل. وكانت لغة الأمر والطاعة هي السائدة مما نتج عنه تراكم تاريخي وفكري كرس الخوف والخنوع وبالتالي الخوفقراطية.
وجاء الاستعمار الغاشم وكرس بأسلوبه وبطرقه نفس المسار وعمل على سحق المقاومة الشعبية لا سيما في البوادي ونشر الرعب وسط السكان ، وهكذا ساهم هو كذلك في تكريس الاعتقاد الشعبي القائل أن المخزن لا يغلب بمعنى أن الاستسلام لإدارة السلطة قدر محتوم ولا مندوحة عنه مهما كانت الظروف.
أما على الصعيد الثقافي فقد عملت البرجوازية الوطنية منذ البداية على ترويج وتكريس فكر الاستسلام، لا سيما ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، وبذلك روجت الكتلة الوطنية ثقافة العمل السلمي وكان المثقفون المتنورون آنذاك يروجون للمقاومة السلمية. وهذا ما دعا إليه علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزواني. كما أن عبد القادر بنجلون زار في غشت 1953 رئيس ناحية الدار البيضاء بونيفاس ليجدد ويؤكد له موقف حزب الشورى والاستقلال المناهض للعنف وأنه سيعمل على مناهضة أي نوع من أنواع العنف. ولم يتم الاكتفاء بهذا، وإنما عندما اعترف بعض المقاومين المعتلقين بانتمائهم إلى هذا الحزب، أصدر حزب الشورى والاستقلال على التو تكذيبا صريحا وتنكر لوجود أي علاقة بأعمال العنف. كما رفض أحمد بلا فريج أي علاقة بالمقاومة بعد نفي الملك محمد الخامس وهذا بشهادة كل من عبد الكبير بن المهدي الفاسي وعبد الكبير بن عبد الحفيظ الفاسي علما أن أحمد بلا فريج كان أمينا عاما لحزب الاستقلال آنذاك. وهذا ما أكده كذلك الغالي العراقي سنة 1990.
وهذا الواقع جعل القادة السياسيين المغاربة يكرسون الخنوع الشيء الذي ترك آثارا عميقة في النفوس وساهم في سيادة الإنتظارية والحيرة وعدم الانخراط الواسع المدى في الفعل الثوري كما هو الحال بالنسبة لمختلف الشعوب عبر العالم. ولهذا كان لزاما على المقاومين أداء الثمن غاليا لايقاظ الضمائر وإخراج الشعب من الإنتظارية التي طوقته بها الأحزاب السياسية و الحركة الوطنية آنذاك.
وهكذا تمكن عدد قليل من المقاومين الذين تحدوا كل الصعوبات لدفع الشعب المغربي إلى اعتماد رد فعل طال انتظاره.
البغاء، سلاح الاستعمار لإفساد المجمع
من بين المعضلات الاجتماعية التي استشرى مفعولها بالمجتمع المغربي في عهد الحماية معضلة البغاء، أي تحويل جسد الأنثى إلى بضاعة تعرض على قارعة الطريق. وبفعل سياسات التفقير الممنهج انتشر البغاء بشكل كبير في جسم المجتمع المغربي. وقد ساهم البغاء بدرجة كبيرة في إفساد الأخلاق عبر التوق إلى الربح السريع وإشباع النزوة البهيمية إلا أن ظاهرة البغاء ليست مقصورة على مرحلة الاستعمار والحماية وإنما كان لها وجود قبل ذلك، إلا أنها عرفت انتشارا ملحوظا في تلك المرحلة بالذات.إن مختلف كتب التاريخ المغرب تطرقت بشكل أو بآخر إلى جانب من جوانب البغاء.
فهناك جملة من الكتاب تطرقوا إلى ظاهرة البغاء بالمغرب عبر التاريخ ومنهم محمد المختار السوسي والحسن بن محمد الوزان الفاسي ومحمد غريط و " روجي لوتورنو" وعبد الرحمان بن زيدان ومحمد البوزيدي الشيخي وأحمد بن خالد الناصري و " ايدموند دوتي" والقبطان كورني" و " كريستيان هوويل" و" جورج" مانو" و" هانري دوكار" وعلال الفاسي، ومحمد حسن الوزاني و " ألبير عياش".
في كتابات ابن الوزان المؤرخة في السادس عشر يمكن للقارئ العثور على جملة من المعلومات تخص البغاء والبغايا. فقد جاء في إحدى كتاباته أنه شاهد بمدينة فاس منازل ودورا وكانت تلك الدور محمية من طرف رئيس الشرطة وحاكم المدينة. وسجل محمد غريط في كتاباته المنجزة في عشرينات القرن الماضي ظواهر البغاء والتعاطي للخمر. كما سجل " روجي لوتورنو" في كتاباته قبل الاحتلال الفرنسي جملة من الملاحظات المرتبطة بالبغاء بمدينة فاس التي عاش فيها قبل دخول الفرنسيين إلى المغرب وقد كتب قائلا أن جل بيوت قصبة تامريرت وقصبة بوجلود وباب فتوح كانت تعج بالنساء البدويات، وأن الفاسيات كن يقطن في منازل تحت امرأة قوادات ، كما أشار إلى أن ممثل السلطة كان يتقاضى منهن مبالغ مالية محدد، مؤكدا أن حي مولاي عبد الله احماد ( باشا المدينة) اشتهر بالبغاء آنذاك.
وجاء في كتابات عبد الرحمان بن زيدان أن السلطان مولاي عبد الرحمان ( 1822-1859) أورد في إحدى رسائله الحديث عن الفساد حيث قال "…. تسلط الشيوخ في نساء رعاياهم بالاحتلال والقبض على من كانت عنده زوجة حسناء حتى يتوصلوا للإفساد فيها". وجاء في كتاب الاستقصا لأحمد بن خالد الناصري أنه في أيام السلطان مولاي سليمان( 1792- 1822)انفجرت فتنة بمدينة فاس ووقع فيها قتل وسرقة ونهب وكان السبب الرئيسي في ذلك أن عامل المدينة محمد الصفار استباح نساء المدينة هو وأصحابه ولم يتورع في مد يده إلى الحريم. وأكد العربي الورياشي في كتاباته أن رجال السلطة بمكناس كانوا يستفيدون من الاتجار في الأعراض، وقد اشتهر ماخور سيدي بوجدار ببيع الصبايا المهربات من جبال الأطلس وكن بيضات البشرة وزرقة العيون. كما أنه بسوس كان الوسطاء يختارون البنات الجميلات لبيعهن إلى القياد الكبار في الحوز وإلى أغنياء المدن.
وكان باشا مراكش التهامي الكلاوي من أكبر التجار في النساء، وحسب " كي دولانويي" كان عدد المنازل التي راقبها تضم ما يناهز ستة آلاف امرأة وكل واحدة منهن تدفع له مائة فرنك يوميا.
وبزاوية سيدي رحال كان قائد الزاوية يراقب عدة أوكار للدعارة ويتقاضى نسبة من المداخل ومثلت الدعارة أحد مصادر الدخل الأساسية للسكان والزوار. وفي أبي الجعد كانت تنتشر دور البغاء.
وبعد أن تمكن الاستعمار من البلاد برزت ممارسة جديدة، أخذ بعض الحكام المغاربة يكثرون من تنظيم حفلات رقص أحواش ويأتون بالنساء تقربا للمستعمرين. وقد أشار عبد الوهاب بنمنصور في كتاباته أن اليهود المغاربة الراغبون في الاستفادة من حماية القنصليات الأجنبية يقدمون إلى القناصل هدايا ومن ضمنها أحيانا عفاف أزواجهم وفتيانهم.
ومع دخول القوات الاستعمارية المغرب ظهر نوع جديد من البغاء بغاء المراقص والنوادي الليلية. كما تم تشييد عدة ملاهي ليلية أغلبها مازالت مشتغلة الآن.
لازال المغرب في حاجة لإصلاحات
إن المتتبع للتطورات السياسية بالمغرب خلال العشر سنوات الأخيرة تستوقفه جملة من المحطات. إلا أن هذا المسار عرف نوعا من التراجع في نظر البعض مند تعيين وزير أول تقنوراطي لرئاسة الحكومة بدلا لحكومة التناوب، وذلك بعد أن تمت إعادة ترتيب الكتلة الحاكمة بالمغرب اعتمادا على توازنات مبنية بالأساس على إبعاد النخبة السياسية وتكليف نخبة غير مسيسة.و قد رأى أن هذا المنحى يدل على أن النظام بالمغرب يعتمد على استراتيجية فردية وليست مؤسساتية في التعاطي مع الملفات الساخنة وهذا يجعل من الصعب التمييز بين الفضاءات السياسية والاستبدادية والدولتية، ويفسر استمرار الثقافة السلطوية في معالجة الملفات الساخنة التي تهم جميع المغاربة وترتبط بانتظاراتهم على امتداد أكثر من 5 عقود خلت بعد الإحباط تلو الإحباط، وهذا في وقت لا يجرؤ فيه البرلمان على اتخاذ قرارات تدخل في مجال اختصاصه بامتياز، وبجانب أحزاب كاد يقتلها الشرود وبرجوازية مغربية لا تتوفر على المؤهلات الضرورية لتكون رائدة في المجالين الاقتصادي والمالي، وكل هذا ضمن فراغ سياسي بارز المعالم، وهذا وضع يفرض على الملك احتكار القرار.
وبذلك يعتبر جملة من المحللين السياسيين أن مطلب فصل السلط بالمغرب مازال بعيد المنال، مادام النظام مازال يتعامل مع الأشخاص بدل المؤسسات، لذلك مازالوا ينتظرون جملة من الإصلاحات لتطوير المسلسل الديموقراطي والإقرار فعلا بدولة الحق والقانون.
الاقتصاد و المخزن بالمغرب
سابقا كان مصطلح المخزن يرتبط بالأساس بمحور الحكم الشخصي و محيطه المباشر، أي نمط من أنماط الحكم الفردي. و باعتباره كذلك فقد كانت له وظائف اقتصادية، إلا أنها ظلت على امتداد التاريخ وظائف سلبية في نظر المحللين الاقتصاديين.و قد اقتصرت هذه الوظائف من القرن التاسع عشر إلى حدود سنة 1912 على انتزاع الضرائب مع اللجوء أحيانا كثيرة إلى القوة التي كانت بيده، و هذا ما يفسر التمييز بين بلاد المخزن و بلاد السيبة آنذاك. فالسلطان مولاي الحسن كان عرشه على صهوة جواده، باعتبار كان كثير الترحال بقصد "الحركة" (أي الحملات التأديبية) لإخماد ثورات القبائل التي رفضت أداء الضرائب المخزنية، و قد وافته المنية على صهوة جواده.
و قد كانت هذه السياسة وخيمة على المخزن إذ لم يقو على فرز و إفراز بديل لسياسته المبنية على انتزاع الضرائب من القبائل. و هكذا تعمقت أزمته التي أدت إلى اتفاقية فاس سنة 1912 التي كانت بداية استعمار البلاد و احتلالها.
و مع حلول الاستقلال احتكر المخزن مختلف المبادرات السياسية و الاقتصادية و وزع حسب احتياجاته مجالات الأنشطة الاقتصادية بالبلاد و وهب أصول الثروات إلى فئات إلى كمشة من المحظوظين و انفرد ببلورة و طرح الأهداف و تحديد وسائل و آليات تحقيقها.
لقد كان هاجسه هو الضبط و استبعاد أي وضع يتعذر عليه ضبطه. و ذلك سعيا إلى التحكم في أي تغيير لاستبعاد – و لو بالقوة و القمع – كل ما من شأنه تهديد قوامه السياسي. إلا أنه مع فعل جملة من الظروف الضاغطة طرحت بعض الإصلاحات على الصعيد الاقتصادي و كانت رغم محدوديتها تنم عن بروز بوادر عقلية ليبرالية لا سيما في التسيير الحكومي المخزني, إلا أن بروز هذه البوادر الأولى سرعان ما فقدت مدلولها بفعل اقتصاد الريع و الاكرامات و الانعامات و الامتيازات التي يمنحها المخزن عبر شبكة من الزبونية تخلق علاقات ولاء إلزامية لفرض الهيمنة.
و قد تمكن المخزن من تقوية هذا النمط في التدبير لأنه عمل على المراقبة و التحكم عن قرب في العالم القروي بالمغرب كوسيلة ناجعة لضمان الاستمرارية السياسية للمجتمع المغربي. و من الأساليب المتبعة لتحقيق هذا المبتغى، اعتماد سياسة دعم و تدعيم فئة من الملاكين العقاريين الكبار لجعلهم كحصن حصين و عتيد لسياسة المخزن بالبادية. و قد استفاد هؤلاء من جملة من سياسات الدولة نذكر منها المغربة و السياسة السقوية و سياسة القروض و سياسة تقليص دورصندوق المقاصة سنة 1980 و سياسة إلغاء الضرائب. و كانت نتيجة هذا التوجه هو تمركز الرأسمال الفلاحي و توسيع نشاطاته الشيء الذي أدى إلى عدم بروز برجوازية رأسمالية مقاولتية مستقلة بالمغرب و هذا بدوره يفسر إلى حد كبير ضعف القطاع الخاص المغربي.
و الآن و بعد مرور ما يناهز 5 عقود على استقلال المغرب نجد أنفسنا في حيص بيص عندما نريد تحديد طبيعة الاقتصاد المغربي، فهو ليس يإقتصاد الدولة و لا بإقتصاد ليبرالي محض و لا بإقتصاد إجتماعي تتحكم الدولة في دواليبه الأساسية و لا باقتصاد السوق بالمفهوم الليبرالي. و منذ سنوات كان المغاربة ينتظرون حدوث انفتاح على السوق و اعتماد الليبرالية كما تم الترويج لذلك كثيرا و بكثرة، إلا أن حكومة التناوب جاءت و روجت لفكرة إعادة النظر في تدخل الدولة و خلق اقتصاد اجتماعي. أما اليوم أضحينا نعاين و بقوة تواجد سلطة المخزن، ليس كإطار أمني و تسييري فقط، و لكن كإطار اقتصادي في إطار تكريش ليبرالية متوحشة لا تنسجم مع الطبيعة الحالية للبنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المغربي. فإلى نحن سائرون؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق