الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

رشيد سكيرج: رحيل المغربي الذي كشف تفاصيل التعذيب والاغتيال في سجون الحسن الثاني السرية وعجز أوفقير والدليمي عن اغتياله

 رشيد سكيرج: رحيل المغربي الذي كشف تفاصيل التعذيب والاغتيال في سجون الحسن الثاني السرية وعجز أوفقير والدليمي عن اغتياله ..

رشيد سكيرج: رحيل المغربي الذي كشف تفاصيل التعذيب والاغتيال في سجون الحسن الثاني السرية وعجز أوفقير والدليمي عن اغتياله

  مراد بنيف
 وُورِي الثرى يوم السبت الماضي بمدينة طنجة جثمان الراحل “رشيد سكيرج” عن سن تناهز خمسة وثمانين عاما، عقب حياة منفى مديدة بلغت أزيد من نصف قرن يُضاف إليها سنوات شباب اشتغل خلالها الراحل في أخطر جهاز مخابرات سري عرفه المغرب بعد الاستقلال “الكاب1″ ثم انتقل إلى ضفة العداوة مع أقوى رجلين في المغرب بعد الحسن الثاني خلال تلك المرحلة وهما الجنرالين أوفقير” و”الدليمي” لأسباب تتصل باختلاف بينه وبينهما والمعلومات الخطيرة التي كانت بحوزته والتي كاد يدفع حياته ثمنا لها عندما تعقبت آثاره كوموندوهات الاغتيال السياسي المغربية في الجزائر التي هرب إليها ثم في فرنسا التي لجأ إليها ولم يعد منها أبدا إلا وهو في صندوق الموتى..
حياة فريدة حافلة بالمخاطر نوجزها في السطور التالية..
ولد رشيد سكيرج في بداية ثلاثينيات القرن الماضي من أم طانجاوية، وأب علامة في المجال الفقهي هو محمد بن الحاج العياشي سكيرج، حيث ترعرع رشيد وسط جو ديني، حفظ القرآن وبلغ فيه تسع ختمات والمتون اللغوية والفقهية، وشق طريقه إلى المدرسة العصرية، وكان من مؤسسي الأمن الوطني سنة 1956، حيث بوشر بتأسيسها مباشرة بعد استقلال المغرب من الإستعمار الإسباني والفرنسي، وكان “رشيد سكيرج” في عداد الشباب الفياض المتحمس لخدمة بلده والسعي في سبيل مصالحها، وكان اتحاديا رافضا أن يكون الجهاز مخصّصا للقمع والضرب، ما جعل الوفاق يغيب بينه وبين أوفقير والدليمي، بفعل علاقته الخاصة مع المرحوم الشهيد المهدي بنبركة، لينتقل بعد ذلك للإشتغال بالمخابرات المغربية “الكاب1” داخل قسم مكافحة التخريب، واتُّهم بأنه كان جاسوسا للإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية داخل جهار الكاب1 الذي كان يعتبر أقوى جهاز سري قبل نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي، حيث كان له مكتب في نفس القسم الذي خصص فيه مكتب لكل من الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي، حيث أشار ضابط المخابرات السابق أحمد البخاري الذي كان متهما من قبل معتقلين سابقين في دار المقري أنه كان مكلفا بالتعذيب بالكهرباء، – أشار- في مذكراته إلى أن رشيد سكيرج كان يعمل في قسم الشؤون المالية والإدارية في المخابرات، الشيء الذي كان يجعل الترتيبات المالية للعمليات السرية التي كان يقوم بها أوفقير عن طريق ضباط سريين مدربين أمرا مستحيلا…

وجوه سياسية يسارية بارزة في جنازة رشيد سكيرج
كانت البلاد آنداك تعرف صراعا بين تيارين، تيار يريد الإنتصار للإستمرارية الفرنسية وسيطرة شركاتها على أهم القطاعات، وتيار آخر ذو أبعاد وطنية يصبو إلى تحرير كل القطاعات والأجهزة من بقايا التأثير الفرنسي، ومن نزعة التحكم التي كانت تمارس من طرف الملك الراحل الحسن الثاني حينما كان وليا للعهد، رفقة الفريق الذي كان يتكون من أوفقير والدليمي وأحرضان والخطيب ومجموعة من الوجوه التي كانت لا تعصى فيما تُؤمر، وكان الراحل رشيد سكيرج يفضح تجاوزات الأجهزة الأمنية حينها، خاصة جهاز الكاب1 التي قيل عنها أنها عصابة كانت تسرق وتقتل وتنهب، وتختطف وتختال، ودخل مع الجنرالين الجلادين أوفقير والدليمي في مواجهات عنيفة، ومنعهما من ارتكاب فظائع كبيرة، كان شاهدا على كثير من جرائم الكاب1″ وواجه منفذيها بشجاعة بالغة، ومنع الكثير وفضح الأكثر، ليكون بذلك شاهدا على حقبة سوداء من تاريخ المغرب، أبرزها اغتيال المناضل محمد الحريزي، ليتعرض بذلك للعديد من محاولات الاغتيال، لكن القدر شاء له أن يعيش عمرا أكثر من جلاديه..
أمام هذه الأوضاع حيث محاولات الإغتيال، قرر رشيد سكيرج الفرار إلى الجزائر، فتمكن من ذلك، ولأن عمله كان سريا، لم يستطع أحد من أفراد أسرته ومقربيه أن يفهم لماذا غادر البلاد بتلك الطريقة، رغم أنه كان يعمل في محيط الديوان الملكي، وكان الأمر يعود للعداوة التي كان يكنها له الكولونيل الدليمي الذي كان قد راكم سلطات أمنية واسعة.
خرج رشيد من المغرب سنة 1962 رافضا الحديث مع أي جهة خوفا من أن تقتفي المخابرات المغربية أثره، وكان حريصا على تجنب الحديث مع الناس في المدة التي قضاها في الجزائر، ناجيا بذلك من فرقة الموت التي أرسلها الدليمي لتعقُّب آثار أنفاسه، والتي كانت تفشل دائما لأن رشيد كان ذكيا يختار الوقت المناسب لتغيير مكانه، ويتحرك في الوقت المناسب للهروب، بالرغم من أن الضباط السريين الذين كانوا يتعقبونه لمنعه من الإدلاء بشهاداته ونشر ما يعرفه، كانوا يعرفون طبائعه الشخصية..
استطاع رشيد الهروب إلى فرنسا، حيث كانت فرقة الموت مستمرة في البحث عنه لتصفيته، وكان شديد الحرص على اخفاء آثاره، فبالرغم من احترافية القتلة الذين كانوا يتعقبنوه، لم ينجحوا في العثور ولو على خيط يقود إليه في باريس، فتقرر إرسال كوموندو من أشهر القتلة داخل المخابرات المغربية حينها، لكنه فشل في ذلك لأن رشيد سكيرج كان قد اتخذ الإحتياطات اللازمة وهو شاب لم يتجاوز 27 سنة من عمره.. إذ أنه كان يعرف طريقة اشتغالهم.
وعندما اختفى المهدي بنبركة سنة 1965 من أمام مطعم “ليب” الشهير في العاصمة الفرنسية، اهتم الرأي العام الدولي والصحافة بما يقع في المغرب، خاصة أن المهدي كان أكبر معارض اشتراكي للملك الحسن الثاني، ووُجهت أصابع الإتهام لأجهزة السرية المغربية، وبدأت تُكتب مقالات بلغات عديدة تتحدث عن وجود جهاز سري وراء اختفاء السياسيين المغاربة المعارضين..
في ذلك الوقت كان رشيد سكيرج مستقرا بالعاصمة الفرنسية باريس، مختفيا عن الأنظار، محاولا إخفاء هويته لأسابيع وشهور وسنين حتى لا تصل إليه يد الكولونيل الدليمي، لم يتمالك رشيد سكيرج نفسه وهو يرى قضية المهدي تكبر يوما بعد يوم منذ أكتوبر 1965، ليقرر الخروج بشكل علني ما بين 1966و1967 بوجه مكشوف ليشهد ضد الكولونيل الدليمي في محكمة فرنسية كان قاضيها “بيـــريز” وهو الذي يبث في ملف اختفاء المهدي بنبركة من فوق التراب الفرنسي، ويتابع علاقة الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي باختفاء المهدي، وحينها خرج رشيد سكيرج ليعلنها مدوية، حيث قرر أن يشهد أمام هذا القاضي ويفجر قنبلة وجود جهاز سري في المغرب اسمه ” الكاب1″ مهمته تصفية المعارضين السياسيين داخل المغرب، وكانت تلك رصاصة أطلقها رشيد سكيرج في صدر جهاز المخابرات المغربي، وفي صدر أوفقير والدليمي، حيث إن رشيد كان يعرف كل أقسام المخابرات بأسمائهم وأماكنهم، والضباط السريين جميعا، وكان هم أوفقير والدليمي في تلك الظروف هو إسكات رشيد إلى الأبد لأنه يشكل خطرا عليهما وعلى الفرق التي شهد عنها عمليات اختطاف سابقة، وكان رشيد آنداك قد مزّق كل أوراق الرجوع إلى المغرب، بعدما سبّب زلزالا للدليمي بكشفه عن وجود جهاز الكاب1، وأعطى للقاضي الفرنسي في قلب باريس أسماء المعتقلات السرية، وإفادات عن مقر تواجد هذا المقر، وطريقة تدبيره.جثمان الراحل رشيد سكيرج يصل إلى المقبرة بطنجة
وكانت شهادته قنبلة في المغرب وفرنسا، حيث كان الدليمي مجبرا على حضور المحاكمة رغم سلطته النافذة التي لم تستطع أن تضمن له معاملة تفضيلية، مسلما نفسه للعدالة الفرنسية امتثالاً لمذكرة التوقيف العالمية الصادرة ضده، وكانت شهادة رشيد شجاعة ووازنة هزت الرأي العام الفرنسي والمغربي، وهكذا خرج رشيد عن صمته وسريته، حيث ساعدته تلك الشهادة أن يحظى بحياة عادية على الأقل في فرنسا، والتي بدأها سنة 1967، وحتى الصحافيين الفرنسين الذين نقلوا أطوار المحاكمة، اعتبروا رشيد سكيرج أول مغربي يفجر قضية وجود الكاب1 ومقر التعذيب السري “دار المقري” بالرباط التي كانت عبارة عن قصر بناه التهامي المقري مندوب المالية في عهد الحماية الفرنسية بعيدا عن صخب المدينة وضجيجها، الذي سيتحول فيما بعد إلى مكان للإحتجاز والقيام بفصول تعذيب “الخصوم الكبار” من المعارضين السياسيين ، والتي قد تبدأ -الفصول- ببتر بعض الأعضاء وتنتهي بالتصفية الجسدية، ومقرات التعذيب الأخرى التي بوشرت فيها عمليات التعذيب والتصفية.
وبذلك يكون قد خرج عن صمته، وبلّغ رسالته، وأنهى حربه التي بدأها في صراع مع الزمن، بعدما أمضى خمس سنوات من الإختفاء والهروب بسرية من أيدي الدليمي الطويلة التي لم تنجح في اغتياله، وجعلت المحكمة الفرنسية رشيد سكيرج يحظى بحماية تلقائية من عداء الدليمي، إذ بعد إخلاء سبيل الدليمي وعودته إلى المغرب، عاش سكيرج حياة جديدة بإنتهاء عمل جهاز “كاب1″وحله واستطاع أن يتنفس الحرية، ويبدأ حياة جديدة حيث تزوج وأنجب أبناء، وعاش رفقة أصدقاء معارضين، واشتغل بالترجمة والصحافة، وظل لغز عودته يثير فضول الكثير من أصدقائه الذين عادوا في فترة المصالحة وعلى رأسهم الفقيه البصري، لكن الإختلاف كان سيد الموقف حيث إن العائدين إلى الوطن في فترة المصالحة معظمهم كانوا فارين من أحكام الإعدام والمؤبد غيابيا، بعكس رشيد سكيرج الذي لم يكن فارا من حكم غيابي..
لم يعد سكيرج إلى الوطن إلا وهو في صندوق الأموات بعدما لبى نداء ربه بفرنسا عن عمر يناهز 85 عام، بعد 54 سنة قضاها في المنفى يطارد كابوس موت الذاكرة وقد تم يوم السبت 19 نونبر بمدينة طنجة تشييع جنازة المناضل اليساري رشيد سكيرج، من مسجد محمد الخامس نحو مقبرة “سيدي عمر” حيث وُوري جثمانُ الرّاحل الثرى، بعد أن وصل يوم الجمعة 18 نونبر 2016 إلى مطار بن بطوطة قادما إليه من فرنسا، حيث اجتمعت حول قبره مختلف مكونات أطياف اليسار المغربي يصعب اجتماعها إلا على حزن لرحيل رجل عظيم، حيث شهد العديد من المناضلين على رأسهم  محمد بن سعيد آيت يدر، ومحمد اليازغي، وعبد الرحمان بنعمرو، ومحمد بنعبد القادر، أن الراحل كان من رجالات المغرب الكبار ممن لن يجود الزمن بأمثالهم في الوطنية والنضال، وقصته تستحق أن تُحكى للأجيال القادمة..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق