الخميس، 10 ديسمبر 2015

ادب السجون بالمغرب-مريد عزيز-


الراحل عبد العزيز مريد: أخرجت الشيطان الذي يسكن البلاد بكاملها(!!)
سعيد منتسب نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 04 - 2013

صباح الثلاثاء الماضي، وبعد مرض لم تنفع معه قوة المقاومة التي تميز بها في مواجهة الجلاد والمعتقل، رحل المبدع والمعتقل السياسي السابق عبد العزيز مريد. ويعتبر الراحل، الذي قضى في درب مولاي الشريف والسجن المركزي بالقنيطرة عشر سنوات (1974- 1984)بسبب أفكاره السياسية وانتمائه لمنظمة «23 مارس»، أحد مؤسسي جنس القصص المرسومة مغربيا.
وإذا كانت تجربة الرسم لديه قد انطلقت خلف القضبان، فإنها وصلت أوجها مع إصداره لقصته المصورة الأولى سنة 2001: « إنهم يجوعون الفئران تجويعا» (دار النشر طارق).
في هذا المؤلف الصادر باللغة الفرنسية وباللونين الأبيض والأسود، يسترجع مريد تجربة الاعتقال والتعذيب بكل أشكاله والمحاكمة غير العادلة التي اكتوى بنيرانها في مغرب سنوات الرصاص.
وبالإضافة إلى إبداعاته في مجال القصة المرسومة، مارس الراحل التشكيل والنقد، كما مارس العمل الصحفي.
في ما يلي نعيد نشر الحوار الذي أجريناه معه في صيف 2001.
} نهنئك على هذا الكتاب الجميل والرائع الذي يجسد محنة جيل كان يحلم بإشراقة شمس على وطنه، وخصوصاً جيل اليساريين الذين اعتقلوا وعذبوا وقتلوا في أقبية الظلام والظلم والعار، في ظل سلطات القمع التي كانت تنشر رعبها وقتامتها وكوابيسها في كل حلم، تحملوا ذلك من أجل أفكارهم وتوقهم إلى نظام سياسي قوامه الحرية والكرامة والديمقراطية..
نهنئك على هذا الكتاب الذي نعتبره دليلا على ذاكرة جماعية، نريد أن نتعرف معكم على الظروف المؤسسة لكتابة هذه الذاكرة؟ متى جاءت الفكرة؟ وما هي الصيرورة التي معها وأين أنجزتها؟
الكتاب يرجع تاريخه إلى 1980، بعد الإضراب عن الطعام الذي وصل الى 45 يوما، حين قمنا في السجن المركزي، نحن مجموعة مكونة من 139 معتقلا سياسيا وكان بيننا مناضلون من الاتحاد الاشتراكي بإضراب عن الطعام احتجاجا على ظروف الاعتقال.
بعد الإضراب، كنت في وضعية صحية خطيرة، وكان علاجي الأساسي هو الرسم والرياضة، هكذا قررت أن يكون العلاج، أن أدون عبر الرسم كل هذه البشاعة التي عبرت أجسادنا وعقولنا وزهرة أيامنا، قلت مع نفسي، لا يمكن أن نعيش كل هذه الفظاعات بدون أن يسجلها التاريخ. لقد لاحظت أن أجيالا من المعتقلين السياسيين الذين عانوا المحن، منذ الستينيات لم يسبق لها أن دونت تجربتها, نحن جميعا نعرف أن مناضلين وشهداء أفذاذ كلهم مروا من هناك، من هذا الظلام الذي كان يخنق المغرب، كلهم ضحوا في سبيل هذا الوطن، سواء في فترة الاستعمار أو أثناء مرحلة الاستقلال، لكنهم لم يتركوا للأجيال اللاحقة شيئاً، حيث أصبحنا نعيش أحداثاً بدون أن نؤرخها أو نودعها بين أيدي التاريخ كشهادة ,أصبحنا نقع خارج التاريخ، لأننا لا ندون ذاكرة المرحلة.
هكذا بدأت أكتب وأرسم قصة معاناتنا من أولها إلى آخرها، كيف اعتقلنا؟ ماذا جرى لنا في المعتقلات؟ أنواع التعذيب التي كابدنا في »غرف العمليات« الخاصة؟
وبطبيعة الحال، كانت حملات التفتيش في مرحلة الاعتقال مكثفة ويومية، فرغم نجاح الإضراب وتحقيقنا للقليل من الحرية والمكتسبات، كانت المداهمات يومية.. غير أنني كنت أرسم وأرسم في أوراق صغيرة، وأبعثها إلى الخارج عبر العائلة الأصدقاء الذين كانوا يزورونني, حتى تمكنت من الانتهاء من الكتاب.. وبالفعل، رحل الكتاب الى بلجيكا، هذا ما علمته وأنا رهن برودة الاعتقال، ومنذ ذلك الحين، انقطعت كل المعلومات المرتبطة بمصير الكتاب عني، لكنني عرفت فيما بعد أن كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق قرأ الكتاب، وعرفت أن الجميع في »أمنستي« الدولية قرأ الكتاب، ومجموعة من الحقوقيين في العالم تمكنوا من قراءة الكتاب وتأثروا به، وساهموا في الدفع لإطلاق سراحنا.
في ذلك الوقت، لم أكن أعرف كل ما صنعه هذا الكتاب.. على سبيل المثال، نشرت »ليبراسيون« الفرنسية رسومات منه على صدر صفحتها الأولى، كذلك »لوموند« وجرائد أخرى كانت تصلني عنها الأصداء فقط.
لم أر الكتاب إلا بعد خروجي، وجدت أن الرسوم لم تكن في المستوى، لأنني كنت مريضاً ويداي ترتجفان، لذلك قررت أن أعيد رسوم الكتاب كلها.
كانت لدي نسخة من الرسوم داخل السجن، لكنني أضعتها لما خرجت، ولم أحصل على نسخة جديدة إلا في سنة 1999 حين حملتها إلى صديقة أمريكية، لم تكن كتاباً، بل نسخة كاربونية من الكتاب، حينها قررت أن أعيده من جديد، بمنطق سردي جديد، وأن أعمل على تحيينه بما يتلاءم مع هذا المنطق.
مباشرة شرعت في العمل، أربعة أشهر قضيتها ملازما البيت، أرسم وأرسم، حتى اكتمل العمل الذي بين يديك الآن.
} اسمح لي أن أسألك: لماذا اخترت الرسوم وليس الكتابة؟
رغم أنني صحافي قضيت 15 سنة وأنا أكتب، فإنني لم أستطع لحد الآن أن أصوغ كلمات لوصف البشاعة، إنني أحيي جميع الأصدقاء والرفاق الذين استطاعوا أن يكتبوا ولو أنكم لاحظتم من خلال هذه الكتابات أن كل من عبد القادر الشاوي وصلاح الوديع وأبو يوسف، وعبد اللطيف لم يكتبوا التجربة بشكل مباشر..
} تقصد أنهم صبوا هذه التجربة في قالب روائي، يمتزج فيه الخيال بالتجربة والواقع بالأدب؟
نعم، كتبوا عن التجربة كموضوع أدبي غير مرتبط بالذات والمعاناة الشخصية، كانوا يلفون حول الموضوع، دون أن يترجموا حقيقته وهي تقوم بجلد أجسادهم وذاكرتهم..
} هل كنت تعتقد وأنت ترسم التجربة بكل هذه الفظاعة والبشاعة التي تطل من الرسومات أن الصورة المرئية أكثر تعبيراً من الكلمات؟ هل هناك قصدية معينة؟
لا أستطيع أن أكتب، هذا شيء فوق قدرتي، حاولت لكنني عجزت..
} لكننا نلاحظ، نحن قراء هذا الكتاب أنه مليء ليس بالحوار بين الشخصيات، بل بالتعاليق التي تمنح الموضوع قوة في الشكل والمعنى.
تماما، أولا، أنا رسام، ولدي إمكانية للتعبير بالصورة والرسومات، وهذا كما تعلمون عصر الصورة، والصورة القوية يمكنها أن تلخص مقالا بكامله، بل يمكنها أن تكون أكثر تعبيرية وأكثر نجاحاً في توصيل المعنى.. حين عجزت عن الكتابة لذات الرسم..
} إذن، المسألة ليست اختياراً مفكراً فيه..
لا، إنه العجز، نعم العجز.. أنا عاجز عن الكتابة، ويمكنني أن أقول إنني أعاني من حالة انحصار قوي يمنع كل الأشياء التي أخبئها في أعماقي في الخروج، لا يمكن لأية كلمة أن تترجم بدقة وصدق هذه الأشياء.. لذلك، صادفتني الصورة أو صادفتها، وجدت فيها الإبداع الفني الذي يمكنه أن يربط تجربتي بما يمكن أن نسميه التعبير.
هذا ما أردت أن أصل إليه من قبل: هل الصورة أكثر تعبيرية وفنية وصدق من الكلمة...
شخصيا، حين اطلعت على الكتاب وجدته أكثر تعبيرية عن كل الفظاعات التي تحدث في أقبية الاعتقال السرية من الكلمات.. فالعبارة في مثل تجربتكم أضيق من التجربة.. الواقع أكبر من الكملة والصورة في مثل هذه الحالة، تعبر عن امتداد التجربة في لحظة معينة وهو ما لا تستطيع الكلمات فعله نظرا لخطيتها وارتباطها بالوصف اللغوي الامتدادي في الزمن زمن الكتابة والقراءة معا.
الرسم تعبير ولغة له منطلقه ومعاييره الخاصة. وقد حاولت في رسوماتي أن أوفق بين الفكرة التي أروم إيصالها والتعبير الفني.
} اثارني في هذا الكتاب شيء أساسي جعلني ارجع إلى مرحلة الطفولة أو الشباب الأول حين كنت ومجموعة من الأصدقاء من جيلي المتمدرسين وغير المتمدرسين, نلتهم قصص وحكايات الرسوم المصورة من قبيل سلسلات »روديو« وليس »ألبمراكس« و»كابيت سوينغ« و»زامبلا» و»كيوي وبليك« و»اكيم« الخ.
هل كنت أيضا في طفولتك من هواة قراءة هذه السلسلات؟ وإذا كنت كذلك ما حجم التأثير الذي أحدثته فيك كرسام وكاتب؟
بطبيعة الحال هناك تأثير للعديد من الرسامين العالميين الذين كانوا يبدعون هذه السلسلات، أنا قارئ قديم للرسوم المصورة واعتبرها دائما شكلا من أشكال التعبير البطل وهذه مسألة ليست سهلة.
وإذا لاحظت فإن النصوص أو التعاليق المقترنة بالرسوم ذات شحنة تعبيرية وفنية مهمة ليس فيها أي ابتذال.
} حين شرعت في قراءة الكتاب لمست حضورا مستترا للجانب السير ذاتي.. هل هناك فعلا سيرة ذاتية تنكتب عبر صفحات الكتاب بشكل محتشم وغير واثق, كأنك لا تريد أن تعكس هذا الجانب الذاتي.
.. نعم، هناك حضور للجانب السير ذاتي ولكنه حضور غير مباشر، لأنني نسبته إلى شخص آخر, ثم أنني أميل إلى الحديث عن عملي كشهادة، وليس كسيرة ذاتية. الشخص الذي يكتب مذكراته في آخر الكتاب هو أنا، أنا الذي أصابني العمى، وذهبت إلى المستشفى وعانيت من مضاعفات الاضراب.. لكنني وجدت أنه من الأفضل أن أنسب كل هذه الوقائع والفظاعات إلى شخص آخر, هناك أشياء تخصني في هذا الكتاب، لكنني رفضت أن أقدم شهادة شخصية لأنني اعتبرت أنه ليس من المعقول أن أنسب إلى نفسي تجربة جماعية. ربما تكون قد لاحظت أن الأنوية (أنا.. أنا.. أنا) منعدمة هناك (نحن) ومجموعة من المشاهد لم تقع لي وحدي، بل تشمل تجربة جيل بكامله.
والقضية التي أريد أن ألح عليها هي أن هناك ثلاث مراحل في الكتاب: مرحلة التعذيب, ثم مرحلة المحاكمة, ثم مرحلة النضال من أجل تحسين الأوضاع في المعتقل.
مرحلة المكافحة اعتبرها جانبا مركزيا في الكتاب، لأننا كنا بالفعل بصدد بناء دولة الحق والقانون، فلا يمكن أن نصل إلى هذا المطمح بدون إصلاح القضاء. فمستوى القضاء عندما هزيل جدا وما صورته في الكتاب شهادة بسيطة عن هذا الابتذال والسقوط الذي يعيشه قضاؤنا.
} هل هذه الشهادة بمثابة تخلص من ثقل الذاكرة؟ هل شعرت، وأنت ترى كتابك يولد بين الناس في مغرب الان بنوع من الراحة والاطمئنان.
»شوف يا منتسب» تجربة الاعتقال التي مررنا بها كجيل ليست موضوعا للسخرية والمزاح عندي. لا أطيق أن يتحدث معي أي شخص عن هذه التجربة. وكأنه يتحدث عن شيء بسيط وعاد وقع ذات يوم و انتهى. أنا حين أنجزت هذا الكتاب أردت أن أتخلص من ثقل جسيم فوق ذاكرتي، وأن أساهم في تخليص ذاكرة جيلي من كل البشاعة التي عبرتها.
} هل أحسست فعلا وصدقا، أنك تخلصت من جرح داخلي؟
بطبيعة الحال. بطبيعة الحال..
} هل يمكن لعمل تعبيري وفني ان يساهم في تحقيق ما يمكن ان نسميه بالتطهير بالمعنى الارسطي، أي الاغتسال من التوتر.؟
هذا يقع في كل مكان، في الشيلي وكواتيمالا.. الخ.. الناس يتكلمون في التلفزيون والصحف، ليخرجوا ذلك السواد والحقد، ذلك الشيطان الذي يسكن حواسهم والذي سكن البلاد بكاملها.
لا يمكن أن نتقدم خطوة نحو الديمقراطية وحقوق الانسان ونحو احترام أنفسنا، ما لم نتعرض للتطهير.
} ألا تعتقد معي أن ذاكرة الاعتقال السياسي هي ذاكرة جسد أساسا ومن الصعب على أي عمل إبداعي أو تعبير فني بشكل عام أن يمحو ذاكرة القمع والارهاب بسهولة. بل إنه يساهم فقط في تلطيفها و التخفيف من حدتها.
ذاكرتنا لايمكنها أن تمحي. لكن من الضروري أن نضع هذه الذاكرة أمامنا بشجاعة. نحن لا نخطو نحو النسيان، وليست هذه رغبتنا. مهمتنا ان نؤرخ هذه الذاكرة لأنها جزء من تاريخنا. من منا عرف شيئا عن المرحلة الاستعمارية؟ شخصيا أؤاخذ المغاربة لأنهم لم يتحدثوا عن الاستعمار الذي تحول بفعل الصمت الى مجموعة من النكت والمستملحات، لماذا وقع الاستعمار؟ ماهي التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي سهلت دخول الاستعمار؟ هذا مهم.
} سؤال آخر أريد أن أطرحه عليك، هل تعتقد ان ذاكرة الاعتقال السياسي لن يكتبها الا المعتقلون السياسيون. ام أنها لن تنكتب بصورة دقيقة وكاملة إلا إذا ساهم فيها الجلادون وعائلات الضحايا؟
أتمنى أن يساهم في كتابة هذه الذاكرة علماء الاجتماع، وعلماء النفس والمؤرخون والاطباء ورجالات مختلف العلوم الانسانية بشكل عام وبطبيعة الحال، لا يمكن لهؤلاء ان يساهموا في كتابتها اذا لم تكن بحوزتهم معطيات كافية.
أما إذا رغب الجلادون في المساهمة، فأنا سأكون سعيدا جدا، لأنهم بدون شك، سيغنون التجربة من زاوية أخرى وبنظرة أخرى مغايرة تماما.
مساهمة هؤلاء ستعبر عن تلك العقلية التي نكلت بنا، ستعبر أيضا عن منطق الصراع.سيفهم الجميع أن القمع لا يبني مجتمعا، بل يهدمه. أتمنى أن يكون هناك حوار حول الذاكرة، بدون حقد أو كراهية أو رغبة في الانتقام.
....................
 أدب السجون و مقاومة الاستبداد السياسي بالمغرب



منير لخضر
الحوار المتمدن-العدد: 1860 - 2007 / 3 / 20 - 12:24
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن




الفرضية الأساسية التي تدور حولها هذه المقالة هي على الشكل التالي: إن أدبيات الاعتقال السياسي بالمغرب لا تعبر عن تجارب إنسانية شخصية فقط بقدر ما تعبر عن فعل مقاومة للاستبداد السياسي في فترة التوتر بين الدولة و المجتمع و واجهة للنضال من اجل الديمقراطية و حقوق الإنسان.

يعتبر الأدب أحد الفنون الجميلة السبعة إلى جانب الموسيقى، الرقص، النحث، الرسم، المسرح، فالسينما، فهو يعبر تعبيرا جميلا مؤثرا في حنايا النفس البشرية، و ما يختلج فيها من عواطف و أفكار و رؤى. أما السجن فهو نقيض الحرية نقيض الإبداع يتساءل الشاعر عبد اللطيف اللعبي في هذا السياق " هل هناك نقيض لجوهر الأسر أدق من الكتابة " و فيه تتعطل كل الرغبات و بتعبير الفيلسوف ميشيل فوكو "اقتصاد للحقوق المعلقة " .

لقد شكلت أدبيات الإعتقال السياسي واجهة من واجهات الصراع السياسي في العالم العربي الإسلامي نظرا لسيادة الطغيان السياسي لذا اعتبر البعض بان أدب السجون هو في نفس الآن أدب مقاومة لأنه يعمل على إدانة و فضح مختلف الممارسات السلطوية المتحكمة في السلوك السياسي للأنظمة العربية – الإسلامية فمن المشاكل التي يعاني منها العالم العربي الإسلامي نجد غياب الديمقراطية و احتكار السلطة و هكذا يمكن القول أن أدبياب الإعتقال السياسي بالمغرب لا يمكن حصرها فقط في كونها تنتمي إلى ما بات يعرف بأدب السجون بقدر ما يمكن أن نذهب بعيدا من ذلك و نقول أنها تشكل بالفعل أيضا أدب مقاومة، مقاومة الاستبداد السياسي و الممانعة السياسية للنظام السياسي المغربي في فترات التوتر أو ما بات يطلق عليه " سنوات الرصاص".

لقد ظل موضوع السجن السياسي من الطابوهات التي يحرم الخوض فيها في الوطن العربي الإسلامي بصفة عامة و في المغرب بصفة خاصة إلى وقت قريب و الملاحظ اليوم هو تزامن إنتعاش حركية إصدار أدبيات الإعتقال السياسي مع فترة عنونها العريض:"المصالحة"، المصالحة على مستوى قواعد اللعبة المؤسساتية ، المصالحة على مستوى قواعد اللعبة الاقتصادية، المصالحة على مستوى قواعد اللعبة المجتمعية ،على أن تفاعل المجتمع المدني و الحقوقي المغربي مع هذه الكتابات كان دافعا أساسيا و إيجابيا في اتجاه التصدي لكل المعاملات اللإنسانية و الماسة بالكرامة الإنسانية داخل تلك المعتقلات الرهيبة ( تازمامارت، قلعة مكونة أكدز، درب مولاي الشريف...) .

إن النقاش الحقوقي و السياسي الذي ساد خلال هذه الفترة حول السبل الناجعة للطي النهائي والملائم لصفحة الماضي الأليم لم يتزامن فقط مع الحركية الواسعة لإصدارات أدبيات الإعتقال السياسي التي تجعل من السجن و الإعتقال موضوعات محورية و مركزية لها، و إنما تزامن كذلك مع الكشف عما جرى خلال تلك المراحل العصبية و في نفس السياق شكلت كل من جلسات الاستماع العمومية التي نظمتها هيئة الإنصاف و المصالحة و جلسات الإسماع العمومية التي نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان خطوة في غاية الأهمية في سبيل الكشف عن الحقيقة و إعطاء الفرصة للمعتقلين / الضحايا أنفسهم الذي لا زالوا على قيد الحياة أو لذويهم للبوح بشهادتهم و بمعاناتهم من جراء القمع، الإعتقال، السجن، التعذيب .... و كانت فرصة لجميع المغاربة و للعالم للوقوف عند هول و فظاعة ممارسة السلطة على المعارضين السياسيين إبان مرحلة التجاذب و الصراع السياسي العنيف أحيانا إنها باختصار لحظة تاريخية يصغي فيها الوطن بكل جوارحه إلى أنين و معاناة أبنائه.

إن أدب السجون بالمغرب علاوة على أنه ينقسم إلى نوعين أساسيين الأول:
أدب السجون عسكري و الثاني أدب سجون مدني، يتجسد من خلال العديد من الأجناس الأدبية كالرواية، الشعر المحكية الرسائل و اليوميات... و قد ظهر كذلك في الرسم الكاريكاتوري نذكر على سبيل المثال تجربة محمد النضراني ( من معتقلي مجموعة بنوهاشم بقلعة مكونة ) و تجربة عبد العزيز مريد الذي حاول رسم الإعتقال السياسي في صور (bandes dissinnées) من خلال كتابه "إنهم يجوعون الفئران تجويعا"و هو أسلوب غير مسبوق في الأدب المغربي لاسيما في موضوع من الموضوعات ذات الطبيعة السياسية الحساسة.

إن هذا التنوع الأدبي في مقاربة قضية الاعتقال السياسي لشيء جميل، و محمود يجعل من أدب السجون يترامى على أطراف الأدب الرحبة خالقا بذلك "جبهة أدبية " من أجل مقاومة و فضح الفظا عات المرتكبة في كواليس المعتقلات و السجون السياسية بالمغرب لكونه يعبر تعبيرا صادقا و صريحا عن آمال الشعوب التواقة إلى التحرر و الإنعتاق من أسار الطغيان السياسي و يعمل بجهد من أجل تعبئة القارئ العربي _الإسلامي و العالمي للتصدي لهذا "العار السياسي " الذي يجثم على أنفاس البشر في أفق إزالته من واقعنا العربي_ الإسلامي و بهذا يكون أدب السجون أدبا ملتزما تشكل قضية الاعتقال السياسي لب إهتماماته.

إننا نعتقد إن أدب السجون بالمغرب رغم محدودية الخطاب الإبداعي عموما كان له دور في الدفع ببروز وعي حقوقي و سياسي كفيل بالضغط على النظام السياسي لإقرار الضمانات السياسية و الدستورية القمينة بتجاوز الماضي و حفظ الذاكرة الجماعية و عدم تكرار ما جرى في أفق بناء مغرب تسوده الحرية، الديمقراطية و حقوق الإنسان.

هكذا إذن يمكن الخلوص إلى أن الكتابة السجنية شكلت بالفعل أداة لتشخيص فعل المقاومة و الصراع مع النقيض الجوهري "السجن" في أفق إزالته و تشييد وطن يكون منطلقه الإنسان و منتهاه الإنسان و طن بلا جيوش، بلا سجون،و بلا دموع، , أن أدب السجون يعبر عن مشاعر الشعوب و عن الفكر السياسي و النضال من أجل الحرية و الديمقراطية كوسيلة و غاية في نفس الآن.


برنامج نوستالجيا عبد العزيز مريد NOSTALGIA Abdelaziz ...

www.youtube.com/watch?v=NHMWnQGyQGc
22‏/02‏/2015 - تم التحديث بواسطة Nostalgia Rachid nini
برنامج نوستالجيا عبد العزيز مريد NOSTALGIA Abdelaziz Mouride إعداد و تقديم : رشيد نيني 2m.ma
........................

DAR BOUAZZA.عبد العزيز مريد في نوسطالجيا رشيد نيني ج4

https://www.youtube.com/watch?v=mY_-GaffWfs
04‏/08‏/2009 - تم التحديث بواسطة badi MAMOUD
ABD EL AZIZ MOURID A NOSTALGIA RACHID NINI .PARTIE 4.
..................................

عبد العزيز مريد.. نضال، رسوم وأشباح

سعيد خطيبي



برحيل عبد العزيز مريد، تفقد المغرب كاتباً متبصراً، رساماً مشاكساً، مبدعاً مؤسساً لفن الكوميكس، ومناضلاً ملتزماً، لطالما ارتبط اسمه بالتجديد وبالدفاع عن لغة الهامش.

أعمال عبد العزيز مريد (1949 - أبريل 2013) الفنية تعبر على مرحلة مهمة من بدايات الشريط المرسوم، في المغرب العربي إجمالاً، والمملكة المغربية تحديداً، فقد اشتهر الراحل، بعديد من الأعمال المصورة، المنشورة في صحف وفي كتب مستقلة، أهمهما «نُجوّع جيداً الجرذان» (منشورات باريس – ميديتيراني 2001)، التي حكى فيها تجربة عشر سنوات من السجن، فرغم ما عرفه من رقابة وتضييق ومحاولات متكررة لكتم صوته، عشرية السبعينيات ثم الثمانينيات، بسبب نشاطه السياسي وعمله النضالي الحثيث ضمن ما كان يعرف ﺒ «حركة 23 مارس/أذار» المعارضة ذات التوجه اليساري الراديكالي، لم يتوقف عبد العزيز مريد عن التعبير عن رأيه والدفاع عن مواقفه المعارضة للسياسة العامة في البلد، كتابة ورسماً، وراح يؤرخ ليوميات المغاربة في رسوم كاريكاتورية، أشرطة مرسومة وفي كتابة نصوص قصيرة عن حياة الهامش ومعاناة الشريحة الأوسع من أبناء الشعب.

في شريط «نُجوّع جيدا الجردان» تختلط السخرية السوداء بالدراما الإنسانية في رسم ملامح حياة مضطربة لمناضل مغربي أراد أن يرى بلده ينتقل نحو الأفضل فوجد نفسه مداناً باثنتين وعشرين سنة سجناً (قضى منها عشر سنوات)، داخل زنزانة بدرب مولاي الشريف بالدار البيضاء، ثم في سجن القنيطرة، حيث حكى الراحل في الشريط نفسه عن العزلة، التعذيب، الإضراب عن الطعام، الإهانات المستمرة التي كان يتعرض لها، وتداعيات الحقبة السوداء وسنوات الرصاص، أيام حكم العاهل المغربي الأسبق الحسن الثاني، حيث يتجاوز الواقع الخيال. عبدالعزيز مريد كتب ورسم كثيراً عن مسقط رأسه بالدار البيضاء، خصوصاً في روايته المصورة «الحلاق» (منشورات ميلود نويغا،2005)، والتي يحكي فيها ظاهرياً الحياة اليومية في حي شعبي بكازابلانكا، بعيون حلاق شاب، سنوات الستينيات، وباطنياً، بدايات التضييق السياسي وتوسع المنطق البوليسي المفروض على الحياة العادية للمواطن، أما آخر أعماله فتمثلت في اقتباس رواية «الخبز الحافي» للكاتب المغربي الشهير محمد شكري في شريط مرسوم، إلى جانب ذلك فقد عمل الراحل في الصحافة والتدريس في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء.

صحيح أن عبد العزيز مريد قد رحل وتوقف عن الرسم وعن تمرير رسائله الثقافية والسياسية، لكن إرثه الفني والنضالي كفيل بأن يضمن له حياة ثانية على واجهة المشهد الثقافي في المغرب، فأشرطته المرسومة ليست تخاطب المراهقين فقط، بل الكبار أيضاً، لما تتضمنه من شحنة سياسية وعمق يتطلب وعياً فكرياً معيناً، فقد وجد مريد في الكوميكس واسطة مهمة للتعبير عن رأيه بنبرة ساخرة، بصور متحركة ونصوص قصيرة ومكثفة، خلطة جعلت منه عملة إبداعية مهمة، وصوتاً مكرساً في كشف المستور، حيث ظل طويلاً مدافعاً عن القناعات نفسها، وملتزماً بطرقه الفنية الثابتة، فعبد العزيز مريد لم يقم فقط باستيراد فن الأشرطة المرسومة، والذي يعتبر فناً غريباً بامتياز، بل قام بتوطينه عربياً، ومنحه نفساً محلياً وإيقاعاً يتماشى مع الحياة العربية اليومية، وظل يعرفه دائماً باعتباره «رسالة محبة وإنسانية».
......................

رحيل عبدالعزيز مريد.. فنان قلم الرصاص الذي رسم «سنوات الرصاص»

المصدر:  | 12 أبريل 2013 | فن و ثقافة |
220774ob-6220774.png
حكيم عنكر
ودع الدنيا الفانية، أول أمس، الفنان والكريكاتيرست المغربي عبدالعزيز مريد بعد مرض ألم به، وشيعه  قلة من أصدقائه ومن رفاقه في درب الكفاح المرير.
عبدالعزيز قصة إنسانية ورمز من رموز الفعل النضالي في زمن سنوات الرصاص، ابن الدار البيضاء، ورفيق حبشي والوديعين صلاح وعزيز ورشيد فكاك.
سيرسم كتابا عن تلك التجربة القاسية في درب مولاي الشريف وفي سجن القنيطرة، أسماها «إنهم يجوعون الفئران». إنه نموذج المناضل الحقيقي، والفنان العصامي وابن عين الشق الذي ارتبط بهموم الشعب منذ البداية.
يكتب مريد بقلم الرصاص «إذا الشعب يوما أراد الحياة» بخطه المميز، ويعلق متهكما «أكتب عن سنوات الرصاص بقلم الرصاص».
 هو بالفعل عميد الصحافة والكاريكاتير والصور الثابتة، أعاد ترتيب حياته وحياة زملائه المعتقلين كقطع، وتصفيفها وتقديمها من جديد.
مريد ليس رجلا عاديا ولا مواطنا مغربيا، كان يمر جنب الحائط. لقد جسد أحد أقوى لحظات المقاومة، وهو لم يندم يوما على تلك التجربة التي خاضها من أجل وطن أجمل.
قيمة الحرية بالنسبة إليه أهم شيء والإحساس بها تتحقق في المجتمع المغربي يثلج الصدر في نظره، ولكنه مع ذلك لا يعتبر أن الأمور حسمت أو انتهت، بل «مازال ما يدار في هاذ لبلاد»، وبالتالي يعتبر أن مسار تحقيق الديمقراطية طويل، كما يعترف بأن السجن لم يخلق لديه أي إحساس بالكراهية اتجاه جلاديه، ولا  رغبة له في الانتقام ممن وضعوه في السجن  وهو في زهرة شبابه.
في السجن تمكن من تطوير موهبته، ومن سبر أغوار هذه التجربة القاسية. يحكي عزيز الوديع عنه قصة مثيرة، لما كانوا جميعا معتقلين في درب مولاي الشريف، والواقعة تتلخص في أن أحد «الحجاج» ضبطه يوما وهو يصنع بـ»لبابة» الخبز تمثالا صغيرا  للينين. طبعا، وجدها «الحاج» فرصة سانحة لمعاودة حفلة الضرب على الجسد النحيل لمريد، فسأله  عمن يكون هذا التمثال؟ فتفتق ذهنه عن جواب سريع: توحشت با ورسمتو، وبغيت ندوي معاه». طبعا ستنكشف الحيلة بعد ذلك، عندما حضر رئيس الحراس وعاين  المنحوتة «الخبزية» لمريد، فرد على «الحاج»: هاذا  راه رسم لينين، فكانت حفلة التعذيب من جديد.
يحكي مريد  أنه  أمضى عاما نصفا وهم يضعون عصابة على عينيه، منذ يوم اعتقاله،  وقال إنه عندما رأى الشمس لأول وهلة، شعر بأنه في الجنة تماما.
لا يعدم مريد عبدالعزيز حس الفكاهة أو السخرية وهو يتحدث عن تجربة السجن الطويلة. يقول معلقا على الأحكام التي صدرت في حق المجموعة التي ينتمي إليها: «أخذنا 25 قرنا من السجن كمجموعة على 139 معتقلا سياسيا».
مسار السجن هو مسار الإضرابات عن الطعام من أجل تحسين الأوضاع، إضرابات متقطعة من 15 يوما و10 أيام، ثم إضرابات الحسم من  45 يوما، وصل فيها  وزنه إلى 35 كيلوغراما، أصيب باجتفاف في الدماغ، كان سببا في مرضه العضال. يقول إنه كان  من فرط الإضراب عن الطعام  يمشي في ساحة السجن مثل السكران، في شبه غيبوبة تامة.
عاد إلى ذاكرته، ورسم تلك اليوميات، يوميات السجن، وهكذا استطاع أن يهرب كتابه الأول والمعنون بـ»في أحشاء بلادي»، من السجن وطبع الكتاب في بلجيكا، وأصبح دليلا للحركة الحقوقية العالمية على ما يقع في السجون المغربية من تعذيب وحشي.
عرف الكتاب على نطاق واسع لدى المنظمات الحقوقية العالمية، وكان بداية الكشف عن ملف الاعتقال السياسي في البلاد.
يؤكد مريد أنه بفضل تلك الرسومات ووصولها إلى الرأي العام الدولي، بدأ ملف الاعتقال السياسي يجد طريقه إلى الصحافة العالمية وإلى الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وبدأت بوادر فرجة من الضوء تلوح في الأفق، أصبح الأمل في الخروج من هذا الوضع  يراود النفوس، وبدا أن الانفراج قريب.
طبعا، سيجد ملف الاعتقال السياسي طريقه إلى الحل بعد سنوات من ذلك، وبعد أن تحسنت نسبيا وضعية المعتقلين السياسيين داخل السجون المغربية، واستطاع مريد أن يرسم بحرية في مرسم خاص في المعتقل.
يرى مريد أن آخرين من رفاقه في التجربة، أرخوا لها رواية أو شعرا أو محكيات أو كتابة سياسية وفكرية، ولكن مادامت لم تكن توجد صور لتلك الفترة، وكان يستحيل ذلك، فقد استطاع أن ينقل حياة السجن وظروف التعذيب إلى العالم الخارجي عن طريق الصور.
قبيل وفاته، كان مريد يعمل على تحويل رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى سلسلة رسوم مصورة.  لقد كان رهانه تحويل هذه الرواية التي طارت شهرتها في الآفاق إلى كتاب «بوند ديسيني»، وربما -كما يقول معارفه- يكون قد انتهى منه، لتكون أول تجربة مغربية  في تحويل عمل أدبي إلى رواية صور مسلسلة.
وإذا كان من خلاصة، فهو ما يحكيه مريد نفسه بنفس ساخر، هو زاد الفنان الحقيقي، يقول إنه لما خرج من السجن، كان الشيء الوحيد الذي يخيفه هو عبور «الشانطي»، ففي السجن يحافظ السجين على نفس السلوك، وبما أنه لا توجد طرق داخل السجون، فإن أكبر تحد للمعتقل عندما يفرج عنه هو كيفية عبور الطريق من الطوار إلى الطوار.
يرى أن السجين لا يكبر في السجن. يقول «تركتنا الحياة عند نقطة، وأردنا أن نجدها لما خرجنا من السجن عند نفس النقطة». لكن العالم كان قد تغير!
...................................
 حوار مع الفنان الشاب " زكرياء التمالح " ( الجزء الأول)
حاورته : أسماء التمالح
زكرياء التمالح شاب مغربي ازداد بمدينة القصر الكبير في 4 مارس 1987، ينحدر من أسرة محافظة، حاصل على شهادة الباكلوريا تخصص لغات ” الإسبانية” سنة 2005، وعلى دبلوم الإجازة من معهد الفنون الجميلة بتطوان تخصص ” الأشرطة المرسومة” سنة 2012، شارك زكرياء التمالح ونظم الكثير من الأنشطة والتظاهرات الثقافية في الفترة الدراسية الجامعية (سواء في المسرح أو في ميدان الفن التاسع)، كما شارك في عدة مهرجانات بالمغرب وخارجه : ” كازانيم” بالدار البيضاء، المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة في دورته السابعة بتطوان، ” المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة بالجزائر ( أكتوبر 2012)، و” المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة بإشبيلية بإسبانيا …الخ . له إسهامات فنية في المجال الفني الورقي ( مجلة ورد وياسمين الورقية)، وله مشروع كتاب في الأشرطة المرسومة مطروح حاليا إلكترونيا تحت عنوان ” تحت الصفر” .
في هذا الجزء من الحوار يكشف زكرياء التمالح عن أن ممارسته للفن هي ممارسة لحياته البسيطة بشكل بسيط وغير معقد، وأن عالم الفنون الجميلة هو عالم يعج بالوسائط والوسائل المتباينة، وعملية إنجاز كتاب من الأشرطة المرسومة هي من أصعب ما يكون لأنها ترتكز في الإشتغال عليها على شقين أحدهما : نظري والآخر تطبيقي .
في هذا الجزء الحواري أيضا، يعترف زكرياء التمالح أنه كان أصغر فنان مغربي مثل المغرب في الجزائر في المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة بين ما يفوق المائة فنان وفنانة من كل أنحاء العالم، دون أن يتلقى أي دعم مادي أو معنوي من الدولة طيلة مسيرته القصيرة، بل لم يحصل حتى على المنحة الدراسية التي حصل عليها زملاؤه من أبناء الأطباء والمهندسين، كما يصرح “زكرياء ” بأنه تعرف على رائد الفن التاسع ” عبد العزيز مريد” بالعاصمة الجزائرية، وودعه هناك دون أن يعلم بأنه سيكون الوداع الأخير وأن ” مريد” – رحمه الله- سيرحل إلى دار البقاء بعد شهور معدودة من هذا اللقاء .
مزيد من التصريحات يحملها إليكم النص الحواري التالي :
/ مرحبا زكرياء، سعداء باستضافتك في هذا اللقاء الحواري الخاص . أول سؤال نستهل به جلستنا هو : من هو زكرياء التمالح ؟
بادئ ذي بدء لابد أن أتقدم بكل معاني الشكر والإمتنان لمنحي هذا الشرف الكبير وهذه الفرصة الثمينة لأعرف بنفسي، وأتعرف على جمهور عريض يتابع بشغف أعمالك وأنشطتك الكثيفة والمتنوعة سواء الإعلامية أو الجمعوية أو الخيرية التطوعية . في الحقيقة هو مجهود جبار يستهلك من الوقت والجهد ما يستهلكه، أزعم أنني من أكثر الناس معرفة بحجم تلك المجهودات والتضحيات، والسبب أننا نشأنا وترعرعنا معا في كنف نفس الأسرة وحملنا نفس الإسم . ولهذا السبب تحديدا أعترف أن هذا اللقاء الحواري سيكون بدون شك أصعب لقاء في حياتي لأن محاورتي هي أختي العزيزة أسماء، فلا أملك أمامك إلا أن أكون أكثر صراحة مما أنا عليه، فأنا أمام من يعرف كل حركاتي وسكناتي ونجاحاتي وسقطاتي .
عبد ربه زكرياء التمالح من مواليد مدينة الأمجاد والأجواد ” القصر الكبير” ، 26 سنة، حصلت على شهادة الباكلوريا سنة 2005 شعبة آداب عصرية / تخصص لغات ” الإسبانية”. كنت مميزا بين رفاقي منذ الطفولة، فقد كانت اهتماماتي تختلف عن تلك التي تطبع مرحلة الطفولة، فبالإضافة إلى كوني كنت متفوقا في الدراسة، فقد كنت أعشق الرسم والأعمال اليدوية وأهتم بشكل غير عادي بالمعرفة والبحث عن معلومات يجهلها أقراني، كان الرسم محظورا في تلك الفترة لأنه كان من إرهاصات الفشل الدراسي، والتلاميذ الرسامون يضيعون وقتهم في ” الشخبطة واللخبطة” ( لم أفهم أبدا هذه النظرية العبقرية !!) .
بعد الباكلوريا كان أمامي طريقان: إما أن أكمل دراستي في المعهد الوطني للفنون الجميلة وإما أن أتخصص في اللغة الإسبانية، وكلا الخيارين وارد في مدينة تطوان، ولتفادي الحيرة والمفاضلة اخترتهما معا . لم أوفق في مباراة ولوج المعهد لأن أعمالي سرقت مني ليلة عرضها على اللجنة الفنية، وبعد تجربة الكلية في المسلك المذكور التي دامت سنة واحدة أيقنت أنني أضيع وقتي هناك ولا سبيل لي في الحياة غير الفن .
بذلت قصارى جهدي لأكون مقنعا للجنة المعهد وتوكلت على الله فوفقني، كان عالم الفنون الجميلة أشبه بالخيال بالنسبة لي، كان عالما مثاليا أفلاطونيا سرعان ما تلاشت هذه الصبغة عنه . كان مساري الدراسي مرهقا للغاية، لحظاته المظلمة كانت أقوى من المضيئة ولم يكن تصاعديا إنما تخللته كبوات وانحدارات، لكنها انتهت بنجاح وتوفيق من الله فأهداني ضوء الأمل الذي أعيش به فنيا إلى حد الآن.
في الفترة الدراسية ( الجامعية) شاركت ونظمت الكثير من الأنشطة والتظاهرات الثقافية سواء في المسرح ( كنت ” سينوغراف” مع فرقتي المسرحية ومع فرق أخرى وشاركنا في تظاهرات دولية محلية) أو في ميدان الفن التاسع . شاركت في مهرجانات عديدة في المغرب وخارجه وأطمح إلى الكثير لأنني لازلت في بداية الطريق .
2/ ما الذي يجذبك لعالم الفن ولماذا اختيار ميدان الفنون الجميلة ؟
ما يطبع شخصيتي هو قيمة المشاركة، فأنا أحب مشاركة أفكاري، قناعاتي، مبادئي، تجاربي، آمالي، تخوفاتي، حكاياتي بل حتى أسراري مع الغير . فأنا أعيش حالة إفراط في ذلك لدرجة أن البعض في بداية تعرفهم علي يظنون أنني من هواة الثرثرة واحتكار الكلام، بينما يذهب البعض الآخر إلى أنني من عشاق استعراض العضلات الفكرية والمعرفية أو ادعاء العبقرية لكن الحقيقة على عكس ذلك تماما . كل ما في الأمر هو انني أعرض محصولي المعرفي على غربال معارفي من الناس لأتخلص من الشوائب وأتخفف منها . فالآخر بالنسبة لي مكمل للأنا وكل تواصل بين هذين الطرفين ( الأنا ، الآخر) مهما كان نوعه أو طبيعته، فهو بمثابة سماد يسهم بدون شك في تنوع وثراء محصولي المعرفي عبر آلية النقاش أو الجدال أو حتى الدردشة ولعل هذا هو جوهر الفن .
فالفن في نظري وسيلة تواصل تختزل كل ما ذكرت في بداية إجابتي ارتكازا على ثالوث ( الأنا/ المعطي أو الفنان-الغير/ الجمهور أو النقاد – الرسالة التواصلية/ المضمون الفني). فما يجذبني لعالم الفن هو تلك الفرصة الذهبية التي يتيحها لي في تفريغ ذلك المحصول ومشاركته مع الغير قصد إعمال العقول، واستفزاز المشاعر لتحسين الذوات ومحاصيلها المعرفية في نفس الآن .
باختصار، ممارستي للفن هي ممارسة لحياتي البسيطة بشكل غير بسيط وغير معقد، وعالم الفنون الجميلة يعج بالوسائط والوسائل المتباينة التي لايفقه لغتها ” على الأرجح” أعداء الحرية والتعبير . فأنا أتعمد اعتماد إحدى تلك الوسائل لأراوغ وأتحايل عليهم من أجل بلوغ غاياتي المتمثلة في المشاركة والتواصل والتعبير بحرية أكثر .
3/ يقف الكثيرون عند حدود الفن السابع وكفى، ولايعلمون أن هناك فن ثامن وتاسع لايقل أهمية ومتعة وإفادة عن سابقيه . بصفتك خريج شعبة الأشرطة المرسومة من المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان كيف تقدم تعريفا للفن التاسع ؟
نعم هذا صحيح للأسف الشديد، وهو دليل قاطع على تدني المستوى الثقافي والفني في المجتمع المغربي ولنقل المجتمعات العربية ككل . لدي أصدقاء من المحيط إلى الخليج هم أيضا يشعرون بعزلة شديدة ويسعون لإيجاد منفذ يتسع لهم ليفرضوا أنفسهم بجانب مكونات المشهد الثقافي في بلدانهم . فالفن الثامن مثلا ( فن التصميم بشتى أنواعه: التصميم الإشهاري/ الصناعي/../..الخ) يعتبر من أعتى دعامات اقتصادات العالم، والسؤال: كيف نصنع منتوجا ما ونسوقه؟ الجواب: نصمم شكله الخارجي والداخلي ثم نصنعه ثم نطلق معه وابلا من أساليب الدعاية بمختلف وسائلها ووسائطها كي نفرض على الزبون استهلال هذا المنتوج. فتصميم المنتوج وتعزيزه بالدعاية اللازمة يندرج ضمن مسؤوليات الفن الثامن. فيكفي أن نسير بالسيارة في أحد شوارع المدن الكبرى أو ندخل أحد الأسواق الممتازة للتعرف على إنتاجات الفن الثامن. إن ذلك هو بمثابة التجوال داخل معرض كبير للوحات من جنس فني آخر ذو طابع استهلالي، أما الفن التاسع فذاك مجالي ومنبع محنتي ومتعتي، إنه مجال الأشرطة المرسومة وسينما التحريك” الرسوم المتحركة”.
عندما كنت طالبا وحتى هذه اللحظة كنت دائما ومازلت أردف سيلا من الكلمات التي تشرح مجال تخصصي ” الأشرطة المرسومة” بعدما يسالني عنه سائل، وذاك جزء من محنتي. فبعدما تحبطني ملامح ذلك السائل التي تنضح بالإستفهام أقول مستدركا: ” القصص المصورة، قصص الأطفال، رسومات تحتوي على كلمات وحوار بين شخصيات …”يشتد حرجي حين يرد ذو الملامح المتهللة فجأة: ” آه فهمت، تقصد الكاريكاتير..؟ تشتد محنتي وحرجي فأنقلب مندوبا للدعاية عند مجلات تهتم بالمجال مثل” ماجد” و” العربي الصغير” عسى أن تخلصني هذه الدعاية المجانية من هذا الموقف المثير للشفقة، فمنهم من يفهم قصدي فيستتفهني بنظرة مصوبة بدقة نحو معنوياتي التي تستشهد فنيا على الفور، ومنهم من يدعي الفهم دون أن تفوته فرصة تصويب نفس نظرة الذي فهمني حقا نحوي .
دعيني أخبرك بكل أسف أن السائل أحيانا يكون من ثلة المثقفين وأهل الفكر سواء في مدينتي الصغيرة أو باقي ربوع المملكة. أعلم أن كلامي سوف يثير حفيظة البعض وخصوصا من أسميهم ” أشباه المثقفين”، كيف أصف شخصا أو هو يصف نفسه بالمثقف وهو لا يعرف حرفا عن الفن التاسع أو الثامن؟ لايعقل أبدا، أقول هذا لأن مجال الثقافة بما تتضمنه من الفنون التسعة والتراث بشقيه المادي واللامادي صار سوقا يلجه من هب ودب، إذ يكفي أن يكتب ” نكرة” مقالا وينشره على مدونات إفتراضية غالبا ما يكون صاحبها ليتحول إلى ” معرفة” بصفة مثقف. هذا تزييف لوعي مجتمع بأسره، نفس الشيء مع راكب الدابة الذي ولج سوق الثقافة مترجلا ليخرج منه فنانا ومبدعا معتقا دابته عسى أن تتخذه مرجعا فنيا ومدرسة بعد خروجها من ذاك السوق المفتوح .
لايغمرني أدنى شك في أن السواد الأعظم من المغاربة لايعلمون أن الإنسان منذ نشأته التاريخية عبر عن ذاته برسم الصور قبل قرون من اختراع الكتابة التي كانت أصلا صورا مؤسلبة تحولت إلى حروف لاحقا. فيقيني هذا نابع من المستوى المتدني أيضا لثقافة الصورة عندنا وهذا أمر خطير، فنحن نتعامل مع هذا العنصر بسطحية رهيبة .
في الدول المتقدمة يكفي أن يضعوا أيقونة ” ممنوع التدخين مثلا” في الأماكن العمومية حتى يكف المدخن عن فعله، أما عندنا فسائق الحافلة ذات النوافذ المحكمة الإغلاق يدخن بشراهة غير آبه بصوت سعال ضحاياه ولا احتجاجاتهم، ناهيك عن الصورة المعلقة قبالة عينيه التي تنهاه عن التدخين، فلا صورة تنفع ولاصوت وهذا راجع لمناهج التعليم المعتمدة على التلقين عندنا وعلى الصورة بشكل كبير عندهم ” الدول المتقدمة ” . فالطفل يميل إلى الرسوم المبسطة والمفخخة بالقيم التربوية والأخلاقية التي تجد من فطرة الطفل النقية تربة خصبة قابلة للزراعة منذ الصغر، مثمرة حتما عند الكبر خصوصا عندما تصطف مضامين هذه الصور ضمن قالب قصصي ممتع ومفيد يساهم أكثر في تكريسها وهذا هو كنه الفن التاسع، لأنه يجمع بين الصورة والقصة .
قد يذهب البعض إلى أن الفن التاسع فن معاصر أنجبته التكنولوجيا الحديثة مما يبرر جهل أهل ” القرطاس والقلم” به، وهذا غير صحيح بالمرة . فقد أوضح العديد من المؤرخين الفنيين أن هذا الفن مارسه أوائل البشر لأنهم اتخذوا من جدران الكهوف صفحات رسموا عليها صورا متسلسلة تحكي أحداثهم ومعاركهم وتخلد ذكراهم وأمجادهم عند من يلونهم، وأعود وأكرر أن هذا حدث قبل اختراع الكتابة .
ومن الشبهات أن هذا الفن غربي محض ودخيل على ثقافتنا وهذاأيضا أمر غير صحيح، فالقصة منهج رباني في التربية وثلث القرآن قصص بل يتضمن كتاب الله العزيز سورة اسمها ” القصص” . أما عن الصور المرسومة التي تجسد القصة فذاك أيضا من صلب حضارتنا الإسلامية، فقد كان عباقرة الطب ” ابن سينا وغيره ..” يرسمون المنمنمات وهي رسوم توضيحية للعمليات الطبية غالبا ما تكون متسلسلة ومتقنة. صحيح أن هذا الفن تبلور بشكله المعاصر في فرنسا وبلجيكا لينتقل على أمريكا وتستلمه اليابان بعدها .
فإذا كان فن السينما قد رأى النور بعد اختراع الكاميرا فإن أهم أعمال الفن السابع مدينة بنجاحها للفن التاسع الذي اعتمد على أعمال هذا الأخير الورقية الخرساء محولا إياها إلى صوت وصورة، نذكر منها أغلب قصص الأدب العالمي مثل ” ثوم سوير”،”موبي ديك”، بعض قصص “موباسان”و”تولستوي”و “فيكتور هوجو”، “بينوكيو”، ” أليس في بلاد العجائب”، “روبين هود” … وكل قصص الأبطال الخارقين الأمريكية التي تسيطرأفلامها على صالات السينما في العالم .
“باتمان”،”سوبرمان”،”سبايدرمان”،”هالك …” التي بدأت على شكل فن تاسع لتتحول إلى سابع وتضخ أموالا كثيرة في خزينة تلك البلدان، لا ننسى اليابان البلد المنكسر بعد الحرب العالمية الثانية والمنزوع السلاح والمفتقر للثروات الطبيعية والمتفرق جغرافيا على شكل جزر إلا أنها حاليا تسيطر بدون منازع على سوق الفن التاسع بما في ذلك كتب الأشرطة المرسومة، وأيضا أفلام الكرتون عن طريق مدرسة ” المانكا” والتي تعني باليابانية “قصة مصورة”، وقد ظهر ذلك بعد الحرب المذكورة حيث استثمر روادها موروثهم الثقافي الزاخر بالقصص الفلكلورية التي تدور في فلك ثقافة النينجا وفرسان الساموراي وفنون الحرب، وأدمجوا ذلك بعد الثورة التكنولوجية بآخر ما توصلوا إليه من اختراعات، وأعملوا عقولهم وأطلقوا خيالهم فأحكموا القبضة على عقل وخيال الآخرين، وللتأكد من كلامي اسألوا أي طفل اليوم عن مراتب النينجا سيذكرها حتما ومن دون تردد . فقد صدرت اليابان ثقافتها ومنتجاتها للعالم عن طريق هذا الفن، وهي الآن تنظم دورات تكوينية بل حتى مهرجانات ” المانكا “في العالم وفي المغرب ايضا، ولايسمح إلا لعشاق ورسامي” المانكا” المشاركة ضمن فعالياتها، وترى جحافل الموهوبين من أبناء هذا البلد المغبون في ثرواته وطاقاته البشرية تصطف لتشارك وتعبر بأسلوب وعن ثقافة غيرها وفي عقر دارها .
أليس لنا موروث ثقافي مديد ومجيد ومتنوع وفريد؟؟
أليس لنا من المواهب ما لا يقل كفاءة ورفعة وعددا وتميزا عن غيرنا ؟
ألسنا في حاجة إلى أموال تضاف إلى خزينتنا وإلى ما يعرف بثقافتنا ويسوق لسياحتنا في عالم يجهل عنا الكثير ؟؟
تساؤلات تزيدني غضبا وحسرة .. هذا أمر محبط للغاية .. سأتوقف هنا حتى لا أفقد صوابي.
4/ هل هناك نقط تلاقي واختلاف بين فن الكاريكاتير وفن الأشرطة المرسومة علما أن هناك من يخلط بينهما ولا يفرق ؟
سؤالك مهم للغاية، فكما ذكرت … كثير من الناس يخلط بينهما، لاشك أن فن الكاريكاتير فن هادف ومؤثر وذو مضمون عميق وبسيط في نفس الوقت، وهو كذلك من الفنون المتداولة لدى عموم الناس، لأنه يواكب المستجدات اليومية نظرا لوجوده الدائم بين صفحات الصحف والجرائد، فهناك الكثير من الناس من يصيبهم الكسل عندما يرون أعمدة المقالات المرصوصة والمعدة للقراءة فينتقل بكل نشاط وحيوية نحو صفحة ” الكاريكاتير” لأنها في وقت وجيز جدا تلخص صفحات تقطر بالكلمات، وبالعودة إلى السؤال فإن الفرق بين الكاريكاتير والفن التاسع شاسع جدا، يلتقيان في كونهما يعيدان صياغة مفردات واقع متفاوت التبسيط والتعقيد، كما يلتقيان في مسألة اعتماد شخصيات وأدوار بل وإدراج أحورة، كما تقتبس الكاريكاتير بعض آليات الأشرطة المرسومة مثل الفقاعات والمحاكاة الصوتية وكذلك في التيمة السياسية التي كانت تطبع بدايتهما في مهدهما ” الصحف الصفراء” حيث احتفظت الكاريكاتير بطابعها السياسي وظلت ملتصقة بصفحات الجرائد إلى اليوم، بينما شق الشريط المرسوم طريقه نحو الإستقلالية زاهدا صفيحات الصحف والجرائد متخذا أشكال الكتب التي عالجت كل التيمات من خلال القصص الطويلة ذات الأجزاء أو سلسلة قصص قصيرة . فبعد هذا الإنحراف العظيم والإستقلال المجيد للشريط المرسوم أسس له رواده في فرنسا وبلجيكا قواعد تميزه عن باقي أساليب التعبير البصري مما أجبر العالم على الإعتراف به فنا لايقل أهمية عن إخوته الثمانية . ولعل تلك الأسس والقواعد التي يتبعها ” البيدييست” أو رسام الشريط المرسوم هي التي تكرس الفارق بين ما ينجزه وبين الكاريكاتير. فإنجاز كتاب من الأشرطة المرسومة من أصعب ما يكون، حيث يرتكز الإشتغال على شقين: أحدهما نظري والآخر تطبيقي .
فالأول يشتمل الفكرة والموضوع وملخص القصة والشخصيات ثم السيناريو المقسم إلى مشاهد تماما كما هو الحال في السينما. بعدها يقوم الرسام بالبحث عن شخصياته فيرسم الكثير منها ليتسنى له اختيار الأنسب منها قبل أن ينتقل لمرحلة التوثيق التي تتطلب من الرسام جمع الوثائق التي سيعتمد عليها لتأثيث الفضاء الزمكاني للقصة، وهي عبارة عن صور أو أفلام وثائقية أو مخطوطات أثرية خصوصا إن كانت القصة ذات طابع واقعي، بعد ذلك يقوم بتقطيع المشاهد حسب زاوية الرؤية معتمدا على تعاليم السيناريو، ثم تأتي مرحلة الرسم النهائي لتتلوها عملية التلوين وكتابة الأحورة داخل الفقاعات المخصصة لذلك، فكما هو واضح أنه عمل مرهق للغاية يستغرق شهورا طويلة بل سنوات أحيانا .
5/ عشت مجموعة من التجارب وشاركت في العديد من المهرجانات الوطنية والدولية:”كازانيم”، المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة بتطوان في دورته السابعة”،” المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة بالجزائر”، و” المهرجان الدولي للأشرطة المرسومة بإسبانيا” وغيرهم. ما الذي اكتسبه زكرياء التمالح من وراء كل تجربة من هذه التجارب والمشاركات ؟
هذا السؤال بالذات يتطلب مني جرعة زائدة من الصراحة، فالتجارب التي ذكرت وغيرها جعلت مسيرتي الفنية القصيرة تترنح بين منحنيين: أحدهما يجسد الإحباط والآخر يجسد الإصرار . لن أتوقف عند كل محطة على حدة إنما سأتكلم بصفة عامة لأن المقام لا يتسع للتفاصيل.
فبعد تواتر تلك التجارب اكتشفت أمورا لم تخطر على بالي أبدا، اكتشفت أن المغرب بلد رائد في مجال الأشرطة المرسومة على الصعيد العربي .
فأول شعبة متخصصة في هذا المجال بشكل أكاديمي هي تلك التي أنشئت مع بداية الألفية الثالثة من طرف فنانين من بلجيكا وأوكلت زمام أمورها لشاب قصري يدعى ” سعيد النالي”. لا أتكلم هنا عن مادة فنية إنما عن شعبة مستقلة بذاتها وأول مهرجان دولي كان ذاك الذي نظم في تطوان بعد فترة قليلة من إنشاء الشعبة . لمست دهشة الفنانين ومنظمي التظاهرات والمهرجانات الأجانب من كثرة المبدعين ذوي المستوى الرفيع وأغلبهم من خريجي معهد “تطوان”.
ففي كل ملتقى دولي كانت بعثة المغاربة مميزة بين غيرها من العرب بل حتى الأجانب، كل هذه الأمور تدفعني إلى الإصرار الجيد، أما ما يسكن الإحباط في قلب كل زملائي بل وباقي الفنانين في مجالات مشابهة فحدث ولاحرج . اكتشفت أمرا طالما سمعته وكذبته، ليس للفنان قيمة ببلده أقولها وأصدح بها بملء فيه، لقد شاركت في تظاهرات عديدة كما ذكرت أغلبها داخل الوطن، لم أتلق حتى %1 من الإحترام والتقدير وحسن المعاملة في وطني مقارنة مع ما تلقيته في بلد الجزائر الشقيق( على سبيل المثال)، فبعد الإستقبال الجميل في مطار (بومدين) وما أن تحركت بنا السيارة الرائعة التي كانت تقلني إلى مكان المهرجان، لم أصدق نفسي وتخيلت أني مغني أجنبي مدعو لإحياء حفل راقص في موازين، تبددت تخيلاتي عندما رأيت الأرض تتكلم أشرطة مرسومة، فاقت الحسرة سعادتي، ولكم تجرعنا الإهانات في هذا البلد الذي أحببناه ونحبه وسنحبه مهما حصل. كنت أمثل بلدي المغرب في فخر كبير وأنا بالجزائر، كنت أصغر فنان مشارك بين ما يفوق المائة فنان وفنانة من كل أنحاء العالم، وبالرغم من سني الصغير ومسيرتي القصيرة كان كتابي ” تحت الصفر” مرشحا لنيل الجائزة علما أنه قد نالها مغربيان قبلي في 2011 و2010 وهما من رافقاني في رحلة إسبانيا/ إشبيلية ( عمر الناصري وإبراهيم الرايس) وهما أستاذان للفنون الجميلة. أقول هذا الكلام حتى لا يتبجح المسؤولون بحجة ضعف المستوى أو قلة المواهب، فهم لا يرغبون في بذل أي مجهود اتجاه مواهب هذا الوطن وإلا بماذا نفسر إنتاجات الأشرطة المرسومة التي رأت النور وأصدرت في المكتبات منذ استقلال المغرب إلى اليوم لايفوق 15 كتابا ؟ في الوقت الذي يتخرج من المعهد ما معدله 5 طلبة كل سنة.
في يوم مناقشة البحث يحمل كل طالب كتابه بيمينه ( كتاب كامل على طريقة الشرطة المرسومة) وكتاب آخر بشماله ( البحث النظري الذي يتضمن تحليلا شاملا لموضوع البحث، بالإضافة إلى سرد محطات العمل التطبيقي)، بمجرد اجتياز الطلبة إختبار المناقشة بنجاح تصطف كتب الأشرطة المرسومة بجانب أسلافها من الكتب التي أنجزتها أنامل أسلافنا من الطلبة،فسرعان ما تتقاطر عليها جماهير كثيفة من حبات الغبار فتغطي أغلفتها من شدة الشوق ثم يلتحق وفد رفيع المستوى من دود الأرضة فيقرضون الكتب تعبيراً منهم على عشقهم لحبكة القصص المشوقة.
هكذا توءد أجنة الإبداع في رحم المكتبة المظلم ويبقى السؤال معلقا :هل عقمت أرحام نساْ هذا الوطن كي تلد لنا طبيباً جراحاً ذو مشرط حاد ينجز به عملية قيسرية على وجه الإستعجال ويشق به محرراً إبداعات يبعث فيها روح الحياة ويخرجها من الظلمات إلى النور ؟
6/ لقاؤك بالفنان الراحل ” عبد العزيز مريد” بأرض الجزائر في أكتوبر 2012 كان له وقع خاص، حدثنا عن هذا اللقاء ؟
الراحل “عبد العزيز مريد”رجل واجه سنوات الرصاص بقلم الرصاص وأظن أنه خرج منتصرا لأنه لم يستسلم. رغم انقضاء تلك الفترة المظلمة لم يتوقف حتى آخر لحظات حياته في فضح فصولها كي لا تعود يوما للظهور من جديد.
“مريد” عاش في المغرب وعاش للمغرب،عانى في المغرب وعانى من المغرب ولم أتعرف عليه إلا في الجزائر. لن أنسى أول مرة قابلته فيها، كان ذلك في فندق (صوفيتيل) بالعاصمة الجزائرية ولم يكن يعرفني أو سمع بي حتى، أوقف المصعد الآلي في انتظاري وقد كان برفقة صديقي الفنان المغربي الشاب ” عمر الناصري”، علم من خلال علم المغرب الذي يتوسط (البادج) المعلق على صدري أنني مغربي، سر كثيرا وهو يقف بين شابين طموحين يحلمان ببلوغ الآفاق.
كنا نحن الثلاثة نمثل بعثة المغرب، ورغم ضيق المصعد الذي بالكاد استوعبنا، لمح “عبد العزيز مريد” كتاب “تحت الصفر” بين يدي فطلب مني مباشرة السماح له بالإطلاع عليه. في الصباح الموالي أرجع إلي الكتاب وأهداني عيوبيالتي لم ألاحظها من قبل، عبر عن إعجابه الكبير بالقصة ووصفها بالقوة والتماسك. منذ ذلك الحين تشكلت صداقتنا بسرعة شديدة، تطرقنا في نقاشاتنا السياسية منها إلى ملفات شابها الغموض والكتمان وفجأة وجدتني أحاور بطلا لامثيل له في قصص الأشرطة المرسومة. تحدثنا طويلا حول فترة السجن والمعتقلات السياسية التي وضع فيها، كنا نمشي في شوارع الجزائر العاصمة نتناقش ونضحك، نقف، ونتجادل بعناد شديد.
أجمل ما جمعنا وقتها هو أن كلانا كان يعلم جيدا أننا تائهان في مدينة كبيرة جدا نزورها لأول مرة. كان –رحمة الله عليه- نشيطا جداووطنيا بشكل غير عادي. أذكر أن أحد ضيوف المهرجان – وهو جزائري الأصل ذو نزعة عنصرية نوعا ما- كان يحاول استفزاز ” مريد” كلما رآه، يقارن بين الجزائر والمغرب وعندما يصمت الجميع يشرع في ترديد الأغنية المشهورة: “L’algerie mon amour… L’algerie pour toujour.
في يوم كان فيه الجميع يتناول وجبة الغذاء، كنت مع ” مريد” نجلس في طاولة تضم فنانين جزائريين معروفين في الميدان، قدم الشخص ذاته يردد نفس الأغنية استفزازا لنا، فجأة وقف ” مريد” أمام الحاضرين وشرع يغني هو الآخر: ” Le Maroc mon amour… Le Maroc pour toujours” وسط دهشة الموجودين، ولما جلس “مريد” شرح لنا أصدقاؤنا الجزائريون أن صديقهم يكره كل ما يتعلق بالمغرب وينتقدهم كثيرا لأنهم يقضون عطلاتهم في بلدهم الثاني ” المغرب” .
كان حريا بنا استبدال العملة الأوروبية بأخرى جزائرية ونحن نغادر أرض الوطن، حكيت ل ” مريد” أن الشخص الذي قام بالعملية استغل جهلي بالعملة واستفاد مبلغا لابأس به من وراء جهلي، قص علي هو الآخر حكايته مثبتا العكس وأنه استبدل ماله دون خسارة غير أنه بعد حديث قصيرحول نفس الموضوع اكتشف أنه خسر أكثر مني بكثير، حيث اعترف ” مريد” أنه لو كانت زوجته برفقته ماكان حدث ذلك أبدا ومن النادر جدا أن يجاهر رجل بقيمة زوجته معترفا أنها تكمل نقائصه .
” مريد” كان فخورا جدا بولده الوحيد ” جاد مريد” حيث كلما التقط صورة كان يرينا صورة ” جاد” الشاب العشريني الشبيه جدا ب” العربي باطما”، كان يكلم الجميع عنه ويطلعهم على صورته.
لن أنسى آخر مرة رأيته فيها كان قد غادر الجزائر قبلي بيوم، بحث عني ليعطيني رقم هاتفه ومجموعة من القطع النقدية المعدنية، كان مصرا على ذلك رغم أنه يعرف جيدا أن بحوزتي ما يكفيني، وبعد أن أعطاني رقم هاتفه طلبت منه ألا يتصل بي إلا بعد عودتي إلى المغرب، رد علي قائلا: ” لا ، لن أتصل بك” وكأنه كان يعلم أن موعده مع ملك الموت سيسبق موعدنا.
علمت بخبر موته من مجلة” هيسبريس” الورقية التي رصدت بعض الصفحات لسرد سيرته البطولية، كنت فخورا وأنا أقرأ المقال لأن ذلك كان بمثابة تكريم لتاريخ فني فريد، لكن بعد قراءة بضعة أسطر من الفقرة الأولى كانت الصدمة، حيث تبين لي أن ما كتب لم يكن تكريما إنما كان تأبينا .
7/ إسهاماتك الفنية كانت حاضرة في الجانب الورقي ومجلة ” ورد وياسمين” الورقية التي كانت موجهة للأطفال وتوقفت لعدة أسباب ولإكراهات مادية بالأساس شاهدة على ذلك .برأيك هل الدعم المادي من شأنه أن يحدد مصير كل مشروع فني إبداعي بالإستمرار أو التوقف ؟
نعم هذا صحيح، “مجلة ورد وياسمين” كانت مجلة الطفل المغربي بامتياز صاحبها ابن الجارة “العرائش” المبدع ” زكرياء العمراني” رفقة زملائه، كانت تشتمل على 3 قصص متسلسلة من الأشرطة المرسومة حيث تخصصت في إنجاز إحداها وكان ذلك سنة 2011 . كانت حقا تجربة رائعة للغاية، لكن توقفت للأسف لأسباب مادية بالتأكيد حسب ما وردني، فقد كانت تكاليفها تفوق ثمنها أحيانا كما أن تكاليف الدعاية تفوق حدود المعقول .
هذه المجلة ليست الأولى التي توقف إصداراتها، ليست لدي فكرة على وجود مجلة مغربية من هذا النوع وهذا أمر خطير . أطفال اليوم لايعرفون سوى الرسوم المتحركة التي تحرض على العنف والعاب الفيديو التي لا تحرض على السلم والوئام بالطبع.
أعترف أن ” مجلة ماجد” الاماراتية و” مجلة العربي الصغير” الكويتية و”باسم” السعودية ساهموا في تشكيل شخصيتي بشكل كبير وخصوصا المجلة الأولى . فقد قضيت معهم طفولتي وجزءا من مرحلة المراهقة، ليس الجانب المادي فقط ما يحدد مصير مثل هذه المشاريع إنما هو مؤشر المطالعة الجد منخفض لدى العرب ككل، فأمة اقرأ لاتقرأ وهذا أمر لايتناطح عليه كبشان، وهذا في نظري عائد إلى تقصير المسؤولين عن السياسة الثقافية لبلداننا بشكل رئيسي قبل أن ألوم الأفراد، سأسوق مثالا يوضح قصدي أكثر، فأثناء الحملات الإنتخابية في الدول المتقدمة تعلق صورالمترشحين في كل مكان، فنلاحظ أن أغلب صورهم تكاد لا تخلو من عنصر الكتابن فنجد المترشح إما بين الكتب أو منهمكا في قراءة آخر إصداراتها وأهمها . بالمقابليطل علينا قادتنا ورموزنا بهاماتهم المتصلبة وابتساماتهم الليمونية. فكيف ننتظر من مجتمع أن يهتم بالمطالعة بينما رموزه تعتبرها من الخبث والخبائث ؟؟
يركز المشهد الثقافي عندنا على أرداف الراقصين قبل الراقصات ويتحفنا بنغم نشازهم اللعين، ويغدق عليهم بما جادت به ضرائب واقتطاعات الشعب الفقير (فكريا وخبزيا) بينما ينقلب الجود فجأة لؤما والسخاء شحا وبخلا إذا ما تعلق الأمر بالعلم أو الفن الهادف والإبداع الراقي .
أنا شخصيا لم أتلق أي دعم مادي كان أو معنوي من الدولة طيلة مسيرتي القصيرة، لادعم بتاتا، بل لم أحصل حتى على المنحة الدراسية التي حصل عليها أبناء الأطباء والمهندسين من زملائي في معهد يتطلب من الطالب كل يوم أدوات ومواد اشتغال يقتنيها على حسابه الخاص .
هذه الأمور يجب أن تكون واضحة للناس منذ البداية، فكثير من الفنانين العالميين الذين بدأوا مشوارهم من تحت الصفر في بلد أشيحت عنهم وجوه وأديرت لهم ظهور المسؤولين، وفجأة تتفتح الأذرع وتتمدد عضلات الوجه المطاطية في استقبال منسيي الأمس العائدون بالمجد والشهرة والإكتفاء من أوطان تبنتهم وربتهم فتتسابق الأيادي لتغلف وتشرنق أجسادهم بالرايات الحمراء وهي نفسها الأيادي التي استغنت عن انتشالهم من براثن التهميش والإقصاء .
لن أعود من وطن آخر، لن أهرب، سأبقى هنا وسأواجه، سأدافع عن حقي مهما كلفتني المواجهة . أشير إلى أنني تلقيت عروضا للرحيل إلى فرنسا وإسبانيا لكني رفضت وآثرت البقاء ببلدي الذي لم أتلق منه أي دعم كما أسلفت الذكر .
آسف .. فقد تذكرت للتو أني تلقيت دعما معنويا يتيما من أحد صغار رجال الدولة، وه رجل جمارك قام بتفتيشي في مطار محمد الخامس بينما كنت متوجها إلى الجزائر، ففي نقطة العبور سألني عن مهنتي وعن سبب ودوعي سفري فأخبرته أنني مشارك في مهرجان الأشرطة المرسومة،لمح كتاب ” تحت الصفر” في يدي فأخذه مع باقي الأغراض، وبينما كان زميله يصادق على جواز سفري لمحته يقرأ القصة باهتمام ويبتسم بين الحين والآخر، طلب مني الإحتفاظ بالكتاب لكنها كانت النسخة الوحيدة التي أملك. سألني عن نقط البيع فأخبرته أنه لم يصدر ورقيا بعد وقد كاد يسرقه مني غير أنه استسلم لنباهتي في النهاية وشجعني بدعواته لي بالتوفيق، وقال جملة رنانة: ” لاتتوقف عن الرسم مهما حدث” .
8/ تعاقدت مؤخرا مع إحدى المكتبات الإلكترونية العربية في الخليج لنشر أول أعمالك المرسومة . هل أنت نادم على مثل هذه الخطوة ؟
لاأحب الخوض في هذا الموضوع لأن ما حدث كان مثيرا للاشمئزاز، تعرضت لعمليات نصب متعددة في الداخل والخارج كانت آخرها تلك التي ذكرت، والتي كادت تضع حدا لحياتي الفنية بعدما أصبت باليأس ولم تعد أناملي تقوى على الرسم أو التأليف لمدة شهر كامل، حاولت بعدها استنهاض هممي والبدء من تحت الصفر مرة ثانية.

........................

صفحة الفنان الراحل على موقع فايسبوك


https://www.facebook.com/aziz.mouride
................................
 رحيل عبدالعزيز مريد.. فنان قلم الرصاص الذي رسم «سنوات الرصاص»
اشتغل في أخريات حياته على تحويل «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى رسومات «بوند ديسيني»
حكيم عنكر نشر في المساء يوم 12 - 04 - 2013

ودع الدنيا الفانية، أول أمس، الفنان والكريكاتيرست المغربي عبدالعزيز مريد بعد مرض ألم به، وشيعه قلة من أصدقائه ومن رفاقه في درب الكفاح المرير.
عبدالعزيز قصة إنسانية ورمز من رموز الفعل النضالي في زمن سنوات الرصاص، ابن الدار البيضاء، ورفيق حبشي والوديعين صلاح وعزيز ورشيد فكاك.
سيرسم كتابا عن تلك التجربة القاسية في درب مولاي الشريف وفي سجن القنيطرة، أسماها «إنهم يجوعون الفئران». إنه نموذج المناضل الحقيقي، والفنان العصامي وابن عين الشق الذي ارتبط بهموم الشعب منذ البداية.
يكتب مريد بقلم الرصاص «إذا الشعب يوما أراد الحياة» بخطه المميز، ويعلق متهكما «أكتب عن سنوات الرصاص بقلم الرصاص».
هو بالفعل عميد الصحافة والكاريكاتير والصور الثابتة، أعاد ترتيب حياته وحياة زملائه المعتقلين كقطع، وتصفيفها وتقديمها من جديد.
مريد ليس رجلا عاديا ولا مواطنا مغربيا، كان يمر جنب الحائط. لقد جسد أحد أقوى لحظات المقاومة، وهو لم يندم يوما على تلك التجربة التي خاضها من أجل وطن أجمل.
قيمة الحرية بالنسبة إليه أهم شيء والإحساس بها تتحقق في المجتمع المغربي يثلج الصدر في نظره، ولكنه مع ذلك لا يعتبر أن الأمور حسمت أو انتهت، بل «مازال ما يدار في هاذ لبلاد»، وبالتالي يعتبر أن مسار تحقيق الديمقراطية طويل، كما يعترف بأن السجن لم يخلق لديه أي إحساس بالكراهية اتجاه جلاديه، ولا رغبة له في الانتقام ممن وضعوه في السجن وهو في زهرة شبابه.
في السجن تمكن من تطوير موهبته، ومن سبر أغوار هذه التجربة القاسية. يحكي عزيز الوديع عنه قصة مثيرة، لما كانوا جميعا معتقلين في درب مولاي الشريف، والواقعة تتلخص في أن أحد «الحجاج» ضبطه يوما وهو يصنع ب»لبابة» الخبز تمثالا صغيرا للينين. طبعا، وجدها «الحاج» فرصة سانحة لمعاودة حفلة الضرب على الجسد النحيل لمريد، فسأله عمن يكون هذا التمثال؟ فتفتق ذهنه عن جواب سريع: توحشت با ورسمتو، وبغيت ندوي معاه». طبعا ستنكشف الحيلة بعد ذلك، عندما حضر رئيس الحراس وعاين المنحوتة «الخبزية» لمريد، فرد على «الحاج»: هاذا راه رسم لينين، فكانت حفلة التعذيب من جديد.
يحكي مريد أنه أمضى عاما نصفا وهم يضعون عصابة على عينيه، منذ يوم اعتقاله، وقال إنه عندما رأى الشمس لأول وهلة، شعر بأنه في الجنة تماما.
لا يعدم مريد عبدالعزيز حس الفكاهة أو السخرية وهو يتحدث عن تجربة السجن الطويلة. يقول معلقا على الأحكام التي صدرت في حق المجموعة التي ينتمي إليها: «أخذنا 25 قرنا من السجن كمجموعة على 139 معتقلا سياسيا».
مسار السجن هو مسار الإضرابات عن الطعام من أجل تحسين الأوضاع، إضرابات متقطعة من 15 يوما و10 أيام، ثم إضرابات الحسم من 45 يوما، وصل فيها وزنه إلى 35 كيلوغراما، أصيب باجتفاف في الدماغ، كان سببا في مرضه العضال. يقول إنه كان من فرط الإضراب عن الطعام يمشي في ساحة السجن مثل السكران، في شبه غيبوبة تامة.
عاد إلى ذاكرته، ورسم تلك اليوميات، يوميات السجن، وهكذا استطاع أن يهرب كتابه الأول والمعنون ب»في أحشاء بلادي»، من السجن وطبع الكتاب في بلجيكا، وأصبح دليلا للحركة الحقوقية العالمية على ما يقع في السجون المغربية من تعذيب وحشي.
عرف الكتاب على نطاق واسع لدى المنظمات الحقوقية العالمية، وكان بداية الكشف عن ملف الاعتقال السياسي في البلاد.
يؤكد مريد أنه بفضل تلك الرسومات ووصولها إلى الرأي العام الدولي، بدأ ملف الاعتقال السياسي يجد طريقه إلى الصحافة العالمية وإلى الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وبدأت بوادر فرجة من الضوء تلوح في الأفق، أصبح الأمل في الخروج من هذا الوضع يراود النفوس، وبدا أن الانفراج قريب.
طبعا، سيجد ملف الاعتقال السياسي طريقه إلى الحل بعد سنوات من ذلك، وبعد أن تحسنت نسبيا وضعية المعتقلين السياسيين داخل السجون المغربية، واستطاع مريد أن يرسم بحرية في مرسم خاص في المعتقل.
يرى مريد أن آخرين من رفاقه في التجربة، أرخوا لها رواية أو شعرا أو محكيات أو كتابة سياسية وفكرية، ولكن مادامت لم تكن توجد صور لتلك الفترة، وكان يستحيل ذلك، فقد استطاع أن ينقل حياة السجن وظروف التعذيب إلى العالم الخارجي عن طريق الصور.
قبيل وفاته، كان مريد يعمل على تحويل رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى سلسلة رسوم مصورة. لقد كان رهانه تحويل هذه الرواية التي طارت شهرتها في الآفاق إلى كتاب «بوند ديسيني»، وربما -كما يقول معارفه- يكون قد انتهى منه، لتكون أول تجربة مغربية في تحويل عمل أدبي إلى رواية صور مسلسلة.
وإذا كان من خلاصة، فهو ما يحكيه مريد نفسه بنفس ساخر، هو زاد الفنان الحقيقي، يقول إنه لما خرج من السجن، كان الشيء الوحيد الذي يخيفه هو عبور «الشانطي»، ففي السجن يحافظ السجين على نفس السلوك، وبما أنه لا توجد طرق داخل السجون، فإن أكبر تحد للمعتقل عندما يفرج عنه هو كيفية عبور الطريق من الطوار إلى الطوار.
يرى أن السجين لا يكبر في السجن. يقول «تركتنا الحياة عند نقطة، وأردنا أن نجدها لما خرجنا من السجن عند نفس النقطة». لكن العالم كان قد تغير!






حداد الثقافة : المغرب فقد ريشةً ويراعاً

محمد الخضيري

الرباط | شاءت الأقدار أن يرحل عن المغرب اسمان شقّا الطريق أمام حداثة جنسين تعبيريين مختلفين. الشاعر محمد الصباغ (1930)، ورسام القصص المصورة عبد العزيز مريد (الصورة). ترك رحيل الصباغ صدى عربياًَ، فيما كان مريد أشهر في فرنسا وأوروبا بسبب رسمه قصصاً مصورة تعكس حياة المعتقلين السياسيين إبان ما يسمى «سنوات الرصاص» في المغرب حيث اعتُقل لسنوات.
رحل الصباغ في أحد مستشفيات الرباط بعد معاناة مع مرض عضال. ولد الراحل في مدينة تطوان الملقبة بعروس الشمال. في شبابه، اطلع على الأدب المهجري الذي طبع تجربته الشعرية الأولى، قبل أن يسهم في التأسيس للقصيدة المغربية الحديثة. درس الصباغ علم المكتبات في إسبانيا، وبعد عودته إلى المغرب راكم العديد من التجارب في المجال. وكان الصباغ من المبادرين إلى تأسيس «اتحاد كتاب المغرب»، وعمل مستشاراً لوزير الثقافة ومديراً لأقسام عدة في مؤسسات وزارية مختلفة. العمل لم يشغله عن كتابة الشعر والتأليف، فانخرط في الحياة الثقافية وأصدر دواوين عدة منذ 1953، كـ«العبير الملتهب» (1953)، و«أنا والقمر» (1956)، و«فوارة الظمأ» (1961)، و«شجرة محار» (1977). وألف أيضاً مجموعة قصصية بعنوان «نقطة نظام» (1970) حاز عنها «جائزة المغرب للكتاب».

ترجم الراحل عن الأدب الإسباني، وكان ممن شكلوا جسر عبور لأدب الجار الإيبري إلى المغرب، ما قاده إلى الحصول على وسام الاستحقاق الفكري الإسباني عام 1986. الملك محمد السادس الذي تكفّل بمصاريف علاجه حين استبد به المرض، أرسل تعزية لعائلة الشاعر الراحل. وصفه فيها بـ«أحد أبرز رجالات الأدب الذين أسهموا في إثراء المكتبة الوطنية بعطاءاتهم المتميزة والمتنوعة». أما المعتقل السياسي عبد عزيز مريد، فقد رحل بصمت من دون أن ينال «الحظوة» الملكية. كان مريد من مؤسسي «حركة 23 مارس» الثورية في ستينيات القرن الماضي. خلال أحداث 25 آذار (مارس) عام 1965 الدموية، اكتشف وهو في الـ 15 من عمره السياسة في الشارع. تشبّع بالفكر الماركسي وبحب الأدب في طفولته، لكنه اعتقل في 1974 وحكم عليه بالسجن 22 عاماً ليطلق سراحه بعد عشر سنوات. كان مريد وديعاً وطيّباً، لكنه لم يكن مهادناً. خلال الاعتقال، نسج علاقات قوية مع رفاقه، غير أنّه سرعان ما راجع حساباته بعد اكتشاف محدودية الإيديولوجيا أمام الواقع.
خلف القضبان، طوّر معرفته بالقصص المصورة، وأطلق عليه لقب «أبو القصة المصورة المغربية». في «إنهم يجوّعون الجرذان»، يحكي قصص المعتقل التي أثارت حماسة ماري لويز بلعربي، مؤسسة «دار طارق» التي أصدرت له كتابه الأوّل، وصارت لاحقاً تعنى بنشر أدب السجون الذي يحكي سنوات الرصاص.
عمل مريد في الصحافة بعد خروجه من السجن، مراكماً القصص المصورة، وبقي حتى أيّامه الأخيرة يدرِّس، ويكتب، وناصر«20 فبراير» حين انطلق حراك الشارع المغربي قبل عامين. يومها، آمن بأنّ «البلاد العربية لم تعد تريد الاستبداد»، وبأنّ كلمتي «الحرية والكرامة تلخّصان كل شيء».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق